إن من أبرز اللحظات في حياة الأديب والكاتب بشكل عام هي لحظة الكتابة، لحظة التدفق الإبداعي والإيحاء الشعري، لحظة تفريغ المشاعر الجياشة، والخواطر الفياضة، وهذه اللحظات تمر بكل كاتب وبكل أديب مع فارق طفيف في مدى إغراق كل واحد في غمرتها.
هل للكتابة طقوس؟ متى يكتب الكاتب؟ أين وكيف؟ ماذا يلبس وماذا يأكل..؟
إنها أسئلة تبدو خارجة عن فعل الكتابة والنص الإبداعي أو النقدي أو الفلسفي، أسئلة تبدو خارجة عن فعل الكتابة لا معنى لها..؟ إنها أسئلة طُرحت على جمعٍ من المبدعين والكُتَّاب والنقَّاد العرب، وغير العرب، وأجابوا عليها، ولعل هذه الأسئلة تكون فتحاً لملفات حافلة، ولأسرار يطّلع عليها القرَّاء لأول مرة، ولعلنا لن نخطئ إذا أسميناها هوامش الكتابة وعتباتها، على حدٍّ قول الأديب التونسي (كمال الرياحي).
على كلٍّ الكتابة من جهة كونها غاية، فهي جهد متصل للوصول إلى صيغة تحقق الحد الأدنى من التوافق أو الانسجام بين ذات الكاتب المبدع وعالمه، ولكن هل الكتابة جهد متصل فقط..؟

.. ربما.. لا.. ربما الكتابة طقوس أكثر منها إبداع.
الكتابة كسر للمألوف.. للعادة، لأنها تخلق مألوفها من جنسها، فقلق الكتابة وعذاباتها أجمل بكثير مما يُكتب، قهوة الصباح، وشاي الظهيرة، والقطيعة، واعتزال الدنيا ومتاعها، والاستئناس بالوحدة والعزلة، وحلاقة الذقن ونوع العطر، لحظة مخاض من دون شك، وكذلك الغطس في ماء حوض الحمام، فلكل أديب وكاتب وباحث طقس خاص به في ساعة كتابته، وسنطوف معاً على جملة من الطقوس التي تُميِّز كل كاتب عن غيره من الكتَّاب، في عرض أتمنى أن يكون جميلاً، وفي
أسلوب أطمح أن يكون شيقاً.

معنى الطقوس
يشير مفهوم الطقس في المعاجم المتخصصة وغير المتخصصة إلى مجموع الممارسات السرية عند الشعوب تقوم بها الجماعات الدينية، كما يشير إلى الممارسات السرية، أو أي إشارة خاصة يقوم بها أتباع ديانة معينة، كطقوس السلام التي تختلف من ثقافة إلى أخرى.
والكتابة بمعناها المعاصر تشكل قطيعة جذرية مع بعض أنماط الكتابة، أو فنون القول القديمة، كما أن مفهوم الكاتب اليوم قد خضع بدوره لتعديلات معرفية متعددة أبعدته عن متاريس الغيب، وأدخلته إلى دوَّامات الموضوعية، حيث لم يعد الكاتب محاطاً بالأسرار.
يتساءل أستاذ الفلسفة «محمد شويكه»... هل تتمثل طقوس الكتابة في الاستعدادات والممارسات التي تقوم بها الذات الكاتبة قبل مباشرة عملية الكتابة كفعل إنساني، أم تتجلى في طقوس التحريم والتقديس والتدنيس المبنية على التناقض الممنوع ـ المرغوب، المقدَّس ـ المدنس..؟
هل الكاتب يكتب دائماً؟ أم أن الانشغال بالكتابة طقس أقسى من عملية الكتابة ذاتها؟ ما الفرق بين فعل الكتابة وفعل القراءة؟ ألا يكون النص المكتوب بداية لعملية تأليف قد لا تكون بالضرورة مكتوبة؟ إن عملية القراءة فعل نفسي تفاعلي، فالقارئ يؤلف حين يقرأ.
وإن فعل التحضير للكتابة طقس، لأنه يتميز بالثبات، فمهما تغيَّرت الظروف لا بدَّ أن الكاتب يُحضِّر لممارسة هذا الفعل، ولو في أبسط الحيثيات... البحث عن القلم، الورق، تشغيل الحاسوب، تحضير البرنامج المناسب، كل ذلك يعبِّر عن استعداد ملموس وواقعي.

