حرب الفصحى والعامية ثمة اختلاف واضح بين الفصحى في أي بلد عربي مع شقيقه البلد الآخر، وكذلك العامية في البلد ذاته مع البلد الآخر، لأن القرآن الكريم هو جواز السفر الذي يسمح لجميع العرب والمسلمين بالتفاهم فيه ونقل أفكاره ومعانيه وتصوراته، فلا خوف على الفصحى ما دمنا نقرأ هذا القرآن في كل بلد من بلاد العرب والمسلمين، فالزبد يذهب هباء أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
ولو فرضنا أن العامية قد سارت قليلاً أو كثيراً، فما ذلك إلا للارتقاء إلى الفصحى، وهذا ما عبّر عنه محمد عزة دروزة حيث قال: «ولست أرى تعارضاً بين وجود لغة فصحى وبين الرغبة في أداء الآداب بلغة عامية، كالروايات والأغاني والمسرحية والأهازيج الشعبية مثلاً»، ولست أنكر أن هذه الطريقة تدخل المعاني توّاً إلى نفوس العوام، وتثير حماستهم، وتفيد تلقينهم مبادىء أخلاقية واجتماعية ووطنية كثيرة، غير أني ألاحظ أن هذه الآداب لا يمكن أن تكون خالدة بسبب تحوّل وتبدّل اللغة العامية، إذ لا تلبث أن تبتعد عن العامية رويداً رويداً، ولا تبقى لها إلا قيمتها التاريخية للدلالة على نفسية الأمة وآدابها في زمن من الأزمان.. وهذه الملاحظة سبب كافٍ للقول بأن آثاراً كثيرة جديرة بالخلود لا يجوز أن توضع بالعامية، لا من حيث قيمتها ولا من حيث فائدتها، بقطع النظر عن فائدة اللغة وقيمتها.
على أن المعرّبين للكتب الإفرنجية، من قصصية وعلمية وطبيعية وفلسفية وأدبية وشعرية قد استطاعوا ذلك كله، وليس من الإنصاف أن يقال لهذه اللغة التي وسعت هذه المعارف والتي يمكنها بما هي عليه من المرونة الطبيعية، أن تتسع لأشياء كثيرة أيضاً - إنها لغة بدوية، وأن يزرى عليها، وأن يقال في صدر الزراية عليها:
«إن الثقافة هي بنت الحضارة لا بنت البداوة»
أما الاتجاه المعاكس في هذه الحرب الوهمية بين الفصحى والعامية، فقد ظهر إلى الوجود، ودبّر مؤامراته الاستعمار وأعوانه الإنكليز وتلاميذهم، الذين انتشروا في مصر وفي غير مصر، وكان الرأس المدبّر السير ولكوكس الإنكليزي الأصل، فقد أوحى إلى الكثيرين من أبناء جلدتنا بأنه لا حضارة ولا مدنيّة ولا تقدّم إلا إذا نزعنا العربية من مصر، لأن مصر عليها أن تكون جزءاً من أوروبا التي تقرأ لكي تفهم، حسب ما قاله قاسم أمين وأيّده في ذلك سلامة موسى الذي وافقه في كلمته المشهورة «إن الأوروبي يقرأ لكي يفهم، أما نحن فنفهم لكي نقرأ».
كأننا نقول: الدجاجة من البيضة أم البيضة من الدجاجة؟ هذه النكتة البهلوانية التي يجيدها المتحذلقون، ولا سيما سلامة موسى الذي كشفت لعبته وفضح أمره للعيان، حيث أشاد بـ «الروح المصرية» بعيداً عن مصائب الأمة العربية جمعاء، حيث يقول:
«ومما يمكن أن يحمل على الفصحى أنها تعثر الوطنية المصرية وتجعلها شائعة في القومية العربية، فالمتعلق بالفصحى يشرب روح العرب ويعجب بأبطال بغداد، بدلاً من أن يشرب الروح المصرية ويدرس تاريخ مصر، فنظره متجه أيضاً نحوالشرق وثقافته كلها عربية شرقية، مع أننا في كثير من الأحيان نحتاج إلى الاتجاه نحو الغرب، والثقافة تقرر الذوق والنزعة، وليس من مصلحة الأمة المصرية أن ينزع شبابها نحو الشرق، وإنه لأنفع للشرق أن ينزع إلينا لا أن ننزع إليه».
