قصة قصيرة (3) العروس المنكوبة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
قال لها "احبك ".
فأجابته "إنني أعبدك."
وعاشا بعدها أياماً مفعمة بالحب والنشوة والغرام ، قريبين من الأنظار حيناً وبعيدين عنها أحياناً ، كأنهما يضعان اللمسات الأخيرة وراء الكواليس على مشروع قبلا به . ثم مضت إليه تصارحه بضرورة خطبتها ، لأنها تعيش في وسط لا يسمح بتكوين علاقات اجتماعية ضبابية في وضح النهار !
لم يتردد في خطبتها . وأوحى لها بأن علاقتهما هي أكبر من أن تكون علاقات سطحية أو مشبوهة بلا هدف أو حبراً على ورق ، مما ازدادت به تعلقاً والتصاقاً جعلها تمنحه بسخاء أكثر مما طلب !
وفي البداية رفض أهلها طلبه ، زارعين في طريقه أكثر من شوكة ، زاعمين بأنها لم تكمل دراستها الإعدادية بعد ، تارة ، وان الاثنين اصغر من أن يتزوجان تارة أخرى.
لم تتخل الفتاة عنه قط ، فكانت تضحي بكل شيء لأجله ولأجل الغد الذي سيجمعهما تحت سقف واحد . وكانت تردد عبارتها المتكررة : (هو أو لا) ، في حين كان يبادلها عبارات أكثر فخامة ، وأكثر بلاغة وتأثيراً وسحراً مما تركها تسرح في أوهام وأحلام لم تألفها من قبل مؤكداً لها وبكل جوارحه عبارته التقليدية المتكررة : (هي أو لا !(
ومضى دولاب الحياة يدور دوراناً رتيباً كما ألفناه، بلا توقف ولا رحمة ، غير آبه بالعصافير وزقزقتها والبلابل وشجيها ، فيما الطيور والحمام والبراءة كلها لا تعني شيئاً لهذا الدولاب .
(ألا ما أقسا الدهر !)..... هكذا كانا يتحدثان متى ما التقيا وكأن الحياة هي طيور وعصافير لا غير !
مضت إليه وقد تطرفت في تعلقها وتشبثها به …..مضت إليه خلسة وفي العلن وقد أذابها الأرق وأنهكها التفكير وأدمع عينيها القلق والمجهول . وأحالت لآت أهلها ابتسامتها العذبة إلى وجوم يدير الأعناق. نعم…. مضت إليه وهي تنشد فيه المستحيل . فقد افلح في أداء الأدوار الدرامية من دون مخرج أو بروفات . فكان صديقها وجارها وخطيبها و .... و ... في آن واحد ! وكانت تعزي نفسها دائماً بإثارة هذا الكلام (هكذا يكون الإنسان النموذج وإلا فلا) !
وفي كل زيارة مسموح بها أو غير مسموح بها كانت تعود وقد طفحت بالشحنات والوعود العسلية . وأخيرا أعادت الكرة ثانية بصورة غير مباشرة على أهلها مستعينة ببنات الجيران وبعض أمهاتهن ولفيف من الأقارب ، ذوي التأثير المباشر، حيث كانت الحبكة هذه المرة ناجعة ، مما أذاب الجليد واجبر التيار المتصلب في الأسرة على قبول التماسات الجيران والأقارب . أي بمعنى آخر خضعوا للرضوخ . بيد أن الكلمة الأولى والأخيرة تبقى بيد الأب المتعصب الذي حشد الكل جهودهم دفعة واحدة لإقناعه بجدوى هذا الزواج الميمون من العريس اللقطة !
وقبل أن تتلمس عروس المستقبل الموافقة النهائية ، حيث كان الجدل محتدما وميالا إلى الموافقة ، هرعت يرفان ، ذات الـ 19 ربيعاً ، من دون علم أحد إلى عريس المستقبل المتيم حيث قالت له:
" بشراك يا حبيب العمر . لقد بذلت المستحيل في التعبئة لإقناع أهلي بأنك فتى أحلامي الأول والأخير . وأكاد اسلم بأن الضوء الأخضر أنير في نهاية النفق . هذا ما باحت به لي ابنة عمي قبل دقائق باحتمال حصول الموافقة . ولهذا جئتك طافحة بالأمل أزف لك هذه البشرى .
" تمتم وقد صعقته سرعة تدبيراتها الموفقة ثم قال بصوت خافت : " ولم العجلة ؟ أعني لم لا تنهي دراستك الإعدادية وأنا انهي سنتي الجامعية الأخيرة ؟
" قالت : " وهذا لا يعني أنك لا تستطيع خطبتي الآن . أنت تعرف أن كل شيء على ما يرام حتى هذه اللحظة .
" أجاب ببرود قاتل : " ولكن الأفضل أن ننتظر ، يا يرفان !
