العودة في الشعر الفلسطيني
د. يوسف حطيني

تمسّك الفلسطينيون الذين هُجّروا من فلسطين بحقّ عودتهم إليها على الرغم من الاضطهاد والتجويع والتشريد والقمع الذي عانوا منه في الوطن والمنفى، وتعاملوا مع هذا الحق بوصفه حقّاً ثابتاً راسخاً غير قابل للتصرف، ولا يملك أحدٌ حق التنازل عنه، لذلك غصّت أدبياتهم بالإصرار على العودة إلى أرضهم، بحدودها التاريخية، وعبّر شعراؤهم عن هذا الحقّ من خلال أشكال متعدّدة، وظهر التمسك به من خلال رموز كثيرة، ومنها رمز المفتاح الذي صار في كثير مما كتبه الشعراء رديفاً للبيت والوطن.
فالشاعر عبد الغني التميمي يتحدّى الغاصب بمفتاح البيت، ويؤكد له أنَّ آلاته العسكرية لن تستطيع القضاء على روح المقاومة، وإرادة العودة، ولن تقوى على إطفاء شمس الغد؛ إذ مهما تفنن الغاصب في قمعه للإنسان الفلسطيني، ومهما حاول تغييب حاضره، فإنه لن يكون قادراً على محو الماضي، أو سرقة المستقبل. يقول التميمي:
لم يَزَلْ مِفتاحُ بيتيَ في يدي
لم أزَلْْ أحضُنُ ذكرى بلدي
ما عرفتُ اليأسَ – يا جلاّدُ – يوماً
هذه آلاتُك اشْحَذْها...وهذا جسدي
أيها القاتلُ يومي بُؤْ بِهِ
أنتَ لا تقوى على قتلِ غدي
أولاً ـ حلم العودة:
وفي إطار تأكيد حقّ العودة يذكر الشاعر وجيه سالم أنّ هذا الحقّ لا سبيل إلى التنازل عنه، وأنَّ العودة هي حلم المشردين، وحلم الذين ينتظرون لقاءهم، كما يشير إلى أنّ المفتاح (رمز الإصرار على العودة) سينتقل من جيل إلى جيل، فهو يقول:
تحريرُ الأرض هو الأملُ وبحقّ العودةِ يكتملُ
حقٌ لم نرضَ لهُ عِوَضـا ما في الأكوان لهُ بدلُ
مِفتاحي ها هو في جيبـي لحفيدِ حفيدي ينتقلُ
ويبدو حلم العودة عند الشاعر أحمد مفلح على شكل شوق إلى بيسان وذكرياتها، فهو يتساءل عن عينيها، وعن ضفتي بحيرة طبرية، وعن الزنابق، ويطلب منها أن تأخذه إليها عائداً من منافي الضياع، من أجل أن ينقش أشعار حبّه على خصر شجرة تين، وحتى يخيّم في ظلال الزيزفون. يقول أحمد مفلح مخاطباً بيسان:
أما زال في عينيكِ صيف وأنجمُ وفي صدرك الريان مسك وعندمُ ؟
أما زال بين الضفتين زنابقٌ تهدهد شوق الغور والغور ينسمُ
خذيني لقد أشعلت كل مراكبي إلى غابة الدفلى أضيع وأرسمُ
وأنقش أشعاري على خصر تينة وتحت ظلال الزيزفون أُُخيّمُ
ويمتزج الحنين بحلم العودة عند الشاعر أيوب طه الذي يختصر الوطن في عدد من رموز الزمن الماضي، ومن خلال هذه الرموز المعبّرة ينجح في أن ينقل للقارئ معاني الشوق العظيمة التي يحملها لقريته ومدينته، ولكل تراب على مساحة ذلك الوطن، فهو يشتاق لكرم التين، وكرم العنب وظل الزيتون قائلاً:
ما زلت أحنّ لكرم
التين,
للجلسة في ظلّ
الزيتون
عن كثب من دالية الكرم "السلطية"
لأرى الماضي يلهو في حضن البريّة,
أحلاماً مثل دموع الفجر غمامية
فمتى سأعود لكرم التين!؟
