أعداء ولكن أصدقاء في الإنسانية... بقلم: آرا سوفاليان
الدنيا صغيرة جداً والمواقف كثيرة جداً والانترنيت فضاء مفتوح قد يوقعك في ما لا تتمناه، فالأفضل مداراة كل شيء بالحكمة، لأن الإنسانية هي حالة أشمل من الصراعات ومن القوميات ومن السياسة ومن الدين ومن الطوائف ومن الحروب ومن المواقف المسبقة، لقد كان الإنسان بألف خير قبل نشوء الممالك والجيوش والحكومات والأديان والطوائف والأحزاب والحدود والقوميات، ولا بد أن الخطأ الفادح تم تكراره في البشرية وللمرة الثانية، بعد طوفان نوح عندما تم تقسيم العالم من جديد إلى فئات تم نسبها إلى اولاد نوح وهذا العمل بحد ذاته يحوي كل عوامل التفرقة والتمايز وهو أول خيوط العنصرية التي أدت في ما أدت إليه إلى مقولة شعب الله المختار ونسبها إلى من نسبت إليه ، ومقولة العرق الصافي في الشعب الآري وتمايزه وتعاليه على الشعوب الأخرى ليقرر منظّروه عدم أحقية شعوب أخرى بالحياة على وجه الأرض، وتحويل شعب الله المختار ومن في حكمه إلى عبيد يسوسهم أولئك المصنفون في أول قائمة الشعوب ذات الأصل العرقي الصافي والآريون أولهم حسب التصنيفات العرقية التي كانت سائدة في النصف الأول من القرن العشرين وحتى سقوط دولة الرايخ أو إمبراطورية الهوهنزليرون الجديدة، التي احتلت أوروبا من شرقها إلى غربها و توقع منشؤوها أن تستمر لمدة ألف عام فأسقطها الحلفاء في سبعة أعوام ومزقوا عاصمتها برلين وزرعوا الأعلام الوطنية لبلدانهم على سطح الرايخستاغ المدمر والمحروق، وهو مبنى المستشارية التي لم تدم ألف عام لأنها تستند إلى أساسات من سراب، وستظل التفرقة والتمايز والعنصرية والصراعات والحدود والأسلاك الشائكة وهي أقذر اختراع عرفته البشرية قاطبة والأديان والطوائف وشعب الله المختار وشعب الله الغير مختار وشعب الله المحتار وهو الشعب الواقع بين هؤلاء ديدن شعوب الأرض حتى تعود الأرض إلى حالة الطهر الابتدائي وهي الحالة السابقة لكل ما سبق ذكره، وعند ذلك ستتحد الأرض في دولة واحدة ودين واحد وشعب واحد ولغة واحدة، ولن يحدث ذلك إلا إذا تعرضت الأرض لخطر يتهددها بكل دولها وممالكها وشعوبها ونأمل أن تتحد هذه الشعوب بعد عودتها لحالة الطهر الابتدائي، قبل أن يرث الله الأرض وما عليها.
ثلاثة مواقف تعرضتُ لها تغلبت فيها الإنسانية على كل اعتبار، وادركت بعدها أن هناك عامل خفي يفوق كل الشرور التي تم ابتداعها بين جنبات الأرض وهذا العامل هو الفطرة التي جبل الإنسان عليها عندما تم خلقه نقياً طاهراً كالماء الزلال بمقدرة من الله عزّ وجلّ.
الحادثة الأولى:
في أوائل شباط من العام 1982 وفي كراجات حمص تدافعنا لركوب الميكروباص المهرهر ماركة فيات فئة 21 راكب، كنا بصدد الذهاب للالتحاق بخدمة العلم، شعرنا على الصفر ومعنا حقيبة تحوي بعض الغيارات الداخلية وعدة الحلاقة وكيس الزعتر وزجاجة الزيت وعلبة لا فاش كي ري وعلبة طون وربطة خبز، وكان الرعب قد أخذ من قلوبنا كل مأخذ، فلقد كنا نرى في التلفزيون وفي صحيفتي البعث والثورة صور لمكاري وباصات تم تفجيرها في الطرقات وبداخلها من بداخلها والكل في الجوّ ونحن الآن لم نعد غرباء على هذا الجوّ.
جلس أمامي وكان ينفث دخان سيجارته الحمراء الطويلة في وجهي ليؤكد بأنه سمج، فأدرت وجهي ثم فتحت الشباك رغم البرد فلم يهتم، فقلت في نفسي هي صحبة طريق جعلها الله أكبر المصائب، مشينا معاً باتجاه جماعة الانضباط على الباب الرئيسي للمعسكر وتم تفتيشنا فقلت في نفسي: لا ريب أنه جاء في زيارة جعلها الله أكبر المصائب، وطُلب منا التوجه إلى قيادة الموقع لتسليم المهمات فوقف بعدي مباشرة فقلت في نفسي حتى ولو أن جنابه مفروزاً إلى هنا مثلي فليس من الضروري أن يكون مفروزاً إلى نفس القسم الذي سأفرز إليه.
وخابت كل توقعاتي فلقد تم فرزه إلى نفس الدورة وكان رقمه في الدورة يلي رقمي بعدد واحد وبالتالي فهو في مهجعي وسريره فوق سريري ويقف بعدي في الصف وفي تحية العلم ويقف ضمن جماعتي في المطعم وعلى نفس الطاولة ويقف قبالتي تماماً، يأخذ مرقة البندورة والفاصوليا التي يبحث عنها في قعر القصعة بملعقته ويرميها فوق قصعة البرغل ويقلب البرغل على المرق في مايشبه جبلة الأسمنت والرمل والماء ويرفع الناتج الى فمه ويعيد الكرّة وملعقته تحمل لعابه الى القصعة من جديد، كنت أتفرج وأنتظر ذلك الايعاز الذي يأمرنا بالتوقف عن تناول الطعام ومن ثم مغادرة المطعم، وهو أجمل ايعاز سمعته في الجيش، لأهرع بعده الى خارج المطعم، كان من قرى عفرين ولقبوه بالعفريني، ولم يترك أحداً إلاّ وتشاجر معه، كان يشلح حذاؤه العسكري بعد التدريب ويقفز لينام بملابسه العسكرية في سريره، والروائح تمتد إلى باب المهجع ترشد أسراب الذباب الى مكان قدميه ليتحول لونهما الى ذبابي، لا يهمه الحمّام ولا ما فيه، فيتشاجر مع الناس في كل مرة، وفي إحدى المرات استل سكين، فعلمت القيادة وتم سجنه أسبوع كامل في القطعة، وعاد ليفتش في أغراض الشباب ويأخذ ما يحلو له وكان يأكل من الأكل الجماعي ويرفض المشاركة في الدفع، وتشاجر مع الصائمين في أول يوم صيام وفي فترة السحور لأن الصائمين أحدثوا جلبة ثم فتحوا الراديو لسماع القرآن الكريم فنهض يشتم ويلعن يريد تحطيم الراديو، وتدخل بعض الشباب وقالوا له يفترض أن تصوم مثلنا فأنت مسلم فقال لهم أنا لا دين لي ولا أصوم فطلب أحدهم منه أن يغير اسمه من محمد إلى لينين، وطلب مني الشباب التحدث إليه وإقناعه فرفضت وقلت لهم أنا أرمني وهو كردي ونحن ولأسباب تاريخية كالثلج والنار فلقد نابنا من قومه فظائع تشيب لهولها الأجنة في أرحام الأمهات، وأنا أريد أن انهي خدمة العلم بسجل أبيض نظيف، أما هو فلقد قال: هؤلاء الأرمن ينسجون الأكاذيب ويصدقونها، يقولون إننا نحن من نفذ جريمة الإبادة العرقية بحقهم في فترة حكم الاتحاد والترقي وما قبل... وهذا كله محض هراء.
وجاء متعهد وثقب مع جماعته الجدران وعلمنا أن موضوع التعهد هو التدفئة المركزية "الشوفاج" وحرمنا من نومنا وهناؤنا، المطارق تحفر الجدران في فترة استراحتنا بالضبط، " وكل طرقة بطلقة ويا قاضي الحاجات " وتم في النهاية وضع قطع معدنية شكلها يشبه السكين وتم تثبيتها بالاسمنت، وكل اثنتين منها مخصصتين لحمل شوفاج واحد، وبقيت هذه السكاكين مثبته في الجدران وغاب المتعهد ومعه عماله بعد أن قبض ومعه الشوفاجات.
وعلمنا أن هناك معركة تدور بين قواتنا المرابطة في لبنان من جهة وبين جيش الاحتلال، وتعلمنا الانتشار في الجبال، وتعلمنا إفراغ المعسكر والاحتماء في الملاجئ، وجيء بزمور الخطر الذي يعمل بشكل يدوي ويحدث صوتاً مفزع وتم وضعه في أعلى البناء، وتم تشغيل هذا الزمور بعد منتصف الليل، وعلا الهرج والمرج وغادر الجميع المهاجع ولم يبق في مهجعنا أحد إلاّ أنا وجورج حداد، كنا ننتظر أن يخف الازدحام لنفاجأ بأن محمد العفريني على الأرض وقد شرطت واحدة من سكاكين الشوفاج بطنه نتيجة للتدافع، وكان ملقياً على الأرض ينزف ولمحت أحشاؤه تظهر من الجرح، فعدت إلى حقيبتي وأخرجت قميص داخلي نظيف ربطته تحت ملابسه وحملناه انا وجورج ونحن لا نعرف إلى أين سنأخذه، وكانت سيارة بيجو 304 متوقفة في الساحة الرئيسية وهي تعود لأحد المدعومين، فذهبنا إليها ومددنا محمد على المقعد الخلفي وجورج بجانبه يضغط على الجرح، وكان مفتاحها في مكانه " مفتاحها عليها ".
وعلى الباب الرئيسي كانت السيارة معروفة فلم يعترضنا أحد ووصلنا إلى حمص ونزلت من السيارة إلى شرطي درّاج طلبت منه المساعدة فأوصلنا إلى المشفى العسكري.
بعد أن كتبوا إفادتنا واخذوا أسمائنا وأرقامنا العسكرية تركونا لنعود إلى الثكنة فأوصلت جورج إلى الكراج بناءً على طلبه ليعود إلى المعسكر، وانطلقت بالسيارة إلى دمشق، وصلت قبل الفجر ورأتني أمي والدماء تغطي وجهي ورقبتي وملابسي ففقدت وعيها، واستفاقت وأنا أشرح لها ما حدث لي، ودخلتُ الحمام وخرجت لتناول الفطور مع إخوتي ومع كلبي ماكس وهو من فصيلة الكلب الذئب وعدت للنوم ونهضت في الساعة الثانية ظهراً فتناولت طعام الغذاء ومباشرة إلى كازية ديوانا ثم إلى اوتوستراد حلب والوجهة حمص ووصلت في أول الليل ودخلت بالسيارة ووضعتها في نفس المكان الذي أخذتها منه وتركت مفاتيحها بداخلها، وفي صباح اليوم التالي وبعد تحية العلم، استقبلني قائد المعسكر بالحفاوة المعروفة وخلفه جماعة الانضباط المستنفرين للإطباق على الذي روَّع المدرسة بمن فيها وسرق سيارة لا يجرؤ أحداً على الاقتراب منها، وقال لي انت خالفت الأوامر، وهربت من المعسكر بعد سرقة سيارة مدنية، فقلت له هذه السيارة نعرف صاحبها...فقال لي: هذا لا يبرر لك سرقتها، الاعمال الحسنة هنا نكافئ عليها والاعمال السيئة نعاقب عليها، فبالنسبة لصديقك محمد فلقد استطاع الأطباء إنقاذه، والفضل لك بالطبع وستأخذ مكافأة، وتدخلك في ما لا يعنيك وسرقتك للسيارة وهروبك من المعسكر...أخطاء ستعاقب عليها...ونحن نخيرك ما بين أن تكافأ أولاً أو أن تعاقب أولاً...فقلت: إذا كان الخيار لي يا سيدي فأتمنى أن أعرف مكافأتي أولاً ثم العقوبة... فقال لي: وفي هذه لا يمكن إجابة طلبك لأنك خالفت النظام والمسيء في الجيش يفقد امتيازاته... سنخبرك عن العقوبة وهي 16 يوم سجن في القطعة... سلم نفسك إلى جماعة الانضباط لتعود لياقتك إلى الحالة السابقة لهروبك من المعسكر ثم اذهب لوحدك إلى السجن...وذهبت... ليتفنن جماعة الانضباط في تهذيبي وتعليمي الأدب، وبعد حفلة غير مسبوقة استعدت لياقتي... ثم ذهبت لوحدي إلى السجن، وكنت وحيداً في السجن فلم يكن هناك نزلاء غيري، وكانت تصلني عبر النافذة المستديرة في أعلى السجن مقذوفات وصواريخ جوية بحيث:
مرحباً أبو بشار أنا أكثم من جماعة عبد الله الكبيسي...هذا الصاروخ يحوي نص فروجة ورغيفين خبز وتفاحتين والصاروخ الذي بعده يحوي بقيناية...وكان أكثم يفشل في ادخال الصاروخ من النافذة المستديرة العالية إلا بعد عشرون محاولة وبالنتيجة وصلت الفروجة مشوهة والتفاحتان ممعوستان ومهروستان على الآخر... والبقيناية شبه فارغة ولا تحوي إلا القليل من الماء... وتتكرر المحاولات في كل يوم حتى صار عندي فائض، وانتهى رمضان واخبرني الشباب العاملين في الذاتية انه سيطلق سراحي وأغادر مع المغادرين في عطلة العيد وحدث ذلك وكنت قد أمضيت ثمانية أيام في السجن، ولم أهتم بالمكافأة لأنها ليست في حيّز اهتمام من وعدني بها، وشكرت الله على نعمه، ونزلنا انا وجورج في حمص لنرى ما حدث لمحمد.
"هامش" استشهد جورج حداد بعد ثلاثة أشهر من أحداث هذه القصة في لبنان بعد أن تم فرزه الى هناك، رحمه الله فلقد كان مثالاً في الصداقة والتضحية والنزاهة والشجاعة والصدق وهذه أفضل الخصائص البشرية التي أصبحت تخضع لقانون الندرة في هذه الأزمنة العجاف.
ودخلنا بصعوبة ومعنا الموز والتفاح... ورأينا حشد أمام القاووش فتبين أن نصف قرية محمد قد جاؤوا لعيادته...ودخلنا أنا وجورج وقبلناه في جبهته وحمدنا الله على سلامته، وقدمنا هو لأهله وقال لأمه...عندما كنت مرمي على الدرج أسبح بدمي وقد هرب الجميع إلى الملجأ وتركوني في العتم، جاء صديقي هذا الأرمني آرا سوفاليان ومعه جورج حداد هذا وحملوني ونقلوني إلى هنا.
وبكى محمد بحرقة فقلت له: عيب على الرجل ان يبكي يا محمد فالحمد لله أهلك أمامك والخطر قد زال ولا يوجد ألم الآن والحياة طويلة وجميلة... فقال لي: أنا لا أبكي من الألم بل أبكي من شيء آخر... فقلت له: وما هو؟ قال: هل تعلم أن جدي قتل من الأرمن مئة إنسان قلت: لا والله لا أعلم...فقال وهل تعلم أن أخاه أحرق العشرات من الأسرى الأرمن وايديهم مقيدة خلف ظهورهم؟ قلت: وهذه لا أعرف عنها شيئاً... فأضاف: وهل تعلم ان جدتي كانت تدور بين سوقيات الأرمن وهي تحمل جردل ماء وتنادي شربة الماء مقابل ليرة ذهبية...قلت له: هذه قرأتها في الكتب ولم أكن أعرف أنهم كانوا يقصدون جدتك بالذات...فقال لي: هذا هو سبب بكائي يا أبو بشار فدعني أبكي... دعني أبكي حتى لا أموت قهراً... وظل كل شيء على حاله فلم انجح في قلب الكره إلى محبة... وأدركت أننا أعداء ولكن أصدقاء في الإنسانية.
الحادثة الثانية:
على الطريق الساحلي ما بين ملقا ونويفا أندالوسيا في اسبانيا والحادثة تعود لصيف العام 1985 وكنت أقود سيارة سيات مستأجرة عائداً من ملقا بعد انجاز أوراق تتعلق بمعاملة تمديد الإقامة، لمحت ثلاثة أشباح على جانب الطريق أحدهم يلوّح بقطعة قماش وتوقفت بعد الأشباح بكثير بسبب السرعة، فركضت باتجاه السيارة ثلاثة فتيات في حالة مذرية وعلى ملابسهن ووجوههن آثار اعتداء طلبوا أن أقلّهم إلى أقرب مخفر للشرطة وطلبت منهم الصعود، وتبين أنهن فتاة برتغالية وصلت إلى اسبانيا لتمضية إجازة وبرفقتها ضيفتان لمحت على صدر احادهنّ قلادة نجمة داوود السداسية فدار في خلدي ما دار، وطلبت مني البرتغالية أن أعرف عن نفسي فقلت اسمي آرا سوفاليان وأنا من سوريا وعرَّفَت البرتغالية عن نفسها وعرفت عن ضيفتيها فتبين أنهن اسرائيلييتان من فلسطين المحتلة، قالت لي الكبرى: الآن وبعد أن عرفت أننا من إسرائيل وأنت عربي فهل ستستمر في مساعدتنا أم أنك ستطلب منا مغادرة السيارة، وكان جوابي هو الانطلاق بالسيارة ومن فيها، وسمعت القصة من البرتغالية التي قالت أنها وصديقتيها كنّ في سيارتها وتعرضن لخدعة حيث تولى شابان سرقة السيارة وكافة الأغراض التي كانت بداخلها، ويبدوا من الكدمات والرضوض والسحجات الموجودة على الوجوه والأيدي، أن الفتيات الثلاثة تعرضن لما تعرضن له، وسألتني البرتغالية عن سبب زيارتي لأسبانيا فقلت لها جئت بهدف العمل فسألتني وماذا تعمل فقلت لها عازف اورغ في اوركيسترا غربية، فقالت: أين تعمل ؟ قلت: في الأوازيس كلوب في ماربييا.
كانت أقرب نقطة نجدة تقع على بعد عشرة دقائق وهي نقطة مشتركة وفيها ثلاثة سيارات واحدة للشرطة والثانية لشرطة المرور والثالثة سيارة اسعاف ، وتولت البرتغالية باستخدام اللغة الاسبانية شرح الحادثة للشرطة وكانوا يكتبون الضبط ووصلت إلى النهاية فأشارت لي وفهمت من إشارتها أنها وصلت إلى نهاية القصة، وطلب الضابط جواز سفري فاصبت بالرعب وتوقعت أن تكون هناك جريمة أو مخدرات وخفت أن يتم توقيفي بحسب ما جرت عليه العادة عندنا وتذكرت قصة الحدوة والحصان والجمل، وطُلب مني تدوين عنوان إقامتي الأخير فخفت أكثر، وهدأ روعي عندما مد الضابط يده وصافحني وشكرني وأعطاني جواز سفري ومضيت في سبيلي...ووصلت إلى مكان إقامتي واستقبلني العربان من جماعتي وبدأ مسلسل التقريع والملامة وتفتقت العبقريات عن ما يلي:
1 ـ هذا كمين نصبه لك الموساد لإستدراجك وإغوائك وهذا أول الرقص والقادم أعظم2 ـ لا بد أنه تم تصويرك وتم كتابة تقرير ضدك هو في طريقه الآن إلى سفارتنا في مدريد ثم إلى دمشق حيث لن ينفعك أحد بعد العودة، لتمضي ما تبقى من عمرك في المنفردة بتهمة التعامل مع اسرائيل 3 ـ ستجد جماعة الشيخ حسن في استقبالك في مطار دمشق الدولي وعند ذلك لن ينفعك الندم... وبدأ التقريع بعبارة: أصلحك الله كيف توقع نفسك في ورطة كهذه؟؟؟ وكيف تسلم نفسك هكذا وببساطة؟؟؟ كان عليك الاستمرار وعدم التوقف... لا بد أنك ضعفت أمام رؤية حواء وزميلاتها؟؟؟ قلت: لقد غلبتني الإنسانية، فقالوا لي مرحباً إنسانية!!!... فنهضت وأنا غاضب وصرخت لعن الله والدك على والده على والده قلم قائم... وبالطبع لم أعد أرى اللبنات كما يقول غوار الطوشة في إحدى أعماله الطائشة، وبعد ثلاثة أيام تلقيت اتصال من عاملة الاستقبال ونزلت لملاقاة شاب مغربي قال لي انه موفد من قبل عمدة بلدية ماربييا لتسليمي جائزة تقدير ورسالة شكر بالنيابة عن الحكومة الاسبانية للجهود التي بذلتها في مساعدة الغير، وبطاقة اشتراك في رحلة سياحية بحرية لمدة ثلاثة أيام، وشكرت الرجل وسألته عن عمله فقال أنا أعمل في مبنى البلدية كمدرس لغة عربية ومدرب للأدلاء السياحيين الأسبان، فسألته: وعلى أي شيء تدربهم فقال: أدربهم على التعامل مع السياح العرب، فقلت له: وبأي لغة تدربهم؟...فقال: بالاسبانية و بالعربية... قلت له وهل العربية هي تلك اللغة التي حدثتني بها في بداية اللقاء فقال: نعم... فقلت له وهل حضرتك متأكد بأن هذه اللغة التي حدثتني بها في بداية اللقاء هي لغة عربية؟ قال نعم...قلت له: ولشدة إعجابي بهذه اللغة طلبت منك أن نتحوّل كلانا إلى الفرنسية، قال: ربما لأن اسمك يدل على انك لست عربياً... قلت: نعم نعم فوالديَّ من الأمازيغ... فضحك الرجل ربما بطريقة لم يفعلها من قبل وقال لي: في علبة الشوكولا تجد بطاقتي الرحلة البحرية إلى جزيرة بانوس...يمكنك اصطحاب صديقتك معك فهناك بطاقتين... قلت له: أشكرك وأرجو من حضرتك إبلاغ سعادة العمدة خالص شكري وتقديري وامتناني... ولم أذهب إلى الرحلة البحرية، لإستحالة حصولي على إجازة لمدة ثلاثة أيام في حمى الموسم تحت طائلة إلغاء عقد العمل خاصتي... وعلى عكس ما توقع رفاقي العربان فإنه لم يتصل بي أحد من الموساد ولا الكي جي بي ولا السي آي إي ولا الـ سي إن إن ولا جيمس بوند 007 ولا المخابرات الملكية البريطانية التي يعود لها، والتي هي في مجملها عائدة لجلالة جلالتها و ماسات تاج جلالتها، واليهود أبرع من حكَّ الماس وحكَّ معه العالم أجمع.
وفي مطار دمشق الدولي فُرجت وانزاح الكابوس عن صدري، فلقد عبرت إلى الداخل، وقمزت مع حقائبي بعد التفييش، ولم يسأل عني أحد، وانقضت المسألة بنبش أغراضي كلها وتركها ملقية على الأرض لأعيد ترتيبها بنفسي، لأني لم أكن فطن كفاية كغيري.
الحادثة الثالثة:
لأن قصة محمد العفريني والشوفاج والمشفى العسكري في حمص، وجدّ محمد العفريني الذي قتل مئة أرمني وشقيق جد محمد العفريني الذي أحرق عشرات الأسرى من الأرمن الكفّار وأيديهم مقيدة خلف ظهورهم وجدّة محمد العفريني التي كانت تحمل جردل ماء وتدور بين سوقيات الأرمن في العام 1915 تبيع شربة الماء للكفّار بليرة من الذهب، ماثلة على الدوام امام عينيَّ وفي مخيلتي وضميري، ولأن عمة والد أبي وتدعى لورفا كانت في السوقية التي تحوي شقيقها وزوجته وأولاده الخمسة وهم ثلاثة أطفال ذكور أسماؤهم على التوالي بوغوص وجدّي آرا وهامبارتسوم وطفلتين هم نارتوهي وبيرلانتيك، كانوا جميعاً في دائرة الموت، ولأن العمة لورفا رفضت تودد رئيس جماعة من التشاتا لها، تم تقييدها وربطها بأوتاد على الأرض كما يقيد الحيوان ولكن على شكل حرف X وتم إغتصابها من قبل 12 شخص على التوالي "اورطه أي جماعة رئيسهم تركي والبقية أكراد " وكانت عذراء وكافرة مثل جماعتها الكفّار ولم تنتقل النجاسة الى الفاعلين الأنقياء الأطهار الأخيار ولم يتأثر طهرهم ولا ايمانهم بهذه الفعلة التي يأنف عن الاتيان بها أحقر مخلوقات الأرض... وتولى آخر مغتصب أي الرقم 12 وضع خنجر في فرجها وسار به حتى حلقها وتركت في بركة من الدماء فيما يدعى بدائرة الموت... ولأن ابنتا أخيها نارتوهي وبيرلانتيك تم خطفهم من قبل أكراد آخرين وضاعوا منا إلى الأبد ولأن شقيق لورفا أو والد آرا الكبير والمدعو آبراهام الجد الأكبر لعائلتنا، تم قتله وتم قتل زوجته معه من قبل قطاع الطرق من الأكراد أيضاً، لم أتمكن من استيعاب كردي واحد طيلة عمري، ولأن كل شيء قد ظلَّ على حاله ولم انجح في قلب الكره إلى محبة...وخاصة فيما يتعلق بالأكراد، فلقد قررت اجتنابهم في كل شيء إلى أن وقع ما وقع لي مع محمد العفريني، وتمنيت أن يكون ما وقع لي هو مسك الختام، الى أن وصلتني رسالة من شاب محترم على الانترنيت واسمه حسين جمو يشيد بمقالاتي وعرفت فيما بعد أنه كردي وارسل لي صورة ابنه وكنت اتحاشاه وابتعد فيلحّ ويقترب إلى أن أجبرني على مكاشفته بقصة عائلتي وقصة العمة لورفا وبقصة محمد العفريني من لحظة تسليم المهمات إلى لحظة وصولنا إلى المشفى العسكري في حمص في شتاء العام 1982... ثم ارسلت له فيما بعد الرسالة الآتية:
ترددت في أن أرسل لك رسالة تحوي سؤال محرج تراجعت عن ارسالها لك عدة مرات، فهل ستجيبني بصراحة على السؤال المتضمن فيها إن أرسلتها لك؟ ...فوصلني الرد أن نعم فأرسلت رسالتي التي تحوي السؤال الآتي:
هل ستجد العذر لي إن أخبرتك بأنني لم أتمكن من نسيان أو مسامحة الأكراد على ما فعلوه بشعبي؟ ستجد في الأتاش قطعة موسيقية فيها حزن وفاجعة هي من ألحاني ومن عزفي ... أسمها لورفا... تيمناً بلورفا تلك العمة الشهيدة التي تعرف قصتها...فوصلني منه هذا الرد الراقي الذي مسح فيه كل تعبي ولكنه لم ينجح في مسح ذاكرتي المتعلقة بمعاملة الأكراد لشعبي ولم ينجح إلا في ترسيخ المقولة الآتية: أن هناك أعداء ولكن أصدقاء في الإنسانية، أما رده فكان ما يلي:
أخي آرا , بالتأكيد أجد لك ولأبناء جنسك من الأرمن كل العذر في عدم مساحة الكتائب الحميدية من الأكراد المتواطئين مع الخلافة العثمانية المتمثلة بالسلطان عبد الحميد وبجماعة الاتحاديين من بعده , لكن تذكر دائما أن هذا يشمل الأكراد المذنبين فقط.
أنا أعرف ما جرى جيدا وقد بدأت بالتقصّي منذ فترة طويلة أي منذ مرحلة الشباب المبكر, فلقد سألت وبحثت وعرفت كل شيء وكل ما حدث... ولو جاء يوم أعلن الأكراد فيه دولة مفترضة في تركيا فإن على هذه الدولة وعليهم بالذات واجب الاعتذار الفوري من الأرمن.
مع إبادة مليون ونصف أرمني أصبحت لدى الإنسانية مليون ونصف رواية ملحمية مؤلمة تسبب الأكراد في خلق معظمها.
الجيد يا سيد آرا أن مجموعة كبيرة جداً من الأكراد باتت تعترف بذلك اليوم, أي بدورهم في المذابح , ثم انا أيضا مثلك فلعائلتي قصة مؤلمة مماثلة, فلقد هرب جد والدي من المذابح ضد الايزيديين بين 1844 و1860 , ونحن ننحدر من أورفا قرب ويران شهر، ونشأت الآن قريتان في ضواحي حلب مجموع سكانهما حوالى الـ 15 ألفا تعود أصول معظمهم إلى الفارين في تلك الفترة وفي الفترة اللاحقة الحديثة نسبياً، عندما ضرب أتاتورك ثورة الإقطاعي شيخ سعيد... و القريتان هما (تل حاصل في جنوب حلب, وكفر صغير في شمال حلب)، بالتأكيد لن يخفى عليك من لهجتي وطريقتي الكتابية أنني إنسان يساري.
" هامش: ... تم حذف العبارات المتعلقة باليسار لأني لم أفلح مرة في عمري أن أتناول طعامي بيدي اليسار، وتم تصويب اللغة العربية المستخدمة في الرسالة وتبني ما يخدم المقالة فقط "
يجب أن تكون القضية الأرمنية على رأس أولويات الأكراد لنعوض عما اقترفته أيدينا في فترة سابقة وسوداء، وأنا أقوم بما أراه مهمة ليست فقط إنسانية بل أيضا نوعا من التوبة كما يفعل الشيعة في عاشوراء، ليتني أعرف العزف, لكنت عزفت ليريفان.
أنوه فقط يا سيد آرا إلى أن رأيي الشخصي لا يطابق رأيي في المقالات التي اكتبها والتي ألتزم فيها بالموضوعية وعرض وجهات النظر المختلفة حتى تلك التي تخالف وجهة نظري، أما وجهة نظري الحقيقية فتتلخص بأننا كأكراد، فإن أيدينا ملطخة بدماء الأرمن حتى الكتفين وكنا ألعوبة بيد الأتراك الذين أخذوا منا ما سرقناه من الأرمن ونكّلوا بنا واغتصبوا نسائنا وأحرقوا قرانا وشتتونا في المهاجر، وهربنا هائمين على وجوهنا إلى كل انحاء العالم والى سوريا والعراق ويفترش أبناؤنا الأرصفة خلف صناديق البويا بدون مدرسة ولا علم ولا مال ولا مهنة ولا هوية ولا أمل وهذا بلا شك عقوبة سماوية عادلة... فلقد أجرمنا بحق الشعب الأرمني وأبدناه، وبوحشية منقطعة النظير، واليوم دارت الدوائر علينا فكل شيء في هذه الدنيا ـ دين ووفاء.
عندما أجريت ذلك التحقيق الميداني حول الأرمن , تعرضت لاهانة لا يمكن أن يتحملها نبي من أنبياء الله، لقد طردني وأهانني صاحب مكتبة كيليكيا في حلب بطريقة بشعة جدا, حاولت أن أهدئ من روعه ليكف عن اهانتي أمام الزبائن الذين يستمعون إليه وهو يطردني, وقلت له إنني أريد مساعدته في التحقيق الميداني الذي اشتغل عليه والمتعلق بالأرمن وكان البحث وقتها في بدايته, فكان من الرجل ما كان من المعاملة القاسية الغير مبررة.
"هامش"
أنا لا أعرف مكتبة كيليكيا في حلب ولا أعرف صاحبها وأعتقد أن هناك سوء تفاهم حدث بين الطرفين يعود لجهل الأرمني باللغة العربية، فلقد ظنَّ الأرمني وهو صاحب المكتبة أن حسين جمو يريد جرَّه الى حديث سياسي يفضي الى كمين يوقعه بموجبه مع السلطة، وذلك أدى الى ضياع ملكة التفاهم، ورفض صاحب المكتبة الحديث والمتحدث وأصرّ على طرد حسين جمو خارج المكتبة وإهانته أمام الزبائن، وبالطبع لا يمكننا الوصول الى الأخماس التي ضربها صاحب مكتبة كيليكيا بالأسداس وقتذاك لأنها تتعلق بصاحب مكتبة كيليكيا دون غيره لأنها تعتبر ملكية فكرية خاصة.
ويتابع حسين جمو: لكني لم أتأثر بذلك الموقف ولم أقم بتوجيه ما سأكتبه ضد الأرمن، على الرغم من أنه كان بإمكاني نشر أي شيء سلبي في جريدة المستقبل حينها حيث كانت علاقات الطاشناق متوترة للغاية مع تيار المستقبل على خلفية انتخابات المتن الشمالي ولكني لم أفعل.
في كل مرة كنت أفكر بإلغاء فكرة المقال الميداني الذي سيتم نشره على صفحة كاملة في جريدة المستقبل، كنت أتراجع بعد أن أتذكر الإنسان الأرمني الرائع هراتش في حلب وسركيس وهامبار وغابرييل وزيپور وغيرهم من الذين التقيت بهم.
ولم يستطع حسين جمو قلب الكره إلى محبة ولكنه استطاع بإنسانيته الغير مسبوقة وصدقه مع نفسه ومع الآخرين ودفاعه عن الحق أن يجعلني أفكر وأفكر كثيراً فأوصلني بإنسانيته إلى شيء لا أعرفه ويقع في الوسط ما بين الكره والإنسانية، وعلمني الكثير الكثير واستطاع أن يمنحني عنوان لهذه المقالة وهو أعداء ولكن أصدقاء في الإنسانية.
آرا سوفاليان
دمشق في 30 كانون الثاني 2012
arasouvalian@gmail.com