رحلتي إلى الخيال
سهى بطرس قوجا
عندما تقسّوا علينا الحياة وتجرفنا في طريقها الأقدار، نجد أنفسنا صدمنْا، ضعفنْا، تقوقعنْا، بسبب يأسنْا وعدم مقدرتنْا على التحمل. فنأسر أنفسنْا بقيود نحن من نضعها لأنفسنْا، ونشدّ أفكارنْا ونبحرَ فيها إلى عالم الخيال بكل عقلنا، باحثين عن آمالنْا، أحلامنْا، إنساننْا، أمانينْا الضائعة والتي أصبحت سراب في عالم الواقع، علّ وعسّى نجدها في عالم اللاوعي! أسئلة كثيرة من عالم الواقع تُبادر ذهننْا، تُدهشنْا، تُحيرنْا، تُبكينْا... من يُجيبنْا عليها... لا نعلمْ؟!
بين الواقع والخيال:
كثيرين يتمنون أن يهربوا من واقعهم إلى دنيا الخيال، إلى عالم خيالي لا يرون ولا يسمعون فيهِ غير صوت الإنسان يُنادي الإنسانية لأن هنالك من البشر من يتسّم بأسلوب يشوهُ جمالهُ. سنقوم برحلة صغيرة إلى عالم الخيال، عالم نعيش فيه لحظات، ننسى فيهِ ألم الحياة، نقابل فيهِ من يستحيل علينا مقابلتهم ورؤيتهم في الواقع. نسافر إلى عالم لا نجد فيه أي حدود أو أسوار أو قيود، عالم خالي من الخُبثّ، الحقدّ، المكر، الأنانية، الكذب، الطمع، الانتهازية، الاستغلالية ..... الخ.
أغمضتْ عيني على حلم كم أودّ أن يتحقق في الواقع من أعماق أعماقي، وبينما أنا أفكر بهذا بيني وبين نفسي، غفوتْ وفجأة سمعتُ صوتًا يُناديني ويُوقظني من نومتي، ويدعوني إلى رحلة معهُ، أستيقظتُ مفزوعةٌ وقلتُ:" منْ يُنادي ...منْ" ؟! فردَّ عليِّ وقال:" أنا ... لا تخافي"، فقلت مرة أخرى:" من أنتَ"؟ فقال لي:" لنْ أقول الآن بعد أن نُنهي رحلتنا سأقول لكِ منْ أنا"؟، فقلت:" أيةُ رحلةٍ وإلى أين... فلمْ يُجيبني"؟! ولكن بيني وبين نفسي أحسستْ أني أعرفهُ، وسمعتُ نبرة صوتهُ يهمس في أذني من قبل!
فأمسكَ بيدي وأصطحبني معهُ في طريق، مشينْا فيها مسافة إلى أن وصلنْا إلى باب كبير ففتحهُ ودخلنْا... يا للعجب، عيني رأتْ ما لم تراهُ من قبل! رأيتُ الحياة بمعناها الحقيقي، رأيتْ دنيا غير دنيتنْا، رأيتُ أناسًا أصواتهم، إحساسهم، كلماتهم، روحهم، وكأنها موسيقى تبثْ في نفسكَ السعادة، رأيتْ جمال الإنسان على الطبيعة من جمال نفسًا وروحًا وأخلاقًا وأعمالاً، حقًا إنسانًا يسمّو بإنسانيتهِ. نظرتْ للطبيعة الخلابة ورأيتْ ما فيها من زهور بمُختلف ألوانها وأشكالها، رأيت الأشجار بخضرتها البهية، رأيت الطيور تحلق عاليًا في سماء زرقاء صافية، أمشي وأمشي وأنا أتعجب وأقول في نفسي:" ما أجملهُ من مكان"، أنظر هناك أرى بلبلٌ يُغردُّ بصوتٍ عذبٍ، أُعطيّ أذني لتلك الناحية أسمعُ هدير مياه عذبةٍ وكأنها ألحان قيثارة تُداعبّها أصابعٌ ناعمةٍ. آهٍ... ما أجملها من حياة! فتعجبتُ وأندهشتْ لِمْا رأيتْ وأنتابني إحساس غريب وشعور بالسعادة يغمرني لا يمكن أن أوصفهُ، وقلتُ للذي دعاني:" أين أنا، وما هذا المكان؟!".
فنظر إليَّ وقال:" أنتِ في دنيا الخيال في دنيا اللاواقع، هنا تستطيعين أن تحققي كل ما لمْ تستطيعي أن تحققيهِ على أرض الواقع، ولا تندهشي كثيراً فما زلنْا في البداية، أنتظري حتى تتعرفي على المكان بأكملهِ، فربما قد لا يعجبك"! فقلت في نفسي:" ماذا يقول، كيف لا يعجبني"!
تابعنْا سيرنْا ومشينْا بين تلك الأشجار العالية وعيني تذهب يمينًا وشمالاً تُمتع نظرها. ورائحة الزهور تفوح من بينها وأنسام الهواء الهباب تُداعبُّ خصلات شعري، وكم تمنيتْ أن تكون لي أجنحة لأحلق عاليًا مع تلك العصافير الصغيرة التي أراها مُعششة بين أغصان الأشجار حيث الصفاء والنقاء. وبينما نحن نسير وصلنْا إلى كوخ قديم وصغير بحديقة وأسوار تُزينها وطفلٌ جميلٌ يلعب فيها، فما إن رآني بطرفة عين حتى هرعّ إلي بكل قوةٍ، قائلاً:" لا تتركيني هنا ... لا تتركيني"! فأندهشتْ لكلامهِ، وأحسستْ من كلامهِ أنهُ يعرفني، على الرغم من رؤيتي لهُ لأول مرة! فسألتهُ:" هل تعرفني؟ ولمْا أنت هنا وحيداً؟" فقال لي مُعاتبًا ودموعهُ تتساقط كقطرات ندّى على وجنتيهِ:" أنتِ من تركتيني كُل هذه السنين وحيداً ونسيتيني"!
صعقني ردهُ وآلمتني دموعهُ البريئة فأدمتْ قلبي وأبكتني بشدة فقلت لهُ:" ماذا تقول، وعن أي شيء تتكلم"؟ فقال:" أنا هنا أسيرًا منذ عشرون عامًا، وعقلك هو من أسرني وكبلني بحيث منعني من السير ومن أن أكبرُّ". جذبني حديثهُ الذي دخل أذني وجعلني أتأمل فيهِ لبرهة، مُتعجبةٍ! وإذا بشريط حياتي يمرُّ أمامي، أعيشُ لحظاتهِ من خلال هذا الطفل... آهااااا... وفجأة تذكرتْ، أنهُ حلمي الذي طالمْا تمنيتْ أن يتحقق ولكني تركتهُ وركنتهُ لسنين، حلمي الذي ما زال يسكن داخلي، ولكن أنا بيدي من جعلتهُ حبيس قضبان نفسي بسبب أحباطي ويأسي وشعوري بفقدانهِ. فحلمي هذا قد سرقتهُ الأيام مني بدون إرادتي وبقيَّ خيال ومُجرّد تمنيٍّ في داخلي الأليم، لكن كل يوم كنتُ أتذكرهُ فيهِ يُضيف إلى سنين عمري يومًا آخر ليصبح من الماضي.
فحزنتْ وندمتْ على كل تلك السنين، وسألني من دعاني للرحلة معهُ:" والآن ما هو رأيك هل يعجبك هذا العالم، وهل تفضلين وتودين المكوث فيهِ؟". فرفعتْ عيني ونظرتْ إليهِ قائلة:" عالم الخيال شيء ممتع، تجد فيهِ: الإحساس الراقيّ، السعادة، الأمان، الراحة، هدوء النفس، الجمال، الطبيعة، الصفاء، النقاء، الروعة، البراءة، الأمل، الحلم، الرقة....ألخ. ولكن جميعها تبقى وقتية وخيالية لا تستطيع أن تعيشها وتلمسّهْا كما في الواقع. وخيالنْا هذا ما هو ألا وسيلة للهروب من الواقع وما أن تفيق منها حتى تعود إليهِ وأنت مُحمل أكثر بالألم والحسرة. وعندها تكون كالشارد والضائع بين الحقيقة والخيال لا تعرف هل تُساير الواقع أم تعيش الخيال. فالخيال بلا حدود ولكنهُ يبقى ناقص وغير كامل، لأننا نرّى فيهِ ما نريدُ ونُحبَّ أن نراه فقط بنظرتنْا المُنفردة".
ولكن أنتَ لمْ تقُل لي لحَّد الآن من أنتَ؟ فقال:" أنا نفسكِ، سرقتك من عالمك وأخذتكِ في رحلة لتتعرفي على سبب صراعك مع عقلك، وسبب تقييدك ليَّ!". وفجأة سمعتُ صرخةٍ أعادتني من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة، كانت صرخة الحقيقة... أفاقتني!
رحلتي أنتهتْ في عالم الخيال واللاوعي ولكن من عالم الواقع لمْ تنتهي، فالخيال جميل وجمالهُ يكون فقط حين نعيشهُ لحظات جميلة وليس بأستمرارية. وبدون هذا الخيال لا يمكن أن نصْل للواقع، ولكن يجب الفصل بينهما لكي لا يتداخل الأثنين ونضيع بينهما وبالتالي نخلق شخصية مُزدوجةٍ ومُركبةٍ وهاربةٍ من ذاتها.
وما أودّ أن أقولهُ في ختام حديثي هو إن الإنسان في واقعهِ بإستطاعتهِ أن يصل إلى ما يريد حين يصرُّ ويصممُ من داخل ذاتهِ على تحقيق مبتغاهُ بكل ثقةٍ وحين يستخدم عقلهُ الاستخدام الصائب بحيث يخدمهُ ويرقيهِ كإنسان، فلا تجعل مُخيلتك تتأرجح بكَ بين الواقع والخيال وعندها تضيع عليك ولا تعرف نفسكَ أين تسكن وماذا تريدُ؟! أو ربما تنسّى من أنتَ؟!