كتاب- التاريخ الضائع- الحلقة(الأخيرة)
المسلمون أحدثوا ثورة في العلم والحضارة باكتشاف الصفر والدورة الدموية
تأليف :مايكل مورغان



نختتم عرض هذا الكتاب بما أورده المؤلف من اعتراف بالفضل للحضارة الإسلامية ومساهمات المسلمين الأوائل من علماء ومفكرين ومبدعين ممن أخذوا برسالة الإسلام التي تدعو إلى العلم والبحث وتحض على التفكير والتدبر، وهو لا يتوقف عن الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة التي يصدر بها فصول كتابه.

وينقل للقارئ الغربي صوراً لإنجازات العلماء المسلمين في مجالات الطب والفلسفة والجغرافيا والفلك وغيرها من العلوم الأخرى التي كان للعرب والمسلمين الريادة فيها طوال قرون عديدة قبل أن ينتقل مشعل الحضارة إلى الغرب، الذي جحد للأسف هذا الفضل العربي والإسلامي بل وتجاهله وحاول تزييفه لأغراض الإساءة إليه.على مدار الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب يطالع القارئ صورا مرسومة بعين الخيال إلى حد ليس بالقليل لآباء الحضارة الإسلامية العربية العظام، ويطالع أيضا لقطات مستقاة ولا شك من أكبر المتاحف والمكتبات العلمية في الشرق والغرب وكلها تُلقي لمحات من ضوء كاشف على الأعمال ـ المؤلفات ـ الخرائط ـ الروائع ـ التصميمات العلمية.

وما في حكمها وجميعها من إبداعات هؤلاء الرواد المفكرين ـ الفلاسفة ـ الأطباء ـ الحكماء ـ علماء الفيزياء والكيمياء وأساتذة الرياضيات، ومن في حكمهم من المبدعين والمخترعين والمكتشفين والمستكشفين ـ الجغرافيين، وكأن مؤلف الكتاب ـ الأميركي كما نعرف ـ يؤكد بهذه الصور والرسومات المقولة المحورية التي ذهب إليها بشأن ريادة الحضارة الإسلامية وتاريخها المنسي. وقد ظل يعالجها على مدى صفحات هذا الكتاب (300 صفحة)، هذا فضلا عما عمد إليه الأستاذ «مايكل مورغان» من تصدير كل فصل من فصول كتابه الثمانية بآية محكمة التعبير وبليغة الدلالة من آيات القرآن الكريم وكأنما يقصد أن يدخل بقارئ الانجليزية، إلى الأجواء الروحية والعقيدية التي أسبغتها رسالة الإسلام على حياة الإنسانية:

علما ومعرفة، وسكينة وسلاما، وسلوكا يصدر عن منظومة من القيم العليا التي ترمي في نهاية المطاف إلى تقدم البشر وبناء الحضارة ضمن هذه الأطر المعرفية التي دارت على أساسها مقولات هذا الكتاب. وها نحن نقرأ الكلمات الطيبات في ترجمتها الانجليزية بطبيعة الحال:«وإذا مرضت فهو يشفين»، وقد اختارها المؤلف تصديرا للفصل الذي يتحدث فيه عن «الأطباء والمستشفيات في عالم الإسلام»، أما في الحديث عن المخترعين والمبدعين ورواد الطيران فنقرأ الآية الكريمة: «يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان».

ثم نقرأ عند الحديث عن منجزات المسلمين الباهرة في علم الحساب والرياضيات قوله الكريم: «وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا» صدق الله العظيم.

مسرد المصطلحات

لا يفوت مؤلفنا في هذا السياق أيضا، أن يورد في أواخر الصفحات (295-296) معجما شديد التركيز لإطلاع القارئ غير المسلم وغير العربي، أو بالأحرى تذكيره.

بأهم المصطلحات التي صادفها في سياق معايشته لأفكار الكتاب ومباحثه التي انتظمت مسالك شتى من الفنون والصنائع والمبتكرات التي أبدعتها الحضارة الإسلامية، وكأنما يعيد تنبيه القارئ بأهمية معاودة التفكر والتذكر لذلك التاريخ الحافل المجيد للمؤمنين برسالة محمد عليه الصلاة والسلام عربا وغير عرب.

وهو نفس التاريخ الذي تحاول قطاعات وخصومات شتى أن ينساه الناس وكأنما تريد لو نسيت البشرية ردحا طويلا من زمان نهضتها وسفرا مجيدا من أسفار المدنية والحضارة التي أسهم بها الإسلام والمسلمون من أجل تقدم الإنسانية.

