القطيع !



هل رأيتم، يا أصدقائي، قطيعا من الغنم قام بثورة على حارسه أو أحدث انقلابا ضد راعيه؟ أظن أنكم لم تروا هذا و لا ذاك، فهل أنتم مُصَدِّقِيَّ إذا قلت لكم أنني رأيت ما سأقصه عليكم؟
رأيت قطيعا من الأغنام الوديعة، المسالمة، يخرج بها راعيها كل صباح، في الغلس، رفقة كلبه الوفي "بوبي" الذي يقوم بالحراسة على أحسن وجه، فتراه يحوم حول القطيع يركض و ينط نابحا لا يسمح لأية شاة أن تخرج عن المجموعة، فإن شردت واحدة أو تخلفت جرى وراءها ينبح بعصبية مكشرا عن أنيابه فلا تملك هي سوى الامتثال للأمر فتعود مسرعة إلى القطيع لاهثة مرتعدة محترسة من أنياب "بوبي" الحادة، و هكذا يسير الكل إلى المرعى في ضوضاء امتزج فيها وقع الأظافر على الحجر مع صلْصلة الأجراس و النَباح و الثغاء، و ترى القطيع يموج بعضه في بعض من شدة الازدحام و حرص "بوبي" على الانضباط فلا تتخلف منه شاة، و يسير الجميع سالكا الطريق نفسه كعادته في كل يوم ذهابا و إيابا.
و ما أن يصل الجمع إلى المرعى المعتاد يتوجه الراعي إلى شجرة زيتونة ظليلة فيستلقي تحتها ليستأنف نومه أو ليخرج من جيبه مزماره فيقضي بعض الساعات في لهو و طرب بينما يتكفَل "بوبي" النشط بالحراسة، فتراه يمشي حينا وسط القطيع، و حينا يستشرف فوق أكمة، أو تراه إذا أعياه الوقوف و الجري جثا على الأرض باسطا ذراعيه و ممدا عنقه و رأسه بينهما مغمضا عينا و فاتحا الأخرى من فرط يقظته و فطنته، و كلما سمع ما يريبه رفع رأسه و تفحص الوضع بنظرة خاطفة، و ترى أذنيه تتجهان صوب الصوت المريب كأنهما جهاز "رادار" حساس يلتقط كل إشارة مهما كانت خافتة، و ما إن يطمئن على القطيع حتى يعود إلى وضعيته السابقة، و يواصل القطيع المبعثر رعيه في نهم و اطمئنان في الوادي الخصيب ذي العشب الوفير و الماء العذب النمير، و هكذا إلى أن تغيب الشمس فينشط "بوبي" في جمع الشياه و يسرع الراعي في جمع متاعه و العودة بالقطيع إلى الزريبة.
و في صبيحة يوم ربيعي جميل معتدل الطقس ذي النسمات العليلة المنعشة التي تبعث في النفس نفخة أمل، و في هذا المكان ذي المناظر الخلابة و التي يُخيَل إليك من جمالها و بهجتها أنها مناظر خيالية خرجت من ذهن فنان بارع على حين غفلة منه فتمثلت هنا. مناظر لو حاول رسَام نقلها على لوحة لما استطاع أن يوفي الواقع حقه و وصفه الذي يليق به، و لو أراد كاتب أن يصفه لما نجح و لخانته العبارات و لقصرت عن تصويره الكلمات، كيف يصف منظرا لو نظرت إليه مرة لاستهواك لتنظر إليه مرة أخرى بل مرات، فما تستطيع ملء بصرك منه أبداُ.
إنك إن رفعت بصرك صوب السماء رأيت سقفا أزرق صافيا يُخيَل إليك من فرط صفائها أنها ازدادت علوًا، فإن حدث و أن مرت سحابة حسبتها قطنا منفوشا عُلَق بين السماء و الأرض فما تلبث حتى تختفي وراء الجبال المجاورة و تعود السماء إلى صفائها و نقاوتها.
