عندما وقعت في فخ المخابرات الصهيونية
د. فايز أبو شمالة
على غير العادة، لاحظت تحرك مجموعة من الجنود الإسرائيليين شرق بئر الوكالة في مخيم خان يونس، كان منظر الجنود يوحي بأنهم ينتشرون بهدف محاصرة المنطقة التي يتواجد فيها بيتي، تعالت دقات قلبي، وزاد انفعالي، وحسبت أنني المطلوب لهذا الجيش، ولاسيما أن المخابرات الإسرائيلية قد اعتقلت قبل عدة أيام بعضاً ممن عملت معهم عسكرياً .
كانت الساعة الحادية عشر ليلاً حين صعدت على سطح أحد بيوت الأقارب في المخيم، ورحت أراقب تحرك الجنود بحذر شديد. فقد كان من عاداتي ألا أدخل البيت قبل الثانية فجراً، فقد كنت أخشى ما أخشاه أن يفاجئني رجل المخابرات وأنا نائم، لذلك حرصت أن أظل في كل ليلة خارج البيت حتى الثانية بعد منتصف الليل، حين كنت أضع رأسي على الوسادة، وأذني تراقب حركة السيارات من بعيد، حتى صرت أميز بين صوت سيارة المرسيددس من صوت سيارة النقل من صوت عربة الجيب العسكري.
ظل الصمت يلف المنطقة ثلاث ساعات، وكأن لا شيء غير مألوف في ليل مخيم خان يونس، حتى خيل إلي أن الجنود قد انسحبوا دون أن أشعر، ولكنني لم اطمئن رغم الهدوء الذي يلف بيتي، فقد أوصيت أمي أن تشعل الضوء في ساحة البيت إذا جاء يوماً الجنود الإسرائيليون.
عند الساعة الثانية فجراً تنفست الصعداء، فقد بدأ الجنود الإسرائيليون المحاصرون للمنطقة بالانسحاب، وبدأت العربات المجنزرة المتواجدة في شارع البحر مقابل مركز التغذية بالتحرك في اتجاه الغرب، بشكل يؤكد أنهم يئسوا في إلقاء القبض على ضالتهم.
لمزيد من الحذر، انتظرت في مكمني حتى الساعة الثالثة فجراً يوم الثلاثاء 8/5/ قبل ثلاثين عاماً، انتظرت ساعة وأنا في غاية الاطمئنان بأن القوات الإسرائيلية قد انسحبت من المكان، لأبدأ عند الساعة الثالثة فجراً التسلل إلى بيتي، بهدف تجهيز نفسي ببعض الأشياء، والتوجه بسيارتي "فيات 128" مباشرة إلى شاطئ بحر رفح، والنزول إلى الماء مباشرة، والسباحة غرباً عدة كيلو مترات، ومن ثم التوجه جنوباً قبل انبلاج الفجر، لأخرج على الشواطئ المصرية، لقد كنت أعددت خطتي مسبقاً، ودرست المكان جيداً، وكنت أتمتع بقوة جسدية خارقة، وكانت لدي قدرات مذهلة للسباحة في كل الظروف، وقد اكتملت لدي في تلك الليلة التي حاصرها الجنود الإسرائيليون القناعة بضرورة عدم تسليم نفسي مهما كلف الأمر.
كان لبيتي أربعة أبواب تطل على أربع جهات، ولكنني في تلك الليلة اخترت الطريق التي تأتي على البيت من وسط المخيم الغربي، وكانت تمر عبر زقاق بعرض مترين، فيه باب من الخشب يفضي إلى مطبخ البيت.
كنت أرتدي جلابية بلا شباح داخلي، وكان في جيبي ليرة إسرائيلية واحدة، وعلبة سجائر تبقى منها سيجارة واحدة، وقداحة، وكانت خطواتي للبيت واثقة سريعة جريئة لا تلوي على أي شيء يحول دون تنفيذ خطتي، كنت أنوي إلقاء نظرة وداع على أطفالي الخمسة وقتئذٍ، والمغادرة بسرعة، ولم يخطر في بالي أنني قد وقعت في الكمين وسط عشرات البنادق المصوبة بخشونة على رأسي، والتي تشكشك من حولي، مع صوت باللغة العبرية يقول لي: تعمود، تريم يديم لماله،
رفعت يدي إلى أعلى وقد أدركت أنني قد وقعت في الفخ، فقد كان انسحاب الجنود قبل ساعة مجرد خدعة يهودية، وكانت مغادرة المجنزرات للمكان خدعة مخابرات.
قادتني البنادق الإسرائيلية المصوبة حتى غرفة نومي، كي أحضر بطاقة الهوية، وحين تأكد الضابط من الاسم، قال لي: وقع على شهادة بأن الجنود الإسرائيليين لم يأخذوا من بيتك أي شيء. رفضت التوقيع، وقلت: وما أدراني أنكم لم تأخذوا شيئاً.
وقتها لف أحد الضباط يدي خلف ظهري، ووضع فيها كلبشة بلاستك مقوى، ووضع على عيني غطاء، وقادني الجنود إلى المجنزرة التي كانت تنتظر عند نهاية المخيم الغربي، لتبدأ من تلك الليلة رحلة ميلاد شخصيتي الجديدة في السجون الإسرائيلية.