حيث شيدت الحضارة الإسلامية جسرا مضيئا فكان أن عبرت عليه الإنسانية كي تصل فيها بين إبداعات اليونان والهند والصين والرومان وحضارات مصر وفارس وقرطاجنة وبلاد الرافدين والشام إلى أن تسلمت أوروبا مشعل الحضارة من يد المسلمين مع حلول عصر النهضة في القرن الخامس عشر، وقد تزود بوقود جديد وازدان برحيق متجدد بفضل إضافات المسلمين.

من طارق إلى الخيام

في ضوء هذا كله تتألق الصفحات بصور قادة ورواد منهم مثلا: طارق بن زياد فاتح الأندلس، وعمر الخيام الصوفي الشاعر والخوارزمي حكيم الرياضيات وابن سينا الذي يكتب المؤلف في تعليق على صورته «أنه كان في زمانه ـ القرن الحادي عشر ـ يعد أعظم الفلاسفة والأطباء» وأن كتبه ترجمت على نطاق واسع في الشرق والغرب على السواء.

وفي ضوئه أيضا تتعدد أمام ناظري القارئ بالصور المنشورة ثمار حضارة الإسلام والمسلمين على نحو ما يقدمها الكتاب لقارئيه:

ـ آلة الإسطرلاب التي ظل المبدعون المسلمون يضفون عليها التحسينات إلى أن ارتقوا بها لتصبح بوصلة بالغة الدقة في هداية السفن في أعالي البحار، وأيضا لتصلح أداة لمسوحات وقياس الأراضي، وتعّم فائدتها آفاق الدنيا حتى القرن الثامن عشر للميلاد.

ـ مسجد قرطبة الكبير في أسبانيا الذي كان ـ كما يقول مؤلف الكتاب ـ من أكبر المساجد ودور العلم الجامعة في العالم الإسلامي بأعمدته الباسقة وطرازه المعماري الباذخ وزخارفه التي جمعت في آن معا بين أشواق الروح وإبداع الفن.

ـ شكل الأرقام العربية التي اعتمدتها أوروبا حتى الآن برسمها المعروف الراهن، وكان استخدامها أقرب إلى الثورة الفكرية باعتبار أن كلا من تلك الأرقام العربية يمثل قيمة رياضية وحسابية في حد ذاته، وأن تلك القيمة العددية مجسدة في شكل هذا الرقم. استغنت بها أوروبا وحساباتها عن الأرقام الرومانية التي كانت تستخدم أسلوبا بدائيا في عرض القيم العددية.

ـ صورة التصميم الذي وضعه البيروني عالم الفلكيات المسلم في القرن العاشر ويصور بدقة عليه حالة خسوف القمر حين تحجب الأرض عنه نور الشمس.

ـ وصورة مستقاة من كتاب تزدان به الحضارة الإسلامية لأنه يدور حول موضوع المعرفة بالأجهزة والآلات الميكانيكية، هنا يبدع المسلمون في مجال التحول من النظرية إلى التطبيق، من العلم إلى التكنولوجيا كما قد نقول وهذا العمل الجليل بعنوان «كتاب في معرفة الحيل الهندسية» وقد صدر عام 1205 للميلاد من تأليف دافنشي العرب ـ المسلمين الذي حمل اسم الجزري المولود في منطقة ديار بكر بالأناضول وظل كتابه عن الآلات والماكينات، حافلا بعشرات التصاميم والرسومات والعروض البيانية العملية النافعة التي أبدعتها قريحته وكم ظل كتابه هذا حبيس المكتبات الخاصة على مدار قرون، وأن تسربت منه .

ـ كما يقول مؤلفنا ـ رسومات وتصاميم عبر مناطق شرقي المتوسط إلى أسبانيا الأندلسية وعبر جزيرة صقلية إذ كان يحكمها المسلمون ثم تحول هذا كله إلى أوروبا فاستفاد منه علماؤها ومهندسوها في تصميم وتصنيع أحدث الآلات التي يستفيد منها الإنسان إلى أن أدركت الدوائر العلمية مدى نفاسة كتاب الجزري فتمت ترجمته ـ كما يوضح مؤلفنا (ص 172) في القرن العشرين.

مخترع المضخة الحديثة

من مخترعات هذا التكنولوجي المسلم تلك المضخة المبتكرة التي يحرص كتابنا على نشر تصميمها من واقع «كتاب الحيل الهندسية» المذكور ، وقد حرص المخترع المسلم على تزويدها بعدد من التروس والمكابس التي تلف حول عمود الدوران موصولا بالبدالات التي تؤدي إلى رفع المياه من النهر ليتدفق في مواسير خاصة ومنها إلى شوارع المدينة ومن ثم إلى ساحات البساتين وقنوات الحقول.

