خطبة الجمعة .. الأضحية.. للإمام الشيخ : عبدالله المؤدب البدروشي .. الخطيب بالجامع الكبير .. شنني قابس

الخطبة الأولى :

الحمد لله الذي شرع الشرائع و فصّـل الأحكام ..وسنّ الأعياد و فضّـل الأيام.. أشهد أن لا إله إلا الله..وحده لا شريك له.. أفاض علينا من نعمه وهدى.. و توالت علينا نفحات أيامه أمدا..و أشهد أن سيدنا و حبيبنا محمدا عبده و رسوله.. اهتم بالأضحية و أعلى مقامها..و بيّن أجورها وشرح أحكامها..اللهم صل عليه في الأولين والآخرين..واعل مقامه في أعلى عليين..واجمعنا به على حوضه مع أصفياء أمته المقربين..واجعله شفيعنا و قائدنا إلى جوارك الأمين..
أما بعد .. إخوة الإيمان والعقيدة
من دلائل الإيمان.. وتعظيم هذه الأمة.. لشعائر الله في هذه الأيام.. اعتناء المؤمنين بشعيرة الأضاحي.. وهي قدوة وذكرى ..هيّ قدوة ، تـَفتح لنا باب تاريخنا البهي.. لنعيش من خلالها مع جدنا إبراهيم عليه السلام..فتتجلى لنا قمة الطاعة، ومنتهى الإذعان لله.. على جبل من البر والإحسان ..من ولد في ريعان الشباب..وهو إسماعيل عليه السلام..إلى والد عزم بيقين على التضحية بالنفيس، من أجل الخالق الأنفس .. شعيرة الأضاحي..تجسم لنا جدنا إبراهيم .. وأبانا إسماعيل عليهما السلام..بين الإبتلاء..والطاعة المطلقة ..و بهجة الفداء..فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قَالَ يا بُنَيّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ، فَانظُرْ مَاذَا تَرَى، قَالَ يا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ، سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.. [الصافات:102-107]..ليمضي ذلك الفداء، منسكا من مناسك ديننا العظيم إلى يوم القيامة..جاء في مسند الإمام أحمد..أن الصحابة رضوان الله عليهم..سألوا حبيب هذه الأمة صلى الله عليه وسلم.. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ..مَا هَذِهِ الأَضَاحِي..؟.. قَالَ « سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ». قَالُوا مَا لَنَا مِنْهَا قَالَ « بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ.. فَالصُّوفُ.. قَالَ « بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ » فهي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام.. سنها لنا حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام ..تخليدا للطاعة و البر و الفداء..
وهي من بهيمة الأنعام، جذع الضأن وثني غيرها.. فجذع الضأن ماله ستة أشهر فصاعدا، وثني المعز ما دخل في السنة الثانية، والبقر في الثالثة، والإبل في السادسة.. وأفضلها الغنم والذكر.. روى ابن ماجه بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ..أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يضحي، اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين، أملحين موجوءين..و الكبش الأملح ما اختلط لونه بسواد و بياض.. وهو الذي ينظر و يأكل و يمشي في سواد.. و الكبش الموجوء ..هو الكبش الخصي.. وفضّله علماء المالكية عن الكبش الفحل .. إن كان الخصي أسمن .. ووقت ذبح الأضحية .. هو يوم النحر بعد صلاة الإمام وذبح أضحيته.. روى الإمام البخاري عن البراء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا،ومن نحر قبل الصلاة، فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء
ولا تجوز الأضحية إذا ذبحت قبل ذبح أضحية الإمام..فإن تعطل الإمام لسبب .. كأن لم يجد سكينا..أو لم يجد من يذبح عنه.. انتظر المؤمن قدرا من الوقت، يكفي لذبح أضحية ..ثم يذبح .. فإن تحرى مقدار ذبح الإمام لأضحيته ..لكنه أخطأ وسبقه.. أجزأته الأضحية.. وكذلك أهل البوادي .. من لا جامع ولا إمام لهم.. فإنهم يتحرون صَلَاةَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ إلَيْهِمْ ..وَذَبْحُه أضحيته .. فَيَذْبَحُونَ بَعْدَهُ .. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : فَإِنْ تَحَرَّوْا فَذَبَحُوا قَبْلَهُ أَجْزَاهُمْ..