ولا شك أن سلامة موسى أيضاً أكثر ولاء إلى معلمه المتحضر السير ولكوكس منه إلى أبناء جلدته من العرب والمسلمين، فإن لم يكن الإسلام ديناً له فهو ثقافته التي يظهر بها أمام الناس، وتاريخه الذي يعتز به، وإن لم يصدق ذلك فليسأل أباه، وأدبه الذي يتعلمه ويقرأ فيه القاصي والداني.
وإن استطعت أن تسفّه العرب والمسلمين في كتاباتك فأنت واحد منهم - شئت ذلك أم أبيت - ولا تظن أنني أجرم بحقك فأنت القائل أيضاً:
«ولست في حاجة إلى إيراد أكثر من ذلك وخطبة السير ولكوكس فما وجده هو وهو أجنبي يجده الوطني المصري ويشعر به أكثر منهما الأديب المصري، ولست أشك في أن اللغة العاميّة تَفْضُلُ اللغة الفصحى وتؤدي أغراضنا الأدبية أكثر منها، ولكننا لم نبلغ بعد الطور الذي يمكننا فيه أن نظفر هذه الطفرة إلا أن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من إيجاد تسوية بين اللغتين الفصحى والعامية».
وإذا كان سلامة موسى يكتب هذا الكلام فإن كتبه التي طبعت أكثر من مرة لم تكن إلا بالفصحى، وهذا أكبر دليل لاعترافه أن الفصحى هي اللغة وهي الكلام الذي يفهمه المصري والعراقي والجزائري والسوري، ولو كتب هذه الكتب بالعامية المصرية لما قرأها إلا بعض المصريين القريبين منه فقط.. وإذا كان سلامة موسى وأضرابه يبتعدون عن العروبة وما يتعلق بها، ولا سيما تكلمهم بالعامية، وما أدراك ما هذه العامية؟!.
فربّ قائلٍ يقول:
« إن اللغة العامية جميعها اشتقّت ومسخت عن اللغة الفصحى، وحريّ بالأوروبي أن يتعلّم اللغة الفصحى وحدها فلا يحتاج لغيرها من لغات علمية مختلفة، وبذلك يتسنى له التكلم باللغة العربية وتفهّمها في جميع الأقطار العربية.. على أن المتعلمين من الشرقيين الذين يؤيدون هذا الرأي، وهم يقولون ذلك لأنهم يتكلمون لغتهم وهم يستطيعون بسائق غرائزهم أن يفهموا ما يريدون قوله لمحدثيهم من مواطنيهم من أي طبقة كانوا، ولعلهم لا يعرفون مبلغ ما يحتاجه الغريب عنهم من المعرفة الخاصة والتمرين والممارسة الطويلة لكي يتمكن من محادثة فرد من أفراد الطبقة العلمية».
وفي بداية النهضة لم يكن أديب من الأدباء، ولا مفكّر من المفكرين، ولا باحث من الباحثين بعيداً عن جوّ اللغة العربية، وكيف يستطيعون إيصالها إلى كلّ فرد من أفراد المجتمع، وذلك لأن النظرة المستقبلية قد فرضت على هؤلاء القيام بهذه المهمة فرضاً، مما جعل ميّ زيادة تقول عن النهضة اللغوية في مقال: « تطوّر اللغة العربية»:
«وفي نجاح هذه النهضة اللغوية المتنوعة العامة دليل على حيوية اللغة العربية، فهي شأن كل كائن حي من الناحية الواحدة تنمو وتتجدد بما تضم إليها من المعاني والمفردات، ومن الناحية الأخرى تتخلص من الزوائد الإضافية باندثار الألفاظ الحوشية والكلمات التي لا حاجة لنا إليها في حياتنا الراهنة.
فحال لغتنا اليوم حال موقفنا السياسي والقومي والعلمي والاجتماعي، دلائل التقدم بادية فيها، تبشّر باستطراد السير إلى الأمام في سبيل استيفاء ما يعوزها من الألفاظ والمعاني والأسماء المستجدة، ونحن محافظون مجددون في آن واحد».
وتستمر مي زيادة فتقول: «بيد أن هناك صعوبة نصطدم بها وهي التضاعف بين لغة الكتابة ولغة الكلام، أي بين اللغة الفصحى واللغة العامية، لكن هذه الصعوبة- وإن كانت في العربية أظهر- موجودة عند جميع الشعوب، ففي قومية واحدة ذات لغة رسمية جامعة ترى لكل إقليم لهجته العامية المختلفة عن لهجات سائر الأقاليم».
