رسائل الطاحونة
(الرسالة الثامنة )
Lettres de mon moulinAlphonse Daudet
المنارة التي ضرّجتها الدماء
كتبها: ألفونس دوديه
عربها: فيصل الملوحي
صديقي الحبيب
أترغب أن أقصّ عليك ما أوحيت إليّ ليلتي الأخيرة في طاحونتي؟!
تلك كانت ليلة أرّقتني، لم أذق فيها طعم النوم. فقد صبّت فيها ريح الشمال جام غضبها، وأرعبتنا بعويلها وزمجراتها، فكأنها طائرة تكسّر جناحاها في جو السماء فأخذت تهوي إلى الأرض، أوسفينة في عرض البحر شقت أصوات محركاتها عنان السماء. فطيّرت في الفضاء الفسيح قطع الآجرّ من سطوح الطواحين، ولم تسلم من أذاها طاحونة واحدة، واقتلعت أشجارالصنوبر في التلال البعيدة وقذفت بها إلى مكان سحيق-أظنّ أنّه قاع البحر-.
كانت تلك الليلة أشبه بليال أخرى أرّقتني قبل ثلاثة أعوام، حين كنت في ( منارة الدمويين)، فاسمع مني حديثها:
هناك على شاطئ كورسيكة في مدخل خليج أجاكسيو وجدت ركناً هادئاً يصلح للأحلام والانعزال!! لا ترى له هنا مثيلا.
تخيل جزيرة بلون الدم الذي يوحي بالشر، منارتها في صوب، وبرج مراقبتها الجنويّ( نسبة إلى مدينة جنوة) القديم في صوب آخر، عاش فيها نسر، و بقي في قاعها على حافّة الماء مايدلّك على محجر صحي قديم نبتت فيه الأعشاب، تليهأخاديد وأدغالوصخور ضخمة وعنزات برية ترعى، وأحصنة كورسيكية تتواثب مع الريح، وفي السماء حلقة تشكلها طيور البحر، وبيت المنارة بمنصته البيضاء، حيث يجوب الحراس جيئة وذهابا، وباب سندسي وبُريج حديدي، يعلوههما قنديل كبيريتوهج تحت أشعّة الشمس، ويضيء حتى في وضح النهار...تلك جزيرة الدمويين ( الجزيرة الصخرية التي تربعت في مدخل خليج كورسيكة ) كما حلمت بها تلك الليلة وأنا أسمع حفيف أشجار الصنوبر.
قبل أن يكون لي طاحونة كنت آوي إلى هذه الجزيرة الساحرة كلما أحسست بالحاجة إلى الوحدة وإلى ملء صدري بالهواء الطلق.
أصغ إليّ، وتأمّل ما كنت أفعل. حين كان نسيم الشمال يهب، كنت آوي إلى صخرتين تتدفق المياه قربهما وترتادها نوارس البحر والشحارير والسنونو، وأظل جلّ النهار في سكينة وخدر ولذة طاغية وأنا أتأمل اليمّ. كلكم جربتم هذه النشوة الروحية التي لايمكن أن نحلم بلذة أروع منها!! تنسى نفسك، وتحلّق في السماء، لاتلوي على شيء. هناك حيث ترى طيوراً تعوم على الماء، وغباراً كثيفاً يتراقص بين موجتين مع أشعةالشمس، ودخاناً أبيض تنفثه سفينة تتوارى عن الأنظار، وصائد مرجان في شراع أحمر،ولآلئ في الماء، ونفثة من الضباب، كل ذلك غمرته السعادة، إلاك، حرمت منها، أيها المسكين!! آه، ما كان أروعها!! ساعات وساعات كنت أقضيها ناعم البال بين النوم واليقظة.
فإذا اشتدّت الريح وطغى الماء كنت آوي إلى فناء ما تبقّى من المحجرالصحي الكئيب المفعم برائحةندى الجبل والشيح البري المسكر، وأسمع بين حين وحين طرقات على الباب، أونأمة في العشب، فأعلم أن عنزة جاءت ترعى في منجاة من الريح، حتى إذا رأتني تسمّرت أمامي وشمخت بقرنيها ورمقتني بنظرات بريئة، وبعثت في نفسي حيوية وعنفوانا.
ذات يوم، في الساعة الخامسة جاءتني دعوة الحراس إلى العشاء.فصعدت عبرالغابة المطلة على البحر أتسلّق المرتفع، وتوجّهت سعيداً إلى المنارة، وكنت في كل خطوة أخطوها أنظر إلى هذا الأفق العظيم من الماء والنورالذي كان يتّسع كلما دنَوْت.
ما كان أروع المنظر في العلو! لم أنس منظر قاعة الطعام البهية ببلاطها العريض الملبّس بالبلوط، يتوسطها حساء السمك المتبل، وبابها المفتوح على مصراعيه فتتأملعبر شرفتها الناصعة لوحة الغروب في الأفق.
