قصة قصيرة: (19) كريمة ... في استراحة 10 دقائق !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

علق جارنا الشاب سالم، وقد ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه البشوش قائلاً:
" هكذا تكون القصص وإلا فلا ........... إنني مدمنٌ على قراءة كل ما يكتبه القاص." ولم يكن من جاره، السيد عبد الرحمن، المُكنى ( بأبي ياسر)، إلا أن يضيف قائلاً :
"
نعم، وأنا أقول كذلك، لأن قصصه مستلة من الواقع، حيكت بأسلوب بارع، وطرزت بألوان بلاغية قوس قزحية مثيرة. "
لقد التقى الاثنان عند نقطة واحدة وهي الإشادة بمهارة الكاتب الأدبية، وخصوبة خياله، وشفافية ذهنه، وبراعته في رسم شخصياته، وتلقائيته في الحوار، إضافة إلى تفننه في التحكم بوحدة المكان والزمان لمجريات أحداث قصصه لدرجة تظنه مهندساً معمارياً، يحسب ألف حساب قبل مسك الورقة والقلم. ثم أردف سالم يقول:
" دعوني أنقل لكم مشهداً ضمني إلى الكاتب عندما جمعتني به الصدف، إذ حاورته وكأنني ناقد أدبي لا يرحم حيث قلت":
"عندما لفظت المطابع قصصك، دفعني الفضول كي أسألك:
ترى ........... لماذا أطنبت في استعمال أسماء محددة مثل: نبيلة، كريمة، حياة دون سواهن ؟ "
ضحك الكاتب، وقد رفع يده اليمنى لاشعورياً، حيث بانت أصابعه الأربعة وغياب إبهامه المستأصل في عملية جراحية أثناء حادث مروري قبل عامين ثم قال :
" إن الأسماء تلك ذُكرت بشكل عفوي، غير مقصود، بالرغم من أن عقلي الباطن مشبع بعناصر لا حصر لها من الأفكار عنهن. ولولا تعطل يدي عن الكتابة لكنت رأيت قصصهن تتصدر الصحف والمجلات العربية ، بلا حدود، لأن كل واحدة منهن تمثل لنا كلاً فسيحاً مترام الأطراف . ونكهة كل قصة منها تختلف عن سواها. أما إذا أطرت جميعهــا في حبكة روائية واحدة، عند ذلك سيحتار الناقد الأدبي بالتساؤل من أين يبدأ ؟ إنها تمثل نسيجاً حياتياً متشابكاً ، طاعناً في التفرع، رغم أعمارهن الصغيرة وأفكارهن المترامية الأطراف ."
إليك ما يعتمل في ذهني عن إحداهن: كريمة، مثلاً، شابة باريسية الوجه، زرقاء العينين كزرقة البحر المتوسط، شعرها صنوبري أخاذ، ابتسامتها بريئة ومثيرة. وكلامها موزون ومقفى، وكأنه محكومٌ بعلم العروض الصارم! إذا تكلمت باللغة الفرنسية، خلتها أديبة من السوربون، بشهادة أستاذها الفرنسي، الأب ( ........... ). وإذا تحدثت معك، سحرتك لكنتها المغربية الدافئة. إذا نظرت إليها، أجابتك عيناها الزرقاوات: ( نعم ، ماذا تريد ؟ ). وإذا تجولت معها في صحن الليسي، (الثانوية)، خرجت بنتيجة وهي أنك أمام صحفية متمرسة في اقتناص الأفكار والكلمات. أما إذا تناولت معها الشاي في (الكافتيريا)، أعطتك خلاصة عن ما جاء في الصحف والإذاعات الفرنسية والأوربية .
هذه صورة ذهنية مبسطة التقطتها عيناي قبل ولوج الصفوف لألقي المحاضرات فيها، إذ لم ينتظم جدول الدروس بعد. وكان معي أستاذ التنشيط الثقافي، (سي جفال) يعطيني فكرة، مجرد فكرة عن الليسي وطالباتها وطلابها.