طقوس الكتابة عند الأقدمين
لماذا التراث..؟ من الطبيعي أن نعطي كل شيء حقه، أو على الأقل لا نبخسه، لذلك من الطبيعي أن نهتم بالتراث، لا نلعنه ونحقِّره كما يفعل بعض الذين لا يرون في التراث ما يستحق أقلَّ وقفة تأمل أو نظر. والعودة إلى التراث ليس كما يتوهم هؤلاء الميل إلى التشرنق، أو الانغلاق على الذات، ولا عجزاً عن تجاوز الحاضر، وإنما هي عودة إلى الجذور، وكشف عن المعالم المضيئة في ماضينا.. بل مهما كان الذي تمحور بؤرة العودة إلى التراث حوله، فإنه ينبغي أن تكون تمهيداً للانطلاق والانعتاق، فإن تناولنا الأخطاء والمثالب فلتلافيها، وإن بحثنا عن الجوانب المشرقة، فمن أجل تمثُّلها وتجاوزها إلى ما يفضُلها، والأمة التي تريد النهوض تعود إلى تراثها الفكري وإرثها الحضاري، لتجعل منه أساساً عميقاً قويماً تشيد عليه بنيانها ليدوم أكثر.

يبدو أن أول من تناول مسألة طقوس الكتابة من وجه أو من آخر من النقاد العرب القدامى، «ابن قتيبة» في كتابه (الشعر والشعراء)، و«الجاحظ» في كتابه (البيان والتبيين)، و«ابن رشيق» في (العمدة) في محاسن الشعر وآدابه ونقده، و«ابن خلدون» في (المقدمة)، كل هؤلاء وغيرهم الكثير تحدَّثوا عن طقوس الكتابة، وفي أي وقت يجب أن تكون، فجنحوا كلهم خاصة «ابن قتيبة» إلى أن أفضل أوقات الكتابة (ساعة الفجر)، حيث يكون الذهن أصفى، وحيث تكون القريحة أنقى.
وقد أفرد «ابن رشيق» في كتابه (العمدة) فصلاً للشعراء العرب، الضروب التي بها يُستدعى الشعر، «فكثير عزة» كان يطوف في الرياض المعشبة، و«الفرزدق» كان يركب ناقته، ويطوف منفرداً في شعاب الجبال، ويطوف الأودية، والأماكن الخربة، و«جرير» كان يشعل سراجه ويعتزل، وربما علا السطح وغطى رأسه رغبة في الخلوة، في حين كان «ذو الرمة» يخلو لتذكر الأحباب، و«أبو حيان التوحيدي»، كان معينه على الإبداع ألمه ومعاناته التي سطّرها في مثالب الوزيرين.
طقوس كتابة القصة والرواية والشعر
غالباً ما تكون الكتابة غامضة وبعيدة وربما مبهمة، وغير واضحة المعالم، فقد تبدأ بكلمة أو صوت أو رائحة أو مشهد، ثم تتجمَّع في مخيلة المبدع وفي لحظة ما، وفي وقت معيَّن تخرج معلنة عن نفسها، وهذه اللحظة هي ما تسمى باللحظة الإبداعية.
ومهما اختلفت عادات المبدعين أثناء العمل، فإن أغلبهم يعتبر الإنتاج اليومي المنتظم مسألة مهمة وضرورية، معوِّلين كثيراً على اتباع روتين يومي ثابت ومنتظم، وعلى طريقة (ضع الأسود على الأبيض) بدلاً من نوبات الكتابة الضارية والمتقطعة التي هي مما يُميِّز الشعراء أكثر من الروائيين، ويعتبر الشطر الأول من اليوم هو الوقت المفضَّل للعمل على الرغم من وجود بعض الاستثناءات المتميزة مثل «دوستويفسكي» الذي كان يكتب في الليل دائماً.
