وقل اعملوا !!
العمل حقيقة إيمانيّة ، وقيمة حضاريّة، وضرورة حياتيّة ، فيها قيام الأفراد ونهوض المجتمعات ، لذا سادت هذه القيمة الحضاريّة المجتمعات الإنسانية كافة ، واتفقت على أهميتها الأديان السماوية ، والقوانين البشرية الوضعيّة ، فما من أحد يماري في أنّ الأمم التي تأكل ممّا تزرع ، وتلبس ممّا تصنع ، تظلّ أمّة عزيزة في نفسها ، مستقلة في قرارها ، قادرة على بناء مجدها ، وصون حماها واستقلالها !
ولقد جعل الله تعالى الأرض مستقر حياة الإنسان ومعاشه في هذه الدنيا ، وأسبغ عليه النعم ظاهرة وباطنة ، وسخّر له ما في السموات والأرض ، قال تعالى: ( وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ) )الجاثية 13) ونوّع له أبواب الرّزق وطرقه ، وذلّل له سبل الوصول إليه (ولقد مكنّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ) (الأعراف 10) وغدا المطلوب أن ينزل المسلم إلى ميادين الحياة مكافحًا، وإلى أبواب الرّزق ساعيًا، ولكن قلبه معلق بالله ، مستشعراً رقابة الله وخشيته، مصطبغاً بصبغة قوله تعالى: (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) (النور: 37)
لقد شاءت الإرادة الرّبانيّة أن يكون الإنسان خليفة من الله في هذه الأرض ، ووهبه الله تعالى الطاقاتِ الكامنةَ والاستعداداتِ المذخورةَ كفاءَ ما في هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات ، ليحقّق المشيئة الإلهيّة ، بخلافة الأرض وعمارتها !!
وعليه : باتت البطالة الإرادية – أي التعطّل والتبطّل عن العمل - عبودية وضلالة لأنها نكول عن القيام بمهمة خلافة الإنسان من قبل الله في عمارة الكون ، وقدْ حذَّرَنَا رَسُولُ اللهِ مِنَ هذا القعود عن العمل والفرائض والواجبات ، وسمّاه بالعجزِ والكسلِ ، الذي كان يتعوَّذَ بالله تعالى منْهُ فى كل صباح ومساء ، فيقول : « اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ العجز والْكَسَلِ« رواه البخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني في صحيح الجامع
في ضوء ذلك : وفي مستهلّ الحديث عن العمل وفضله ، والعامل وحقّه في الإسلام ، حقيق علينا بادئ ذي بِدْء تصحيحُ فهومات : فالإنسان هو سيّد هذه الأرض ، ومن أجله خلق الله كلّ شيء ، فهو إذن أعز وأكرم وأغلى عند الله تعالى من كلّ شيء ماديّ ، ومن كلّ قيمة ماديّة في هذه الأرض جميعا ، ولا يجوز إذن أن يُستعبَد أو يذلّ لقاء توفير قيمة ماديّة أو شيء مادي ، لا يجوز أن يُعتدى على أي مقوّم من مقوّمات إنسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أي قيمة من قيمه لقاء تحقيق أيّ كسب ماديّ ، أو إنتاج أيّ شيء ماديّ ، أو تكثير أي عنصر ماديّ ، فهذه الماديّات كلها مخلوقة أو مصنوعة من أجله ، من أجل تحقيق إنسانيته ، من أجل تكريس وجوده الإنساني ، فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلبَ قيمة من قيمه الإنسانية ، أو المسّ بمقوّم من مقومات كرامته ! فهذا هو التصور الرّباني اللائق بالإنسان الذي يستمد إنسانيته من نفخة الروح العلوية لا من التصاقات الطين الأرضية !
وبذا يفترق الإسلام عن المذاهب الرأسماليّة والماديّة التي تقدّس الإنتاج والآلة وفي الوقت نفسه تسحق الإنسان الذي ينبغي أن تكون هذه المنتوجات الماديّة مسخّرة لسدّ عِوَزه وحاجته ، وتحقيق أمنه ورفاهيّته !!
بناء على ذلك وتجسيداً له : قدَّر الإسلام العاملَ وكرّمه ، وضرب عليه من الرعاية والعناية ما يكفل له حقوقه ، ويشجعه على أداء واجباته، فوضع الحق إزاء الواجب؛ فكفل الإسلام للعامل ما يحفظ كرامته الإنسانية في أوسع صورها :
فـكان أن منح الإسلام العامل حق الرّاحة امتثالاً لقوله تعالى :ï´؟ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ï´¾ {البقرة: 286} وترجمة للقاعدة الشرعية: ( لا تكليف إلا بمستطاع)
وانطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: « ولا تكلفوهم ما لا يطيقون؛ فإن كّلفتموهم فأعينوهم » رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني في صحيح الجامع إعانة نفسيّة وإعانة ماديّة ، ومن تأمّل هذا الشطر من الحديث( فإن كّلفتموهم فأعينوهم ) يستشفّ أن النبيّ – صلى الله عليه وسلّم – هو أول من سنّ قانون الجر الإضافيّ ؛ فللعامل طاقات وساعات محدودة ، إنْ كلّفناه فوقها آتيناه أجرها !
