دراسة ظاهرة اكتساب اللغة
وأهميتها في خدمة المجتمع
١٦ آذار (مارس) ٢٠٠٩بقلم د. حمدان رضوان أبو عاصي
لم تعد اهتمامات علم اللغة الحديث مقتصرة على الجوانب النظرية والتحليلية في دراسة اللغة فقط، بل أضيفت إليها اهتمامات، ومهام جديدة – بخاصة بعد ظهور علم اللغة التطبيقي- تهدف إلى خدمة المجتمع، ومن هذه المهام: الاهتمام بدراسة عيوب النطق ومشكلات التخاطب والكلام، وعلاجها إن أمكن، ومنها أيضاً الاهتمام بدراسة نمو الطفل اللغوي، ومنها أيضاً الاهتمام بدراسة ظاهرة اكتساب اللغة، بالإضافة إلى دراسة مهارات الاتصال اللغوي، وغير ذلك من الموضوعات التي لها علاقة وثيقة باللغة والمجتمع.
وفيما يأتي دراسة موجزة لظاهرة اكتساب اللغة وأهميتها في خدمة المجتمع:
لم تلق لغة الطفل اهتماماً من الباحثين في المجال اللغوي بصورة جدية إلا في السنوات الأخيرة، وبخاصة بعد ظهور النظرية التوليدية والتحويلية، التي ترى أنَّ الطفل يمتلك بالفطرة تنظيماً ثقافياً، يمكن تسميته بالحالة الأساسية للعقل، يمكنه من اكتساب لغة قومه من خلال تعرض شفاف لما يسمعه ممن حوله (زكريا: 1982: 54)؛ ولذلك نرى من الأفضل معالجة ظاهرة اكتساب اللغة قبل الحديث عن نمو الطفل اللغوي.
والحقيقة أنَّ العلماء اختلفوا في تفسير الكيفية التي يكتسب بها الطفل لغة قومه، فظهرت ثلاث نظريات تفسر هذه الظاهرة، وهي: نظرية المحاكاة، ونظرية التعلم الشرطي، ونظرية تحليل المعلومات (الخلايلة، واللبابيدي: 1995: 31-36 )، وفيما يأتي توضيح لكل نظرية:
نظرية المحاكاة أو التقليد: ويقصد بها محاكاة النشاطات اللغوية، والحركية، وكثيراً من سمات الشخصية. وتعتبر المحاكاة –من وجهة نظر مؤيدي هذه النظرية- من أهم العوامل في تعلم اللغة عند الطفل، وهي عندهم تمثل المرحلة الحساسة في التعلم. ويرى البعض أنَّ المحاكاة تبدأ في الربع الأخير من السنة الأولى من حياة الطفل، أو في أواخرها.
نظرية التعلم الشرطي الإجرائي: وترى هذه النظرية أن الطفل يبدأ في إصدار أصوات عشوائية، تسمى "المناغاة" بصورة تلقائية، ويقوم الوالدان بعملية "التعزيـز" من خـلال الابتسام، والمداعبة، والاحتضان، أو تقليد مناغاته، فيحس الطفل تدريجياً بقدرته على جذب انتباه الآخرين من خلال الأصوات التي يصطفيها.
وتعتمد هذه النظرية على عنصر التعزيز، وهو الإثابة التي يحصل عليها الطفل. فكلمـا ازدادت الإشادة بقدرات الطفل من قبل الأهل، ازداد تحسن أدائه لهذه المناغاة.
جـ- نظرية تحليل المعلومات: وتمثلها نظرية تشومسكي المعروفة باسم "النظرية التوليدية والتحويلية"، التي ترى أن السلوك اللغوي في أصله يعتبر سلوكاً عقلياً معرفياً ناتجاً عن عمليات عقلية، وليست عمليات روتينية، أو حركية، أو سلوكية.
وتعد هذه النظرية من أهم النظريات اللغوية في تفسير ظاهرة اكتساب اللغة، بخاصة بعد أن عارضت النظرية الوصفية البنيوية السلوكية، التي ترى أن عملية الاكتساب اللغوي تتم عن طريق التلقين، والاستجابة الشرطية، والحافز (تشومسكي: 1996: 115-116).
ويمكن تلخيص موقف هذه النظرية من ظاهرة اكتساب اللغة من خلال النقاط الآتية (زكريا: 1982: 47-53):
1- إن اكتساب البنى اللغوية عند جميع أطفال البيئة الواحدة الأصحاء يتم على نسق واحد.
2- يكتسب الطفل السليم المعرفة اللغوية من خلال تعرض شفاف لما يسمعه، دون تدرج.
3- يستطيع الطفل أن يكتسب لغة قومه في خلال أربع سنوات بطريقة سهلة وميسرة، ودون بذل جهد كبير.
4- يجب ألاّ تتعدى خصائص لغة الطفل التي يكتسبها -بصورة أساسية- قدراته الطبيعية على الاستيعاب.
5- إن الطفل السليم لا يكتسب اللغة واستعمالاتها فحسب، بل يمتلك القدرة والتقنية على التواصل اللغوي، وبالتالي يتمكن من إدراك أهمية اللغة ودورها الوظيفي في المجتمع الذي يعيش فيه.
6- إن الطفل الذي نجح في اكتساب لغة قومه يكون قد نمَّى في ذاته تصوراً داخلياً لتنظيم من القواعد، يسمَّى "الكفاية اللغوية" أو "القدرة اللغوية".