وما أن انتظم الجدول حتى تراصت جموع الطلاب والطالبات في كراد يس بصحن الثانوية، أشبه ما يكون بالمنظر العسكري منه إلى المدني. لقد كان الجو رهيبا، وقوراً وشديد الانضباط حيث أطبق الصمت بالرغم من تواجد مئات الدارسين والأساتذة والمراقبين العامين والعمال. وما هي إلا دقائق معدودة حتى انصرفت المجاميع بهدوءٍٍ تام نحو صفوفها. وربمـــا كان لتواجـــد المراقب العام، (سي إبراهيم) أثرٌ في إضفاء الهدوء على المجاميع ، لاسيما وأن جميع الدارسين يهابون سطوته.
مضت دقائق على دخول الطلبة والطالبات قاعة الصف، ثم دخل الناظر بصحبتي وقدمني إليهم كمدرس عربي موفد. وبعد مراسيم التقديم ابتدأت المحاضرة. رُحتُ اسأل لفيفاً منهم أسئلة بسيطة كي أكتشف مستوى رصيدهم في اللغة. وقد دُهِشتُ لركاكة أجوبتهم. وبعد حوار مطول اضطررت للتحدث باللغة العربية واستنتجت بأنهم يتقنون اللغة الفرنسية– ذكورا وإناثا، إذ هم يقرءون جريدة اللوم وند واللا فيغارو الفرنسـية دون عناء أو رجوع إلى استعمال القاموس، كما أنهم معتادون على سماع الإذاعات الناطقة باللغة الفرنسية. لقد أدركت آنذاك بأنها مسألة وقت لكي يتحسن الطالب في اللغة الإنكليزية وليست مسألة عدم استيعاب أو عدم ذكاء .
مضت أيام، وتعددت المحاضرات، فإذا بطالبات ثلاث: كريمــــة، وحياة، ونبيلة تلمعن خلال سنوات الإيفاد الأربع، أقول: " ثلاث طالبات فقط رغم احتواء الثانوية على ما يربو عن ألف طالباً وطالبة في العام الدراسي الواحد. وهناك......، قاطعني سالم، يقول القاص، وقد أحس برتابة وصفي قائلاً:
" لماذا لا تدخل في لب الموضوع مباشرة وتميط اللثام عن سر إعجابك بهن ؟ "
" طيب، عفواً، سأقتصر في حديثي عن واحدة منهن فقط وأقصد بها كريمة، في حين سأترك تسليط الضوء على حياة ونبيلة فوق صفحات الصحف والمجلات العربية التي ستنطق أعمدتها بكلام كثير حينما سأميط اللثام عن دفتر مذكراتي لعام 1975 والأعوام التالية له.
بدءاً أقول : ما أن كنت أتطلع في كريمة حتى يشع منها الشموخ الراسخ ، والأنوثة المتقدة، والكبرياء الذي يُسكر شعراء الغزل وكُتاب السير. وقد تسأل لماذا ؟ أجل، تسألني لماذا ؟ تُرى ما عساي أجيب وكريمة، بنت الستة عشر ربيعاً فقط، المثقفة، المتعددة المواهب، المرهفة الحس والسريعة الالتقاط .......، كريمة ..........، التي ما تكاد تطرح عليها أي سؤال حتى تعزز إجابتها بالاستشهاد وبالأقوال المأثورة. وكانت الأيام تمضي كما كانت تمضي استراحات العشر دقائق، وهي تستجدي إحراجها بأي سؤال تصعب إجابته وعن أي موضوع كان كأننا في لعبة الحروف المتقاطعة. لقد كانت تضع في طريقي شتى الإغراءات، وهي تقول أمام أصحابها تحت قبة الفصل الدراسي، أثناء إحدى الاستراحات ، حيث يبقى الطلبة، على غير المألوف في قاعة الصف دون مبارحته، منغمسين في المناقشات الفلسفية المنمقة، رافعين شعار: ( يقول الفلاسفة : سلني ، أقل لك من أنت ؟ السؤال أهم من الجواب.) " . وهنا التفت نحوها قائلاً : "أراكِ تتوقين كي أسألك سؤالا ً؟"
" نعم . بشرط أن يكون السؤال مُعَجِـِزاً ونتبارى كلنا في الإجابة عنه." وهنا دخل على الخط طالب فضولي، كان مشدوداً إلى الحوار حيث قال: "إذا يسمح لي سِيدي بطرح الأسئلة عليها. إنني سأفحمها."