ويخلّد هذه اللهجات الكتّاب والشعراء«الإقليميون» الأوفياء«لوطنهم الصغير» دون أن يكون في مجهودهم ما يهدد كيان الوطن الأكبر ويحارب انتشار اللغة القومية.
وهذه مي زيادة تدلي دلوها في هذا المضمار، مشيرة إلى الفرنجة الذين أخذوا من لغتنا الشيء الكثير ولم يخجلوا بذلك ولم يستبدلوه بغيره، فعلام نحن نتكبر ونأبى ونحن جزء من الإنسانية المتعاونة في السلم والحرب، وعلى السرّاء والضرّاء، حيث تقول:«لقد أعطينا الفرنجة من لغتنا فأخذوا الشيء الكثير ولم يخجلوا مما أخذوا، بل سجلوه في كتبهم ومعاجمهم وعلومهم، ولم يستبدلوه بغيره على الرغم من تقدم حضارتهم، فعلام نحن نتكبر ونأبى ونحن مثلهم جزء من الإنسانية الذكية المتعاونة في السلم والحرب، في الحب والشحناء، على تأييد وجودها وعلى إثبات تفهمها.. إن التعاون في التبادل والتفاعل هو أصل لسنّة التطور ووسيلة لاستطراد الحياة؟ اللغة بيد الجميع من علماء وأدباء وعمال وموظفين وصحافيين ، اللغة بيد وزارة المعارف التي تستطيع أن تقدم للطلبة مُثُلاً جميلة بليغة في التفكير والبيان، اللغة بيد الشبان الذين تتدافع في نفوسهم بلغة صادقة مهذبة أمينة يكونون فاتحين فتحاً جديداً ومهيئين للأجيال المقبلة ثروة جديدة».
أما أولئك الذين لايعيرون اللغة العربية اهتماماً فألقي عليهم الأبيات التالية:
إذا ما القوم باللغة استخفوا
فضاعت، ما مصير القوم قل
وما دعوى حمى حرٍّ منيعٍ
بلا لغةٍ وملكٍ مستقل
فيا أمَّ اللغات عداك منا
عقوق مساءةٍ وعقوق جهل
ولعل الأمثلة كثيرة على اختلاط العامي بالفصيح والعربية بالانكليزية أوالفرنسية، فأصبح ما يسمى بـ «الفسيفساء اللغوية» أو«الاسبرانتو» نتيجة التفاعل الحضاري والتطور العلمي والاحتكاك السياسي والصراع الفكري، وقد أعجب ذلك بعض الناس ولم يعجب بعضهم الآخر، حيث فقدت الفصحى نقاءها لولا جهود المفكرين والأدباء.
وعلى الرغم من الضجيج الذي يثير غباره أصحاب الفصحى ضد العاميات المنتشرة هنا وهناك، وعلى الرغم أيضاً من تخوفهم من العاميات المنتشرة في كل قطر وفي كل بلد وفي كل قرية، فإن أصحاب المهنة يتفهمون أن هذا الضجيج لا يسد جوعاً ولايسقي ظمآناً، فلذلك بشروا بأن المستقبل للغة الفصحى، طالما أن الناس يرتقون من أسفل إلى أعلى ويغفلون العكس، وهذا ما أشار إليه الأستاذ محمد كرد علي رئيس أول مجمع لغوي في دمشق حيث يقول:«إن استفتاءكم في مستقبل اللغة العربية مهم للغاية، وأظن التطور السياسي الأخير يزيدها استحكاماً وانتشاراً، فإن التركية كادت تقضي عليها في دمشق وبغداد، بل في مكة والمدينة، وها هي الآن تنشط من عقالها، والنفوس ترغب في تحصيلها، والمتعلمون يتفاخرون بإتقانها وستدرس بها جميع العلوم العالية، فتحسن دراستها وتزيد مرونة لقبول الأوضاع الجديدة، لأنها لم تتعاصَ على ذلك، وهي في إبان بعثتها فكيف بها في هذا القرن وهي ترى العلوم تزيد والألفاظ والمسميات تكثر.. ولعله لايمضي قرن أو قرنان حتى تتوحد اللهجات العامية، لأن الفصحى آخذة بالتغلب عليها على كل حال، ودليلنا على ذلك مصر وبعض مدن سورية التي كانت فيها مدارس وجرائد كثيرة.
أحمد الخوص
http://www.albaath.news.sy/user/?id=1007&a=89416