تتوالى أيضا مشاهد الإبداع المعماري في ظل الحضارة الإسلامية، وإذا كان الغرب قد عمد جهلا أو تجاهلا، حسداً أو غيرة، رفضا أو تربصا، إلى محاولة طمس منجزات الحضارة الإسلامية ـ (ولا نبرئ مدخلات التحريض الصهيونية من هذا السلوك .

وهو بالطبع ما لم يشر إليه مؤلف هذا الكتاب) ـ إلا أن المؤلف أحسن صنعا كذلك من خلال حرصه على أن يتوقف عند إبداعات المسلمين عبر اختلاف الأفكار والأمصار ولا سيما في فن المعمار، وتلك مبتكرات ومنجزات لا سبيل إلى إنكار روعتها ولا محل لتجاهل عظمتها، بحيث لا يمكن أن تصدق عليها مخططات التاريخ الضائع أو التراث الذي تعرّض للإنكار أو للنسيان.

وإلى جانب مسجد قرطبة الكبير، وما برح أثراً جليلا يزوره السائحون في أسبانيا وتصب زيارته الملايين في خزائنها، نلمح مخططا لقبة الصخرة ومسجدها الذي يقول المؤلف أن تم إنجازهما عام 691 للميلاد في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وترجع الصورة المنشورة على صفحة 227 من كتابنا إلى عمل رائع من فنون الحفر ينتمي إلى القرن التاسع عشر، فيما يؤكد مؤلفنا أن هذا البناء المعماري الإسلامي الذي تمثله قبة الصخرة يعد أقدم صرح توقره جموع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

وثمة صرح آخر ما زال قائما وشاهدا على روعة ودقة وجمال فن المعمار في دفتر الحضارة الإسلامية هو «تاج محل» الذي ينتمي إلى القرن السابع عشر وما برح رمزا لوفاء الزوج للزوجة وعظمة ورخاء دولة الهند في عصورها الإسلامية الزاهرة.

ومع توالي هذه الصورة وتعدد الرسومات، تتعدد عبر الصفحات الأواخر من كتابنا أسماء ومنجزات رواد الحضارة الإسلامية الكبار في ميادين شتى من التخصصات وكلها من النوع الذي يمكث في الأرض وينفع الناس. وفي هذا الصدد أيضا ـ أحسن المؤلف عندما لم يقتصر في عرضه وتحليله على أسماء الرجال وأعمال الرواد، ولكن توسعت بوصلة اهتماماته لتضم ما يمكن أن نصفه بأنه الجانب المؤسسي من عظمة حضارة الإسلام ومآثر المسلمين. هذا الجانب المهم في مجال الطب والعلاج أصبح العالم يعرفه باسم المصحات ـ العيادات ـ المستشفيات.

يقول المؤلف (ص 211 وما بعدها): عبر أجيال مضت، عاش أطباء المسلمين ورحلوا إلى دار البقاء، لكن بقيت المرافق والهياكل (المؤسسات) التي ظلت شاهدا على ما بذله هؤلاء الحكماء من جهود في ميدان علوم الطب وأساليب العلاج. والحق أن هذه المرافق ـ المؤسسات لم تكن معروفة من قبل في أي مكان آخر من العالم.

ومن ثم كانت جديرة بان تجد من ينسجون على منوالها ويؤسسون مثيلات لها في مواقع أخرى، بعضها كان تصميمه أقرب إلى القصور بل كانت بالفعل قصورا وسرايات سبق وتبرع بها سراة المسلمين وحكامهم تقربا إلى الله ورغبة في منفعة عامة الناس في مجال الطب والمداواة، كانوا في هذا ـ يضيف المؤلف (ص 210) يصدرون عن تعاليم نبيهم (صلوات الله عليه) بأن الناس سواسية وأن كل راع مسؤول عن رعيته، ومن ثم كانت رعايتهم للفقير والمريض والمسكين والمحتاج.

المستشفى الجامعي

في السياق نفسه يلاحظ مؤلفنا أن تلك العيادات، البيمارستانات كما كانت تسمى أحيانا، كانت تفتح أبوابها لاستقبال الفقراء على وجه الخصوص. لماذا؟ لأن الموسرين والخاصة في تلك المجتمعات كانوا يؤثرون أن يتم علاجهم في بيوتهم.