و جاء في مدونة الإمام مالك.. حول وقت ذبح الأضحية ..قال: الْأَيَّامُ الَّتِي يُضَحَّى فِيهَا ..هي يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهَا ، وَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَدْ انْقَضَى الذَّبْحُ وَفَاتَ ، وَلَا يُضَحَّى بِلَيْلٍ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ .. أما عن سلامة الأضحية من العيوب..فقد صح عن النبي صلى اله عليه وسلم قوله..أَرْبَعٌ لَا تَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ.. فَقَالَ الْعَوْرَاءُ بَيِّنٌ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ بَيِّنٌ مَرَضُهَا وَالْعَرْجَاءُ بَيِّنٌ ظَلْعُهَا وَالْكَسِيرةُ الَّتِي لَا تَنْقَى ..و الكسيرة ..هي شديدة الهزال التي لَيْسَ لَهَا مُخٌّ.. والعور البيّن هو الذي تبرز معه العين عن موضعها أو تـُزال منه.. أما إن كانت لا تبصر بها ولكن لا يظهر العور فيها، فإنها تجزئ مع الكراهة.. والمرض البيـّن هو الذي يظهر أثره على الأضحية .. فيحبسها عن الأكل ..أو المشي ، وأما المرض الخفيف.. كالتي بها رشح بالأنف..أو كحة.. فإنها تجزئ.. و كذلك العرج البيـّن، فهو الذي لا تستطيع معه مسايرة الصحيحات، أما إن كان العرج خفيفا لا يعيقها و لا يظهر إلا بالتأمل فإنها تجزئ.. كذلك لا تجزئ مشقوقة أكثر الأذن.. والمقطوعة الذنب..أو التي لا ذنـَب لها.. و البكماء و المتغيرة رائحة الفم.. و الجرباء ..والتي بها بشم.. أَيْ تـُخَمَةٍ مِنْ أَكْلٍ غَير مُعتَاد.. أما إذا انكسر قرنها و بريء أو انقطع دمه فإنها تجزئ.. و كذلك الجماء التي ليس بها قرون فإنها سليمة وتجزئ.. وفي العموم فإن العيب الخفيف في الأضاحي معفو عنه.. والذي يُجتنب هو العيب الظاهر .. و الأفضل أن يقوم بالذبح صاحب الأضحية..جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ.. ضَحَّى النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ.. وأن يسمي الله ويكبر، فيقول باسم الله و الله أكبر..هذا عني وعن أهل بيتي وكل من تلزمه نفقتي.. فيشرك زوجته وأبناءه و من كانوا تحت كفالته من أبوين و إخوة وأقرباء..وتكون نية مشاركتهم عند ذبح الأضحية وليس بعدها..فيشتركون في الأجر.. وفضل الله واسع..ولكن لا يجوز الاشتراك في ثمنها..لأنها رمز فداء.. وأساسها فردي.. يشتريها صاحب الأسرة بمفرده..وله أن يشرك في أجرها من هم تحت كفالته.. فقد ورد في صحيح الإمام مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِى سَوَادٍ فَأُتِىَ بِهِ لِيُضَحِّيَ بِهِ.. فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ ثُمَّ قَالَ..{بِاسْمِ اللَّهِ.. اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ}..وهو حبيب الأمة.. صلى الله عليه وسلم..وهو الذي خبأ شفاعته لأمته..فقال وحديثه في صحيح الجامع : إن لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته.. فاستجيب له.. و إني اختبأت دعوتي ، شفاعة لأمتي يوم القيامة .. هذا الحبيب..أورد الإمام أحمدأَنَّ الصحابي جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عِيدَ الأَضْحَى فَلَمَّا انْصَرَفَ أُتِىَ بِكَبْشٍ فَذَبَحَهُ فَقَالَ « بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّى وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي » فهو حبيب الفقراء.. ادخر لهم أجورهم .. فسبقتهم عند الله..