"تفضل يا بوزغاي . تفضل ."
" يا كريمة، كيف تمكنت من شدنا إليك، ونحن في استراحة، فيما يوجد من هم اكبر منك سنا، وأكثر منك تجربة ؟"
ابتسمت كريمة وكأنها تقول هذا سؤال شخصي وليس أكاديمي:
" سيديا، لو كانت القيادة بيد كبار السن فقط، لتنحى كل المسئولين في العالم لمن هم أكبر سناً. إنني، زميلاتي وزملائي، وبلا أدنى غرور، أحس بنزعة قيادية تشتعل في أعماقي. تصور، يا أستاذنا، حتى أن أبي طرح علي ذات السؤال. وها أنني أسألك، يا أستاذي الفاضل، بسؤال ربما يكون جواباً لسؤال زميلي":
-"هل قرأت أغلب مؤلفات روسو بالأصل الفرنسي ؟"
-"كلا. ولا حتى بالانكليزية."
" -وهل قرأت كتب سارتر، أونيسكو وعن مسرح اللامعقول ؟ "
" -
قرأت ما تيسر عندما كنت طالباً ."
"-وهل ........... ؟ "
- قاطعتها مستغربا ً: " أنت التي طلبت منا أن نسألك ولم نطلب منك أن تسألينا. إذن عليك إجابة زميلك قبل أن تنتهي الاستراحة. "
-"
إنني منذ كنت في مرحلة ( بريمير)، (الصف الأول) و (دوزيام)، (الصف الثاني)، و ...... سرقت الأضواء من زميلاتي وزملائي. وكنت الأولى في كل مسابقة، كما كنت المتميزة في كل المواد الدراسية قاطبة. إنني متأثرة بـ (ماري كوري)، (عالمة فرنسية من أصل بولندي)، من حيث اندماجها مع الكتب والمطالعة."
كانت كريمة تواقة ليس لتعلم اللغة الإنكليزية فحسب بل لتعلم اللغة الألمانية والأسبانية وحتى التركية . لقد كانت تناولني بعد نهاية كل حصة دراسية أمام زملائها صفحتين فولسكاب، مشبعة بما يعن لها من أفكار وخواطر مدونة باللغة الإنكليزية. وكانت تستأذنني فحص نصوصها لغوياً. وكنت أشجعها على إقحام زملائها وزميلاتها في مناقشة مضمون مشاركتها وتطلعاتها وأحلامها وحتى خصوصياتها بغية شدهم إلى الكتابة والتفكير باللغة الإنكليزية. واستمرت على هذا المنوال تكتب الأدبيات والعاطفيات. لقد كانت فتاة نموذجية، تواقة للكمال، من حيث المادة العلمية المدرسية والمادة الثقافية العامة. وكنت أتوسم فيها مستقبلاً باهراً أقل ما تكون فيه سفيرة للجزائر في إحدى عواصم الدنيا. ورغم أنها في المرحلة النهائية من دراستها الثانوية إلا أنها، وكما اتضح من كتاباتها اليومية بأنها، سائرة في الاتجاه الصحيح نحو الهدف. وكنت ألح في السؤال عليها قائلاً :
-متى أتيحت لك الفرصة هضم فكر روسو وأونسكو ومسرح اللامعقول وباللغة الفرنسية وأنت بهذا الربيع الصغير من العمر ؟ لابد أن يكون وراءك سراٌ غامضا !
