اللغة في ميدان الصراع السياسي د. موسى بن عيسى العويس
--------------------------------------------------------------------------------
لن أكون متشائماً كل التشاؤم فأستهل الحديث ناقداً بالسلب برنامج وزارة التربية والتعليم في تعليم اللغة الإنجليزية، إذ ربما هيأت لنا الأيام مَن يحسنُ توظيف هذه الفكرة ويطورها، لتصب في غايات وأهداف ربما تغيب عنا حاضرا، وربما أن مصدر الحذر والارتياب الذي سيطر على البعض ممن تناول المشروع مرتبطاً بفكرة قائمة في الأذهان عن مؤسسات التعليم الأهلي، وممارسات فردية تخرج عن النظام التعليمي والعرف التربوي المأمول منها.
* لا أحد يشك أن الغرب اتخذ من اللغة ولا يزال وسيلة من وسائل كثيرة في صراعه السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي مع المجتمعات العربية والإسلامية، وبالذات ما كان منها هدفاً للاستعمار، فنفذ من خلالها إلى ما يريد في خلخلة كيانها الثقافي، وهذا لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي، ولا نستفيد من تلك التجارب، وربما كانت فكرة تدريس العلوم بلغات أجنبية أحد النوافذ التي ننفذ منها نحن لو كنا نمتلك الإرادة، والجرأة، والتخطيط، والإقدام، والتفكير السليم،ووضعنا هذا جزء من البرنامج السياسي والثقافي لنا، بوصف المملكة العربية السعودية رائدة وقائدة للعالم العربي على أكثر من محور، وعلى أكثر من صعيد.
* والتتبع التاريخي للحركة الاستشراقية في البلدان العربية، والإسلامية، والأوربية ترسم لنا ملامح من الخارطة التي ينبغي أن نسير عليها، إذا أردنا أن نقف على طرف الصراع الثقافي، لنستفيد ونفيد، وننطلق من منطلقاتهم، لكن على هديٍ من قيمنا ومنهجنا في السلوك، فالغرب عمد إلى دراسة اللغات، ومنها العربية في بلدانهم الأصلية، لهضم الفكر العربي من جميع أبعاده، واستيعاب كافة المؤثرات في المجتمع، في حياته وقيمه، ومن المؤكد أنه نظر إلى اللغة العربية وآدابها، وأدرك قوة ارتباطهما بالدين والثقافة الإسلامية، ونظر إلى حياة العرب كذلك فوجدهم في بعض أقطاره أبعد ما يكونون عن الموروث الحضاري والثقافي العظيم، ذي الأثر الخطير على الغير، ومن هنا جاءت الوثبة القوية على لغة العرب، وطرح كل ما له تأثير عليها، فأخرجوا العامية على مسرح الحياة الثقافية والفكرية في مصر، وغيرها .
* الشيء الذي يفوت على كثير من المثقفين اعتقادهم أن الغرب في صراعه الثقافي مع العرب اتخذ من قلب العالم العربي مسرحاً لعملياته، لكن الواقع يخالف ذلك فهم قد افتتحوا المدارس والمعاهد المتخصصة لدراسة اللغات في أكثر من دولة، في أوربا وآسيا، واستعانوا بالمختصين من العالم العربي، لنشر أهدافهم السياسة والثقافية والاستعمارية التي أسهمت في تفكيك أوصال الأمة. وأولى هذه المدارس كانت في (إيطاليا) عام 1727م، لقربها من البلاد العربية، ومعروفة الأدوار التي صنعت في (إيطاليا) إبان الحروب العالمية والصليبية، ثم أنشئت مدرسة أخرى في (النمسا) عام 1754م، ووضعت مناهج لها على هذا الأساس، وسارت على الدرب (فرنسا)، فأسست مدرسة للغات الشرقية عام 1759م، وأغلب من كان يؤمها هم أبناء القناصل، والتجار، والعلماء المتصلون بالشؤون العربية، ولم تغفل (أسبانيا) عن أهمية دراسة اللغات الشرقية، في سبيل خدمة مصالحها، وعلى هذا المنوال سارت (المجر)، و(وموسكو)، و(ألمانيا)، و(بريطانيا) . هذه التجارب التي حدثت لهذه الدول من (مطلع القرن الثامن عشر إلى يومنا) جديرة بالدراسة، إذا كنا حريصين على مستقبل مجتمعاتنا، وكياناتنا السياسية، والاجتماعية، والثقافية، وإرساء حضارتنا في الأصقاع المختلفة، آخذين في الاعتبار من خلال ما طرحناه أن دراسة لغات الشرق في تلك المطارح لم تكن في دولة من تلك الدول على حساب اللغة الأم لتلك الشعوب، على الرغم من هشاشة الكيانات الثقافية لتلك اللغات مقارنة باللغة العربية، بل ومن الملاحظ أنهم حاولوا تعزيز مكانة لغاتهم الأصلية بأكثر من وسيلة، ووضعوا من البرامج والمقررات ما هو كفيلٌ ليس في صمود لغاتهم فحسب ببلدانهم، بل في نشرها واتساعها، و(اللغة العربية) تمتلك من وسائل القوة ما نستطيع من خلالها النفوذ بثقافتها بقوة، ومتى سادت ثقافة الأمة سادت سياستها، وقد تنهار بانهيارها لا قدر الله، فهل تمتلك وزارتنا رؤية واضحة ومنسقة في تدريسها لهذه اللغات، أرجو ذلك.