تعلم كيف تواجه ,, وتعلم كيف تناظر
ما الفارق بين الجدل والحوار ؟! وهل تدخل المناظرات تحت باب الجدل أم باب الحوار ؟
هل الدخول فى المناظرات فرض أم ضرورة لها شروط ؟!
ماذا نفعل ككتّاب عندما هجوما على الإسلام , هل نرد أم نصمت أم ندخل فى مناقشة ؟!
كيف يمكن أن يصبح الرد على الهجوم أسوأ أثرا على الإسلام من الهجوم نفسه ؟!
وكيف يمكن أن يصبح طريق الجنة .. طريقا إلى النار دون أن ندرى ؟!
حول إجابة هذه الأسئلة يدور الموضوع العاشر من سلسلة " تعلم .."
تعلم كيف تواجه ,, وتعلم كيف تناظر
مما يؤثر عن أحد علماء الهندسة أسلوبه المتفرد فى مواجهة مشاكل عمله , فعندما يواجه جهازا معطلا لم يكن يدخل مباشرة إلى أسباب العطل ومكانه بل يتجاهلهما تماما و يعيد تفكيك الجهاز بأكمله ويبدأ فى تركيبه حسب تصميمه الأصلي من جديد , وكلما يصادف خللا أثناء إعادة التركيب يصلحه ويستمر
بهذا الأسلوب لم يستعص عليه عطل فى جهاز أو يحيره ,
لأنه أحال الظاهرة للأصل وبدأ الحل من الجذر
وما فعله العالم فى المجال العملى نحن مطالبون به ـ من باب أولى ـ فى مجالنا الفكرى والذى يعتبر أخطر مجالات العلوم الإنسانية على الإطلاق , فبالفكر وحده وعلى أساسه وقعت كوارث العالم أجمع وكذلك تم إصلاحها بالفكر
ولا عجب فى ذلك لأن الاعتقاد الفكرى هو المحرك الرئيسي لنشاط الإنسان فإن كان فكرا خيرا أنتج خيرا وإن كان شرا أنتج مثله
وبالاعتقاد الفكرى والعقدى نشأت دولة الإسلام كإحدى معجزات الحضارة الإنسانية فى بضع سنين بهداية الوحى التى استقبلتها عقول أحسنت التفكير فعرفت نداء السماء وأجابته , ولم يحدث التخلخل إلا عندما بدأت الفرق فى الظهور فتغير الإعتقاد وفقد طلاوته الأولى التى نزل بها غضا على المحجة البيضاء , وعندما تغير الاعتقاد وأصبح مدخولا بفروع شيطانية غريبة على الجذر الأصلي بدأت الحروب والفتن واستمرت ليومنا هذا
وعبر تاريخ الإسلام البالغ الثراء دارت رحى المعركة بين الأصل والفروع , وظهرت فى فترات متقطعة من العصر الإسلامى الوسيط دول إسلامية أعادت رونق الخلافة معتمدة على مبدأ العودة للأصل وهو المبدأ الذى كفل لها النجاح لأن غياب الإصلاح الفكرى أولا هو سبب حتمى للفشل فيما بعد
وهذا المبدأ , مبدأ سماوى خالص عبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام فى غير موضع من أحاديث الفتن وخصه بالجانب الأعظم من وصاياه ولم يفتأ يكرره على مسامع الصحابة ومثال ذلك قوله عليه الصلاة والسلام
" إن من يعش بعدى سيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ "
وقوله أيضا " لقد أتيتكم بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك "
ولهذا كان المصلحون فى كل عصر يرفعون لواء العودة للأصل طارحين كل البدع المحدثة التى دخلت على دولة الإسلام فنجحت حركات الإصلاح لهذا السبب والمتأمل فى تاريخ الإسلام يجد أن كل أزمة مستعصية عصفت بالدولة كانت مبنية على اعتقاد فاسد مخالف للأصول
من أول فتنة الخوارج أول وأعظم فتنة إلى يومنا هذا حيث فتنة المذاهب الإنسانية المختلفة
ولأن الإتجاهات المعادية للإسلام ـ بعد دراسات المستشرقين المتعمقة ـ عرفت أين يقبع المقتل ركزت همها وجهدها عل ضرب الأصول بأى وسيلة , فلما عجزت , وظل القرآن محفوظا بحفظ الله وانبري علماء السنة فاستأصلوا شأفة الأحاديث الموضوعة وعزلوا القسم الصحيح وحفظوه , لم يجدوا أمامهم حلا إلا ضرب علاقتنا بتلك الأصول !
