أعلام الحرية؛ مدحت باشا
سلام مراد
"إن حب الإصلاح قد اختلط بدمي فكان كالمرض المزمن لا يبرأ منه" مدحت باشا
هذه المقولة لمدحت باشا أبو الدستور العثماني.
الذي قال عنه بسمارك "لا شك في أن مدحت باشا هو من عظماء هذا العصر، وعندي أن مسائل الشرق، باتت في هذه المرة على أبواب الحل، لأن مدحت باشا هو الشخص الوحيد الذي يعرف ماذا يراد من هذه المسائل ويعمل دون أن ينحرف أقل انحراف عن جادة القصد الحقيقي منها".
كما قال عنه أحمد أمين "كان مدحت من هؤلاء الذين في خلقهم حميّة، وفي طبعهم تحد للشر، وثبات على الجهاد، وجلد على تحمل الألم حتى يلفظ آخر أنفاسه وعار عليه أن يتأوه".
رأى مدحت باشا أن أساس ضعف الدولة وفسادها هو الاستبداد، فدعا إلى الديمقراطية وحكم الدستور والقانون والمساواة بين المواطنين ومكافحة الفساد، ودعا إلى الحرية، مثلما دعا إلى العدل، وبالجملة فقد دعا إلى نمط الدولة العصرية التي رآها مجسدة في أوروبا القرن التاسع عشر آنذاك.
نشأ مدحت باشا نشأة عصامية لامعة، فبلغ أعلى مراتب الدولة، بجده وخلقه وصدق وطنيته، في وقت لم تكن تنفع إلا الشفاعات والمحسوبيات.
وما لبث أن أضحى سياسياً كبيراً، ومثلاً يحتذى في كرامة الخلق ورجاحة الحلم وصلابة العقيدة والجرأة في الرأي، وقائداً ضحّى بنفسه في سبيل أمته، بين ساسة محترفين لا يعرفون سوى الحسد لزملائهم، والاستبداد بمن هو أضعف منهم، والتزلف للكبراء والسلاطين، ساسة يزعمون أنهم يخدمون الدولة وهم ألد أعدائها، يضرها فريق منهم بجهله وضعفه، ويضرها فريق آخر بسعيه المتواصل لتحقيق أغراضه الذاتية ومطامعه الخسيسة أياً كان السبيل الذي يسلكه إليها.
ولد مدحت باشا في استنبول سنة 1822م 1238هـ كانت آنذاك ثالث مدينة في العالم من حيث الكبر والاتساع، يزيد عدد سكانها على مليون و 175 ألفاً.
وكانت غارقة في نوم عميق طال أمده وحان وقت الانتباه منه، تتمخض مخاضاً طويلاً بما تمخضت به من قبلها سائر العواصم الكبرى، حين انتقل الحكم فيها من طبقة أرستقراطية إقطاعية مستبدة تستأثر بخيرات البلاد وتسيطر على مقدراتها.
إلى طبقة نامية من المثقفين وأصحاب الحرف والصناعات تريد أن تنشر راية العدل والأمن، وأن توزن أقدار الناس حسب أعمالهم وكفاياتهم، وأن يكون ثمة قانون عام ..؟.. الحقوق ويحدد الواجبات، وما يرافق هذا الانتقال من تصادم بين الطبقة الناشئة الصاعدة والطبقة المتفسخة المنحلة، وتضارب بين نفوذ الفئات الإصلاحية ونفوذ المحافظين على القديم، وقيام هؤلاء عقبة كؤوداً في طريق الإصلاح، حتى تضطر الجماعة المجددة أن تضرب خصومها ضربة قاضية وترفع علم العدل ولواء الإخاء والمساواة.
كانت استنبول في ذلك العهد صورة مصغرة عن تلك الإمبراطورية الواسعة الأرجاء، فهي ليست أوروبية صرفاً ولا آسيوية شرقية، وليس لها طابع قومي خاص ولا طابع دولي شامل، تعيش فيها الأضداد جنباً إلى جنب، فيها الترف المفرط والفقر المدقع، وفيها الجمال الخلاب والقبح الشنيع، وفيها المحاكم الشرعية والكنيسة والمحاكم المدنية وطنية وأجنبية، وفيها جاليات من كل بلد وكل قومية، وفي وسع السائح من أي قطر كان أن يجد فيها من يحادثه بلغته، وهي إلى هذا كله من أهم المراكز التجارية، تتلاقى في شواطئها السفن المثقلة بالبضائع من جميع أنحاء العالم.
لمدحت باشا مآثر كثيرة أثناء تسلمه المناصب، سواء في العرب أو بلغاريا أو بغداد والشام.
