كيف أثر ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث؟

روايته «حي بن يقظان» من أهم الكتب التي بشّرت بالثورة الصناعية


نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
ملبورن - استراليا: خالد الحلِّي

في كتابها «الجذور الحيويّة لعصر التنوير في أوروبا: تأثير ابن طفيل على الفكر الغربي الحديث» تخلص الدكتورة سمر العطار الأستاذة في جامعة سدني، إلى نتيجة كان سيتوصل إليها أدوارد سعيد لو عرف عن تأثير ابن طفيل على الفكر الأوروبي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولربما توصّل إلى نتيجة مختلفة في كتابه الشهير: «الاستشراق»، حين تساءل: لماذا يمجّد الكاتب الانجليزي الكسندر بوب الإنسان على الإطلاق، بينما يمّجد اللورد كرومر، ممثّل بريطانيا في مصر المحتلة، الإنسان الغربي فقط؟».

صدر هذا الكتاب باللغة الانجليزية اخيراً عن دار النشر الأميركية «ليكسينغتون رومان وليتيلفيلد»، ومن الأصداء الإيجابية التي تركها ما كتبه عنه تشارلس بتروورث بروفيسور العلوم السياسية في جامعة ميريلاند، حيث كتب يقول: انّ «حي بن يقظان» الذي تعرضه سمر العطار في كتابها ينتمي إلى عصرنا. فهو رجل يعلّم التسامح فوق كل شيء». وقال بتروورث بأنّ ذلك صعب القبول لدى الكثيرين الذين فهموا الكتاب على أنّه يكشف لنا أسرار فلسفة الإشراق التي كتب عنها ابن سينا. لكنّ بتروورث يستدرك فيقول: «إنّ سمر العطار تجيب على هذه الاعتراضات مشيرة إلى عشرات المفكّرين الغربيين في أوائل العصور الحديثة الذين ربّما استعاروا عن قصد أو غير قصد أفكارا كثيرة من رواية ابن طفيل». لقد تحرت الدكتورة العطار في كتابها هذا الذي صدر بـ 174 صفحة من القطع الوسط، عن الجذور الحيوية لعصر التنوير في أوروبا بما يهمّ المختصين في الفلسفة القديمة والحديثة، والأدب المقارن في القرن الثامن عشر، خاصّة الأدبين الانجليزي والفرنسي، الدين، العلوم السياسية، التربية، تاريخ الفكر، ودراسات الشرق الأوسط.

مهدت المؤلفة للكتاب بسلسلة من التواريخ المهمّة حول ابن طفيل الفيلسوف العربي الأندلسي الذي عاش في القرن الثاني عشر وبعض المفكّرين الأوروبيّين الذين تأثّروا به حتى عام 1859، وجاء الكتاب بثمانية فصول تناولت هذا التأثير. ويمكن اعتبار روايته «حي بني يقظان» من أهم الكتب التي بشّرت بالثورة الصناعية، وأفكارها مبثوثة بشكل أو بآخر، وبدرجات مختلفة، في كتب جون لوك، آيزك نيوتن، إيمانيوول كانت، جان جاك روسو، فولتير وآخرين. وهذا يؤكد تبنّي مفكّري أوروبا في عصر التنوير قيم «حي بن يقظان» حول المساواة، والحرية، والتسامح ممهّدين بذلك للثورة الفرنسية.

وإذ تصف المؤلفة ابن طفيل بأنه عالم عربي منسي ومدفون تحت غبار التاريخ رغم تأثيره الواضح على مفكّرين أوروبيين في أوائل العصر الحديث، تقول ان أفكاره ما زالت تستخدم حتى اليوم. بعضهم قبلها كما هي، آخرون حوّروها، وخلقوها من جديد بأشكال مختلفة. ولكنّ ذكرى الرجل الذي كتب كتابا مهما كهذا نسيت تماما.