ومنح الإسلام العامل حق الضمان : فإذا تعطل العامل عن العمل ،لإصابة أو توفاه الله، وترك أسرة، أو دَيْناً؛ فيجب على الدولة أن تنوب عنه في سداد الدَّيْن وكفالة الأسرة. لقوله صلى الله عليه وسلم : « من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك كلاً فإلينا »، « ومن ترك ديناً أو ضياعاً - عيالاً - فأنا مولاه » رواه البخاري
بل سبق الإسلام غيره فقرر تأمين البطالة ، فقد تضيق فرص العمل بالكوادر فلمّا تأتها الفرصة للعمل بعد ، فعندئذ وجب سدّ عوزها ، لقوله تعالى: ï´؟ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ï´¾ {البقرة: 273}.
وأمّا عن أجرة العامل : فقد كفل الإسلام الأجر المناسب للعمل ، وقال تعالى :ï´؟ولا تبخسوا الناس أشياءهم ï´¾ {الشعراء: 183}، قال ابن كثير – رضي الله عنه - (أي لا تنقصوهم أموالهم )!
كما حثّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أرباب العمل على المبادرة لإعطاء الأجير أجره دونما تلكؤ ولا مماطلة ، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه » رواه ابن ماجه
وأمّا من رضي لنفسه من أصحاب العمل بأن يأكل من أجرة العامل قليلها أو كثيرها أو كلّها ، فقد أورد نفسه موارد الهلاك والتلف ، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: « قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره » ومن كان الله خصيمه فقد خُصِم،وفي لظى الجحيم التُقِم !!
وذكر الإمام ابن حزم في "المحلّى" أنّ على الدولة أن توفر للعامل الغذاء الكافي، والكساء الكافي، والمسكن الذي يليق بمثله، وأن تستوفي فيه كلّ المرافق الشرعية، ويجب أن تكون الأجرة محققة لكلّ هذا؛ وإلا كان ظلماً ! "
ونلاحظ أن الإسلام يعتمد في علاقات العمّال بأرباب على سلطانيّ الخلق والضمير المستمدَّيْن من خشية الله تعالى؛ لأنهما أقوى من سلطان القانون، فرقابة الضمير حارس لا يغفل، وسلطان القانون حارس كثير الغفلة والنسيان ، ولربما كان كثير الالتواء والحيف بزيادة أو نقصان !
هكذا أعز الإسلام العامل ورعاه وكرّمه، واعترف بحقوقه لأول مرّة في تاريخ العمل، بعد أن كان العمل في بعض الشرائع القديمة يعني الرّق والتبعية، والذلّة والعبودية !
ولم يكتف الإسلام بهذ الحدّ بل أعلى الإسلام من قيمة العمل حين عدّها من أضرب العبادة حال اقترانها بنيّة سويّة معتبرة شرعاً ؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: مرّ بالنبي صلى الله وسلم عليه رجل، فرأى أصحاب النبي من جَلَده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا ـ أي النشاط والقوة ـ في سبيل الله؟ فقال رسول الله: «إن كان يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها فهو في سبيل الله)رواه الطبراني والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الترغيب
لذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول " والله ما أحبّ أن يأتيني الموت إلا على إحدى حالين : إما مجاهدًا في سبيل الله أو ساعيًا لطلب الرّزق" وكلتاهما أجواء عبادة !
فقد تأوّل عمر رضي الله عنه قوله تعالى - في سياق المدح والثناء - : ( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ، وآخرون يقاتلون في سبيل الله ) ( المزمّل 20) فالذين يضربون في الأرض هم العمّال الذين بهم يشيد الإسلام دولته ويحقق اكتفاءه ومنعتَه ، والمقاتلون في سبيل الله هم الذين يحفظون للدّين حوزته ويحمون له دولته !! وفي كلّ خير ، ولكلّ منهما أجر وبرّ !!
وبعد : فالأمم لا تنقاد إلا لمن يحمل فكرة تقود الحياة وتنمّيها ، والعمل ترجمة للفكرة وصدى لها ، وما قيمة أمّة لا تقدّم للبشرية فكرة ؟! إنّ كلّ أمّة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة ، والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار حين اجتاحوا الشرق ، والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرّومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا، إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها ، وتلاشوا في البلاد التي اجتاحوها ، وقِسْ على ذلك : الفينيقيين والأشوريين والمناذرة والغساسنة، فهاتيك الأمم اندثرت معالمهم واندرست شخصيتهم فتلاشت لا لكونهم عزفوا عن النكاح والتناسل فانبتر بذا نسلهم ، بل لكونهم لم يكونوا أصحاب فكرة يستقلون بها ويترجمونها إلى عمل ، فابتلعتهم ثقافات غيرهم ، وانصهروا في بوتقتها ، فذابوا وأفل نجم شخصيتهم !!
فهذا ما يجب أن يذكره العرب جيداً إذا هم أرادوا الحياة ، وأرادوا القوّة وأرادوا القيادة والسيادة والرّيادة والسؤدد ، فنحن أمّةَ العرب والإسلام أمّةُ ( إعلموا ) وأمّة ( إعملوا ) ؛ أمّة اعلموا لقوله تعالى : (فاعلم أنه لا إله إلا الله ) ( محمد 19) فتلكم هي الفكرة وإعظِم بها من فكرة هي سرّ الوجود وغايته ، ونحن أمّة ( إعملوا ) ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ( التوبة 105)
فتلكم الترجمة الخيّرة لتلك الفكرة النيّرة ، ألا لمثل هذا فليعمل العاملون !!