فالنظرية التشومسكية (التوليدية والتحويلية) ترى أن عملية اكتساب اللغة عند الطفل هي عملية اكتساب تنظيم من القواعد بالغ التعقيد يؤهله لتعلم لغته من خلال تعرضـه مباشرة للمظاهر اللغوية المحيطة به، وهذا شيء خاص بالإنسان وحده، لا يشاركه فيه مخلوق آخر؛ لما ميزه الله به من عقل ومنطق عن غيره من المخلوقات الأخرى.
وبذلك تكون هذه النظرية قد هدمت كثيراً من المفاهيم السائدة قبلها في تفسير ظاهرة اكتساب اللغة. إذ ترى أن الطفل بصفته إنساناً يتوصل في خلال مدة زمنية قصيرة نسبياً إلى اكتساب الكفاية اللغوية، وهي المعرفة بتنظيم قاعدي بالغ التعقيد يؤهله لتعلم اللغة (زكريا: 1982: 50).
ويخالف هذا التفسير –بصورة أساسية- التفسير الذي كان سائداً قبل ذلك، والذي يتلخص في أن الطفل ينقل لغة قومه، ويحاكيها إلى أن يتوصل إلى الإلمام بها، وفي أن ذهن الطفل صفحة بيضاء تتلقى مثيرات البيئة، وهذا هو التفسير الذي تتبناه النظرية السلوكية في تفسير ظاهرة اكتساب اللغة، والتي يمكن تلخيص موقفها في النقاط الآتية
إن اكتساب الطفل لغة قومه يندرج ضمن إطار نظرية التعلم، فهو شكل من أشكال السلوك الإنساني، ولا يختلف عن أية مهارة سلوكية أخرى.
يتم اكتساب الفونولوجيا عند الطفل من خلال تحويل الأصوات العفوية إلى أصوات لغوية عن طريق تدعيمها، أو عن طريق تعزيز الطفل باتجاه اكتساب الأنماط الصوتية من الكبار.
تتولد الاستجابات اللفظية عند الطفل عبر المثير، أو الحافز الفيزيائي، وتتعزز من خلال محاولات الطفل التلفظ بها. إن محاكاة الكلام هي بمثابة تشجيع، ومكافأة للمناغاة التي يقوم بها الطفل في أول مراحل الاكتساب. يكتسب الطفل –من وجهة نظر هذه المدرسة السلوكية– أصوات اللغة بصورة آلية من خلال التكرار، والتواصل، والممارسة المستمرة لهذه العادات اللفظية. يتم اكتساب الطفل طريقة نطق الكلمات، وفهم معانيها وتركيبها في جمل مفيدة عبر مسار شرطي.
ويرفض تشومسكي هذه النظرة إلى اكتساب اللغة؛ لأنها قائمة على آراء سابقة وأولية؛ ولأنها تنظر إلى الإنسان على أنه آلة، أو على أنه لا يختلف عن الحيوان، ولا تراعي قدراته العقلية والمنطقية والفكرية.
يتبين مما سبق أن نظرة تشومسكي إلى عملية اكتساب اللغة تختلف كلية عن النظرة السلوكية، التي ترى أن عملية الاكتساب تتم تدريجياً من خلال لا شيء، أو من خلال "دماغ فارغ"، وبواسطة الاستقراء والتعميم، وبدون أية ضوابط بيولوجية (زكريا: 1982: 54).
ولكن ما الفائدة التي تعود علينا من دراسة "ظاهرة اكتساب اللغة" في خدمة المجتمع؟. يمكننا الإجابة عن هذا السؤال من خلال النقاط الآتية:
1- الاطِّلاع على ماهية هذه الظاهرة وأهميتها في توضيح الدور المبدع للقدرة اللغوية الفطرية التي أودعها الله في الإنسان تميزاً له من غيره من المخلوقات الأخرى.
2- الاطِّلاع على النظريات الحديثة التي تهتم بتفسير هذه الظاهرة، ومحاولة نقدها هذه نقداً علمياً.
3- الاطِّلاع على موقف النظرية التوليدية والتحويلية من هذه الظاهرة، وهي تعدُّ من أحدث النظريات وأكثرها واقعية في تفسير هذه الظاهرة؛ لكونها تؤكد على القدرة الإبداعية الفطرية للغة الموروثة جينياً في الإنسان، وهي بذلك تكون قد هدمت الآراء والمفاهيم التي تبنتها النظرية السلوكية لتفسير هذه الظاهرة.
4- إكساب المهتمين بهذا المجال مهارات خاصة بالطرق الصحيحة للاكتساب اللغوي، وتعلم اللغات الأجنبية.
5- بيان أهمية هذه الظاهرة في تفسير عملية تأخر النطق عند الأطفال.
6- بيان الدور الهام لدراسة هذه الظاهرة في الاكتشاف المبكر لعيوب النطق ومشكلات التخاطب والكلام.
7- مناقشة مدى صلاحية تفسيرات هذه الظاهرة في علاج عيوب النطق ومشكلات الكلام.
في نهاية هذه الدراسة الموجزة المتواضعة أرجو أن أكون قد وفقتُ إلى ما أسعى إليه في خدمة المجتمع الإنساني. مع شكري وتقديري لموقع "ديوان العرب "الإلكتروني.
[1]