فإن لم يستطع صاحب الأضحية أن يذبح بيده أناب عنه غيره.. و عند الذبح يقول صاحب الأضحية .. بسم الله و الله أكبر.. هذا عني و عن أهل بيتي.. فإن كان غائبا..وجب على الوكيل أن يقول..بسم الله و الله أكبر ..هذا عن فلان وأهل بيته.. ودليل ذلك ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم..أنه أهدى مائة بدنة في حجة الوداع..ذبح منها ثلاثا و ستين بدنة بيده ثم أعطى السكين لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه..فنحر الباقي..
فالأضحية قربة يتقرب بها المؤمن إلى الله عز وجل ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً ، فينبغي أن تكون الأضحية ، طيبة ، وجميلة ، وسمينة ، وخالية من كل العيوب .. تلك سنة حبيبنا صلى الله عليه وسلم في الأضحية.. نقتدي فيها بقدوتنا صلى الله عليه وسلم..و نذكر من خلالها الأبوين الكريمين إبراهيم و إسماعيل عليهما الصلاة و السلام..
تقبل الله من جمعنا و من جميع المؤمنين خالص الأضحيات..وجعلها توسعة و مودة لجميع العائلات.. و ادخر الله أجورها في موازين الحسنات
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الكريم لي و لكم.. ولوالدي و والديكم من كل ذنب .. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ..ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم \

الخطبة الثانية :

الحمد لله الذي وسع كل شيء برحمته.. وعمّ كل حي بنعمته..أشهد أن لا إله إلا الله..وحده لا شريك له..له الحمد على سوابغ آلائه و جلائل منته.. و أشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده و رسوله..و خيرته من بريّـته..و مصطفاه لرسالته..صلى الله عليه وعلى آله وصحابته.. وعلى من اهتدى بهديه واقتدى بسنته..
أما بعد ... أيها المؤمنون و المؤمنات .. عبادَ الله..
أورد الإمام مسلم في صحيحه.. عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مَنْ كَانَ لَهُ ذِبْحٌ يَذْبَحُهُ.. فَإِذَا أُهِلَّ هِلاَلُ ذِي الْحِجَّةِ فَلاَ يَأْخُذَنَّ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ شَيْئًا حَتَّى يُضَحِّىَ.. فمن السنة النبوية..عندنا معاشر المالكية.. قول صاحب التاج و الإكليل في شرح مختصر خليل.. : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ إذَا رَأَى هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ أَنْ لَا يَقُصَّ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ وَلَا يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ حَتَّى يُضَحِّيَ .. ويبدأ الإمتناع من أول ليلة من دخول شهر ذي الحجة إلى العاشر منه..أي إلى يوم العيد بعد الصلاة و ذبح الأضحية.. وهذا أسوة بحجاج بيت الله.. ورجاء نيل الأجر و الثواب..مثل أجرهم و ثوابهم .. فإن لم يأخذ المؤمن بهذا المستحب فلا إثم عليه.. وإن تأسى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فله أجر عظيم ..
اللهم اهدنا للعمل بشرائع هذا الدين..واجعلنا من عبادك السامعين الطائعين.. المقتدين بسنة سيد المرسلين.. اللهم اغفر لآبئنا و أمهاتنا..واجعلنا وإياهم برضوانك من الفائزين اللهم افتح علينا حكمتك..و انشر علينا رحمتك ..واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته..واستهداك فهديته..و استغفرك فغفرت له.. و دعاك فأجبته..يا مجيب الدعاء.. يا عظيم الرجاء .. يا كريم العطاء.. يا رحمان الدنيا والآخرة.. نسألك اللهم عزة و رفعة للإسلام و المسلمين.. وتثبيتا لقلوب المؤمنين على شرائع هذا الدين..و تأييدا و نصرا لإخواننا في فلسطين..
اللهم أمنا في دورنا.. ووفق إلى الخير والصلاح ولاة أمورنا..واجعل اللهم بلدنا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين \