الصغير يذهب إلى المخيم
غسان كنفاني
كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الإشتباك ذاته.. الإلتحام المتواصل بالعدو لأنه أثناء الحرب قد تهب نسمة سلام يلتقط فيها المقاتل أنفاسه. راحة. هدنة.إجازة تقهقر. أما في الإشتباك فإنك دائماً على بعد طلقة. أنت دائماً تمرّ بأعجوبة بين طلقتين، وهذا ما كان، كما قلت لك، زمن الاشتباك المستمر.
كنت أسكن مع سبعة أخوة كلهم ذكور شديدو المراس، وأب لا يحبّ زوجته ربما لأنها أنجبت له زمن الإشتباك ثمانية أطفال. وكانت عمتنا وزوجها وأولادها الخمسة يسكنون معنا أيضاً، وجدّنا العجوز الذي كان إذا ما عثر على خمسة قروش على الطاولة أو في جيب أحد السراويل الكثيرة المعلّقة مضى دون تردد واشترى جريدة، ولم يكن يعرف، كما تعلم، القراءة، وهكذا كان مضطراً للاعتراف دائماً بما اقترف كي يقرأ أحدنا على مسمعه الثقيلين آخر الأخبار.
في ذلك الزمن – دعني أولاً أقول لك أنه لم يكن زمن اشتباك بالمعنى الذي يخيّل إليك، كلاّ لم تكن ثمة حرب حقيقية. لم تكن ثمة أي حرب على الإطلاق. كل ما في الأمر أننا كنا ثمانية عشر شخصاً في بيت واحد من جميع الأجيال التي يمكن أن تتوفّر في وقت واحد. لم يكن أي واحد منّا قد نجح بعد في الحصول على عمل، وكان الجوع – الذي تسمع عنه- همنا اليومي. ذلك أسميه زمن الإشتباك. أنت تعلم. لا فرق على الإطلاق.
كنا نقاتل من أجل الأكل، ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا، ثم نتقاتل بعد ذلك. ثم في أية لحظة سكون يخرج جدّي جريدته المطوية باعتناء من بين ملابسه ناظراً إلى الجميع بعينيه الصغيرتين المتحفّزتين، معنى ذلك أن خمسة قروش قد سرقت من جيب ما – إذا كان فيه هناك خمسة قروش – أو من مكان ما. وأن شجاراً سيقع. ويظل جدّى متمسّكاً بالجريدة وهو يتصدّى للأصوات بسكون الشيخ الذي عاش وقتاً كافياً للإستماع إلى كل هذا الضجيج والشّجار دون أن يرى فيها ما يستحق الجواب أو الاهتمام.. وحين تهدأ الأصوات يميل أقرب الصبيان إليه (ذلك أنه لم يكن يثق بالبنات) ويدفع له الصحيفة وهو يمسك طرفها، كي لا تخطف.
وكنت مع عصام في العاشرة – كان أضخم مني قليلاً كما هو الآن.. وكان يعتبر نفسه زعيم إخوته أبناء عمتي – كما كنت أعتبر نفسي زعيم إخوتي.. وبعد محاولات عديدة استطاع والدي وزوج عمّتي أن يجدا لنا مهنة يومية: نحمل السلة الكبيرة معاً ونسير حوالي ساعة وربع، حتى نصل إلى سوق الخضار بعد العصر بقليل. في ذلك الوقت أنت لا تعرف كيف يكون سوق الخضار: تكون الدكاكين قد بدأت بإغلاق أبوابها وآخر الشاحنات التي كيف يكون سوق الخضار: تكون الدكاكين قد بدأت بإغلاق أبوابها وآخر الشاحنات التي تعبر بما تبقّى، تستعد لمغادرة ذلك الشارع المزحوم. وكانت مهمتنا – عصام وأنا – هيّنة وصعبة في آن واحد. فقد كان يتعيّن علينا أن نجد ما نعبئ به سلتنا: أمام الدكاكين. وراء السيارات.
وفوق المفارش أيضاً إذا كان المعنيّ في قيلولة أو داخل حانوته.
أقول لك أنه كان زمن الإشتباك: أنت لا تعرف كيف يمرّ المقاتل بين طلقتين طوال نهاره. كان عصام يندفع كالسهم ليخطف رأس ملفوف ممزّق أو حزمة بصل، وربما تفاحة من بين عجلات الشاحنة وهي تتأهّب للتحرّك. وكنت أنا بدوري أتصدّى للشياطين – أي بقية الأطفال – إذا ما حاولوا تناول برتقالة شاهدتها في الوحل قبلهم. وكنا نعمل طوال العصر: نتشاجر عصام وأنا من جهة، مع بقية الأطفال أو أصحاب الدكاكين أو السائقين أو رجال الشرطة أحياناً، ثم أتشاجر مع عصام فيما تبقّى من الوقت.
كان ذلك زمن الإشتباك. أقول هذا لأنك لا تعرف: إن العالم وقتئذ يقل على رأسه، لا أحد يطالبه بالفضيلة.ز سيبدو مضحكاً من يفعل.. أن تعيش كيفما كان وبأية وسيلة هو انتصار مرموق للفضيلة. حسناً. حين يموت المرء تموت الفضيلة أيضاً. أليس كذلك؟ إذن دعنا نتفق بأنه في زمن الاشتباك يكون من مهمتك أن تحقق الفضيلة الأولى، أي أن تحتفظ بنفسك حيّاً. وفيما عدا ذلك يأتي ثانياً. ولأنك في اشتباك مستمر فإنه لا يوجد ثانياً: أنت دائماً لا تنتهي من أولاً.
وكان يتعيّن علينا أن نحمل السلّة معاً حين تمتلئ ونمضي عائدين إلى البيت: ذلك كان طعامنا جميعاً لليوم التالي.. بالطبع كنا أنا وعصام متفقين على أن نأكل أجود ما في السلّة على الطريق. ذلك اتفاق لم نناقشه أبداً، لم نعلن عنه أبداً. ولكنه كان يحدث وحده. ذلك أننا كنا معاً في زمن الاشتباك.
وكان الشتاء شديد القسوة ذلك العام الملعون، وكنّا نحمل سلّة ثقيلة حقاً، (هذا شيء لا أنساه، كأنك وقعت أثناء المعركة في خندق فإذا به يحوي سريراً) وكنت آكل تفاحة، فقد كنّا خرجنا من بوابة السوق وسرنا في الشارع الرئيسي. قطعنا ما يقرب من مسير عشر دقائق بين الناس والسيارات والحافلات وواجهات الدكاكين دون أن نتبادل كلمة (لأن السلة كانت ثقيلة حقاً وكنا نحن الإثنين منصرفين تماماً إلى الأكل) وفجأة..
لا. هذا شيء لا يوصف. لا يمكن وصفه: كأنك على نصل سكين من عدوك وأنت دون سلاح وإذا بك في اللحظة ذاتها تجلس في حضن أمك..
دعني أقول لك ما حدث: كنّا نحمل السلّة كما قلت لك، وكان شرطي يقف في منتصف الطريق، وكان الشارع مبتلاً، وكنا تقريباً دون أحذية. ربما كنت أنظر إلى حذاء الشرطي الثقيل والسميك حين شهدتها فجأة هناك،كان طرفها تحت حذائه، أي كنت بعيداً حوالي ستة أمتار ولكنني عرفت، ربما من لونها أنها أكثر من ليرة واحدة.
نحن في مثل هذه الحالات لا نفكّر. يتحدّثون عن الغريزة. طيّب. أنا لا أعرف ما إذا كان لون الأوراق المالية شيئاً له علاقة بالغريزة. له علاقة بتلك القوة الوحشية، المجرمة، القادرة على الخنق في لحظة، الموجودة في أعماق كل منا. ولكن ما أعرفه هو أن المرء في زمن الإشتباك لا ينبغي له أن يفكّر حين يرى ورقة مالية تحت حذاء الشرطي وهو يحمل سلة من الخضار الفاسد على بعد ستة أمتار. وهذا ما فعلته: ألقيت ببقايا التفاحة وتركت السلة في اللحظة ذاتها. ولا شك أن عصام تمايل فجأة تحت ثقل السلة التي تركت في يده ولكن كان قد شاهدها بعدي بلحظة واحدة. إلاّ أنني بالطبع كنت قد اندفعت تحت وطأة تلك القوة المجهولة التي تجبر وحيد القرون على هجوم أعمى، غايته آخر الأرض، ونطحت ساقي الشرطي بكتفي فتراجع مذعوراً. وكان توازني أنا الآخر قد اختلّ. ولكنني لم أقع على الأرض – وفي تلك اللحظة التي يحسب فيها الأغبياء أن لاشيء يمكن له أن يحدث – شاهدتها: كانت خمس ليرات. لم أشاهدها فحسب بل التقطتها واستكملت سقوطي. إلاّ أنني وقفت بأسرع مما سقطت وبدأت أركض بأسرع مما وقفت.
ومضى العالم بأجمعه يركض ورائي: صفّارة الشرطي، وصوت حذائه يقرع بلاط الشارع ورائي تماماً. صراخ عصام، أجراس الحافلات. نداء الناس.. هل كانوا حقاً ورائي؟ ليس بوسعك أن تقول وليس بوسعي أيضاً. لقد عدوت متأكداً حتى صميمي أن لا أحد في كل الكواكب السيارة يستطيع أن يمسكني.. وبعقل طفل العشر سنوات سلكت طريقاً آخر.
ربما لأنني حسبت أن عصام سيدلّ الشرطي على طريقي. لست أدري. لم ألتفت. كنت أركض ولا أذكر أنني تعبت.. كنت جندياً هرب من ميدان حرب أجبر على خوضها وليس أمامه إلاّ أن يظل يعدو والعالم وراء كعبيّ حذائه.
ووصلت إلى البيت بعد الغروب، وحين فتح لي الباب شهدت ما كنت أشعر في أعماقي أنني سأشهده: كان السبعة عشر مخلوقاً في البيت ينتظرونني. وقد درّسوني بسرعة، ولكن بدقة، حين وقفت في حلق الباب أبادلهم النظر:كفي مطبقة على الخمس ليرات في جيبي، وقدماء ثابتتان في الأرض.
كان عصام يقف بين أمه وأبيه، وكان غاضباً. لا شك أن شجاراً قد وقع بين العائلتين قبل مقدمي. واستنجدت بجدي الذي كان جالساً في الركن ملتحفاً بعباءته البنية النظيفة ينظر إليّ بإعجاب: رجلاً كان حكيماً. رجلاً حقيقياً يعرف كيف ينبغي له أن ينظر إلى الدنيا.
وكان كل ما يريده من الخمس ليرات: جريدة كبيرة هذه المرة.
وانتظرت الشجار بفارغ الصبر. كان عصام بالطبع قد كذب: قال لهم أنه هو الذي وجد الخمس ليرات وأنني أخذتها منها بالقوة. ليس ذلك فقط، بل أجبرته على حملة السلة الثقيلة وحده طوال المسافة المنهكة: ألم أقل لك أنه زمن الاشتباك؟ لم يكن أي واحد مننا مهتماً فقط بل كان متأكداً من أن أحداً لم يهتم بالحقيقة. ليس ذلك فقط بل إنه ارتضى أن يذلّ نفسه ويعلن ربما للمرة الأولى أنني ضربته وأنني أقوى منه.. ولكن ما قيمة ذلك كله أمام المسألة الحقيقية الأولى.
كان أبوه يفكّر بشيء آخر تماماً: كان مستعداً لقبول نصف المبلغ وكان أبي يريد النصف الآخر لأنني لو نجحت في الإحتفاظ بالمبلغ كله لصار من حقي وحدي، أما إذا تخلّيت عن هذا الحق فأفقد كل شيء وسيتقاسمون المبلغ.
ولكنهم لم يكونوا يعرفون حقاً معنى أن يكون الطفل ممسكاً بخمس ليرات في جيبه زمن الإشتباك.. وقد قلت لهم جميعاً بلهجة حملت لأول مرة في حياتي طابع التهديد بترك البيت وإلى الأبد: إن الخمس ليرات لي وحدي.
وأنت تعرف لا شك: جنّ جنونهم، ضاع رابط الدم فوقفوا جميعاً ضدي. لقد أنذروني أولاً. ولكنني كنت مستعداً لما هو أكثر من ذلك ثم بدأوا يضربونني. وكان بوسعي بالطبع أن أدافع عن نفسي، ولكن لأنني أردت أن أحتفظ بكفي داخل جيبي مطبقة على الخمس ليرات فقد كان من العسير حقاً أن أتجنب الضربات المحكمة. وقد تفرّج جدّي على المعركة باستثناء بادئ الأمر، ثم لما بدأت المعركة تفقد طرافتها قام فوقف أمامهم، وبذلك يسر لي أن ألتصق به. اقترح تسوية. قال إن الكبار لا حق لهم بالمبلغ. ولكن من واجبي أن آخذ كل أطفال البيت ذات يوم صحو إلى حيث نصرف جميعاً مبلغ الخمس ليرات كما نشاء.
عندها تقدّمت إلى الأمام معتزماً الرفض، إلاّ أنني في اللحظة ذاتها شهدت في عينيه ما أمسكني. لم أفهم بالضبط آنذاك ما كان في عينيه، ولكنني شعرت فقط أنه كان يكذب وأنه كان يرجوني أن أصمت.
أنت تعرف أن طفل العشر سنوات – زمن الاشتباك – لا يستطيع أن يفهم الأمور (إذا كان ثمة حاجة لفهمها) كما يستطيع عجوز مثل جدّي. ولكن هذا هو ما حصل. كان يريد جريدته ربما كل يوم لمدة أسبوع – وكان يهمه أن يرضيني بأي ثمن.