وأقلم أشجار الزيتون بقدّومي
وأدغدغ حبات العنقود,
من بعد غيابْ
وعلى الرغم من أنّ المنفى حمل قسوة الغياب عن الوطن إلا أنه لم ينجح في محو الصورة البكر لذلك الوطن الذي تسرّب إلى لا وعي الجيل الثاني عبر المورّثات التي حملها من الجيل الذي عاش في فلسطين. وقد صورت الشاعرة ليليان بشارة منصور في قصيدة "وصية الأجداد" دور الذين عاشوا في أرض فلسطين في نقل عدوى حبّ الوطن إلى الأجيال اللاحقة التي جاءت أكثر تمسكاً بحقها في العودة. تقول ليليان عن هؤلاء الأجداد:
يموتون
وفي قلوبهم حسرة التشرد
أجدادنا
ذاكرتهم قبل السياج
جرة مملوءة بالكلام
ولأجدادنا
في قبورهم الدافئة
ذاكرة محنطة
يعيشون في حلم العودة
وعلى الرغم من أنّ الشاعرة لم توفّق كثيراً في استخدام تعبير (ذاكرة محنّطة) فإننا نلتمس لها العذر في أنها أرادت أن تعبّر عن ذاكرة وقفت عند حلم العودة الذي لا تريد من فكاكاً، ولأن هؤلاء الأجداد يملكون جرة مملوءة بالكلام عن الوطن المفقود؛ فقد نجحوا في نقل مورّثات حب الوطن إلى الأجيال اللاحقة. ومع انتقال هذه المورّثات أصبح مألوفاً أن نرى الجيل الثالث يحمل العودة شعاراً، ويحلم بها. وثمة قصيدة للشاعر المتوكل طه تحمل عنوان "آمنة تعود إلى اللطرون" وهي قصيدة رقيقة تندرج في هذا الإطار. ومنها:
قُلتِ سأرجعُ حتى أُلملمَ دمعي،
ولا يلحظَ السائرون عيوني،
سألتكِ: من أين جئتِ بهذي المياهِ الغزيرةِ؟
لم تلدي يانعةً في زوايا المكانِ،
ولكنَّهم أخبروكِ بأنّا وُلدنا وكُنّا هنا،
وكنتِ هناك على مَهَلٍ تكبرينَ،
وظَلّ المخيمُ في حُزْنه حسرةً
خلفَ ظِلٍ خفيفْ
ويفيد الشاعر خالد علي مصطفى من الموروث الديني، ويستلهمه بنجاح، إذ يعود إلى معجزة الإسراء والمعراج، معبّراً عن توقه لمعجزة جديدة، يظهر فيها البُراق من جديد، ليحمل على ظهره المشردين، ويطوي بهم المسافات النائية نحو وطنهم الحبيب، فهو يقول مخاطباً البُراق:
هلم أيها البُراق نجنا،
اطو بنا المسالك الطوال
شفاهنا تخزن في عروقها الرمال
وقد حمل عدد كبير من الشعراء حلم العودة أمنية يبحث عن تحقيقها بطرق مختلفة، حتى إنَّ بعضهم تمنى أن يكون طائراً قادراً على التحليق في سماء الوطن. ويمكن في هذا الإطار أن نشير إلى مقطعين للشاعر الراحل يوسف الخطيب الذي يقول مخاطباً عندليباً قادماً من فلسطين:
لو قشّةٌ مما يرفُّ ببيدرِ البلدِ
خبّأتها بين الجناح وخفقة الكبِد
لو رملتانِ من المثلث أو ربا صفدِ
لو عشبةٌ بيدٍ.. ومزقةُ سوسنٍ بيدِ
أم عدتَ مثلي بالحنين وسورة الكمدِ
إنّ الشاعر هنا يصوّر خير تصوير حالة التفجّع التي مرّ بها الأدب الفلسطيني، وربما لن نجد في الشعر الفلسطيني مقطعاً أكثر حزناً وتعبيراً عن شوق المشرد الكسير إلى أرضه المغتصبة. غير أنّ ثمة وجهاً آخر للصورة لا يكتفي بترحيل بعض ذرات التراب خارج الوطن، فالتراب في الرؤية الثورية لا قيمة له بعيداً عن أرضه، وقد أدرك الشاعر نفسه هذه الحقيقة حين تمنى في مقطع آخر أن يكون قُبّرة تعود، لا منفياً ينتظر الطيور العائدة. يقول يوسف الخطيب في قصيدة "ليتني كنت قُبّرة":