ترجم كتاب «حي بن يقظان» للغات مختلفة منذ النصف الأول من القرن الرابع عشر. وما زال يترجم حتى اليوم. وتقول المؤلفة: «ان الكتاب مع ذلك لم يحتلّ أبداً الصدارة في الفكر الأوروبي الحديث، ولا درسه أحد بالتفصيل على أنّه أحد منابع هذا الفكر. وظلّ الكتاب متداولا بين أيدي المستشرقين فقط. وعندما ينظر الباحث إلى أيّ كتاب حول الفكر الغربي والحداثة لا يرى فيه أثرا لابن طفيل، أو لغيره من الفلاسفة العرب أو المسلمين الذين أثّروا تأثيرا بالغا على الغرب، ونهضته الفكرية، ويبدو للقارئ أنّ المفكّرين الغربيّين قد خلقوا من طينة مختلفة عن أولئك الذين ولدوا وعاشوا في الشرق، وأنّ أفكارهم عن الله، والإنسان، والمجتمع، والتاريخ هي أفكار محصورة بالمجتمعات الغربيّة، وإذا ما استعاروا شيئا فإنهم يستعيرون من بعضهم بعضا، وليس من غير غربيّين أجانب، وبخاصّة العرب والمسلمون. على رأس هذا الفريق الذي يؤّيد وجهة النظر تلك، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، البروفيسور صامويل هنتينغتون. ففي كتابه «صراع الحضارات» يؤكّد أنّ الغرب يختلف تماما عن الحضارات الأخرى في قيمه ومؤسّساته التي تشمل المسيحيّة، التعدّدية، الفردّية، واحترام القانون، مما ساعده على اكتشاف الحداثة، والتوسّع في العالم، وصار عرضة للحسد من كلّ المجتمعات الأخرى. ويستشهد بآرثر م شليسنغر قائلا: «انّ أوروبا هي المصدر الفريد بنوعه لكلّ هذه الأفكار حول حريّة الفرد، الديمقراطية السياسية، احترام القانون، حقوق الإنسان، والحرية الثقافية. هذه هي أفكار أوروبيّة وليست آسيوية، أو إفريقيّة، أو شرق أوسطية، إلا بالتبني». وبهذا فإنّه يعتقد، كما يبدو، أنّ التاريخ هو شيء ثابت، وغير متحرّك. فالآسيوي، والإفريقي، والشرق أوسطي، له صفات مميّزة سواء في الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل. وهذه الصفات لا تتغيّر بتغيّر اللحظة التاريخية.

وإذ ترفض المؤلفة هذه الطروحات، تعبر عن اعتقادها بأنّ كلّ الحضارات متأثرّة بعضها ببعض. فاليونانيون مثلا تأثّروا بالمصريين القدماء، وحضارات الشرق بأجمعها.

والرومان استفادوا كثيرا من اليونانيين. والعرب استعاروا الكثير من الهنود، والصينيين، والفرس، واليونانيين وغيرهم. وأوروبا لم ترث فقط التراث اليوناني الروماني، بل إنّها ورثت أيضا تراث أعدائها العرب والمسلمين. وليس هناك حضارة تعود فقط إلى جنس بشري معيّن. فكلنا مختلطون ببعضنا بعضا منذ بدء الخليقة. ومن الخطأ والخطر في آن واحد أن يكتب علماء الغرب عن تاريخ فكري غربي نقي من كلّ تأثيرات الأجنبي الآخر، أو عن النهضة الصناعية الغربية، أو عن العقل الغربي. فالمفكرون والعلماء الغربيون أمثال جون لو، وتوماس هوبس، وغاليليو، وديكارت، وآيزك نيوتن، وسبينوزا، ولايبنيتس، وفولتير، وروسو، وإيمانيوول كانت، وداروين، وغيرهم، لم يخلقوا من لا شيء كان هناك أساتذة لهم حتى من بين أعدائهم، وأعداء بلادهم.

وتقول المؤلفة ان ابن طفيل عارض كّل المعتقدات التقليدية في القرن الثاني عشر. وكان شعار بطله «حي بن يقظان» هو أنّ الإنسان يجب ألا يعتمد على سلطة أحد، بل على عقله فقط. وليس هناك من يستطيع فرض آرائه على الآخرين، أو أن يدّعي أنّ طريقه هو الطريق الصحيح لاكتشاف الحقيقة. إنّ البشر على الرغم من اختلافاتهم الكبيرة إلا أن هناك أشياء كثيرة تجمعهم. وعلى رأس هذه الأشياء عقلهم وإنسانيتهم. المساواة، الحرّية، التسامح كلّها قيم أساسية في أيّ مجتمع. العنف مرفوض، ويجب أن يتجنبّه الإنسان بأيّ شكل من الأشكال. وذاك الذي يستخدم العنف لا يفكّر عقلانيا بعمله، أو بنتائج هذا العمل.