و الشمس قرص وهَاج يرسل أشعته الدافئة فتغمرك منه حرارة الحياة، و إذا أصغيت إلى الأصوات فإنك تمكث الساعات الطوال فلا تكاد تسمع إلا زقزقة العصافير أو رقرقة الماء في الجداول، أو تسمع من حين لآخر نباح "بوبي" حين يرى شرود نعجة أو ابتعاد حمل، و أحيانا تسمع هفهفة أوراق الشجر لما تعبث بها هبات النسيم، و كأن الأوراق بحثيثها ترد في استحياء على تغاريد العصافير، أو تسمع طنين نحلة ألقى بها تجواله قريبا منك.
و إذا نظرت إلى الأرض رأيتها قد ارتدت حلة من سندس خضراء ناعمة تخلَلتها باقات من مختلف الأزاهير ذات الألوان الزاهية و العبير الشاذي، و كلما تنفست هواء هذه الأماكن استنشقت معه نفسا من الحرية فينفذ إلى أعماقك منه معاني الحرية الحقَة بعدما كانت لفظا جافا خاويا.
ففي هذا المكان و هذه الظروف، استيقظ الراعي فجأة على نباح "بوبي" بعدما كان يغطَ في نوم عميق تحت الشجرة و قد ثمل من المخيض الحامض الذي شربه و من فرط الهدوء المخيم على المرعى.
استيقظ الراعي فزِعًا، فرأى "بوبي" يجري خلال القطيع جري المجنون، ينبح و يركض في كل اتجاه و راء الشياه المذعورة التي صارت تفرَ من الكلب و هي لا تدري ما الذي أصابه، ما الذي دهاه؟
نهض الراعي مسرعا و حاول جاهدا إمساك الكلب، إلا أن الكلب، و كأنه فقد "رشده"، صار لا يعبأ بزجر الراعي له، فشردت الأغنام في كل ناحية، ثار غضب الراعي فصار يجري و يصيح على "بوبي" و على الشياه، طارت إحدى نعليه لكبرها عن قدمه فواصل الجري عرجا يعلو مرة و ينخفض أخرى و عباءته تتبعه لاهثة و الريح تشده منها إلى الوراء، راح المسكين يضرب الشياه بعصاه بعصبية ليجمعها مخافة أن تضيع فيضيع هو، إلا أن الشياه المسكينة هي الأخرى لم تدر أين تذهب فالكلب ينبح فيها بكل قوة و يهددها بأنيابه، و الراعي الساخط يجري وراءها يسبَها و يلوح عليها بعصاه !
و لسوء حظ الكلب "بوبي" الوفي لم يشعر و هو في غمرته تلك فوجد نفسه وجها لوجه أمام كبش عظيم كأن قرنيه عجلتان من عظم صلب قد احمرت عيناه من الغيظ فعالجه الكبش بنطحة قوية رفعته جوا و التطم بشجرة زيتون هرمة تدلت فروعها و أغصانها من كل جانب حتى الأرض فزادتها مهابة، فسمع المسكين لعظامه فرقعة تنمَ أنه لن يقوم بعدها أبدا، فلم يدر "بوبي" ماذا حدث له حتى وجد نفسه طريحا على الأرض محطم العظام يلهث بصعوبة و يلتقط أنفاسه بمشقة و لا يقوى على النهوض فأخذ يعوي و يعوي مستغيثا الراعي.
و لما رأى الراعي ما حدث لكلبه استشاط غضبا و راح في غنمه ضربا و شتما، فتبعثر القطيع في الوادي الفسيح و فرت الشياه في كل اتجاه و في خضم هذه المأساة تعثَر الراعي و هو يجري فسقط و هو يلعن الغنم و الكلب و......الرّاعي !

كانت هذه رُؤياي التي رأيتُ في أحد أحلام اليقظة التي كثيرا ما تساورني.

ــــــــــــــ
همس على الهامش:(كتبت هذه القصة أول مرة عام 1984، ثم اقترحتنا للنشر في جريدة المساء الجزائرية، قبل أحداث أكتوبر عام 1988، فرفضت، ثم عرضتها بعد الأحداث فنشرت !!!)