الفرق بين المعارضة السياسية المُنتجة والغوغائية المُهلكة (!!) بقلم أسامة عكنان
| 2013/08/24







هناك من لا يهمه من "السياسة" و"المعارضة" سوى أن يسقط الإخوان المسلمين وكل فصائل الإسلام السياسي، وألا يكون لهم أيُّ وجود في السلطة، حتى وإن شرعنوا "الزنا"، وأباحوا "شرب الخمر"، وسمحوا بـ "العري في الشوارع"، والتزموا بعلمانية أتاتورك، بل حتى لو تم استبدالهم بالشيطان فلا مانع لديه، لأنه يراهم هم أنفسهم من صنعوا الشيطان..


وهناك من لا يهمه منهما – السياسة والمعارضة – سوى أن يرى في السلطة من يعلن الحرب على إسرائيل اليوم وليس غدا، فمركز الكون عنده هو العمل على تحرير فلسطين بصرف النظر عن أيِّ شيء آخر، حتى لو تم إحراق كل القيم في طريق بلدوز التحرير، فلا قيمة لديه تكتسب معنى إلا وهي تُستخدم تبريرا لبندقية وجهتها فلسطين، حتى لو كانت قيمة تدعو إلى خوزقة كل الشعوب العربية..


وهناك من لا يهمه من أن يمارس السياسة ويعارض سوى أن تكون هناك دولة ليبرالية مدنية تؤسِّس لليبرالية اقتصادية، يعتبرها التجسيد الحقيقي للحرية التي يطمح إليها، وأن يتم التعامل مع معضلات الفقر والبطالة وغلاء المعيشة وتدني الأجور والتفاوتات الطبقية.. إلخ، من فوق عرش هذا الإمبراطور المقدس الذي تسري في عروقه دماء الآلهة، ألا وهو "اقتصاد السوق"، ولا يهمه من أمر النضال والسياسة والمعارضة إلا ذلك، وإن أسقط في طريقه إليه كلَّ القيم الإنسانية..


وهناك من لا يهمه سوى أن يُحَكِّمَ ما يعتقد أنه "شريعة إسلامية" و"حكم الله" في الأرض، حتى لو سالت الدماء أنهارا لأجل غاية غير واضحة المعالم، ولا قطعية الفعالية، ما تزال شكلا ومضمونا ودلالة بعيدة عن أيِّ إجماع أو توافق أو رضى شعبي أو نخبوي في أيِّ مكان، فضلا عن أنها لا توحي بأن لها بالشكل الذي ينادي به أيَّ دلالة خادمة لأيِّ مشروع نهضوي، وهو يرى أن أيَّ نضال لغير هذه الغاية إن هو إلا دعوة للكفر ولحكم الشيطان..


وهناك من يعتبر أنه يعارض ويمارس السياسة فقط ليبحث في مجتمعاتنا عن تلك الفئة الهلامية غير المتبلورة التي يسميها "الطبقة العاملة"، ليفرضها علينا ويسلمها من ثمَّ زمام الأمور، لتحقِّقَ في حياتنا وفي واقعنا أمورا ما نزال نحاول فهمَها كي نرى إن كانت حقيقة أو وهما وخيالا مجنَّحا. وهو إن لم يجدها خلال البحث عنها ليسلمها رقابنا، خلق كلَّ الفذلكات، وابتكر كلَّ السفسطات، ليقنعَنا بأننا ما نزال نمثل حالة "ما قبل الدولة"، لأن الدولة بلا عمال يقودون بلدوزر الثورة والتغيير والنضالات الطبقية، هي مجرَّد ادعاءٍ واهمٍ لا يعشِّشُ إلا في خيالات المتخلفين..


كل هؤلاء في واقع الأمر لا يعارضون ولا هم منشغلون بالسياسة، بل هم مجموعة من الأصوليين الإقصائيين الذين يعيش كلُّ واحدٍ منهم في ظلمات أوهامه الخاصة، ليس إلا..


وعلى أيِّ مشروع سياسي حقيقي أن يتعامل معهم باعتبارهم أسوأ أنواع الزبد الذي سيذهب جفاء لأنه لا ينفع أحدا. لأن المعارض الحقيقي للواقع العربي الآسن، والمنشغل بالعمل السياسي الذي يستهدف تغيير واقع الأمة وتحريرها من كلِّ أشكال الاعتداء على حقوقها كأرضية لنهضتها ووحدتها، إنما عليه أن يكون واعيا تمام الوعي بالعناصر التالية..


* الآخر السياسي أيا كان مشروعه، حقيقة لا مفر من الاعتراف بها ما لم يكن هذا الآخر إقصائيا، حتى لو لم يعجبك مشروعه إلى درجة الرغبة في التقيُّؤ..