يقول (محمد عبد السلام العمري) ـ روائي مصري: «إن الكاتب عندما يكتب لا يكون في ذهنه أو في تصوِّره كل شيء عن عمله، هذا فضلاً عن أنه لا يكتب استناداً إلى نظرية محدَّدة أو إلى طرائق معينة جاهزة، أو صيغ محفوظة سلفاً، أزعم أن لكل عمل طرائقه التي تولد معه، كما أن لكل عمل رؤاه وصيغه، يكتشف الروائي أسلوبه الخاص لعمله الجديد، وطرائقه الخاصة المختلفة من الكتابة أثناء الكتابة».
وقال عن علاقته بشخصياته الروائية: «لا مسافات بيني وبين شخصياتي، إنني أستحضرها كلما انفردت بنفسي لأتأكد ما إذا كانت ما تزال موجودة وما تزال معها، أو أدعوها إلى اجتماع عام تحضره باقي الشخصيات لتساعد على حل مشكلة ما في الرواية».
وذكر القاص (سليمان فياض) في مقالته (تجربتي مع الإبداع) في مجلة (الهلال) نيسان 1993.. اختيار لحظة القصة لكتابة القص أمر يعرفه المبدع ويحدده القاص.. متى؟.. وأين المكان الأثير للكتابة؟، ومما ذكره.. يجب على القاص أن يكون هاوياً للقص، ورتيباً ليُمنح الحرية الخاصة والحرية الشخصية والحرية المطلقة في اختيار التجربة، فالقصة طلقة سريعة التدفق والانطلاق في فجر، وفي ظلام أو في عز النهار، فولادة القصة مثل ولادة القصيدة عند الشعراء، حيث يشبهون القصيدة عندما تأتي فيوضاتها بحادثة الطلق السريع عند المرأة الحامل.
وعندما سُئل الروائي (د. حسن حميد) عن طقوس الكتابة عنده قال: «الكتابة عندي عشيقة تأتي ولا تأتي، تواعد وتخلف، كائن مشتق من القلق، ومشتق من الفوضى، لا مواعيد ولا نظام»، وقال: «كم حاولت الكتابة وأخفقت، وكم تغافلت عنها فجاءتني في أوقات لم أتهيأ لها ولم أستعد، والطقس عندي لا أعرفه لأنني دائم الكتابة، أكتب في الصباح وفي الظهيرة وفي المساء، لا رفيق لي في الكتابة سوى الورق والحبر الأسود والقهوة، جرَّبت أن أكتب وقد خلوت لنفسي مثلما جربت الكتابة والناس من حولي، وفي كلتا الحالتين تظل كتابتي هي كتابتي، فأنا أكتب في أي وقت لأنني لا أبدأ الكتابة إلا عندما يمتلئ رأسي بالفكرة التي أودُّ كتابتها، وغالباً ما تنتهي في عقلي أولاً، أما تحبير المكتوب فهو مجرد عادة أو مجرد إنجاز»، وقال: «وكتابة القصيدة أو القصة أو الزاوية تحتاج مني لنفَسٍ مستمر لإنجازها، في حين أن كتابة الرواية تحتاج مني إلى مجموعة أنفاس قصيرة، كدت أقول تحتاج إلى وثبات عديدة».
وعندما سئل الروائي (نبيل سليمان) عن طقوس الرواية عنده قال: «لعل الأهم هو أن الفكرة الأولى أو الكبرى لا تفتأ تتحول وتتشظى، وقد تنقضها الكتابة جزئياً أو كلياً، مثلما قد تجلو البُهمة ما يمور في النفس، أو قد تزيد المجلو بُهمة، والواضح غموضاً، وقد يبدو أن الشرارة انطفأت، والقدحة تبدَّدت، ولئن كان ذلك فقد يتقيد كل شيء بعد سنة أو بعد عشر، ويتجدد اللقاح والحمل، فإذا أطبق وسواس الرواية عليَّ أنا الإنسي حتى يتلبسني الجني، أبتدئ طقس الولادة بالهجس والأرق ليل نهار».