ومن هنا ـ يضيف مؤلفنا ـ كانت المستشفيات (في ظل الحضارة الإسلامية) ـ تستقبل كل من يطرق بابها إذا استطاع أن يصل على قدميه إلى الباب، فإن لم يستطع فهو يحملونه على محفات خاصة كي يتلقى ما يشير به الأطباء المختصون من أساليب الرعاية وصنوف العقاقير والدواء.

حيث كان ملحقا بكل مستشفى (بيمارستان) صيدلية تحوي أنواع الأدوية التي توّصل إليها أطباء المسلمين وحكماؤهم، لا نتيجة لأعمال السحر والشعوذة على نحو ما يحرص المؤلف على تأكيده (ص 212)، ولكن نتيجة سنوات من البحث والاطلاع والحوار العلمي والتجريب المعملي، ولهذا سبقت دور العلاج في ظل حضارة المسلمين نظيراتها في أوروبا بأشواط طويلة من عمر الزمن.

وقد يسترعى الاهتمام أن المؤلف يتابع إنشاء هذه المصحات منذ تاريخ قديم يرجع إلى أيام دولة الأمويين الذين أنشأوا بين عامي 705 و 715 ميلادية أول مستشفى أو مصحة إسلامية وكانت أساسا لعزل المصابين بالجذام عن عموم السكان. بعدها أنشأ الخليفة العباسي هارون الرشيد أول مستشفى في بغداد، وفي القرن التاسع سوف يعيّنون مديرا جديدا لأحدث مستشفيات العاصمة العباسية اسمه الرازي.

ويروي المؤلف أن الرازي شارك في تحديد موقع هذه المؤسسة الصحية غير المسبوقة فكان أن عمد إلى توزيع قطع عديدة من اللحم على مواقع مختلفة من المدينة، وبعد فحصها أشار ببناء المستشفى الجديد في الموقع الذي لم يفسد فيه اللحم إلا بعد أيام آية على أن المكان أفضل من سواه من حيث التلوث بالآفات ـ الجراثيم التي سوف يكتشف لويس باستور أمرها بعد الرازي بأكثر من ألف عام، أو من حيث التلوث الذي بات ـ كما يعرف الجميع ـ محور الاهتمام مع سنوات القرن الحادي والعشرين.

قراءة في وقفية المستشفى

يواصل مؤلفنا حديثه في هذه النقطة فيقول: في القرن الثالث عشر شهدت مصر بناء المستشفى المنصوري، وكان يسع 8 آلاف سرير، وبلغت ميزانيته السنوية مليون دينار وتمثلت سياسته في علاج كل مريض يدخل من أبوابه بغير فرق في ذلك بين الأغنياء والفقراء.

وكانوا يقيمون في أماكن مخصوصة يعزل الرجال فيها عن النساء (ويبدو) أن المنصوري أيضا كان أقرب إلى المستشفى الجامعي إذ كانت أروقته تشهد إلقاء المحاضرات من جانب كبار الأطباء والحكماء كما كانوا يسمونهم، على الدارسين والمتدربين، فضلا عن صيدلية حافلة ملحقة بالمستشفى وعنابر مستقلة لإجراء الجراحات وأقسام تختص بإصابات الحمى وأمراض العيون.

هنا أيضا يعرض كتابنا قراءة في وقفية المستشفى المنصوري بالقاهرة ومن سطورها ما يلي: يسهر المستشفى على رعاية المرضى من ذكور وإناث إلى أن يُتم المولى عليهم نعمة الشفاء ويتحمل البيمارستان كل تكاليف العلاج لمن يقصده قاصيا كان أم دانيا، قاطنا مقيما كان أم غريبا وافدا، ضعيفا أو قويا فقيرا أم غنيا، كفيفا أم مبصرا، عالما أم أميا، راشدا كان أو مختلط الجنان.

أما المغارم والنفقات من وراء هذا كله فلا يقصد بها سوى وجه الله تعالى. وهكذا كانت أعراف وأخلاقيات الحضارة الإسلامية في مصحات القاهرة التي لم تكن نسيج وحدها في هذا المضمار: إن عواصم العالم الإسلامي الأخرى كان لها مستشفياتها ومصحاتها وأمهر أطبائها ـ في دمشق والأندلس وفي الهند ومراكش. يلفت اهتمامنا أيضا، ونحن نستعرض مع مؤلف الكتاب منجزات الحضارة الإسلامية وتاريخها (المنسي أو المضيّع)

اكتشافان ثوريان

اكتشافان ثوريان في مجال الطب والعلاج ـ القضية التي يثيرها المؤلف (ص 214-215) بشأن الظلم الذي لحق ابن النفيس الذي عاش وعلّم في منتصف القرن الثالث عشر وكان أول عميد أو مدير للمستشفى المنصوري وكلية الطب التي ألحقوها به بالقاهرة. لقد اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية وكتب عن حركة الدماء تسري متدفقة من القلب إلى الرئتين كي يخالطها كما قال الطبيب المسلم الهواء النقي.