ليتني كنت قُبّرة
فأطير
وجناحي مصفقٌ
في الأثير
فوق بيارة لنا
وغدير
ليتني كنت قُبّرة
ويعبّر الشاعر محمود صبحة في خلال مخاطبته الطيور العائدة عن شوقه إلى أرضه السليبة، وعن أمنياته في أن يحذو حذوها، من دون أن يذكر ذلك بشكل مباشر، إذ يغبط في المقطع التالي رفوف الطيور العائدة مع الربيع، على الرغم مما تحمله في قلبها من الأسى؛ فقد قال يخاطب الطيور:
وأنتِ يا عائدةً مع مَطلعِ الربيعْ،
بلونِ حزنٍ ثاكلٍ من أثرِ النجيع ،
من بعد طول غُربةٍ ، في طلبِ الدِّفءِ ،
وخَلْفَ المَرتَعِ الأمينْ،
تُعاودينَ عُشَّكِ القديمْ،
بشوقكِ الدفينْ
وتنتقل أمنية التحول إلى طائر عابر للحدود نحو الوطن على يد الشاعر علي هاشم رشيد من الشاعر نفسه إلى أحد المشردين الذين يخاطبهم، إذ يتمنى أحد المشردين لو أنّ له جناحاً ليركب الرياح، غير أنّ الشاعر يضيف هنا فكرة جديدة مفادها أنّ العودة لا تتحقق بالأمنيات. يقول علي هاشم رشيد:
قـد قال لي: لـو أن لـي جناحْ إذن ركبتُ هـذه الريــاحْ
وطرت للرّبـا وللـبطـــاح مـغرّدًا معْ نسمة الصَّبــاح
فقـلـت، والحديث ذو شجونْ يرفّ في الـحـيـاة والظنونْ:
يـا صـاحبي إن المنى خـيـالْ ما لم تجئهـا عزمـةُ الرجـالْ
ومثلما انتقلت عدوى التحوّل إلى طير عابر للحدود من الشاعر إلى أحد المشردين، فقد انتقلت هذه العدوى بشكل جمعي إلى جميع المشرّدين، وصار حلم العودة أكبر. إلا أنّ هذا الحلم يبدو رمزياً عند الشاعر منيب فهد الحاج ، الذي يرى في منامه أنَّ نخلة كريمة الثمر راح المشردون يرتاحون في أفيائها، بعد طول نفي وتشريد، ولعلها تكون شجرة العودة، يقول الشاعر:
حلمت أنَّ نخلة في أرضنا نمت
ما هزَّ جذعها خطرْ
(...) تناطح السحاب والغيومْ
وفوقها تألقت شمس وخيّمت نجومْ
تصافح القمرْ
والمجد في سمائها يحومْ
حلمت أنّ نخلة جادت بها يد القدرْ
يرتاح في ظلالها مشردٌ
من بعد أن أرهقه السفرْ
ثانياً ـ طريق العودة:
إذا كان بعض الفلسطينيين قد رأوا العودة حلماً، وإذا كان بعضهم قد رأى أن الأحلام لا تتحقق بالأمنيات، فإن آخرين حاولوا رسم طريق العودة، والانطلاق من التضحية الفردية والجماعية لرسم ملامح هذا الطريق. فالشاعر توفيق زيّاد أخذ يتلمّس معالم هذا الطريق، مشيراً إلى أنه مستعدّ لبذل الغالي والنفيس في سبيل تحقيق هذا الحلم، وأنّ تحقيق هذا الحلم مقترن بالبذل والعطاء. يقول زيّاد موجهاً خطابه إلى عموم المشردين:
أحبائي!!
برمش العينْ
أفرش درب عودتكم،
برمش العينْ
وأحضن جرحكم،
وألُمّ شوك الدّرب،
بالجفنينْ
وبالكفينْ
(...) ومن لحمي ..