وهكذا اتفقنا ذلك المساء. ولكنني كنت أعرف أن مهمتي لم تنته. فعليّ أن أحمي الليرات الخمس كل لحظات الليل والنهار. ثم عليّ أن أماطل بقية الأطفال. وعليّ أيضاً أن أواجه محاولات إقناع وتغرير لن تكف عنها أمي. قالت لي ذلك المساء أن الليرات الخمس تشتري رطلين من اللحم، أو قميصاً جديداً لي، أو دواء حين تقتضي الحاجة، أو كتاباً إذا ما فكّروا بإرسالي إلى مدرسة مجانية في الصيف القادم... ولكن ما نفع الكلام؟ كأنها كانت تطلب مني وأنا أعبر بين طلقتين أن أنظف حذائي.
ولم أكن أعرف بالضبط ماذا كنت أنوي أن أفعل. ولكنني طوال الأسبوع الذي جاء بعد ذلك نجحت في مماطلة الأطفال، بآلاف من الكذبات التي كانوا يعرفون أنها كذلك ولكنهم لم يقولوا إطلاقاً أنها أكاذيب. لم تكن الفضيلة هنا. أنت تعلم. كانت مسألة أخرى تدور حول الفضيلة الوحيدة آنذاك:الخمس ليرات.
ولكن جدّي كان يفهم الأمور، وكان يريد جريدته ثمناً معادلاً لدوره في القصة، وحين مضى الأسبوع بدأ يتململ. لقد شعر (من المؤكد أنه شعر، ذلك لأن رجلاً عجوزاً مثله لا يمكن أن تفوته تلك الحقيقة) أنني لن أشتري له الجريدة، وأنه فقد فرصته، ولكنه لم يكن يمتلك أية وسيلة لاستردادها.
وحين مرّت عشرة أيام أخرى اعتقد الجميع أنني صرفت الليرات الخمس، وأن يدي في جيبي تقبض على فراغ. على خديعة. ولكن جدّي كان يعرف أن الليرات الخمس ما تزال في جيبي. وفي الواقع قام ذات ليلة بمحاولة لسحبها من جيبي وأنا مستغرق في النوم، (كنت أنام بملابسي) إلاّ أنني صحوت فتراجع إلى فراشه ونام دونما كلمة.
قلت لك. إنه زمن الاشتباك. كان جدّي حزيناً لأنه لم يحصل على جريدة، وليس لأنني نكثت بوعد لم يتفق عليه. كان يفهم زمن الاشتباك، ولذلك لم يلمني طوال السنتين اللتين عاشهما بعد ذلك على ما فعلته. وقد نسي عصام القصة أيضاً. كان في أعماقه – كطفل صعب المراس- يفهم تماماً ما حدث. واصلنا رحلاتنا اليومية إلى سوق الخضار، كنا نتشاجر أقل من أي وقت مضى ونتحادث قليلاً. يبدو أن شيئاً ما – جداراً مجهولاً ارتفع فجأة بينه – هو الذي ما زال في الاشتباك – وأنا الذي تنفّست – ليس يدري كم – هواء آخر.
وأذكر أنني احتفظت بالخمس ليرات في جيبي طوال الخمسة أسابيع: كنت أعد خروجاً لائقاً لها في زمن الاشتباك. إلاّ أن كل شيء حين يقترب من التنفيذ كان يبدو وكأنه جسر للعودة إلى زن الاشتباك وليس للخروج منه.
كيف تستطيع أن تفهم ذلك؟ كان بقاء الليرات الخمس معي شيئاً يفوق استعمالها. كانت تبدو في جيبي وكأنها مفتاح أمتلكه في راحتي وأستطيع في أية لحظة أن أفتح باب الخروج وأمضي. ولكن حين كنت أقترب من القفل كنت أشمّ وراء الباب زمن اشتباك آخر. أبعد مدى. كأنه عودة إلى بداية الطريق من جديد.
وما بقي ليس مهماً: ذات يوم مضيت مع عصام إلى السوق وقد اندفعت لأخطف حزمة من السلق كانت أمام عجلات شاحنة تتحرّك ببطء. وفي اللحظة الأخيرة زلقت وسقطت تحت الشاحنة. كان حظي جيداً فلم تمر العجلات فوق ساقي، إنما توقّفت بالضبط بعد ملامستها. وعلى أية حال صحوت من إغمائي في المستشفى. وكان أول ما فعلته – ما لا شك تخمن – أن تفقّدت الخمس ليرات. إلاّ أنها لم تكن هناك.
أعتقد أن عصام هو الذي أخذها حين حملوه معي في السيارة إلى المستشفى. ولكنه لم يقل وأنا لم أسأل. كنا نتبادل النظر فقط ونفهم. لا ، لم أكن غاضباً لأنه كان ملهياً وأنا أنزف دمي بأخذ الليرات الخمس. كنت حزيناً فقط لأنني فقدتها.
وأنت لن تفهم. ذلك كان في زمن الاشتباك.