وجدت الحراس ينتظرونني لأشاركهم الطعام. كانوا ثلاثة ملتحين: مرسيلياً وكورسيين، بأجسام هزيلة، ووجوه مشققة لوّحتها الشمس،ومعاطف منسوجة من شعر الماعز، وسيماء تخدعك فتظنهم أجلافا، لكن مخبرهم يقول لك: هم رقيقوالحاشية أهل مودة وعشرة طيبة.
لو اطّلعت على وتيرة حياة أولئك القوم لوجدت التباين بين العرقين. فالمرسيلي جادّ نشيط دائب العمل لايفتر، يتنقل في الجزيرة من الصباح إلى المساء بين زرع وصيد والتقاط أحجار للتسلية واللعب، يترقب في الغابة عنزة عابرة ليحلبها، ولا يمر يوم بدون أن يصنع مرقة الثوم بالزيت أو حساء السمك المتبل.
أما الكورسيان فلا يشغلهما شيء خارج أوقات العمل، فهم يريان أنهما موظفان يمضيان الوقت في الطبخ والكنس والتنظيف أو في الألعاب التي لا خاتمة لها، ولا يتوقّفان إلا لإعادة إشعال غليونيهما أو تقطيع أوراق التبغ الخضراء...
أما فيماعداهذا فالثلاثة:المرسيلي والكورسيكيان،لايختلف أحدهم عن صاحبه،فهم دراويش طيبون،ليّنو المعشر،لطفاء مع الضيف، يحرصون أن يشعروه بأنه إنسان متميز كائناً من كان.
أفلا تجد متعتك في أن تأويَ إلى هذه المنارة؟!
لا أخفيك القول: كان أصحابنا يملّون في الأيام الطويلة التي كانوا يقضونها في المنارة، لكن السعادة كانت تغمرهم حين كانت إجازتهم تحين ليقضوها في البر، ما أروعها!! تلك نعمة كانوا يحظّوْن بها في الفصول الجميلة: فإذا قضَوْا ثلاثين يوماً في المنارة، حقّ لهم عشرة أيام في البر،. هذاهوالنظام. أمّا إذا اكفهر الجوّ شتاءً وعصفت الرياح وأزبد البحروطغت أمواجه ، اضطرب نظام حياتهم، وتسمّر الحرّاس في أماكنهم لايبرحونها شهرين متتابعين أو ثلاثة أشهر،في ظروف قاسية جدا.
اسمع سيدي–هكذا بدأ الشيخ حكايته ونحن نتناول طعام العَشاء– ما حلّ بي قبل خمسة أعوام في مساء شتويّ مثل هذا، على هذه الطاولة التي نجلس عليها. كنّا اثنين، وحدنا في هذه المنارة، أنا وزميلي تشيكو..أمّا الثالث فكان في البرّ: مريضاً،مجازاً،أو..- ما عدت أذكر-، فجأة قبل أن نُنهيَ عشاءنا، ونحن لا يعكّر صفونا شيء، توقّف زميلي عن الأكل، وحدّق بي لحظةً بعينين غريبتين،( طق) وسقط على الطاولة، ممدّد الذراعين. توجّهت نحوه، فهززته،
وصحت فيه:
- تشي، يا تشي..
لم يجب،!! لقد مات.
تصوّر شعوري حينها!! تسمّرت أمام تلك الجثّة ساعة- وربما أكثر- صامتاً أرتعش، ثم فجأةً تذكّرت المنارة!! كان عليّ الصعود إلى القنديل لأشعله، بعد أنْ حلّ الظلام.
سيدي، تلك كانت ليلة ليلاء: لم تعد أصوات البحر والريح كما ألفتهما، وصرت أتخيّل أني أسمع على الدرج أصواتاً كأنّ أحداً يناديني.. وشعرت بالحُمّى، وأصابني الظمأ. ولكنّك ماكنت لتنصحَني بالنزول..لقد أرعبني منظرالميت. حتى إذا نبهني الفجر تمالكت نفسي قليلاً،فحملته إلى سريره، وغطيته بملاءة، وصلّيت صلاة سريعة، ثمّ توجّهت إلى جهاز الإنذار.
المشكلة أنّ البحر كان هائجاً، فلم ينفعني أن أستغيثت وأستغيثت.. ولم يلبّني أحد.هأنذا في المنارة أجالس المسكين المسجّى تشيكو، والله أعلم بالوقت الذي بقيت على هذه الحالة. قلت في نفسي سأصبرعلى بقائه معي حتى تصل سفينة، وانتظرت ثلاثة أيام بدون فائدة.. ماالعمل؟ أأحمله إلى الخارج؟ أأواريه الثرى؟ لا، المشكلة أن الصخور صلبة! ثمّ ما أكثر الغربان في الجزيرة، وما أبشع أن أترك لها هذا المسيحي!!