وهذا الأسلوب استمر أيضا إلى اليوم حيث تركز الدول العظمى والحركات الفكرية المضادة فى بلاد الإسلام على مبدأ رئيسي وهو تعقب أى نداء يظهر فيه ولو طرف شعرة من العودة للأصول , ويتم محاربة هذا الجانب بكل الوسائل بداية من التدخل العسكري كما فعلت الولايات المتحدة فى حربها المزعومة ضد الإرهاب إلى الغزو الفكرى الذى رسخ عبر قنوات إعلامية محترفة اعتقادا جازما بأن كل من ينادى بالعودة للأصول هو متخلف إرهابي ,
وأصبحت من قبيل الثقافة العامة المنتشرة أن يتم السخرية من كل متحدث بالعربية الفصحى أو من كل من ينوه عن شخصية تاريخية تحمل شبهة إشادة بتاريخ الإسلام رغم أن الغرب لم يقطع صلته بتاريخه المشوه مطلقا , بل جعل منه مادة خصبة على موائد الإعلام حتى لو كان تاريخا أسطوريا لا يمت للواقع بصلة ,
وبينما يفخر الغرب بزينا وهركليز وأخيل ونبوءات نوستراداموس , ولا يجد حرجا فى ذلك , أصبح مفكرونا ومثقفونا يجدون حرجا إذا استشهدوا بقول لأبي حنيفة أو الشافعى أو نقلوا رأيا فكريا للسيوطى أو الأشعري
هذا فضلا على التدخلات السياسية التى لا تهمل أدنى صعود للتيار الإسلامى السلفي فى أى مكان بالعالم الإسلامى فيبدأ الضغط على الفور بالوسائل العلنية والسرية لخلق حرب عداوة بين الأنظمة وبين تلك التيارات حتى لو كانت تيارات فكرية محضة لا تتعرض للأنظمة ولا تتدخل بالشئون السياسية وتكتفي بإحياء التراث فحسب
ولنا أن نتأمل الضربات الأمنية القاصمة التى يتعرض لها تيار الإخوان المسلمين أو جماعة أنصار السنة بمصر والمحاربة الإعلامية المصاحبة لذلك ونقارن هذا كله بالدعم الكاسح التى تحظى به الطرق الصوفية سواء على مستوى الدولة أو على مستوى الدعم الخارجى المهول
فالطرق الصوفية بمصر لم تحصل فقط على الوجود الشرعي باعتماد المجلس الأعلى للطرق الصوفية مجلسا عاما تابعا للدولة , بل هناك دعم سنوى للمجلس فضلا على أن رئيس المجلس فى البروتوكول السياسي مساوى لمكانة شيخ الأزهر سواء فى الراتب أو المعاملة
هذا خلافا لسكوت الدولة عن الدعم المادى الخارجى الذى جعل من مجلس الطرق الصوفية مؤسسة تتجاوز ميزانيتها ثلاثة أرباع مليار جنيه ,
وتحاط الإحتفالات الصوفية بالحماية الأمنية على أعلى مستوى رغم أنها تتجاوز ثلاثة آلاف حفل سنويا تحميه الشرطة حماية كاملة , وبأحدث الوسائل
فضلا على الدعم السياسي الخارجى الذى يجعل سفير الولايات المتحدة السابق بمصر يحرص على حضور مولد السيد البدوى بطنطا ! وتخلفه مرجريت سكوبي فى ذلك
وإذا تأملت الحروب العلمانية مثلا على الإسلام والفكر الإسلامى لا تجد منهم أدنى إشارة بالانتقاد للفرق البدعية كالصوفية والمعتزلة الجدد " العصرانيون " على سبيل المثال رغم وجود المبرر البالغ القوة لذلك والمتمثل فى كل هذه الإمكانيات المهولة لمجرد تغييب الناس
ولهذا يبدو غريبا جدا أن تثور ثائرة العلمانيين لمحاضرة يلقيها عالم أو فقيه ويهملون فى نفس الوقت هذا البذخ والسرف وتعطيل مصالح الدولة مع الصوفيين
ومن أوجه الغرابة ـ اللافتة للمتأمل بعيد النظر ـ أن السلطات الرسمية والغرب متمثلا فى الولايات المتحدة رغم أنه لا يطيق ذكر الإسلاميين , إلا أنهم يتناسون هذا تماما مع الطرق الصوفية على نحو يجعلنا نتساءل ,
لو أن الطرق الصوفية ـ كما يرجون لها ـ تمارس نشاطا إسلاميا عارما فلماذا يواليها المعادون للإسلام ويسكتون عن تصرفات لو لاح ريحها مع فقيه لكان مصيره وراء الشمس
والقانون الأمنى الذى يمنع التجمهر لما يزيد عن عشرين شخصا نجده مع الصوفيين يحمى ويوالى تجمهرا من عشرين ألفا !
