أحمد محرم.. رسالة شاعر "في ذكرى مولده"
أحمد تمام
أحمد محرم
في قرية "إبيا الحمراء" التابعة لمحافظة البحيرة بمصر ولد أحمد محرم، لأب حرص على تنشئة ابنه تنشئة إسلامية، فأحضر له من قام بتحفيظه القرآن، وتعليمه النحو واللغة والأدب، كما شغف هو بقراءة السيرة النبوية والتاريخ، ومطالعة الحديث الشريف، وحفظ النصوص الأدبية الرفيعة، وقراءة الصحف والمجلات؛ فوقف على حال أمته وألمّ بوطنه وقضاياه. وكان لتلك النشأة أثرها في حياة أحمد محرم، فلما تفجر ينبوع الشعر على لسانه كان الإسلام وما يتصل به من أخلاق كريمة ومثل عليا محور شعره كله.
مع فلسطين.. والجامعة الإسلامية: رأى أحمد محرم في الجامعة الإسلامية رمزًا لجمع شمل المسلمين، وظلاً يستظل به العالم الإسلامي، فوقف إلى جانب الخلافة العثمانية، مهاجمًا أعداءها، منددًا بالثائرين عليها، مطالبًا المسلمين بالالتفاف حولها، محذرًا من التشتت والضياع الذي يريده لهم أعداؤهم، فيقول من قصيدة له:
هبّوا بني الشرق لا نوم ولا لعبُ
حتى تعد القوى أو تؤخذ الأهبُ
ماذا تظنون إلا أن يحاط بكم
فلا يكون لكم منجى ولا هربُ
كونوا بها أمة في الجهر واحدة
لا ينظر الغرب يومًا كيف نحتربُ
ولما برزت على ساحة العمل الوطني قضية فلسطين ومأساة شعبها بعد وعد بلفور سنة (1336 ه 1917م) كان أحمد محرم في طليعة الشعراء العرب الذين أيقظوا الوجدان والشعور، وعلا صوتهم بالجهاد والنضال، وجعل من شعره أداة لبث الحمية في النفوس، يقول من قصيدته "نكبة فلسطين":
في حمى الحق ومن حول الحرم
أمة تُؤذى وشعب يُهتضم
فزع القدس وضجت مكة
وبكت يثرب من فرط الألم
ومضى الظلم خليًا ناعمًا
يسحب البُردين من نار ودم
وكان لأحمد محرم عناية تامة بقضايا وطنه الاجتماعية فدعا إلى علاج مشكلة الفقر، ونادى بضرورة تعليم المرأة، وندد بالدعوة إلى سفورها، وحين ثارت في مصر فتنة طائفية بين المسلمين والنصارى عقب مقتل "بطرس باشا غالي" رئيس وزراء مصر آنذاك، كان أحمد محرم ممن وقف في وجهها، داعيًا إلى التسامح والمحبة، فيقول من قصيدة بديعة:
كذب الوشاة وأخطأ اللوام
أنتم أولو عهد ونحن كِرام
حبٌّ تجد الحادثات عهوده
وتزيد في حرماته الأيام
وصل المقوقس بالنبي حباله
فإذا الحبال كأنها أرحام
وجرى عليه خليفة فخليفة
وإمام عدل بعدهم فإمام
لا ننشد العهد المؤكد بيننا
النيل عهد دائم وذمام
الإلياذة الإسلامية
وينفرد أحمد محرم بين شعراء العربية بتصوير البطولة الإسلامية تصويرًا رائعًا، فيعمد إلى سيرة النبي { فينظمها في نحو ثلاثة آلاف بيت، مصورًا فيها حياة النبي الكريم، منذ ولادته حتى وفاته، ملتزمًا التسلسل الزمني، وأطلق عليها "مجد الإسلام" أو الإلياذة الإسلامية.
أراد أحمد محرم أن يحاكي بذلك شعر الملاحم عند الغرب، وبخاصة إلياذة هوميروس المعروفة، وهي ملحمة شعرية بلغت آلاف الأبيات، نُظمت من وزن واحد لم تخرج عنه، وتستلهم الأسطورة وصراع الآلهة التي تتداخل في الحرب، والشياطين، والشهب، والزلازل والخوارق، لكن الشاعر الكبير استلهم الوقائع الثابتة، والأحداث الصادقة والمعارك والغزوات فصوّرها في لغة صافية، وخيال راق، وإيمان قوي، بعيدًا عن الخيال الواهم والأحداث المفتعلة. واستهل محرم عمله بقوله:
املأ الأرض يا محمد نورا
واغمر الناس حكمة والدهورا
حجبتك الغيوب سرًا تجلى
يكشف الحجب كلها والستورا
أنت معنى الوجود بل أنت سر
جهل الناس قبله الإكسيرا
أنت أنشأت للنفوس حياة
غيّرت كل كائن تغييرا
أنجب الدهر في ظلالك عصرًا
نابِهَ الذكر في العصور شهيرا
وما كاد ينشر بواكير هذا العمل الخالد على صفحات جريدة البلاغ، وجريدة الفتح، ومجلة الأزهر، حتى استقبلته أقلام الكتاب في مصر والشام والعراق بالثناء والتقدير.. وعلى الرغم من أن أحمد محرم قد أتم نظم هذا الديوان، فإنه لم يُنشر في حياته، وبقي مخطوطًا حتى طبع في القاهرة سنة (1383ه 1963م).
ويعد أحمد محرم من شعراء مدرسة "الإحياء" في الشعر العربي التي حمل لواءها محمود سامي البارودي، ثم تبعه أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأحمد نسيم، الذين أدوا دورهم القوي في تجديد الديباجة الشعرية، وإعادتها إلى بهائها السالف في عهد الشعراء الكبار كأبي تمام والبحتري والمتنبي.
عاش أحمد محرم حياته في مدينة دمنهور بعيدًا عن أضواء العاصمة، مترفعًا عن السير في ركاب الحاكمين والوزراء، أو التزلف إلى أصحاب الجاه والسلطان، وكانت فيه عفة وإباء، فلم يمدح ملكًا، أو يتملق رئيسًا أو يعرف في الحق ليناً.
وكان لفَرَقِه من الشهرة وبعده عن القاهرة، واعتزازه بنفسه وكرامته أثر في ألا يأخذ ما يستحقه من التقدير والتكريم، في الوقت الذي تمتع من هو أقل منه موهبة وعلماً بالشهرة العريضة وملأ الدنيا ضجيجاً.
ويبقى لأحمد محرم أنه يمثل الفريق الجاد من أدباء الأمة وشعرائها الذين يوجهونها ويأخذون بزمامها إلى الخُلق والمثل العليا وكرائم الفعال، فيعلن في صراحة أنه اتخذ من كتاب الله إماما يأتمر بأوامره ويحيد عن نواهيه، فيقول:
أقول لصاحبيّ وعاهداني
كتاب الله بينكما وبيني
فكونا صادقين ولا تخونا
فإن لنا لإحدى الحسنيين
ولست ببائع نفسي وديني
ولو أوتيت مُلك المشرقين
لهذا سلطة ولتلك أخرى
فما بالي وبال السلطتين
توفى أحمد محرم في 20رجب 1364ه 13 من يونيو 1945م بعدما ترك ثروة شعرية كبيرة.