جاء هذا الاكتشاف عكس ما سبق وقال به غالينوس عمدة الطب عند الأغريق ـ وكان اكتشافا «ثوريا» كما يصفه المؤلف، ويضاهيه فتح ثوري آخر قدمه عباقرة المسلمين إلى الحضارة الإنسانية وهو اكتشاف «الصفر» على يد الخوارزمي حكيم الرياضيات.

بل قدم ابن النفيس أول خارطة طبية في التاريخ للأوعية الدموية التي تُوصل الدم إلى القلب. ولكن اكتشافاته المرموقة ظلت حبيسة عالمه العربي ـ الإسلامي لسنوات طويلة إلى أن ترجم بعض أعماله الإيطالي أندريا الباغو في عام 1547.

يستدرك المؤلف قائلا: ومما يدعو للشك أن هذه الترجمة ظهرت قبل 60 عاما أو نحوها من إذاعة اكتشافات ويليام هارفي، طبيب البلاط الملكي الانجليزي الذي كان يدرس في جامعة بادوا في إيطاليا. والأغرب أنه من خلال التحقيق الوثائقي اتضح أن ترجمة الباغو الإيطالية حذفت بالعمد ما سجّله ابن النفيس عن حركة الدم بين القلب والرئتين ، وربما يرجع ذلك إلى خشية المترجم من انتقاد المحافظين المتشددين دينيا في إيطاليا.

وإن كان المحتمل أيضا أن المترجم أفضى باكتشافات الطبيب المسلم إلى بعض خلصائه إلى أن وصل سر الكشف الطبي الخطير إلى جامعة بادوا حيث كان هارفي، الطبيب الانجليزي يتعلم، وفي كل حال فقد تعرض ابن النفيس للظلم رغم سبقه لزميله الانجليزي بنحو 350 عاما.

وربما تفاقم هذا الظلم لأن أعماله بدأت تشق طريقها إلى ترجمات أوروبا مع منتصف القرن السادس عشر حين كانت أوروبا قد بلورت مكانتها في عصر النهضة الحديثة ولم تعد تتخذ نفس الموقف من الإجلال إلى حد الخشية بل الرهبة إزاء علماء المسلمين.

لهذا لم يحظ مكتشف الدورة الدموية المسلم باسم أوروبي يشتقونه من التحوير من اسمه العربي الأصلي، عرفت أوروبا ابن سينا بأنه «أفيسينا»، وعرفت أوروبا ابن رشد بأنه «أفيروس» وعرفت ابن الهيثم بأنه «الهازن» وعرفت الرازي بأنه «رازس» ، أما الطبيب الرائد وعميد كلية الطب في قاهرة ـ العصور الوسطى فقد ظل على اسمه ابن النفيس وكأنه تعرض لآفة النسيان، أو لظاهرة التاريخ الضائع كما يقول عنوان هذا الكتاب.

وكذلك فعلت أوروبا مع الإدريسي، الجغرافي الكبير الذي ينشر كتابنا في صفحته قبل الأخيرة صورة عن خارطته الذكية التي وضعها عالم الجغرافيا المسلم في القرن الثاني عشر لتجسد أحدث ما تناهت إليه معارف عصره وتصور بدقة علمية ملحوظة تضاريس حوض البحر الأبيض المتوسط ومنطقة الشرق الأوسط وقارة آسيا ـ مثل هذه الخرائط هي التي اهتدى بها البحارة الأوروبيون، كما يؤكد مؤلفنا، فيما أصبح يعرف في التاريخ الحديث باسم «عصر الكشوف الجغرافية».

هكذا آذنت صفحات الكتاب وأحاديث مؤلفه الأميركي إلى نهايتها. وها هو الأستاذ مورغان يودع قارئيه في ختام السطور فيقول: راحت إذن العصور الذهبية الأولى من حضارة المسلمين، وبرغم أن عناوين الحاضر قد تحكي قصة أخرى، إلا أن المرجح أن عصورا زاهرة مثلها جديرة بأن تولد في المستقبل من جديد.

عرض ومناقشة: محمد الخولي