حالُ مسرى الحبيب...حين زاره الجفري حبيب !
أمَا وقد وقف الغيورون مشدوهين حين أثقل مسامعهم نبأ زيارة الداعية اليماني الجليل الحبيب الجفري لبيت المقدس ، وأعشى عيونهم وأحزن قلوبهم واستفز مشاعرهم رؤيته يتجوّل في ساحاته تحت حراب الاحتلال ، رأيت أنّ أمانة الموقف تطلّب وقفة مع هذا الحدث العصيب ، ولكن بادئ ذي بدء جدير بي أن أستهلّ فأنوّه في هذا السياق بــ :
أنني لست – والحمد لله تعالى - من أنصار دعاة التكفير والتفسيق .. بل من دعاة التمحيص للمواقف والتدقيق !
ولست ممّن يتوّرطون في لمز العلماء ... بل عساني أكون من أهل التذكير للدعاة الأجلاء !
ولست ممّن ينفثون سمومهم أو يسخّرون أقلامهم لإضرام الفتن ... إنما ممّن ينصح باتّباع السَّنن، سنن الهداة المهديّين !
ولست ممّن يدّعي في نفسه أو في غيره العصمة .. إنما أطمح بأن أكون من أهل النصح ، وكم في النصح والتناصح من نعمة !
ولست ممّن يُلغي تاريخ الخيّرين بهفوة ... بل أصبو بأن أكون ممّن يساهم في انتشالهم الفكريّ حين الكبوة !
فبعد أن محّصت في نفسي هذه المعالم حملت قلمي ودوّنت في كرّاستي ما رسخ في قلبي واستقرّ في قناعتي عبر اقتفاء الأدلّة الشرعية ، وتحقيق مناطها بالاهتداء بآراء أهل العقول السويّة ، فكان أن عقّبت على زيارة الداعية الكبير الحبيب الجفري إلى بيت المقدس فتساءلت قائلا :
أليس الأولى بأحرار البشر أن يبذلوا الجهود ويستفرغوا المجهود في فكّ الطوق عن الفلسطينيين المحجوبين عن زيارة المسجد الأقصى وهو منهم وهم منه على مرمى حجر ؟!
أليس الأجدر بأعزاء النفوس أهلِ المكارم أن يبادروا بدعم صمود القاطنين في أحياء القدس فهم يحارَبون في الأموال والأنفس والثمرات ويُحَفّون بأصناف المغارم ؟!
أليس الأحرى بنا أن نظلّ نؤجج مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها شوقاً لصلاة عزيزة كريمة في أحضان بيت المقدس ؟ لا أن نطفئ أو نخمد لهيب شوقنا وشوقهم بصلاة تحت حراب الاحتلال وتحلّقه حولنا ... ورقابته المضروبة على حركاتنا وسكناتنا ؟!
ألم تروا أنه حقيق على جموع المسلمين في أصقاع الأرض أن يُجرّئوا الناس على دعم المرابطين في بيت المقدس وأكنافه ،لا أن يجترئوا هم وُيجرّئوا الناس من حولهم على زيارات محروسة مبخوسة ، لا يحصد أهل الديار المقدسة منها إلا لوعة وحسرة تظلّ في الصدر محبوسة ، وهم يرقبون إخوانهم المسلمين إلى الأقصى يتوافدون وهم من ذلك محرومون ؟!
المقدسيّون وهم وأقصاهم في براثن الاحتلال يتوقون إلى زحف فكريّ ونفسيّ وماديّ نحو القدس ، ينفي عنهم الانجراف في وهاد الاستسلام واليأس ، وينفض عنهم حالة الضنك والبؤس ، هذا إن تمنّع المسلمون عن زحوفات التحرير ، وليسوا بحاجة إلى زحف زيارات بدنية مشوبة بمصالح شخصية تفتح على عوام الناس باب التغرير ..
وهل واقع المقدسيّين والقدس – الذي استفاض شهرة – يكتنفه غموضٌ أو يحفه لُبْس ؟حتى غدا بحاجة إلى مثل هذه الزيارات للوقوف على معاناتهم عن كثب ؟ هذا إن أُذن لنا بالتجوّل في حواري القدس وبطاحها ، فكيف إذا كانت تحرّكاتنا في غضون زياراتنا مرسومة محدودة ، وخطواتنا علينا معدودة ، والتفاتاتنا يَمنة ويَسرة مرصودة ؟!
وليس بمُطلِع على معاناة المقدسيّين من ييمّم وجهه شطر مدينتهم المقدسة بزيارة (بروتوكولية ) محفوفة بهالة إعلامية ، ولربما بحراسة تشريفيّة في مظهرها ، أمنية في مخبرها ، تحكميّة في جوهرها ! خُطاها مرسومة ، وحصيلتها لصالح العدوّ محسومة !
ثمّ ماذا لو أننا استنطقنا أهل فلسطين بعامّة ، والمقدسيين بخاصة عن عوامل تعزيز ثباتهم ودعم رباطهم ، أهي بالزيارات التي تكرّس لعدوّنا الشرعية على تلك الرحاب القدسية ؟! أم بالانحياز إلى ما من شأنه أن يكرّس في ربوع القدس معالم الهوية ؟ الهويةِ الإسلاميةِ بجغرافيتها وديموغرافيتها ؟!
