قصة قصيدة
الحضور اليتيم للنجفي في صالون الزهراء
أقامت أرملة الرئيس محمد علي العابد السيدة زهراء اليوسف العابد صالوناً أدبياً في دمشق وذلك في ربيع 1945 في دارها وأطلقت عليه اسم /حلقة الزهراء/، وقد حضر صالونها الأول باقة منـتقاة من سيدات دمشق وأوانسها، وتميز بحضور جماعة من مشاهير رجال الأدب والثقافة وكان على رأسهم الشاعر الخالد خليل مردم بك شاعر الغوطتين والأمير مصطفى الشهابي وشاعر الشام شفيق جبري وشاعر العراق أحمد الصافي النجفي وعدد كبير من الشعراء والأدباء منهم فؤاد الشايب وعبد السلام العجيلي وقد رحبت السيدات المثقفات بالحضور، ومعظمهن كن رائدات في الجمعية النسائية والتي كن يتولين أمرها وقتها، ويقول الدكتور عبد السلام العجيلي عن هذا الملتقى الأدبي الأول: وقد تشرفت بحضوري مع هذا الجمع من الأدباء والشعراء الكبار وكنت وقتها طالباً في كلية الطب في جامعة دمشق، وعندما رأت السيدات هؤلاء الشعراء الكبار اقترحت إحداهن أن يتفضل أحدهم فيلقي على الحضور شيئاً من فيض شاعريته فيطربهن بشعره.
وطلبت السيدة من المرحوم خليل مردم بك فاعتذر بأرق لفظ وبما عهد منه من النعومة عند عدم تمكنه من تلبية الرجاء، وقد تعلل وقتها بأنه لا يحفظ شعره، وأرشدها إلى صديقه شفيق جبري ليسمع الحاضرين شيئاً من نظمه البديع الرائع، ولكنه اعتذر بدوره وبلهجته الصارمة وألفاظه القليلة، ولكنه أحال اقتراحها وطلبها إلى جاره الشاعر الكبير أحمد الصافي النجفي.
ومن يعرف الصافي النجفي يعرف حساسيته وإجفاله من كل من يتوهم فيه مساً لكبريائه أو استهانة بقدره كان حضوره هذا الحفل العصري المتأنق، وهو المفطور على البوهيمية واللامبالاة بالمظاهر، عبئاً ثقيلاً تحمله على مضض ولكن الذي لم يستطع تحمله هو أن ترضى السيدة بعذر زميليه الشاعرين وتتحول إليه ملحّة في أن يفعل ما تنصّلا من فعله.
بدا عليه الانزعاج وهو يجذب أطراف عباءته ويلفها على ثيابه البدوية الجافية، إلا أنه لم يتمنع عن الإلقاء كما تمنع سابقاه، بل أعلن أنه سيستجيب لرغبة الحضور فيلقي عليهم قصيدة عنوانها (البراءة من الشعراء) وإليكم هذه القصيدة التي ألقاها الصافي النجفي في ذلك الحين:
قد أسقط الأشعار مبتذل لها
حتى أساء لمجدي الشعراءمعهم سكنت ببيت شعر واحد
لكن نعيش كأننا غرباء
خالفت شرعهم وأدعى شاعراً
الله كم ذا تكذب الأسماء
فهم الأثاث ببيت كل مسود
أو زينة أو لعبة خرقاء
أفعالهم وقف على ما يرتضي
ومقالهم ما شاء لا ما شاءوا
حول الموائد طامعون بكسرة
كالهر نفساً والقريض مواء
مداحهم أدنى وأكذب قائل
قولاً وأصدقهم هو الهجاء
زانوا الصنيع لكل أخرق ظالم
فالظالمون همُ هم الشعراء
ويسبني من قال إني شاعر
فالشعر عندي للأبي هجاء
لأهدّمن بيوت شعر ضمني
منها وأرباب القريض بناء
حسبي من الأشعار أفعال بها
حزم وعزم صادق وإباء
بين النبوة والقريض محلتي
أرض لفكري منهما وسماء
يسمو الذي أتلو لديه قصائدي
فتلاوتي للسامعين سخاء
وتلاوتي للسامعين شهادة
في أنهم ذوق لهم وذكاء
انتهى الصافي من تلاوة قصيدته هذه، فلف الحضور سكوت محرج كان في لهجة الشاعر الانفعالية وفي معاني قصيدته رد جارح على ما تصوره ترفعاً من غيره عليه، أو على تلاوة الشعر، وعلى ما توهمه استهانة بقدره هو ولم يكن هناك مجال للتعليق، فكل تعليق كان يزيد الموقف حرجاً.
ولا داعي بعد هذا إلى القول أن هذه كانت المرة الوحيدة التي حضر فيها الصافي النجفي اجتماعاً من اجتماعات حلقة الزهراء.