وقد تبدأ كتابة الرواية دفعة واحدة، وقد تتشكل على هيئة عنوان يعيش مع المبدع كما قال الروائي الجزائري (الطاهر وطار)، وقال: «في روايتي (عرس بغل) عشت في أجواء الرواية لخمس سنوات، ظل الهاجس يعيش معي، وعلى ضوئه أصادق وأخاصم، وأورِّط الناس في إطاره، ولكني بعد ذلك أجلس للتحرير ثلاثة أسابيع، لأكتب كل يوم عشر ساعات، وبنفس واحد، في حين كان يستمر الشحن النفسي والمعنوي للعمل خمس سنوات، وخلال هذه الفترة لا أُدوِّن أية ملاحظات إطلاقاً، وعندما أشرع في الكتابة أضع أولاً المقدمة المنطقية للرواية، فأي عمل ليس له مقدمة منطقية عمل فاشل».
وطقس الكتابة مهم جداً لكتابة القصيدة عند الشاعر (عبد القادر الحصني)، وهو يوازي أهمية القصيدة نفسها عنده، وقال في ذلك:
«يهجع في أعماقي عدد من القصائد.. مكتملة التصورات، ومكتملة التخلف في داخلي ولا تحتاج إلا إلى أن تجد طقوسها التي هي جامعة المناخات التي تحتاج ولادتها في داخلي ليصير الباطن ظاهراً وليصير الأول آخراً، ولينتقل الأمر من كان إلى صار.
وقال: «حين تكتمل القصيدة أشعر بأنها قد انفصلت عني تماماً، وأني صرت واحداً من قرائها، وأشعر بشيء من المرارة والغربة، فهي قد صارت للجميع وأنا واحد منهم». وقال: «والقصيدة تبدأ من شرارة ما... يعترضها الوجدان ويحتضنها، فتبدأ التفاعلات في داخلي إلى أن تصير هاجساً يمتلكني إلى درجة أن كل ما أراه من حولي يلهج بهذا الهاجس ويقوله، إلى أن أصل إلى وقت أشعر معه بأنني ما عدت أستطيع احتمال ما أحمله، فلا بدَّ من أن يتحوَّل الكامن إلى ظاهر مكتوب على الورق تماماً كما تشعر الحامل إزاء حملها، وفي أثناء ذلك الحمل، وفي إبان ذلك المخاض تكون القصيدة قد اقترحت مناخاتها وطقوسها التي ينبغي إعدادها لمجيئها، وقصيدة ما لا يمكن أن تكتب إلا في الشتاء مهما حاولت في غيره من الفصول، لأنَّ المكان جزء من طقس القصيدة، فهذه القصيدة تكتب في حي شعبي، وهذه تكتب في الليل وليس في النهار، وتلك تكتب في مكان عام، وهذه القصيدة أكتبها وأنا في حالة استرخاء، حيث الصمت والهدوء المطبق، وقصيدة أخرى أكتبها وسط ضجيج الناس وأنا متوتر الأعصاب ومستقر المشاعر، وهكذا.. فكل قصيدة تأتي حاملة معها طقوسها التي ترفض أن تحضر ما لم تحضر كل هذه الطقوس شروط لازمة للكتابة، إلا أنها غير كافية، لأن الجزء الأهم من طقوسها هو الشاعر والحالة التي هو عليها».
إنني من عشَّاق دمشق.. لكن أجد نفسي في الطبيعة، فهي حياتي وحياتي هي شعري وكتاباتي، هكذا تقول الشاعرة (فاديا غيبور).. فعالمها هو يوم عطلتها الذي تقضيه في مصياف كل أسبوع لتعود بمجمل كتاباتها إلى دمشق، ففي مصياف تستيقظ على صوت العصافير التي ترقص في نوافذ غرفتها، عند ذلك تنظر إلى السماء وإلى الجبل الأخضر فتملأ رئتيها بعبق الياسمين الندي، وتداعب وجنتيها نسيمات رائعة، فتعب من صفاء الكون، وإذا ما ناداها فنجان قهوتها قرب النافذة.. تبدأ بالكتابة.. فإذا (طرق الشعر باب قلبها ورأسها وأصابعها تنساب عند ذلك قصيدتها دفعة واحدة، تتدفق مثل الينبوع في حالة شعرية حقيقية، تقول الشاعرة.. أحياناً تأتيني حالة الشعر بطريقة غرائبية، الدماغ يملي على الأصابع، لذلك فالشعر هو الشيء الوحيد الذي لا يقبل الكتابة إلا بالقلم.