وهنا اندفع أحد الطلبة متكلماً بلغة عربية هجينة وغريبة ممزوجة بلكنة صحراوية مطعمة بالفرنسية قائلاً :
" نحن نقرأ ونكتب باللغة الفرنسية في المرحلة الابتدائية وما بعدها . وحتى في الدار، لا تغيب عنا ممارسة اللغة الفرنسية. هذا ناهيك عن تواجدنا في المقاهي وأماكن اللقاء الأخرى. أن فكر روسو أو فكر غيره من الفلاسفة والأدباء لا يعدو أن يكون مثبتاً في مجموعة من الكتب المطروقة ليس غير. ألا تتصور، سِيدي، بأنك بالغت في تقييم زميلتنا ؟"
"إذا كان الموضوع بهذه البساطة ، فقل لي لمن قرأت أنت ؟ "
"
قرأت لمعظم الفلاسفة المشهورين في العالم. ويحتوي دارنا على أمهات الكتب المعاصرة والقديمة. وأن زميلي، على سبيل المثال، بوترعة، يملك مكتبة في قرية الشريعة أكبر من مكتبة الليسي. وهو يقرأ كل ما يقع بين يديه. ومع هذا لم تُسلّط عليه الأضواء مثل ".......
قاطعته وقلت: " أنا فعلاً بالغت في تقييم كريمة. وكنت أحس بأن الجزائر لم تُنجب سوى جميلة بو حيرد وكريمة ! ولكن والحق يقال، يجب إعادة النظر في التقييم مستقبلاً. وعذري قصر الفترة الزمنية التي أمضيتها معكم، أيها المثقفون الصغار الكبار ! إلا أن كريمة، باعتقادي، تمثل الفتاة النموذج بما احتوته كتاباتها التي لا حصر لها، والتي من خلالها مدت الجسور بين ذهنينا رغم فارق السن. واليكم سطوراً من أحدث كتابات زميلتكم التي ضبطتها لغوياً ولم أجد خطأً لغوياً واحداً قط، بل وجدت الرصانة متجسدة بصفحاتها الأربع الكبيرة."
احمر وجه كريمة وكأن لسان حالها يقول: "لماذا تحرجني أمام زميلاتي وزملائي أيها الأستاذ ؟

[TR]

[/TR]
تبســــــــــــــــــــه
3 أفريل 1977 رقم الخاطرة (63)
إنني أفكر باللغة العربية ، وأكتب باللغة الإنكليزية ، وأدوات عدتي باللغة الفرنسية. إنها لوحة لغوية زيتية مثيرة، وأثرٌ أرجو أن يكون متماسكاً ومسبوكا ،ً رصفته أنامل أتعبها السهر وأرقها الطموح . أن القلم، لعمري، بات سميري، و أضحى الورق رفيقي وأليفي ، وضوء القمر شمسي ونهاري.
اختلط علي الوقت ، فلم أعد أعرف يومي من غدي، ولا نهاري من ليلي، ولا صيفي من شتائي. قلبت صفحات غدي فـــلم ترق لي كلمة (صحفية)، ولا (أديبة)، ولا (طبيبة)، ولا (محامية). لا أريد سياجاً شائكاً لحياتي، ولا أريد حدوداً مصطنعة كحدود الأقطار العربية. لا أحب روتينية الحياة ورتابتها، بل أفضل سمو الفكر وطهارته ونقائه وخلوده. أحب بيع الجعة وسجادة الصلاة لمن يشتريها. "


" هذه بعض أفكار زميلتكم كريمة باللغة الانكليزية. ألا تستحق النشر والإعجاب ؟ أستأذنكم، أبنائي الطلبة والطالبات، العودة إلى محاضرتنا. فاستراحتنا لهذا اليوم قد شارفت على الانتهاء."
وما كان من سالم إلا أن استدار نحو أبي ياسر وقد سرح الاثنان في عالم من التفكير العميق .
" هذه بعض مواصفات كريمة، يا سادة، يا كرام. ولو كان معي دفتر مذكراتي لقرأته من الغلاف إلى الغلاف كي يبرر لماذا أنا جدُ معجب بهذه الأديبة الشابة الحسناء....... كريمة !"