سأبني جسر عودتكم
على الشطّينْ
ويبيّن الشاعر منذر أبو حلتم أن طريق العودة لا بدّ له من بذل الدماء الزكية، وأنَّ هذه الدماء التي تُبذل هي الشراع الذي يقود سفينة العودة نحو الوطن، لذلك يجعل دمه شراعاً لا شراع سواه. يقول أبو حلتم:
دمي .. يا دمي
يا شراعي الوحيد
تقدم .. تقدم
فهذي بلادي
عن دربها الحر
لا لن تحيد
وعلى هذا الطريق الذي يضيئه المناضلون بتضحياتهم، وينيره الشهداء بدمائهم، تسير القافلة من دون تردد، ومن دون أن تؤثر فيها السنون التي تمرّ من عمر النكبة. يقول الشاعر محمود صبحة موضحاً إصراره في لغة تنقصها الشعرية ولا ينقصها وضوح الرؤية:
إنا على الطريق سائرون
في حلُم العودة
مهما طالت السنون
ويقدّم الشاعر عيسى الرومي رؤية مشابهة للرؤية السابقة، مستفيداً من الغنائية التي يتمتّع بها، ومن أنساق لغوية معروفة تراثياً في التحدّي، ليبيّن مدى الإصرار على السير باتجاه الوطن، برموزه المكانية كافةً. يقول الرومي:
ومن غزّهْ
إلى بيسانْ
نرى العزّهْ
تقول الآنْ:
سلاماً أيها الوطنُ
ولو قطعت أيادينا وأرجلنا
نسير إليك لا تعبٌ، ولا وهنُ
إلى الكرمل ْ
إلى المجدلْ
فتتبع موجنا السفنُ
ويخاطب الشاعر أكرم عرفات الوطن الغالي، مؤكّداً أنَّ الشعب سيبقى على موعدٍ مع العودة، من خلال الإعداد لتحقيقها، عبر السير في طريق النضال، واستمرار الثورة، ومجابهة الأعداء، حتى يتم الوصول الحرّ العزيز إلى الروابي الفاتنة والمغاني الجميلة:
سأظل يـا وطنـي أُعـدُّ لجــولةٍ فيها سأسحقُ كلَّ من عـاداكـا
ولسـوف أبقى ثـورةً طـول المدى حتى أعـودَ إلى الربـوع هنـاكا
حـيث الروابـي الفـاتناتُ بسحرها حـيث الجمالُ البكْر في مغنـاكا
ويبدو الشعب العربي الفلسطيني مصرّاً على اتباع طريق النضال، وفقاً لرؤية الشاعر محمود سليم الحوت، إذ يرى أن الحرب ستبقى سجالاً بين أصحاب الأرض ومغتصبيها، وأن السلام لا يمكن أن يتمّ إلا بتحقيق عودة المشردين إلى ديارهم. يقول الحوت مؤكداً أن السلام مرهون بالعودة:
ما السلم؟ ما الأمن؟ والأعداء في وطني؟ أنا طـريد وهم سكان جنته؟
لا، لن ترى السّـلم إلا بعد عـودتنا مع الدمـار المغـني لحن نقمته
نعم سـنرجع والدنـيا مهـلَّـلـة للنصر، والغرب مفجوع بدولته
تلـك التي قـال عنـها: إنها خلقت لكي تعيش.. ويبقى مدُّ صولته
ثالثاُ ـ حتمية العودة:
عندما قال محمود درويش: "يا أمّنا انتظري أمام الباب إناّ عائدون" لم يكن يتحدّث عن أمّه، بل عن أمّنا التي هي كل الأمهات الباقيات في أرض الوطن، أو هي فلسطين ذاتها التي تنتظر العائدين الذين تشّق أصواتهم ريح المنفى، وتقتحم حصون الصمت.
لقد بدا درويش هنا متيقّناً من حتمية العودة المظفّرة للشعب الفلسطيني، فكان واحداً من الأصوات الكثيرة التي عزفت لحن الرجوع ذاته، بأقوى عبارات الإصرار. ومن منّا لا يحفظ قصيدة الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)؟ ومن منّا لا يتغنّى بأبياتها التي تعدّ صوّة من صوى الهداية نحو فلسطين؟. لقد بقي أبو سلمى "في أرض الغربة يتقلّب على شوق الذكريات، يحلم بعودة شعبه إلى دياره وأرضه، إلى بساتينه وجباله وسهوله، فتعود المدن والقرى كما كانت تعجّ بعيداً عن المجرمين الصهاينة "، ويقبّل الشاعر الترب المندّى، بعد أن يسمع العلم كله وقع أقدام العائدين. يقول أبو سلمى:
ويســــــألني الرفاق ألا لقاءٌ وهل من عــودةٍ بعد الغيــاب
أجل ‍.. ســــنقبل الترب المندّى وفوق شـــفاهنا حمر الرغاب
غداً ســنعود والأجيال تصــغي إلى وقع الخـطى عــند الإياب
مع الفجر الضحوك على الصحاري نعود مع الصــباح على العباب
مع الرايات دامية الحواشــــي على وهج الأســــنة والحراب
وقد بدا هذا الإصرار جليّاً عند الشاعر هارون هاشم رشيد، إذ إنّ الشاعر أكّد أنّ لليل آخِراً، وأنّ الخيمة السوداء التي صنعت كي تقبر اللاجئين تحوّلت منطلقاً لهم نحو التحرير، وأنّ فلسطين التي سقطت في الأسر ستستعيد حريتها المفقودة. يقول الرشيد:
أخي مهما ادلهمّ الليل سوف نطالع الفجرا
ومهما هدنا الفقر غداً سنحطم الفقرا
أخي والخيمة السوداء قد أضحت لنا قبرا
غداً سنحيلها روضاً ونبني فوقها قصرا
غداً يوم انطلاق الشعب يوم الوثبة الكبرى
غداً في زحمة الأقدار سوف نحقق الأمرا
فلسطين التي ذهبت سترجع مرة أخرى
وفي قصيدة تبدو أجمل من سابقتها، وأكثر دفئاً، وأبهى رونقاً، يؤكد هارون هاشم رشيد العودة في صيغة المستقبل المحقّق حتماً، ويرسم أفق الأمنيات مخاطباً قلبه أن يصمد، وألا يكف عن الخفقان قبل تحقيق هذه الأمنية الغالية. يقول الرشيد في أبيات بديعة غنتها فيروز فزادتها إبداعاً:
سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلب مهلاً ولا ترتمي على درب عودتنا موهنا
يعزُّ علينا غداً أن تعود رفوف الطيور ونحن هنا
وتقدّم فدوى طوقان برهاناً جديداً على حتمية العودة من خلال إصرارها على سير الطريق ومتابعته حتى النهاية، إذ تقدّم مجموعة من تراكيب الاستفهام الإنكاري، تنكر فيها أن تعيش مسلوبة الحق، منفية الروح، مقدّمة بعد ذلك إجابة شافية: إنّ هذا الاغتصاب، وهذا النفي القسري لن يستمرّ إلى الأبد. تقول فدوى:
أتغصب أرضي؟
أيسلب حقي وأبقى أنا حليف التشرّد أصبحت ذلة عاري هنا
أأبقى هنا لأموت غربياً بأرض غريبة
أأبقى ؟ ومن قالها؟ سأعود لأرضي الحبيبة
سأنهي بنفسي هذه الرواية
فلا بد ، لا بد من عودتي
ويستطيع القارئ أن يلحظ في شعر العودة الفلسطيني، ومن خلال معظم النماذج، تكراراً لصيغ التوكيد المختلفة، كقول الكثير منهم: (إننا عائدون) أو (إنا عائدون)، بالإضافة إلى استخدام صيغة المضارع المستقبلي على نطاق واسع، من مثل (سنعود، سأعود، سنرجع، سأرجع، سنغيّر، سنبني، سننهي، سنأتي). ويستطيع القارئ أن يبحث عن مثل هذه المفردات في القصائد التي تتناول العودة، لأنّ الشعراء يقدّمون صيغة لغوية توازي بيئتهم النفسية التي تحتشد فيها الإيمانيات والحتميات لتقول الأمر نفسه، بأشكال متنوعة. وهنا نشير إلى قول الشاعر ربحي محمود الذي يقدّم المشهد نفسه، بلغة تتفق في الرؤية مع ما أنتجه الأدب الفلسطيني في هذا المجال. وها هو ذا يقول:
وقل : إننا زاحفون
سنأتي .. ونزحف
من كل فج عميق
نُطيحُ بهام الجبال
ونعبر تلك الوهاد
نبددُ تلك السدود
وقل : إننا عائدون
سنبني ونبني
ونرفعُ مدماكَ أمجادِنا والبناء
ويمضي الشّعراء الفلسطينيون مدىً أبعدَ في تأكيد حق عودتهم وفي إيمانهم بحتميتها، فالشاعر عادل أديب آغا يرى أنَّ الاستشهاد لا يعني نهاية الحياة، وأنَّ العودة يمكن أن يحققها الشهيد الذي سقط في معركة الكفاح الوطني، لذلك يخاطب فلسطين التي يراها أجمل العاشقات، مؤكداً لها أنه سيرجع إليها، ولو كان شهيداً. يقول آغا:
فيا أجملَ العاشقاتِ أتيتُ وحيدا
يُكلِّلني الصمتُ - لو تعلمينَ
أجيء وحيدا
فخلّي بعينيك بعضَ دموعٍ وورده
فإني سأرجع يوماً: شهيداً جديدا
وعلى الرّغم من أنّ عدداً من الشّعراء انتقلوا إلى الدار الآخرة، فقد أراد هؤلاء أن يعبّروا من خلال شعرهم عن أنهم لا يرون في الموت نهاية المطاف بالنسبة للعودة. فقد عبّر الشاعر حسن البحيري عن حتمية العودة إلى فلسطين، ولم يفقد ذلك الإيمان مع إدراكه أنّ مصير العظام أن تغدو رميماً، لأنه سيعود ولو كان عظاماً بالية، أو حفنة من تراب. يقول البحيري في واحد من أجمل مقاطع شعر العودة:
وإما تولى ربيـع الشـباب وصوّح منه نديُّ الزهَـرْ
وحُمّ الردى أجلاً في كتاب به من منـايا البرايا سُوَرْ
فلا تيئسي من إيـابي إليك وإن غيبتني طوايا الحفـرْ
فإني ولو حـفنة من تراب سأرجع في قبضات القدرْ
رابعاً ـ تأثيث مكان العودة :
ينقل الدكتور أسامة شهاب في كتابه "الحركة الشعرية النسوية في فلسطين والأردن" كثيراً من النصوص التي تؤكّد إسهام المرأة الشاعرة في ترسيخ مقولات الشعر الفلسطيني عموماً، ومن تلك المقولات، بالطبع، موضوع العودة. وهو يورد عدداً من النصوص في هذا المجال، ومن هذه النصوص ما قالته الشاعرة خديجة أحمد رشيد التي تستثمر إمكانات التأثيث المكاني كافة من أجل أن تؤكد حتمية العودة. تقول خديجة:
قادمةٌ يا أختاه.. من قلب الصحراء بالثوب الأخضر
وغصون الزيتون، قادمة يا أختاه، رغم الأحزان
ستمرّين على أجساد الشهداء.. والأزهار تغني لحن العودة
والأطفال.. بزوارق تعلوها الأشرعة البيضاء
وتعودين إلى المحبوب
وتغنين أغاني الحب المشبوب
تحت ضياء الشمس
في ثوب أبيض فضفاض تعلوه نقوش خضراء.
ويبدو تأثيث المكان الذي ينتظر عودة أهله مغرياً لكثير من الشعراء، إذ تمَّ ذلك التأثيث بطرق مختلفة، فالشاعر كامل توفيق الدجاني لم يجد طريقة أجمل من تأثيث ذلك المكان بالابتسامات والطيور، وضوع الزهور والذكريات، تلك الذكريات التي تحتاج إلى من يبعث فيها الحياة من جديد. ومن أجدر بذلك الفعل من الفلسطيني العائد بعد غياب؟ يقول الدَّجاني:
لسـوف أعـود إلى جنّتي أُعـيـد إلـيها ابتسامَ الهناءْ
أعيد الطيورَ وموجَ الغصونِ ونشـرَ الزهور وعهدَ الصفاء
لسـوف أعـود إلى جنّتي أردّ البغاةَ وكـيــد الطغاه
وسوف أعـود إلى جنتـي أجـدّد فـيها معاني الحياه
ويستثمر الشاعر الشهيد كمال ناصر في رحلة تأكيد حتمية العودة إمكانات التأثيث، فيتحدّث عن حيفا، ويصف صمود الكرمل، وجرح الأرض الذي ينزف شوقاً، ليقسم بعد ذلك أنّ الشعب سيحمل جراح غربته، ليضمّد جراح الأرض التي تنتظره بلهفة. يقول كمال ناصر:
تلك حيفا فقف بها يا جناحي لا تصفق في دربها المستباح
هو ذا الكرمل المطل على البحر صَمود لعاصفات الرياح
قسما بالثرى الجريح على الأر ض يروي بالحقد حمر الأقاحي
سوف نأتي إليك يحملنا الجر ح شظايا مدمدمات الصداح ِ
وقد بدا الشاعر محمود سليم الحوت مهتمّاً إلى حدّ كبير في تأثيث ذلك الوطن المغتصب الذي ينتظر العودة، فالجبال صامدة منتظرة، والسفوح تسفح دموع الشوق فوق خدّ السهل، وقلوب الروابي تكاد تنفطر من طول الانتظار. لذلك فإن العودة إليها هي التي ستعيد الفرح مرة أخرى إلى الوطن، وإلى العائدين الذين سينعمون في تلك الفراديس المفقودة. يقول الحوت:
سنستعيد الجبال الشم صامدة كأنها القدر المحتوم ينتظر
والسفحَ والمنحنى والقاعَ جارية دموعها فوق خد السهل تنحدر
ونسترد الروابي وهي صابرة على الفراق بقلب كاد ينفطر
سنستعيد رحابَ الدور عانية والشوق مؤتلق فيها ومزدهر
ونسـترد فراديـساً معلـقة ما خالط الروحَ إلا ريحُها العطرُ
ولا ينجح الشاعر أحمد الصدّيق كثيراً في بثّ روح الحياة في الوطن الذي ينتظر العودة، ويصير هذا الوطن مجموعة أسماء لا صفات لها، ولكنه مثل غيره يؤكد على أنّ العودة حتمية تاريخية واقعة لا محالة، فهو يقول:
مهما تتقاذفني الأمــوا ج فأنت نهاية أسفاري
حيفا والّلد وبئــر السبـ ـع وكل سفوح الأغوار
والقدسُ ومسجدها الأقصى وسيوف جدودي الأخيار
لن تذهب أحلامـي أبدا بالنصـر ستعقد أثماري
وثمة من سلك من الشعراء في تأثيث الوطن مسلكاً آخر، فلم يكتف بالتأثيث الخارجي، وراح يبرز صورة المدن والقرى المنتظرة، ويؤثث النفوس التي ترابض في الوطن بأشواق الانتظار، ولعلّنا نشير هنا إلى الشاعر توفيق زيّاد الذي يجعل الشبّابة والموال وعمود الخيمة كلّها تعبّر عن شوق التراب لأهله الموزعين في المنافي. يقول زيّاد:
فلسطينيةٌ شبّابتي،
عبأتها،
أنفاسي الخضرا
وموّالي،
عمود الخيمة السوداءِ،
في الصحرا
وضجة دبكتي،
شوق التراب لأهله،
في الضفة الأخرى
لذلك فإنّ الشاعر زيّاد ينتظر مع الدَّبكة والموال والشبابة هؤلاء العائدين، وهو يحمل في يديه الورد والحلوى، وفي جنبيه ترحيباً بأخبار سارة تنبئ عن عبور الأهل نحو الوطن الذي يمرح فيه المغتصبون، ويصلبون من تبقى من أهله، وها هو ذا يقول:
أنا بالورد والحلوى
وكل الحبّ أنتظرُ
وأرقب هبة الريح التي
تأتي من الشرقِ لعلّ على جناح جناحها
يأتي لنا خبر
لعلّه ذات يوم يهتف النهر :" تنفس!!
أهلك الغُيّابُ،
يا مصلوبُ،
قد عبروا!"
ويوجّه الشاعر مؤيَّد العتيلي نداءه المشتاق إلى المنفيين المشردين، طالباً منهم أن يعودوا إلى القدس ورام الله والقدس وغزّة، وكل مكان من الأرض الفلسطينية، لأن مريم العذراء تنتظر الخلاص، وثمة عرس ينتظركم كي يقام في رام الله، وثمة في نابلس وغزّة متسع لفرح العودة. يقول العتيلي في قصيدة "ترنيمة فلسطينية" مخاطباً المشرّدين:
عودوا .. فسيِِّّدةُ العذارى ..
وحدَها في القُدسِ .. تنزفُ ضوءها السرِّيْ ..
عودوا .. فرام اللهِ ..
عرسُكُمُ المُؤجّلُ .. في انتظارِ الرّوحْ ..
عودوا .. ففي نابُلْسَ متَّسَعٌ ..
لأفراحِ الصَّبايا العاشِقاتْ ..
عودوا ..
فغزَّةُ تَسْتَثيرُ البَحْرَ ..
بَحثاً عن لآلئها الدّفينةْ ..
خامساً ـ رفض العودة الملتبسة:
بعد توقيع اتفاقيات أوسلو بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية ظهر في الأدب الفلسطيني مجموعة لا يستهان بها من الكتابات التي تنعى هذه الاتفاقيات، وتحذّر من مفهوم العودة الملتبسة، إذ إنّ أية عودة لأي شخص تحت حراب الاحتلال هي منقوصة، لأنها لا تتم في إطار حركة تحرّر وطني شاملة، تجعل من البوابات المؤقتة التي يحرسها الاحتلال بوابات مفتوحة دائماً.
وسبّق أن حذّر الأديب الشهيد غسّان كنفاني في روايته عائد إلى حيفا من هذه العودة المؤقتة، وغير الفاعلة، ورأى فيها قهراً يضاف إلى قهر الفلسطيني، وغربة تضاف إلى غربته. وكيف يمكن لشعور الغربة أن يزايل الفلسطيني، وهو يقف على بوابات العبور نحو بلده كما يقف المتسوّلون؟. ولنا هنا أن نذكر صورة العبور المذلّ التي زخرت بها الأدبيات الفلسطينية، وعند الأديبات الفلسطينيات خاصة، من مثل سميرة عزّام وسحر خليفة وفدوى طوقان. وتمكن هنا الإشارة إلى الشاعر رجا سمرين الذي عاد مثل تلك العودة التي شعر معها بأن الأسى لم يزايله لأنه في وطنٍ غير حرّ، فقال:
كـم كنت يا وطني أودُّ بأن أعود إلى رباكْ
فأراك موفور الكرامة قد نُصرتَ على عداكْ
لكنني قـد عُـدت والأعداء تنعم في ثراكْ
وبنوك قد هاموا حيارى في المفاوز للهـلاكْ
وكان الشاعر محي الدين الصفدي قد لخّص الموقف من العودة في ظل حراب الاحتلال تلخيصاً بيّناً، في واحدة من قصائده، فهي عودة ذليلة، لا يعترف من خلالها العدوّ بحقّ صاحب الأرض، بل يسخر منه لأنه لا يملك القوة، ولأنّ الأرض وفق شريعة قانون الغاب ليست لأصحابها، بل لمن فاز بمعركة الدفاع عنها. ويتلمس القارئ في هذا النص الذي ينحو منحى الشعر القصصي دعوة إلى امتلاك القوة التي تحقق العودة الظافرة, يقول الصفدي:
ها قد غدوتُ لأوطاني على قدمي والوجـدُ قـرّح أجـفاني.. وبرَّحَ بي
فجئتُ عجلانَ بابَ الدار أطرقه طرقَ الذي آبَ من منأىً ومُغتربِ
إذا بعلجٍ قبيحٍ جاء يفتحُ لي كأنّه مـن بني الشَّـيطان في سـبب
فقال: من أنت يا هذا؟ فقلتُ له مَنْ ذا يخاطبني؟ ما أنت من نسـبي
الدارُ داري، لماذا أنت تسكنها من أنت؟ قل لي، فقد أكثرتَ من عجبي
فقال لي ساخراً: ما أنت صاحبُها لكنّ صـاحبها مـن فـاز بالغـلبِ
وما دمنا في إطار رصد الحالة النفسية للعائدين عبر الشرط الصهيوني القاهر فلا بأس أن نورد في قالته فدوى في واحدة من قصائدها، مصوّرة استجداء العبور نحو الوطن:
آهات أمام شباك التصاريح عند جسر النبي
وقفتي بالجسر أستجدي العبور
آه ، أستجدي العبور
اختناقي، نَفَسي المقطوع محمول على
وهج الظهيرة
سبع ساعات انتظار
ما الذي قص جناح الوقت،
من كسح أقدام الظهيرة؟
ويمكن أن نمثّل للموقف من العودة الملتبسة بعد أوسلو بما قاله الشاعر أحمد دحبور حولها، إذ شعر الرجل بمرارة الانتماء، وأحس أنه يعيش في هذه الحالة هجرة ثانية إلى منفى جديد؛ إذ لم يشعر بأنه يملك الوطن والتاريخ. يقول دحبور:
إن للاشيء في تربته معنى ونعتا
ليت أني، ليت أنّا
غير أنّا
غير أني ها هنا الآن :
لماذا ؟ وبماذا ؟ والسنونو حائرة
عودة أم هجرة ثانية يا أيها السرب المعنى
وقد أشارت الشاعرة رجوة عسّاف إلى الفكرة ذاتها، إذ تشعر مع تلك العودة بأنها دخلت دارها من بوابة الخدم، إذ لا فرحة ولا زغاريد، ولا نصر ولا ظفر، وليس ثمة إلا الخزي والعار. تقول رجوة:
وأدخل - حلوتي – بيتي
بلا فلٍّ على نحري
بلا سرب من الحسونِ
يملأ عودتي فرحه
ولا خلخال أزهارٍ
على قدمي
لأني جئت صوب الدارِ
من بوابة الخدم
لأني جئت للدارِ
أذوب بحلة العارِ
وأقدامي مجرحةٌ
بلا خلخالْ
* * *
هكذا إذاً بدت فكرة العودة في الشعر الفلسطيني: حلم لا ينتهي، وإصرار لا يحدّ، وعزم لا يلين، للانطلاق الظافر نحو الأرض، تلك الأرض التي تنتظر أهلها، مثلما تنتظر الحقول القاحلة انهمار المطر.