فعندما استلم ولاية بغداد 1870م. بادر إلى توطيد دعائم الأمن بنفسه مجابهاً في ذلك كثيراً من الأخطار.
ثم التفت إلى الشؤون الداخلية، نظم المحاكم، وعاقب الحكام الظالمين وفتح أبوابه للمتظلمين، فهابه القاسطون واطمأن كل صاحب حق وحاول زيادة رواتب الصغار من الموظفين فأخفق، وقال في ذلك "سوف يأتي زمن يتيسر للدولة فيه أن تعادل بين العمل والأجرة، أما الآن والإجحاف ظاهر فكأننا نحن أنفسنا نأذن بالرشوة لذوي الرواتب الزهيدة- بل نأمرهم بذلك أمراً".
نظر في الطرق المتخذة لجباية الأموال فأصلحها، ورغب كثيراً من عشائر البدو في ممارسة الزراعة، ثم قام بكثير من المشاريع العمرانية، فهو الذي أنشأ أول مطبعة في بغداد وأصدر فيها جريدة دعاها "الزوراء" وهو الذي أصلح إدارة عمان البحرية وأنشأ معمل الحديد الذي لحق بتلك الإدارة، وأسس مدرسة الضائع، وأنشأ الحديقة العامة، وألف شركة من أهالي بغداد فسيرت القاطرات الكهربائية بين بغداد والكاظمية وهي أول شركة "تراموي" في الولايات العثمانية.و كانت له عناية خاصة بإصلاح الطرق، فقرب المسافة بين بغداد والبصرة ساعات إذ طرق سبيلاً لدجلة فحوله عن مجراه في محل يلتف فيه ويدور مسافات طويلة ثم يرجع إلى قرب مجراه الأول، وما يزال ذلك المحل يعرف بالقصة أو قصة مدحت.
كان دستور مدحت مؤلفاً من /140/ مادة، فحذفت اللجان التي نظرت فيه /21/ مادة منها، ثم رفع إلى المابين فأعاد عبد الحميد النظر في مواده مادة فمادة وأدخل عليها بعض التعديل ولا سيما على المواد التي تحدد صلاحية السلطات، ثم أضاف إليها المادة /113/ التي تخوله صلاحيات واسعة، وقد قبل مدحت رغم هذا كله، إعلان الدستور على هذا النمو، رغبة في سرعة العمل، قائلاً أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، مؤملاً أن يعيد تعديل الدستور متى توطدت دعائم الحكم النيابي في البلاد وقوي نفوذ الأحرار فيها.
أما المواد الأساسية التي بقيت بعد إدخال بعض التعديل عليها، فهي المواد التي تعلن حرية الرأي والنشر والتعليم، والمساواة بين أفراد الرعية على اختلاف مذاهبهم و عناصرهم، واستقلال القضاء، وتعين صلاحيات السلطات واختصاص مجلس المبعوثات (مجلس النواب) والأعيان (مجلس الشيوخ)، وطرق الانتخاب وشروطه، وتوسع صلاحية المجالس الإدارية في الولايات، وتلغى المصادرة والتعذيب والسخرة كما تلغى امتيازات استنبول التي كان لها إدارة خاصة وكان سكانها معفيين من الخدمة العسكرية ومن أكثر الضرائب.
وتقرر أن يكون التعليم الإبتدائي إلزامياً بالنسبة إلى جميع المواطنين، وتقضي على الحكومة بأن تعرض موازنتها على مجلس المبعوثات ثم على مجلس الأعيان لإحراز موافقتهما عليها قبل اعتمادها.
وفي الثاني عشر من شهر كانون الأول سنة 1876م. أعلن النظام الدستوري الجديد.
وهذا اليوم كان من أيام الآستانة المشهورة.
إذ تم فيه بضغط العناصر التقدمية في تركيا وعلى رأسهم مدحت باشا، إعلان النظام الدستوري الذي يقرر مبدأ سيادة الأمة وحقها في حكم نقسها بواسطة ممثليها الذين تنتخبهم لأداء هذه المهمة، ويضع حداً للحكم الفردي الاستبدادي الذي كان يخول السلطان حق التصرف المطلق بأفراد رعيته باعتبارهم أتباعاً له لا باعتباره حاكماً مكلفاً من قبلهم بأن يدير شؤونهم ويحكم بينهم لمصلحة العامة لا لمصلحته الخاصة.الكتاب: مدحت باشا ـ أبو الدستور العثماني مقالع السلاطين
الكاتب: قدري قلعجي.
الناشر: دار البعث + وزارة الثقافة عدد 44 أيار 2007.