في ضوء ذلك : ليست حليّة زيارة القدس منوطة بالإفلات من ختم جواز السفر !! إنما الأدهى والأمرّ أن نختم بختم الشرعيّة بشقّ سبيلٍ يحذو غيرُنا فيه حذوَنا ، فيترسّم خطانا على الإثر والأثر !!
إذا علم ذلك فليس من نافلة القول أن أستطرد في هذا المقام فأقرّر قائلاً : ليس هناك مَنْ يزعم أنه أحرص من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على امتثال أمره والمسارعة إلى تنفيذه دونما تلكؤ !! ولقد سمعوا دعوته عليه الصلاة والسلام لهم حين قال عن بيت المقدس إذ سألت ميمونة مولاة النبي- صلى الله عليه وسلم- قائلة: ( يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ! فقال : إئتوه فصلوا فيه ، وكانت البلاد إذ ذاك حرباً ، فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) حديث صحيح ، صححه البوصيري، وحسنه النووي
قد سمع الصحابة قول النبيّ – صلى الله عليه وسلم – ودعوته الميمونة في حديث ميمونة ؛ وهو يدعو المسلمين إلى زيارة بيت المقدس والصلاة فيه ! ومع ذلك لم يسجّل التاريخ أنّ أحداً من صحابته – صلى الله عليه وسلم – قد سارع إلى زيارة بيت المقدس ! فهل هذا نكوص منهم – رضوان الله عليهم – عن المبادرة لامتثال أمر المصطفى ؟! أم أنه فهم عميق منهم أن دعوة الرسول – صلى الله عليه وسلم – هذه تحمل في طيّاتهاوديعة إيمانية نفسيّة حركيّة متمثلة بتعلّق الأذهان والوجدان بالعمل على تحرير المسجد الأقصى ليتسنّى لجموع المسلمين التوجّه إليه والصلاة فيه ، ولا أدلّ على حسن فهمهم هذا من استدراك راوي الحديث بقوله – وكانت البلاد إذ ذاك حرباً – فهذه الجملة تحمل في ثناياها إعذاراً للصحابة رضوان الله عليهم عن عدم مبادرتهم لزيارة المسجد الأقصى فور سماع الحديث الشريف ؛ إذ علاقتهم بمغتصب بيت المقدس كانت علاقة حرب وعداء وليس علاقة مسالمة واستجداء ! فهم رضوان الله عليهم لم يتنصّلوا من هذه الوديعة الإيمانيّة النفسيّة الحركيّة النبوية ليعتاضوا عنها بزيارات تظلّلها غمامات تميّع الولاءات ،وتخمد في النفوس نيران العداوات مع الروم الغزاة !
وهكذا ظلّت زيارة بيت المقدس وعمارته بدنيّا وماديّاً فكرة نيّرة تعمر عقولهم ، وشحنة شعوريّة تخالج قلوبهم ، وتتأجج في وجدانهم ، إلى أن أتى الزمان الذي ترجموا فيه ذلك بسلوكهم ، فأدّوا فيه استحقاقات هذه الوديعة النبوية حين دخل الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فاتحاً بيت المقدس ، فبعدها توافد المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها للصلاة في بيت المقدس ، ومَنْ أقعده منهم العذر حينها شرع بدعم عمارة بيت المقدس ولو بزيت يُسرج في قناديله !
وما كان لصحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يتداعَوْا لزيارة بيت المقدس قبل تحريره ، وما كان لهم أن يبعثوا للرومان الغزاة زيتاً يُسرج في قناديله ! كيف والرومان يمارسون في بيت المقدس ورحابه الطقوس الشركيّة ؟! فهل نسرج لهم قناديل بيت المقدس لينوّر عليهم ظلمة طقوسهم ؟!
حتى إذا ما دافع الشيخ الجفريّ عن زيارته بأن الشيخ الغزالي زار المسجد الأقصى وهو تحت الاحتلال الصليبي فهذا غير صحيح ( فقد زار أبو حامد الغزالي القدس قبل سقوطها عام 492ه، وكانت زيارته للقدس قبل عام 488هـ على الأرجح...وكانت زيارات بعض العلماء للقدس أيام الحروب الصليبية تتم أيام الهدنة بين المسلمين والصليبيين، والتي كان من شروطها السماح بمرور العبّاد والتجار والمسافرين والحجاج في مملكة بيت المقدس الصليبية، وكانت الهدنة شرعية تجري بين قوتين متحاربتين ، ولو أخذنا كلام الشيخ الجفري على محمل المسؤولية لقلنا له إن أئمة أجلاء رحلوا إلى أصقاع الدنيا في طلب الحديث لم يدخلوا القدس وهي تحت الصليبيين ويكفيك شاهداً على ذلك الحافظ السِّلَفي وابن عساكر الدمشقي ) .
هذا ولقد أتى على المسلمين حينٌ من الدهر حسن ظنّ عدوّهم فيهم ؛ فإذا ما صرّ ح أحد زعاماتهم بأنه سيصلي في القدس ، لم يفهم الاحتلال منه إلا نيّة الحشد للتحرير فلم يصرّحوا أنهم سيسهّلون له إلى القدس الطريق كبادرة حسن نيّة ، إنما دسّوا له من يخلّصهم منه فيجرّعه المنيّة !
ونظراً لأنه ما خاب من استشار ، وبرأي أفذاذ العلماء وجهابذتهم استنار ، فإنّ العصمة من مثل هذه الانزلاقات تكمن في أن يستضيء دعاتنا بنور العلماء العاملين ، لا أن يكتووا بلظى سياسيين مطبّعين ...