ثمّ رأيت أنْ أنزل به إلى حجيرة في المحجر الصحي. وبقيت كلّ المساء أقوم بهذه السخرة الكريهة، وأقول لك صادقاً: كان الأمر بحاجة إلى شجاعة.. تصوّر– سيّدي – أني ما زلت حتى اليوم أحسّ أن الميت على ظهري، كلّما نزلتُ مساء إلى ذلك المكان، أوهبّت ريح عاصفة.
كنت أنظر إلى المسكين بارتولي، فأرى العرق يتصبب من جبينه، كلما ذكر الحادثة!
كنّا نأكل، ونسترسل في القَص عن المنارة والبحر والسفن المحطّمة وقطاع الطرق في كورسيكة.
فإذا مضى النهار رأيت الحارس قبل أن يفاجئه الليل يبادر إلى المصيبيح فيشعله، ثم يأخذ غليونه، وقرعة مائه ويبدأ الحديث عن قصص المعارك التي كانت تجري بين المتعطّشين إلى سفك الدماء، ثم يختفي في الطابق الأسفل!! فيُسمع فوراً أزيزالسلاسل والبكرات والساعات الضخمة التي يُجهّزها للعمل.
وأخرج وأجلس على الشرفة، وأرى الشمس وهي تميل إلى الغروب، وتصبح في أدنى مكان منه، وتغوص بسرعة في الماء وهي تخلّف الأفق وراءها. وتنشط الريح، فتتلوّن الجزيرة باللون القرمزيّ. ثم يمرّ بي طائر ضخم يتثاقل في طيرانه وهو في جو السماء، ذلك عُقاب جنوة يعود إلى وكره. ثم يتزايد رذاذ البحر شيئاً فشيئا. ولا ترى بعدها سوى القاذورات تحيط بالجزيرة.
كنت هناك وأنا تائه في الليل البهيم، وعلى حين غرّة سطعت من فوق رأسي أنوار لطيفة، فالمنارة أضيئت، فركنت الجزيرة بأكملها إلى الظلّ، وأضاءت البحر فكأنّ الشمس بزغت وعاد النهار. وتمكنت أن أرى كل ماحولي. واشتدت برودة الريح، تنذرني بأن آويَ إلى البيت.
و دخلت وأغلقت الباب الكبير، وأخذت أتلمّس ما حولي بيديّ لأتأكّد من شدّ قضبان الحديد. ثمّ صعدت سلّما حديدياً صغيراً يهتزّ تحت قدميّ ويقرقع، ووصلت إلى قمة المنارة حيث الضوء.
تصوّر قنديلاً كبير الحجم وقودُه الزيت، له ست ذُبالات( فتيلات) يتناوبعلى مهل مع فانوس زيَّنته عدسة بلّورية صافية عجيبة يحيط بها شريط ثابت يحميَ الشعلة من الريح. بهرني المنظر وأنا أدخل، بل أصابني الدوّار لحظة وأنا أنظر إلى هذه النحاسيات والقصديريات وعاكسات الضوء المعدنية البيضاء والجدران من الزجاج المرصّع بالرصاص من حوله ودوائر زرقاء وكل ذلك الوميض وخط الأضواء.
شيئاً فشيئا ألفت عيناي المنظر، وذهبت أجلس على قاعدة القنديل بجانب الحارس الذي كان يجهر في تلاوة تعويذته خشية أن ينام.
في الخارج الظلام البهيم يخيم على الكون، والريح تهب بجنون على الشرفة الزجاجية الصغيرة ، والمنارة تصطفق، والبحر يهدر. و بعيداًفي طرف الجزيرة، تضرب الأمواج الصخورفتصم الآذان كأنها طلقات مدفع...ومن وقت إلى آخر كانت بعض عصافير الليل يجذبها الضوء فترتطم بالزجاج وتتحطّم فيخيّل لي أنها أصابع خفية تنقر البلاط.
وماكان في القنديل المتوهج الساخن غير قرقعة الشعلة وحشرجة الزيت الذي يتنزّل قطرة قطرة ونشيد يتردد هاتفاً بحياة ديمتريوس فالير( أغنية مثوارثة تذكّر بديمتريوس فاليررجل الدولة اليوناني القديم الخطيب تلميذ أرسطو وصديق ثيوفراستوس).
قام الحارس في منتصف الليل متفقداً ذُبالة القنديل. ونزلنا. وعلى الدرج التقينا بزميله يصعد وهو يفرك عينيه. وأكل له زميلة مهمة الحراسة. وقبل أن نأويَ إلى فراشينا دخلنا الغرفة الداخلية حيث السلاسل والأوزان الثقيلة وخزائن القصدير والحبال، وكتب الحارس على ضوء المصباح في كتاب المنارة الكبير المفتوح على الدوام:
في منتصف الليل:
- البحر هائج،
- وعاصفة تهبّ،
- وسفينة توشك أن تصل.