عندما يكتب الروائي (عبد الكريم ناصيف) فإنه يحتاج إلى ثلاثة أمور (صفاء الذهن، والتركيز الشديد، وهدوء الجو من حوله، فهو لا يستطيع الكتابة في حال الضجيج أو التشويش، فلابد من السكينة التامة لكي يدخل في حالة الإبداع، ومما قاله: «أكتب مع بزوغ الشمس، فكل شيء ساكن وهادئ وذهني يكون في أوج صفائه لم يعكره شيء بعد، كما يكون جسدي بكامل همَّته ونشاطه لم يتعبه شيء بعد، وبعد أن يأخذ الجرعة الضرورية من سماعه لصوت فيروز الذي يمنحه الراحة والسعادة يخلو بنفسه ليركِّز، حيث يُوجِّه ذهنه وخياله إلى بؤرة محددة تعمل ضمن إطارها لا تشرد عنها، وبهذا يكون قد وصل إلى الحالة الإبداعية التي لا يمكنه الكتابة دون بلوغها.. كما قال، وهنا تحيط به شخصيات أعماله الروائية من كل جانب، حيث تعيش همومها ومشكلاتها ثم تعود إليه بوجوهها.. اهتماماتها.. تعيش شروط حياتها ذاتها، ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية»، ضمن هذه الأجواء يكون أديبنا قد التحم في عالم روايته التحاماً شديداً.
نماذج من طقوس الكتاب
الكتابة الأدبية فن من الفنون الجميلة، وهي كسواها من الفنون الأخرى تتلبَّس بطقوس خاصة بها، أو تتميز بطقوس خاصة لها يتَّخذها الكاتب من حيث الزمان والمكان والهيئة والأداة، ويُجمع كثير من الأدباء أن الأوقات كلها صالحة للكتابة الأدبية، ولكن كل ما في الأمر أن الكاتب هو الذي يتَّخذ لنفسه أوقاتاً يعتادها فتغتدي له دأباً لازباً تبعاً لظروفه الخاصة التي تحمله على اختيار وقت بعينه دون غيره.
طقوس تنظيم الوقت
للوقت قيمة عظيمة عند الكتَّاب الأدباء والباحثين، فهو رأسمالهم، كان (صالح مرسي) يجلس إلى طاولة الكتابة ثماني عشرة ساعة متواصلة، فهل يُعقل أن لديه وقت يقضيه في مقهى أو نزهة، وإن كان غيره لا يجلس هذه المدة مثله، إنما ينظِّمون أوقاتهم، فقد عرف عن (ليوتولستوي) أنه كان يؤمن بأن الروتين المنتظم في الكتابة مهم جداً للعمل الروائي، وجاء في كتاب (في تجربة الكتابة) لمؤلفه (س. مارتين) أن (سيمنون).. كان يصحو في السادسة صباحاً، ويحضر لنفسه القهوة، ويأخذ فنجانه يومياً إلى غرفة عمله، حيث الستائر مسدلة لا يرفعها، فهو يحب العمل تحت المصابيح الكهربائية، ويكتب لثلاث ساعات يومياً، وقال (ألبيرتو مورافيا) منذ فترة طويلة جداً وأنا أكتب كل صباح بالطريقة نفسها التي أنام فيها وآكل يومياً، لقد أصبحت الكتابة جزءاً عضوياً في إيقاعي البيولوجي،.. ولهذا عرف «ألبرتو» بانضباطه الصارم. وبالرغم من حركة (أندريه جيد)، (1889 ـ 1939) المستمرة كان يكتب في ساعات محددة وأماكن معينة، وعدداً محدداً من الصفحات كل يوم، وقد ذكر في يومياته برنامجه اليومي وهو.. ثلاث ساعات بيانو، ساعة تصحيح مسودات، ساعة شكسبير، ساعة سانت بوف، هذه وجبتي كل يوم، ثم يذكر أنه يعطي الرواية غالباً ست ساعات، ونصف ساعة أو ساعة ـ تمرين، هذا بالإضافة إلى تأمله للطبيعة والنزهات، فكل أمره منضبطاً وبدقة.
وكان (إسحق أسيموف) أشهر كتَّاب الخيال العلمي يجلس ما لا يقل عن ثماني ساعات يومياً في مكتبه.
طقوس القراءة قبل الكتابة
كثيرٌ هم الكتَّاب الذين يجلسون للكتابة ولا يكتبون حتى يقرؤوا ولو قليلاً، كعادة صارت معهم، والأحرى أن تسمِّي ذلك طقساً خاصاً بهم، (فأندريه جيد) كانت الموسيقا والقراءة النبع الذي ينهل منه عند الحاجة، فالقراءة زاده الحقيقي، وقد بقي ينهل من الكتب حتى آخر يوم في حياته، كما كان يعود لقراءة أعماله المفضلة، ويقرأ كتب الأقدمين، وقد كتب في يومياته بتاريخ 2 كانون الثاني 1922.. أن أجود أيام العمل هي تلك التي أبدؤها بقراءة كتاب قديم. وكان (الرافعي) يقرأ في أي كتاب من كتب أئمة البيان العربي قبل شروعه في الكتابة، ليعيش وقتاً قبل أن يكتب في بيئة عربية فصيحة اللسان، خاصة كتابات «الجاحظ» و«ابن المقفع» أو كتاب «الأغاني»، ولما سأله تلميذه «سعيد العريان» عن ذلك أجابه: نحن يا بني نعيش في جو عامي لا يعرف العربية.. واللسان العربي هنا في هذه الكتب، أنها هي البداية لمن يطلب اللغة في هذا الزمان بعدما فسد لسان الحضر والبادية. وكان (سومرت موم)، (1874 ـ 1965) الكاتب الإنكليزي.. يحبُّ أن يقرأ في كتاب قبل الشروع في الكتابة (فذلك يفيد كثيراً) على حد قوله، كذلك كان (ألدوس هكسلي) يرى أن قراءة كتاب ما لبعض الوقت قبل الشروع في الكتابة تفيد كثيراً، وهي طريقة اتبَّعها كثيرون ممن وجدوا صعوبة في بدء عملية الكتابة، وهؤلاء كانوا بعكس الكثيرين الذين كانوا يبدؤون بالكتابة متى ما أرادوا ذلك، فمثلاً كان (هنري ميللر) قادراً ببساطة على أن يبدأ عملية الكتابة متى ما أراد ذلك.
وكان بعض الكتَّاب يقرؤون أثناء الكتابة، فقد كان (محمد حسنين هيكل) يقرأ همساً ما يكتبه، أما (د. فاروق مواسي) فكان من عادته أن يقرأ كل ما يكتبه بصوت عالٍ، و(دوستويفسكي) كان يقرأ الرواية التي يكتبها بصوت عالٍ حتى يحفظها عن ظهر قلب قبل أن ينتهي من كتابتها.
طقوس استحضار الفكرة
عُرِف عن بعض الكتَّاب أن لهم طقوساً خاصة لاستحضار الفكرة (الشرارة)، فقد كان (زولا) يمضي تسع أو عشر ساعات في اليوم على منضدته، ولكن غالباً ما كانت تمضي الساعات وهو جالس ذقنه فوق كفه ينظر إلى خارج النافذة محاولاً استرجاع بعض المناظر، أو الشخصيات ليسوقها إلى الصفحة، ولكي يتغلب على تلك الاعتراضات كان يعلق أهمية كبيرة على النظام الصارم في العمل في غرفته ومكتبته، فهناك شعار محفور يقول (لا يوم دون عمل خط).
وكان (عباس محمود العقاد) لا يبدأ بالكتابة إلا بعد أن يستوي الموضوع بتمامه، وبعناصره وأركانه في عقله، وكذلك كان (مصطفى صادق الرافعي)، فهو لا يبدأ بالكتابة إلا بعد أن يُعدُّ كل أركان الموضوع الذي يريد كتابته، لكن (أجاثا كريستي) كانت لا تستحضر أفكارها إلا في الحمَّام.
الهدوء والعزلة
العزلة والهدوء أسمى صفات الطقوس الإبداعية، فكما أن أفضل العبادات أن تكون حين يختلي المرء بنفسه ويناجي ربه، بعيداً عن العيون، ونأياً عن الرياء، فإن الكاتب حين يعتزل الناس ويخلو إلى نفسه تبدأ الأفكار تنهال عليه وتنسال بين يديه إذا كان مهيأ لاستقبالها، فينسج من ألفاظ هذه اللغة التي لم يكن يعرف من أمرها قبل أن تقع له شيئاً.