- " ألا تعلم أنني بذلت المستحيل محاولة إقناع أهلي المتعصبين بأنك الإنسان الذي يروق لهم ويرضي كبرياءهم ؟ أنت تعلم كم طلباً رفضت لحد الآن ؟"
أجابها كمن مسه الجنون وفقد الكياسة في الكلام " كان الأجدر بك أن لا ترفضي . "
وهنا أرخت العنان لدموعها كي تنساب بحرارة . وارتبكت نبرات صوتها واختنقت أنفاسها . وأخذت تحرك يديها بعشوائية وارتباك. وقالت بصوت مقطع الأوصال، مطرز بالندم:
" أهكذا تتوج تضحيتي وحبي لك، يا (دون جوان آخر زمان) ! ؟ "
" اهدئي قليلاً."
هنا ، استنفرت كل طاقاتها في جملة واحدة مفادها:
" أنت تتسلى ببنات الناس ، أيها الوغد !"
أجابها إجابة البلهاء الصبيان الطائشين وكأنه يتشفى بها ،
" إذا راق ذلك لهن ."
" ماذا تقول ؟ ماذا تقول أيها الوقح ؟ ماذا .... ؟"
" أقول ، إن ما عشناه يجب أن يبقى مجرد ذكرى لذيذة ، ليس غير!
قاطعته وهي تهز رأسها بندم ، وتمسح عينيها بيديها المرتجفتين وهي تقول :
" لنفترق ... عرفت كل شيء . انتهى كل شيء !"
وأقفلت راجعة لبيتها وهي تضرب أخماساً بأسداس ، مدركة بأنها فرطت في (كل شيء) . فرطت في حبها ، في شخصيتها ، في أنوثتها ، في كبريائها ، في أسرار وجودها ، في العطاء ... العطاء دون حساب .
لقد كانت ابنة عمها في انتظارها على الباب لتزف لها بشرى موافقة الأب على زواجها . كما سمعت أصوات الزغاريد التي شقت عنان السماء من فرط الانشراح على بعد بضعة أمتار . وما أن رأت ابنة عمها حتى علت الزغاريد ، ودخلت يرفان الدار والكل يهنئونها ويتطلعون إلى عروس المستقبل التي كان مظهرها يوحي بالدوار . لقد شعرت بأكثر من الدوار. لقد خرت على الأرض صريعة وأطبقت شفتاها وساد الصمت فيما سكبت إحدى الواقفات الماء عليها لعلها تتحرك . لكن يرفان سكتت إلى الأبد . لقد طاوعها قلبها المرهف بالحس طيلة فترة العلاقة مع الخطيب الوهمي في التوقف أيضاً . قالت إحدى المزغردات : " انه دلع البنات ، وان وقع الموافقة على الزواج كان فوق مستوى إدراكها . " دافعت الأم عن ابنتها قائلة " إن يرفان تعرف بحصول الموافقة . لكن عمتها قالت : " إنها الفرحة الكبرى ليس غير . " لكن يرفان سكتت والى الأبد دون شاهد على سكوتها الأبدي . لقد سكتت في وسط الأفراح والأغاني والأهازيج . سكتت ولم تشر بإصبع اتهام لأحد . نعم لقد سكتت الطالبة ... الأنثى إلى الأبد !
وأرخى الليل سدوله وانقلبت الأفراح إلى أتراح . وكل يصبر كلاً بأننا سنؤول إلى ذات المصير عاجلا أم آجلا مرددين بحسرة ولوعة ومرارة :
(إن لله وإنا إليه راجعون) .
بيد أن المجرم الحقيقي بقي بعيداً عن مسرح جريمته . لا ... بل راح من راح لمواساته وتعزيته وإسداء النصح إليه بالصبر وثبات الهمة .على أنه يجيد أدوار التمثيل الصامت والمتحرك على حد سواء , مما سهل عليه استدرار دموع الآخرين وابتياع عطفهم بتأوهاته المصطنعة وشروده المفتعل . لكن يرفان ماتت بصمت وسرية . ماتت وعلى وجهها علامات استفهام كبيرة كأنها تقول :
" لماذا يتغير الإنسان عندما يبلغ غايته ؟ ولماذا لا يلتزم هذا المخلوق بما قطعه على نفسه من وعود ؟ أسئلة وأسئلة ارتسمت على وجهها المعبر . لكن الجاني الحقيقي ضل غائباً عن الأذهان . ولا أحد يعرف من هو .
وفي الصباح التالي ، شيعت العروس المنكوبة إلى مثواها الأخير . ونعت بعض المشيعين يرفان بالعروس الشهيدة ، فيما نعتها آخرون بالضحية والبريئة وهكذا. ولكن ، يبقى الجاني في منأى عن المساءلة ، لأنه لا أحد يعرف بكنه التفاصيل سوى الموت الذي اختطف هذه المسكينة في عنفوان شبابها . وحتى القضاء ، مهما كان معمقا في تحقيقاته ،ً يتساوى مع البسطاء لغياب الدليل . ولو كان شكسبير حياً بيننا لتألم لهذه النهاية البشعة من طرف واحد على النقيض من موت روميو الذي سبق جولييت إلى مصيره المحتوم بكامل وعيه وإرادته !