* مشروع الإسلام السياسي هو أحد المشاريع التي لا مجال للقفز عليها في أيِّ مجتمع عربي، إلا إذا عجز هذا الإسلام السياسي عن تكييف مشروعه ليكون مدنيا بكل ما لكلمة مدني من معنى، حتى لو تنازل عما يعتقده ثوابت في مشروعه، فهذه مشكلته وليس مشكلة أحد غيره، وإذا لم يفعل ذلك وأصرَّ على الروح الاحتوائية في مشروعه، فهو إقصائي مريب يتم التعامل معه من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس..


* أي مشروع سياسي يعتبر الحرية ثابتا والعدالة وجهة نظر، مؤسسا لليبرالية سياسية تحتضن الليبرالية الاقتصادية، هو مشروع لم يعد يناسب الإنسانية كلها، فمن باب أولى ألا يناسب الأمة العربية التي تمر بمرحلة البداية في التأسيس لمستقبلها. العالم كله يمر بمرحلة الثورة على التفريق بين قيمتي الحرية والعدالة، عبر التمرد على الليبرالية الاقتصادية، وإعادة إنتاج العلاقة بينهما على أساس أنهما الاثنتين ثابتين لا يقوم المجتمع ولا تقوم الدولة على أحدهما دون الآخر. وهو ما يعني أنه لا مشروعية لأيِّ مشروع سياسي يفصل بينهما ذلك الفصل الفاجع. فالليبرالية الجديدة هي مشروع مرفوض وليس من حقه أن يكون شريكا سياسيا لأنه يؤسس للظلم الاجتماعي ويعمل على إنشاء دول تعيد تأهيل "اللاعدالة". وبقدر ما أن هناك قواسم مشتركة توافقية تمثل الدلالة الموضوعية لثابت الحرية في صياغة شكل الحكم، بقدر ما أن هناك قواسم مشتركة توافقية تمثل الدلالة الموضوعية لثابت العدالة في صياغة شكل الاقتصاد، وكلا الأمرين يجب أن يتم النص عليهما في الدساتير التي سيتم تأسيسها، لنكون بصدد دول تؤسس دستوريا لمعاني ودلالات كل من الحرية في شكل الدولة السياسي والعدالة في شكل الدولة الاقتصادي.


* في الدول العربية التي تقع على خطوط التماس المباشر مع الحالة الاستعمارية الإمبريالية "إسرائيل الصهيونية"، وهي الدول العربية المشرقية عموما، لا مجال لأيِّ مشروع سياسي يضع في برامجه التغيير دون التحرير، وهو ما يعني حتمية وضرورة أن يحدث التغيير سياسيا واقتصاديا في حاضة فلسفة واضحة وناضجة ومتكاملة وموضوعية وحكيمة وعاقلة لمواجهة المشروع الإمبريالي الصهيوني الحاضن للمشروع الوظيفي الرجعي العربي، وهو المشروع المعادي لطموحات الأمة عبر حرصه على أن لا يحدث أيُّ تغيير – إذا كان لابد من حدوثه – إلا ضمن حاضنة الليبرالية السياسية كرافعة لليبرالية الاقتصادية داخل أوعية من النهضة الاقتصادية الرخوة والهشَّة التي تبعد التغيير عن أيِّ عناصر قوة تمكنه من أن ينجز التحرير الذي لن تقوم النهضة بدونه.


هذا ما نفهمه من مواصفات للمعارض السياسي العربي في إقليمنا العربي المشرقي على الأقل، كي تكون مسألة المعارضة والعمل السياسي مسألة جادة، يتعاطاها كبار يدثرهم النضوج، وتوجههم الحكمة، ويهيمن على أدائهم التعقل، ويجلِّلُ أرواحَهم الصدق والنبل والإخلاص والانتماء، لا صغارا يتعاملون مع المعارضة والسياسة كما يتعامل الأطفال مع الدمى والألعاب.


وهو ما يجعلنا نؤكد على أن أيَّ طرف يطرح نفسه معارضا وصاحب مشروع لا يجد نفسه متماهيا مع هذه العناصر الأربعة، فإن عليه أن يعيد النظر في نفسه وفي شكل قراءته للواقع ونمط تعامله معه، وإن لم يفعل فإنه إما أن يجد نفسه في لحظة من اللحظات الفارقة في تاريخ سيرورة الأمة خارج كل المعادلات، وإما أن يجد نفسه – من حيث يدري أو لا يدري (!!) – وقد تنخدق في خندق الأعداء (!!!)