كان (محمود تيمور) يرى أن أحسن الأمكنة للكتابة البيت، و(محمد حسنين هيكل) يقول: «أميل إلى الكتابة في بيتي أو فيما أجد السكينة والهدوء»، وكان (ألبير كامو) يكتب واقفاً بشرط أن تكون أمامه شرفة مفتوحة، وخصص (أسامة أنور عكاشة) بيتاً في الإسكندرية ينعزل فيه شتاءً حيث لا ضجيج ولا زيارات ولا مطالب عائلية، وقال إن تواجده بالقرب من البحر يُهيِّئ له فرصة نفسية للكتابة، لا يُوفِّرها صخب وضجيج القاهرة، ومن عادته أن يختار حجرة بعيدة عن الضوضاء يكون فيها متجدداً، ومن شدة حبه للهدوء والعزلة يمشي على شاطئ البحر منفرداً، ويتميَّز (مصطفى أمين) بالهدوء أثناء كتابته للمقال السياسي، ومن عادته أن يكتب في أي وقت وفي أي مكان بشرط الهدوء، وعُرِف عن (د. زكي نجيب محمود) أنه كان يُفضِّل الكتابة في البيت للهدوء، أما (محمد حسنين هيكل) فقد كانت طريقته في الكتابة أن يكون في عزلة تامة عن الناس، بعد أن يغلق على نفسه مكتبه ويرفع سماعة الهاتف، ويبدو أن الجلوس بجانب النافذة له سحر خاص، فـ (مصطفى صادق الرافعي) كان يكتب بجانب النافذة على الشرفة، ليمر النسيم على صفحة خده.

وتستغرب (أحلام مستغانمي) كيف أن البعض بإمكانهم أن يكتبوا في مقهى أو في قطار دون أي اعتبار لحميمية الكتابة، فالكتابة عندها أن يجلس الكاتب في مكان عالٍ وكأنه يمارس الحب في مكان علني والجميع يتابعونه كما ذكرت في فوضى الحواس، وهي القائلة عن نفسها أيضاً.. أنا امرأة مجنونة، وأزداد جنوناً في حضرة الورق. وكان ( إدوارد خراط) لا يكتب إلا في بيته حيث الهدوء، وهو محاط بالكتب من كل ناحية «كالجاحظ»، فهي كائنات حية بينه وبينها حوار لا ينقطع كما قال، وكبقية الكتَّاب الذين لا يكتبون إلا في البيت فالهدوء متوفر، كان (إحسان عبد القدوس) يكتب داخل مكتبه في بيته، وكذلك (د. بنت الشاطئ) و(د. لويس عوض) و(خيري الذهبي) الذي يسعى دائماً للخلوة الكاملة أثناء الكتابة، وقال (عبد الكريم ناصيف) أنه لا يستطيع الكتابة إلا في الهدوء والسكينة التامة، خاصة مع بزوغ الشمس حيث كل شيء ساكن وهادئ، والذهن يكون في أوج صفائه، لم يعكره شيء بعد، كما يكون الجسد بكامل همته ونشاطه لم يتعبه شيء بعد، (ونبيل سليمان) يكتب يومياً عشر ساعات في بيته الريفي الذي يوفر له الصمت المطبق والطبيعة الفاتنة والعزلة التامة، فلا هاتف ولا زيارات لعدة أيام، وإذا داهمت الفكرة (ساجدة الموسوي) فإنها لا تكتبها إلا في بيتها الهادئ، حيث سكون الليل، فهذا الجو يعطيها مدداً أوسع للقصيدة لتأخذ أبعادها الحقيقية، وقالت في إحدى لقاءاتها: أن اقتحام خلوتها أثناء الكتابة يستفزُّها، والمقاطعة بأشكالها تثيرها، فهي تحب الوحدة في الكتابة.