لكن ـ كما يقال ـ إذا عرف السبب بطل العجب ,
فإن الخوف كل الخوف ليس من الفرق البدعية التى حادت عن الطريق بل من أى نداء أصولى للبحث خلف المنبع , والغرب يستفيد من دروس الماضي جيدا ولم ينس بعد ما فعلته الأصولية الإسلامية بمنهجها البسيط فى الشيشان وأفغانستان وباكستان وأندونيسيا وفى حرب أكتوبر والآن فى العراق والصين
لهذا صارت حساسية الغرب وحلفائه تجاه كل بذرة إسلامية صحيحة ظاهرة واضحة بما لا يدع مجالا للشك ,
وإلا كيف يمكن تبرير الحروب الضارية التى تشنها الأجهزة الرسمية والدعايات الخارجية تجاه التوجه الإسلامى الصحيح وتعجن ذلك كله فى زمرة واحدة هى الإرهاب والعنف رغم أن تيار العنف تيار يختلف فى الأساسيات مع تيارات الإصلاح السلفي , والموجودون على الساحة الآن علماء ودعاة لا مقاتلين فلم كل هذا القلق وكل هذا الهجوم الذى ينال علماء المسلمين ودعاتهم وهم لا يطرقون السياسة ولا شأن لهم بالنشاط المضاد للأنظمة , ولماذا كل هذا الاتهام لأى كتاب أو كاتب يلمح ولو من بعيد لأصول الإسلام وترك التفرق ؟!
ولماذا كل هذا الترصد للإلتزام الدينى والسعى إلى طريق الله وانتقاد أى دعوة ولو كانت للفرائض الواجبة ؟!
ولماذا تثير اللحية الكثة فى وجه شاب سنى ذعر الأمن بينما اللحية الأخرى ـ على مذهب دوجلاس ـ تحظى بالقبول !
هذه هى صورة الساحة الآن ..
تيار عام تمثله الشعوب المجبولة فطريا على العقيدة الصحيحة , وتحاول الخروج من شرنقة الشبهات والمكايد الفكرية التى تغلق عليها رغبة التحرر الحقيقي من الغزو الفكرى
ووسيلتهم فى ذلك التماس العلماء والدعاة الواقفين على الحدود ـ وهم على قلة إمكانياتهم ـ وفقهم الله للوصول للقطاع الأعرض من الجماهير المتلهفة لهم , وليس أدل من ذلك ما نراه من احتفاء جماهير البسطاء بأى نصر اسلامى من أى نوع وتقديمهم نصرة الإسلام على نصرة الأوطان
وتيار خاص يتفرع إلى عدة توجهات تتفق جميعا فيما بينها على الهدف وتختلف فى الوسيلة وتمثله الحروب الفكرية الخارجية والأفكار الدخيلة التى تمتلك ناصية الإعلام
ولأن كل توجه من هؤلاء يهدف لقتل أى صحوة فى مهدها , فإن كل منهم اتخذ بابا معينا يطل من خلاله على الناس أملا فى تشتيت جهود الدعاة والعلماء , وفى كل باب من تلك الأبواب تستعر حرب فكرية ضارية كجبهة مستقلة عن الأخرى وما أكثر الجبهات وأسلحتها من الشبهات
هذه الحروب الفكرية تتنوع بين المناظرة وبين الحوار ,
ولأن القاعدة المتفق عليها فى أى قضية هى ضرورة العودة للأصل ومناقشة الأمر من المنبع ,
فكان لزاما أن نتعرف عن الفوارق بين الحوار وبين المناظرات , وأنواع كل منهما , والضوابط التى حددتها الشريعة فى هذا الشأن باعتبارها المقياس الأول والأخير للعمل والتطبيق
ولأننا أصبحنا بالفعل فى عصر الفتن ,
فقد اختلطت الخيوط كثيرا وتسللت إلى القضايا الجوهرية قاعدة المثل الشعبي الشهير " هات من الآخر " وهو قول يضاد كل منطق حتى منطق اللهو والعبث لأن البدء بالنهاية يجعلك تدور فى دائرة مفرغة لا تصل لحافتها أبدا
وهو ما يحدث بالفعل الآن فتحت اختلاط المفاهيم اضطربت الصورة بشكل ضبابي أمام عامة الناس بل وأمام الباحثين الذين تعجلوا ـ بدافع الغيرة ـ الدخول لساحات المعارك قبل معرفة ضوابطها فكانت النتيجة أن أصبح عالم اليوم عبارة عن مسرح كبير للجدل الفارغ لا تكاد تخرج منه بفائدة إلا كما يخرج فم العصفور من ماء البحر