وعُرِف عن (عباس محمود العقاد) أنه لا يكتب إلا منفرداً لا يعكر صفو طقسه أحد، وكان (محمد عفيفي) لا يستطيع أن يكتب كلمة واحدة في مقهى عام بسبب الضجيج، وغطَّى (مارسيل بروست)، (1871 ـ 1910) جدران غرفته بالفلين ليعزلها عن الضجيج، وكان يرى أن المؤلَّفات الحقة لا تُولد إلا في الظلمة والسكون والهدوء بعيداً عن ضوء النهار وضجيجه، وأكدَّ أن على كل كاتب أن يَعبُر من حياة المجتمع إلى حياة الوحدة، وقد أنجز الجزء الأكبر من روايته (البحث عن الزمن المفقود) في غرفته المعزولة بالفلين والمسدلة الستائر، وهو محاط بالموقد وأكوام الدفاتر، وبين أدويته، حتى (همنغواي) هجر مكتبه ليكتب في البرج الأبيض المطل على العاصمة الكوبية هافانا، مثل (ميخائيل نعيمة والشخروب)، حيث كانا يجلسان في أعلى بسكنتا في لبنان ويكتبان، وكان «همنغواي» يبدأ بالكتابة بعد الفجر، حيث يراه أنه أفضل وقت للشروع في الكتابة، و(د. حسن حميد) الذي يكتب في كل الأوقات إنما يفضل الكتابة صباحاً يومياً ولمدة ساعة ونصف.

الضجيج
كتب (محمد عفيفي) في مجلة الدوحة 1979 مقالة بعنوان (هل تحب الشيشة) أكَّدَ فيها أن الكاتب لا يستطيع أن يكتب كلمة واحدة في مقهى عام، وذلك بسبب الضجيج الذي ينتج عن الحركة والأصوات، خاصة ضجيج الشيشة، وكان بعكسه تماماً (صدوق نور الدين) الذي ذكر في دراسة نشرها بعنوان (طقوس القراءة عندي أقوى من الكتابة) أكتب حيثما أتيحت لي الظروف، ولئن كان الأغلب تحقق فعل الكتابة داخل فضاء المقاهي على الرغم مما فيها من لغط وضجيج، وقد كتبت كتابي النقدي الأول الذي أصدرته عام 1984 داخل فضاء المقاهي.

وكان بعض الكتَّاب يكتبون في أي وقت ومكان مثل (أحمد بهاء الدين)، وبعضهم لا يستطيع الكتابة إلا في الضجيج مثل (رامبو) الذي لم يستطع الكتابة إلا في القطارات السريعة، وكان (روبير ساباتيه) الشاعر يكتب في أي مكان وفي أي وقت، عند الصباح وفي المقهى وفي لحظة انفراد، في الميترو، يكفي أن يكون معه ورقة ليكتب، وكان (نتالي ساروت) الفرنسي يذهب كل يوم في باريس إلى حانته المفضلة، ويكتب فيها مفضلاً وجود الناس حوله على الوحدة، وكتب (إبراهيم أصلان) معظم أجزاء روايته (مالك الحزين) في أحد المقاهي في قمة الضجيج، حيث يتوحَّد بالعمل وشخوصه، وقال: خلال الكتابة أشعر دائماً بحالة من التهيج، ترتفع درجة حرارتي وأنقلب كائناً عصبياً وتداهمني رائحة دخان السجائر حتى لو لم يكن في يدي سيجارة.
وعُرِف عن (توفيق دياب) الكاتب المسرحي أنه كان يكتب وكأنه في مشهد مسرحي، لدرجة أن أمير الشعراء «أحمد شوقي» كان يستمتع بذلك المشهد، وكأنه يطالع مسرحية فعلية، حتى إنه ليقول لأصحابه هيا بنا نذهب لنتفرج على «توفيق دياب» وهو يكتب، وكان الشاعر والكاتب الساخر (كامل الشناوي) يكتب وهو يردد بصوت مسموع ما يكتبه، وقد يفتح المذياع ولا يعوقه ذلك عن المضي في الكتابة، وإذا أحسَّ بالهدوء من حوله اصطنع الثرثرة والضجيج وسأل: لماذا أنتم ساكتون؟ كما كان من عادته ممارسة أشياء عديدة في وقت واحد، مثل الكتابة والرد على الهاتف والاستماع إلى المتحدثين والرد عليهم والتفكير في مطلع قصيدة يعجزه.