بسم الله الرحمن الرحيم



يمكن مشاهدة عدة أفلام عن الموضوع على الروابط التالية:
























إنَّ اللهَ سُبحانَه عظيمٌ رحيمٌ وقد أظهرَ عظمتَه ورحمتَه في خلقِه وفي كُتبِه ... وهو واحدٌ وقد أظهرَ وحدانيتَهُ في خلقِهِ وفي كُتبِهِ ... وهو قويٌ شديدُ العقابِ وقد بيَّنَ ذلك في خلقِه وفي كُتبِه ... وهو واسعٌ عليمٌ غنيٌ وقد بيَّنَ ذلك في خلقِه وفي كُتبِه ... وهو الظاهِرُ وقد أظهرَ كُلَّ شيءٍ في خلقِه وفي كُتُبِه ... ثُمَّ ... هو الباطِنُ فلِمَ لا يُبْطِنُ أمُوراً في خَلقِه وفي كُتُبِهِ؟ أمُوراً مُبْطنةً بِمِلءِ أسْمَائِهِ الحُسْنى ... وبِمِلءِ ما أظهرَ ... بمِلءِ ما أكرمَ وأغنى ... وبمِلءِ ما أبدعَ وأعجزَ ...




فلَكَمْ من الآياتِ من حولِنا نراها ولا ندركُ منها إلَّا ما شاءَ سُبحانَهُ لنا أنْ ندركَ .... ولو كان عِلمُ الخلقِ هذا كِتَاباً كُتِبَ بمدادِ بِحارِ العالمين فنحن بالكادِ نعلمُ جُملةً واحِدةً منه ... فإنْ كان هذا الجهلُ حالَنا مع كتابِ الخلقِ المبين، فتُراهُ كيف يكونُ مع كتابِ القرآن الكريم؟



فوجُودُ أمُورٍ باطِنةٍ في القُرآنِ المُباركِ هي من الدينِ الحنيف نفسِه ...



فالحديثُ النبوي "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌ" وما شابهه في المعنى قد لا ينطبق على ما نتوقعه من وُجودِ أمورٍ باطنةٍ في القرآن، لأنَّ وجودَها من الدين نفسِهِ، ومصدرُها من القرآنِ الكريمِ ذاته ...



إنَّ ما نقول بامكانية حدوثه هنا ليس بجديدٍ، فهو من أبجدياتِ الطبيعةِ من حولِنا. ففي جميع المجالاتِ النظريَّةِ والتطبيقيَّةِ، تبقى الكثيرُ من الأمُورِ أسْرَاراً إلى أنْ نرقى بأسلوبِنا وعِلمِنا إلى درجةٍ تُمكُننا من تطويرِ الوسائلِ اللازمةِ لسبرِ أغوارِها، ولكُلِّ سِرٍ متطلباتُه المتفاوتةُ من الوسائل.



فعلى سبيلِ المثالِ، كانت هناك مؤشراتٌ في التاريخ بإمكانية طيران الإنسان تتمثل بمُشاهدةِ الطيور، ولكِنَّنا لم نستطعِ الطيرانَ إلَّا بعد اكتشافاتِ قُوى الجاذبيَّةِ والإيروداينمكيَّةِ والقدرةِ على تصنيع وتشكيلِ الموادِ بما يُلبي جميعَ قوانين ومتطلباتِ الطيران.


فلو كانت الأسرارُ من أبجدياتِ خلق اللهُ عزَّ وجلَّ، أفَلا تكونُ من أبجدياتِ كتابِه؟ فاللهُ تبارك وتعالى وضعَ أسراراً في الخلقِ وفي القُرآنِ، وفي نفس الوقتِ وضعَ مؤشِراتٍ لهذهِ الأسرار. فمتى تفَكِّرَ الإنسانُ وفَعَّلَ العقلَ فتحَ عليه تعالى ببعضٍ من الأسرار المبطنة وهو الظاهر والباطن ... ذو الجلال والإكرام.




جاءت عبارةُ {أُمِّ الْكِتَبِ} في ثلاثة مواضع من المصحفِ الشريف.


في الآيةِ السابعة من سُورةِ ءَالِ عِمرانَ الفضيلة:



هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشبهتٌ،
فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ،
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا،
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألبَبِ {7}




وفي الآيةُ التاسعة والثلاثين من الرعد:



يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتبِ { 39} ...



والآيةِ الرابعة من الزخرف الجميلة :



وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ { 4}.





إنَّ "أمَّ الكتبِ" المذكورة في هذه المواضع من منظورنا تعني أول الأحرف والأرقام، أي حرف ((ا)) والرقم ((1)) ...



فحرف الألف في اللغة سميت ألفاً لأنها تألفُ الحروف كلها، وهي أكثر الحروف دخولا في المنطق، ويقولون : هذه ألفٌ مؤلَّفةٌ، وقد جاء في قول بعضهم في قوله تعالى: (الم) أن الألف اسم من أسماء الله تعالى وتقدس.


كذلك فمن معاني "الأم" لغة الأصل والعماد والمُولدة. وأمُّ الكتاب هي فاتحة الكتاب لأنها المقدمة أمام كلِّ سورة في جميع الصلوات، ولأنها في مقدمة المصحف الشريف.


من هذه التعاريف اللغوية يمكن فهم أن الأم تأتي بمعنى المقدمة أو الأول. فالأمّ تأتي أولاً.







وللكتاب عدة معاني ومنها "الأحرف والأرقام" إذ إنَّ :
الحرف أو الرقم يُكتبُ فهو كِتاب،
كما إنّ الخبزَ يُطْعَمُ فهو طعام ...
والشايَ يُشْرَبُ فهو شراب.



وأول الأحرف الأبجدية ومقدمته هو الألف ( ا ) : ا – ب – ت - ،
أو في ترتيب أبجد هوز: ا – ب – ج – د – هـ – و – ز ... ،



وأول ومقدمة الأرقام هو ( 1 ) : 1 – 2 – 3 – 4 - ...



وبالتالي يمكن فهم حرف الألف ((ا)) والرقم ((1)) على أنهما أم الكتاب ... أي مقدمة و أوَّلُ الكتابة والحروف والأرقام.



فمعنى "كتاب" لا ينحصر فقط على ما هو متعارفٌ بمعنى مجموعةٍ من الأوراق مثلِ الدفترِ أو الكراسِ، بل إنَّ من معاني "كتاب" في اللغة هو كلُّ ما كتبَ. فجميع الأحرفِ والأرقامِ إنَّما هي "كُتُبٌ" ... فحرفُ الألفِ، أو الباءِ، أو الجيمِ، أو الدَّالِ، إلى آخر الأحرف، والأرقامُ واحدٌ، اثنانٌ، ثلاثةٌ، إلى آخره إنَّما هي "كُتُبٌ" ... أيضاً ...


ومن الأدلة القرآنية الكريمة على إنّ "الكتاب" يمكن أن يكون "حرفا" ما جاء في سورة البينة الكريمة:



رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُّطَهَّرَةً {2} فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ {3}


فالصحف هنا تفهم على أنها الأوراق، والكتب القيمة هي الأحرف والكلمات في هذه الصحف.



فالأحرف الأبجدية "المعوجة المثنية مثاني" في رسمها مثلاً (ح – ج – خ) أو (ب – ن – ت - ث) أو (ر – ز – د – ذ) ... متشابهةٌ في رسمِها وصورِها. ((ملاحظة: لا تدخل النُقاط في أساس تشكيل الحرف إذ أنَّ القُرآنَ الكريمَ لمْ ينزلْ مُنقطاً، بل تمَّ تنقيطُه بعد النزولِ بِعَهد)) ...






أمَّا حرفُ ألفِ المدِّ ((ا)) فلا مُشابهَ له في استقامتِه بين الحروف، إذ هو من منظورنا "أمُّ الكتب" أي "أمُّ الحروف" أي "أصلُها ومُوَّلِدُها" ...



ولأن من معاني الأم هو "المولدة" ... ولأن حرف الألف هو "الأم" فيمكن تصور أن الأحرف المتشابهة المثنية مثاني مولدة وخارجة من أمّها ... أم الحروف أي أمّ الكتاب حرف الألف من هذا المنظور.



فيمكن فهم أن جميع الأحرفِ والأرقامِ والكُتُب تنتجُ من تشكُّلِ وتثني أمِّها وأصلها التي لا عوج لها ((ا)).


فحرف الـ ( هـ ) يتوَّلدُ من أمِّ الكتاب ((ا)) بليِّها كالأنشوطةِ،
وحروف الـ (ب، ن، ت، ث) تتوَّلدُ من ( ا ) بإسقاطها أولاً ثُمَّ ليِّ طرفيها للأعلى،
وحروفُ الـ (ر، ز، د، ذ) تتوَّلدُ من ((ا)) بليِّ طرفها السُفلي للأمام،
والرقم ( 9 ) يتوَّلدُ من ((ا)) بليِّ رأسها على شكل دائرة وثَنيِّ الذيلِ قليلاً،
وهكذا لجميع الأحرف والأرقام ...



يمكن التصور بأن الله تعالى قد جعل في كلِّ خلقٍ من خلقه مثلاً ورمزاً له يشيرُ له تعالى ويشهدُ بوحدانيته. وهذا المثلُ والرمزُ يكونُ بمثابة المرجعِ أو الأصلِ أو الموَّلدِ والأمِّ لغيره. وهو كالمحور الرئيسي الذي تدورُ الأشياءُ من حوله وتهتدي بهديه، وتتعلق به وتستنير بنوره وتسبَحُ في فلكِه.


ومن هذا المنظور، فأمَّ الكتابِ هي حرف ألف المدِّ ا الذي لا عِوجَ له وهو رمزٌ لله الواحد بين الأحرف، ومنه ومن استقامته تولدت وتحوّرت وتشكلت جميع الأحرف الأخرى بِليِّه وثنيِّه وبالتالي خرجت وانبثقت منه اللغات المختلفة وما تحويه من آدابٍ وعلوم وفنون ...


ولأنَّ الكلماتِ مجموعةُ أحرفٍ، فإنَّ القرآنَ الكريم كلَّه من منظورنا توَّلدَ من أمِّ الكتابِ (( ا )) الذي هو رمزٌ لله تعالى، وهو أول حرف من لفظ الجلالة العظيم، فهي كالينبوع تتفجَّرُ منه الكلمات كالأنهار ...



والرقم 1 هو أمُّ وأصلُ الأرقام ومنه ومن مضعفاته نشأت الأرقام الأخرى كلَّها ونشأت العلوم الرياضية ومن ثم العلوم الكونية كالفيزياء والكيمياء والفلك والهندسة ... واللغةُ العربيةُ أمُّ اللغات ... وأمُّ السُور الفاتحةُ ... وأمُّ القُرى مكةُ المكرمةُ ... وأمُّ البيوتِ الكعبةُ المشرفةُ ...... وكذلك فإنَّ أمَّ المؤمنينَ هُنَّ زوجاتُ سيِّدي رسُولِ الله الشريفاتِ الطاهرات، لذلك فقد أمرنا بأنْ نقتدي بهن ونهتدي بهديهن ...








نجدُ كثيراً من الشواهد لما نقول به من حولنا في الطبيعة، فالأشياءُ تنطلق من مراكزها وكأنَّها تتولدُ من هذه المراكز. كانتشارِ الصوتِ والضوء، وورقاتُ الأزهار التي تبدو وكأنَّها مُوَّلدةٌ وخارجةٌ من مراكزها ... والكواكبُ والنجوم والمجراتُ والذراتُ التي تدورُ حولَ مراكزها ...


فكلُّ الأشياءِ تخرجُ وتتوَّلدُ من مراكزها، وتطوفُ وتسبحُ حول هذه المراكز ... وذلك يتناغمُ مع ما نقول به من تولدِ وخروجِ جميع الأحرفِ من مركزها وأمِّها ... حرفِ الألفِ ... أمِّ الكتاب ... مصدرِ النورِ والجمالِ ...



فلا غرابة إذن من أنَّ رسم كلمتي {يُسبِّحُون} بتشديد الباء بمعنى تسبيح الله تعالى و {يَسْبَحُون} بتخفيف الباء بمعنى الدَّوران في مدارٍ هو الرسم نفسه تماماً. فالخلائقُ، كلُّ الخلائق {تُسَبِّحُ} خالقها وفي نفس الوقت {تَسْبَحُ} في مداراتها كما جاء في العديد من الآيات القرآنية. فكلُّ شيءٍ {يُسَبِّحُ} - بتشديد الباء وضمِّ الياء - لله تعالى كما جاء في الآية 20 من سورة الأنبياء على سبيل المثال: يُسَبِّحُونَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ {الأنبياء: 20} ...


وفي نفس الوقت فكلُّ شيءٍ {يَسْبَحُ} - بتخفيف الباء وفتح الياء - في مداره حول مركزه كما جاء أيضاً في العديد من الآيات القرآنية، وعلى سبيل المثال من سورة الأنبياء آية 33: وهُوَ الَّذى خَلَقَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ {الأنبياء: 33} ...



فكلٌ يطوف حول مركزه الواحد ويشيرُ إلى الله الواحد جلّ جلاله، سواءٌ في كتاب القرآن الكريم أو في كتاب الخلق العظيم. فطواف المخلوقات حول مركزٍ واحد كطواف الإنسان حول بيت الله، وطواف الأصابعَ الأربعة حول مركزها – الإبهام - والذرة ومكوناتها، والأجرام السماوية والمجرات بأشكالها وأنواعها، إنَّما هو إخبارٌ بلطفٍ وخِفية منه، وهو اللطيف الخبير، بأنَّ كل شيءٍ – صغُرَ أم كَبُرَ – محتاجٌ فقيرٌ ومتعلق ٌ به، ومُستنيرٌ بنوره، وآخذٌ مسببات وجودِهِ وحياتِهِ وبقائِهِ منه عزّ وجلّ. فكما ستهلكُ الأرضُ ومن عليها إنْ هي أفلتت من مسارها حول الشمس، فإنَّ الخلق – كلَّ الخلق – سيهلكُ إنْ هو عصاهُ وأفلتَ وخرج من رحمته تعالى ...



وهذا المفهوم يكون هو المقصود بقوله تعالى من سورة آل عمران: الم {1} اللهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ الْقَيُّومُ {2} ...


فهو اللهُ الواحدُ المُبينُ بآياته، لأنَّه وكما سنبين لاحقا أنَّ {الم}قد تعني {المبين}، وهو الحيُّ الذي يقومُ عليه كلُّ شيءٍ، ويستظلُ بظله ورحمته وإنعامه كلُّ مخلوق، ويستمدُ منه وجودَه وحياتَه وبقائَه ... فأكرم به من ربٍّ كريم ...



وفي الخلاصة: لأنَّ الكتابَ حرفٌ والحرفَ كتابٌ، فأمَّ الحرفِ أو الكتابِ أي أولُه هو حرفُ الألفِ والرقمِ 1 لأنهما يأتيانِ أولَ الأحرفِ الأبجديةِ وأولَ الأرقامِ ... ومنهما وبليِّهِما وثَنيِّهما توَّلدت وتحوَّرت جميع الأحرف والأرقام الأخرى ...



ومن منظور أمّ الكتاب الكريم المولد المعطاء هذا ننظر إلى الآيات الثلاثة التي وردت عبارةَ "أمّ الكتب" فيها ... فبسم الله ...



أولا سورة آل عمران الفضيلة:



الم {1} اللهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الحَىُّ الْقَيُّومُ {2}
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكتبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ {3}
مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بـءـايتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ {4}
إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى١ عَلَيْهِ شَىءٌ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء {5}
هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {6}
هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ ((أُمُّ الْكتبِ)) وَ ((أُخَرُ مُتَشبهتٌ)) ،
فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ،
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ، وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا،
وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألببِ {ءالِ عمران : 1-7}




أمُّ الكتبِ : حرفُ ألفِ المدِّ ( ا ) المرسُومُ المُصورُ في المُصحفِ. فتكونُ:



الأُخرُ المتشابهاتُ : مجاميع الأحرفِ الأخرى والتي هي مُتشابهةٌ في رسمِها وصُورها كما في الحروفِ (الكُتُبِ) التاليَّةِ:


( ب، ن، ت، ث ) ...
( ح، ج، خ ) ...
( ص، ض، ط، ظ )
(ر، ز، د، ذ)



فحروفُ (ب)، (ن)، (ث)، (ت) متشابهةٌ في رسمِها وصورِها. وهكذا ...



بهذا يكون من معاني {ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ} أي آيات اللهِ تعالى المُتمثلة باستخراجِ الأحرفِ المتشابهةِ من أمِّ الكتبِ وكلُّها محكماتٌ سواءٌ المستقيمُ منها أي " أمُّ الكتبِ ا" أو الأخرى المُلتويةُ المُعوجةُ المثنيَّةُ المُتشابهةُ في الرسم والصورةِ (ح، ج، خ). فـ "ءايتٌ مُّحْكَمَتٌ" لا تعني آياتِ القُرآنِ بالمعنى الحرفي وحسب، فمن المعْلُوم أنَّ الله تعالى يذْكُرُ من آياتِهِ ما يشاءُ، والأحرفُ من كلامه تعالى وهي أيضاً آياتٌ من الكتابِ، بل هي أصلُ ( لُبُّ ) الكتاب وأصلُ الآيات ...





وبطريقة أخرى:


هُوَ الذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكتبَ ((الحروف)) مِنْهُ ءايتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ:


الأوَّل : أُمُّ الْكتب (أي حرف الألف ا )

الثاني : وَأُخَرُ مُتَشبهتٌ ( أي متشابهة في صورتِها مثل المجموعة : ب، ن، ت، ث )


وكُلّهنَّ – أي الأوَّل والثاني - ءايتٌ مُّحْكَمَتٌ!



فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ (أي ميلان) فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشبه مِنْهُ (أي المائلة من الحروفِ لأنَّ قلوبَهم مائلة). كذلك فهذه الجملة لها دلالات أخرى. فالزيغُ هو الميلُ، وهو عكسُ "أمِّ الكتب حرفِ الألف المستقيم ا " الذي لا عِوجَ له فتكون هذه إشارةٌ منه تعالى إلى الربطِ بين الميلِ و الـ " وَأُخَرِ مُتَشبهت " وزيغ وميلان قلوب هؤلاء الناس ...



ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ (هؤلاء المنافقون وأعداءُ الإسلام)، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ (فأنتم أقل من أنْ تدركوه وتُحصُوه سُبحانَه وأقل من أنْ تفهموا كلَّ كلامه، سبحانه وتعالى) ...



وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا (هؤلاء الذين يقولون كلٌ منه سُبحانَه فيجب أنْ يكونَ كلامُه كُلُّه متناغماً مترابطاً بنفس القوةِ والمتانةِ)، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألببِ (أصحابُ الفطرةِ السليمةِ والأصلِ النقي الذين يقدرونَ الله تبارك وتعالى حقَّ قدره فلا يرضونَ لكتابه بالنقص والتعارض) ...



وتنتهي الآيةُ المهيبة بقوله تعالى : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألببِ … وفي هذا أيضاً إشارةٌ جميلة … فـ : اللبُّ هو الأصلُ والقلبُ وبهذا تكونُ الإشارةُ في آخرِ الآيةِ إلى لبِّ الكتابِ أي أصلِه أي أمِّ الكتاب ( ا )… فتأمل …



لاحظْ في الآيةِ السابقةِ جملةَ: هُوَ الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ... فكما أنَّ تصويرَ الطفل في رحمِ أمِّه آيةٌ، فإنَّ تصويرَ الحروف من أمِّ الكتاب آيةٌ، وكلٌ من عِندِ ربِّنا تعالى يصورُ ما يشاء ... البديع الجميل ... ذي الجلال والإكرام ...







ثانياً: سورة الرعد



وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوجًا وَذُرِّيَّةً،
وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتى بـءـايةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ {38}
يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتبِ { 39}



فمن المعْلُومِ أنَّ الأحرفَ والكتابةَ تُمْحَى وتمسح من مكانٍ لتوضعَ وتكتبَ وتُثَبتَ و تُرْسَمَ في مكانٍ آخرٍ من المصحف:



كأنْ يُمحَى من رسم كلمةِ "سبحن" في أربعين موضعاً في المصحف ويظهرَ ويُثبتَ في موضعٍ واحد فتكتبَ "سبحان" في الآية 93 من الإسراء: قُلْ سُبْحَــا نَ ربِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً {93} ...



أو أن يُمحَى من كلمة " كتاب" فترسم "كتب" في جميع المصحف (252 موضعاً) لِيظهر ويُثبتَ في أربعةِ مواضع فقط فترسم "كتاب" ...



أو أن يُمحى من كلمة " قُرْءَنَاً" في موضعين:


من الآية 3 من الزخرف: إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَنَاً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3}
ومن الآية 2 من يوسف: الر تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَبِ الْمُبِينِ {1} إِنَّا أَنزَلْنَهُ قُرْءَنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {2}


لِيظهرَ ويُثبتَ في جميع المواضع الأخرى (68 موضعاً) برسم " قُرْاءَنَاً" ...



فمن منظورنا يكون المقصود بقولهِ تعالى {يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتبِ} ...
أي يمحوا تعالى أحرفاً من مكان ويثبتها في آخر.



وعِندهُ أي بمُلكِهِ هذا الكتابُ ((ا)) الذي هو أمُّ الكتابِ. فيضعُه سُبحانَهُ أينما شاءَ في القُرآنِ، ويحذفُه مما شاءَ ...

ولا يمكن فهم {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتبِ} بالموقع والمكان الجغرافي! فاللهُ سبحانه لا يتجسدُ في مكان لِيكونَ هذا الكتابُ بقربه ... سبحانه وتعالى ...





ثالثاً: سورة الزخرف الجميلة



حم {1} وَالْكتبِ الْمُبِينِ {2}
إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءَنَاً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3}
وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ {4}



نلاحظُ في الآيةِ الثالثة أنَّ كلمةَ { قُرْءَاناً } رسمت هكذا: { قُرْءَ ناً } أي تمَّ مَحْوُ "ألف المدِّ ( ا ) بين الهمزةِ والنونِ! هذه الملاحظةُ مهمةٌ جداً لأنَّها لم ترسمْ هكذا في المُصحفِ إلَّا هنا وفي الآية 2 من سُورةِ يوسف ... فلماذا؟


(ملاحظة: ورد رسم كلمة {قرءانا} بحرف الألف 68 مرة في المصحف) ...



وما هي دلالةُ اختفاءِ حرفِ (( ا )) من كلمةِ {قُرْءَ ناً} في الآيةِ 3 وظهورِ عبارةِ {أمِّ الكتبِ} في الآيةِ التاليَّةِ لها؟ مع العلمِ أنَّ هذا آخرُ موضعٍ في القُرآنِ تذْكُرُ {أمِّ الكتبِ} فيه!؟



وما هي دلالةُ اختفاءِ رسم حرف (( ا )) من رسمِ كلمةِ {قرء نا} في سُورةِ الزخرف والتي يدلُ اسمُها إلى الرسم والتصوير والجمال ، ومن سورة يوسف الذي يدل اسمه أيضاً إلى الحسن والجمال؟



من منظورنا فإنّ (( ا )) الغائبَ من كلمةِ {قرء نا} هو ذاتُه {أمِّ الكتبِ} المذكورُ بعده،


بمعنى: أنا أمّ الكتابِ (( ا )) ، اخْتَفيتُ من الآيةِ 3 برسمي (( ا )) ولكنِّي ظهرتُ في الآيةِ 4 برسمي الآخر {أمِّ الكتبِ} ...


ليس هذا وحسب، بل ولأنَّ (( ا )) هو مَصدرُ وأمُّ كلِّ الأحرفِ العربية المعروفة عالمياً بجمالها وزخرفتها على مدار التاريخ، فيكونُ إبطانُها في كلمةِ {قرء نا} إشارةً إلى أنَّ رسومَ وخطوط القُرآن وزخارفها مُشْتقةٌ ومَوْلودةٌ من ((ا)) ...






بمعنى:



أنا أمّ الكتابِ ((ا))، أُبْطِنتُ من كلمةِ {قرء نا}، ولكنَّني ظَهرتُ بأشكالٍ وزخارفَ أُخرى ... فكُلُّ ما تجدونَ في هذه السُورةِ من خطوطٍ وزخارفٍ وجمالٍ قد اُشْتُقَتْ مِنِّي، بما في ذلك اسمُها " الزُخرُف " والذي من معانيه الحُسنُ والجمالُ والكمال ...


كيف لا وحرف الألف هو أول أحرف لفظ الجلالة الكريم (( الله )) ...


وللإشارة اللطيفة على هذا المعنى فقد وردت كلمةُ {عَرَبِيّاً} (في إشارة إلى رسمِ الخطِ العربي وزخارِفِه) مباشرةً بعد كلمةِ {قرءنا} الخاليَّة من حرفِ (( ا )):


إِنَّا جَعَلنَهُ قُرْءَنَا عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {3} ...



ليس هذا وحسب، بل القرآنُ كلُّه، من منظورنا، خرجَ من أُمِّ الْكِتَبِ (( ا )). فلو نظرنا إلى الآية التالية 4 :



وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ {4} ...




فحرفُ الجر {فى}قد يُستعملُ بمعنى {من} كما في قوله تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ ءَايَتٍ ... {النمل: 12} فعبارةُ {فِى تِسْعِ ءَايَتٍ} تعني "من تِسْعِ ءَايَتٍ" ... ومن ذلك قولك: خُذْ لي عَشْراً من الإبل وفيها فَحْلان، أي ومنها فحلان ...



وبامكانية استعمال {من} بمعنى {فى}: يكونُ المعنى:


{وَإِنَّهُ} أي القرآن، من أُمِّ الْكِتَبِ (( ا )) ... أي خرج القرآن من أمِّ الكتاب (( ا )) ...



أمَّا المقصودُ بكلمة {لَدَيْنَا} فليس المكان، بل قد تكون بمعنى "عندنا أو مُلكِنا"، وكلُّ شيءٍ هو لدى الله تعالى وملكٌ له ....



ليس اسمُ السُورةِ هو الذي يحملُ معاني الزخرفةِ وحسْبٍ. فالسُورةُ تحوي الكثيرَ من العباراتِ التي تعني الخلق والاستقامةَ والتلوِّي والانحناءَ في إشارةٍ إلى استقامةِ أمِّ الكتابِ وتَلوِّيها وتشَكُلِها وزخرفتها لتُخرِجَ وتخلقَ جميع الأحرفِ والكلماتِ في المصحف ... ويمكن مراجعة سورة الزخرف في هذا الشأن ...



وتحوي السورةُ أيضاً على الكثير من العباراتِ المتعلقةِ بالجمال والحُسن كالذهبِ والفضةِ و الحُلي في إشارةٍ إلى أصلِ هذا الجمالِ والزخرفةِ ... أُمِّ الْكِتَب (( ا )) الغائبةِ من كلمةِ " قُرْءَنَا " ... فهي لم تغبْ، بل تَحوَّرت إلى هذه الزخَارِفِ التي تجدُونها في السورةِ ...






سُورة الحديدِ وأمَّ الكِتابِ ( ا )



عددُ سورِ المصحفِ الشريفِ 114 ومُنتصفُه 57 هو ترتيبُ سورةِ الحديدِ. فهل من إشاراتٍ لحرف الألف أم الكتاب من منظورنا هنا لوُقُوعِ السورة في منتصفِ سور القرآن الكريم؟



في هذا الشأنِ نشيرُ إلى ثلاثة نقاط حول هذه السُورةِ :



النقطةُ الأولى: هي أنَّ كلمةَ {النور} أو أحدَ تصاريفِها {نُور، نُورَه، بِنورِ، نُوراً، نُورَهم، نُورَكم، نُورَنا، بِنُورِهم} وردتْ 43 مرةً في المُصحفِ كما يلي: النور (7)، الحديد (6)، المائدة (4)، البقرة والأنعام (3)، التوبة، إبراهيم، الزمر، الصف، والتحريم (2) ومرة واحِدة في كُلٍّ من النساء، الأعراف، يونس، الرعد، الأحزاب، فاطر، الشورى، التغابن، الطلاق، نوح.



أي إنَّ سُورةَ الحديدِ حازت على 6 منها، ولا يسبِقُها في هذا الفَضْلِ إلَّا سُورةَ النورِ بفرق 1 فقط. بينما لو أخذنا طولَ السُورِ في الحُسبانِ، فستكونُ سُورةُ الحديدِ الأكثرَ استحواذاً في المُصحفِ لهذه الكلمةِ، فما الحكمةُ؟



الحِكْمةُ من وجهة نظرنا قد تكون أنَّ سُورةَ الحديدِ تقعُ في منتصفِ سور القرآن الكريم فهي إذاً باطِنُ المصحفِ ... فكم هو جميل للنور أنَّ يخرجَ من باطِن المصحفِ ...




النقطةُ الثانية: هي أنَّ اسمَه تعالى {الباطِن} وردَ في سُورةِ الحديدِ مرةً واحِدةً، ولمْ يردْ في أيِّ مكانٍ آخر. وذلك لأنَّ السورةَ تقعُ في منتصفِ سور القرآن الكريم أي باطِنه ...



هُوَ الْأَوَّلُ وَالــءـَاخِرُ وَالظَهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَهُوَ بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ {الحديد :3} ...


فمن معاني البطن لغة التوسط ...






النقطةُ الثالثة: المُتتبعُ للرسمِ العثمانيِّ للمصحفِ يلحظُ أنّ رسم {الباطِن} رُسم بحرف ألف مد بعد الباء!


نقارن رسم {الباطِن} مع رسم الكلمات المشابهة الأخرى مثل {الرحمن} أو كما في الكلمةِ التي تسبِقُها مباشرةً إذ رُسمت {الظَهِر} من دونِ ( ا ) .... فلماذا رسمتْ كلمةُ {الباطِن} بحرفِ ( ا )؟



الجوابُ من منظورنا يقعُ في رسمِ الكلمةِ ذاتِها. لأنَّ إثبات ( ا ) في كلمةِ {الباطِن} يعني أنَّ الباطِنَ هو نفسَه حرفُ ألفِ المدِّ الزائدِ هذا، والذي يَرمزُ لله الواحدِ تبارك وتعالى ...



فيمكن تصور رمزُ الله الواحد تعالى هذا المبطن في منتصف المصحف في صُلب الحديد وبطنه في كلمةِ {الباطِن} كأمّ الكتاب الذي توَّلدت منه بِليِّهِ وثنيِّهِ جميع الأحرف الأخرى، وبالتالي توّلدت منه جميع الكلمات والجمل والعبارات والحكايات والأمثال والحكم والعبر، ... وأمُّ الكتاب ( ا ) المبطن هنا في بطن القرآن إنَّما هو نورٌ لأنَّه مثلُ الله تبارك وتعالى في القرآن ...



فالقرآن من خارجه نور من باطنه نور ... فهو نور على نور ...








سُورة الزمر وأمَّ الكِتابِ ( ا )



جاء في الآية الثالثة والعشرين من سورة الزمر:



اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَباً مُّتَشبهاً مَّثَانى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى١ ذِكْرِ اللهِ،
ذَلِكَ هُدَى الله يَهدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ، وَمَن يُضْلِلْ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)




فيكون لدينا:


أَحْسَنَ الْحَدِيثِ: أجملَ الكلامِ ، وهل يجدُ الإنسانُ أجملَ من القرآن؟

كِتَباً: الأحرفَ العربيةَ المكتوبةَ ... ا، ب، ت، ح، ج، .... و، ز، ر، د، ذ ...


مُّتَشبهاً: المتشابهةَ في صورها ورسمِها ... ( ب، ن، ت، ث ) ... ( ح، ج، خ ) ... ( ص، ض، ط، ظ ) ...


مَّثَانى: أي مثنيَّة ملتويةً في رسمها وصورها ( ب، ن، ل، هـ، ى ) وقد توَّلدت وتشكلت من ثَنْيِّ أمِّها ... أمّ الكتاب، حرف ألف المد (( ا )) المستقيم ...



فثَنَى الشيءَ ثَنْياً أي ردّ بعضه على بعض، ومَثَاني الوادي أي محانيه ومعاطفه. وثنيتُ الشيء إذا عطفته. وانْثَنَى أي انعطف.




ثم في الآية 27 عودة إلى موضوع حرف الألف أمّ الكتاب وأنَّه قد يكون مثلا لله تعالى في المصحف:

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا القرءانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
قُرءَانا عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ { 28}



فالمعنى:

قُرءَانا: أي يُقرأ قِراءةً ...
عَرَبِيّاً: برسم عربي ...
غَيْرَ ذِى عِوَجٍ: مستقيماً أي حرف ألف المد (( ا )) ...



وأخيرا ... فلو قبلنا بهذا المنظور لأم الكتاب بأنّها حرف الألف الذي يرمز لله الواحد، فما الحكمة المنشودة؟

أرى حكمتين بالغتين عظيمتين ...



الأولى هي أنّه وكما الله تعالى خالق كريمٌ ليس كمثله شيء في ذلك ... فرمزه حرف الألف ((ا)) كذلك يخرج الأحرف الأخرى وبالتالي جميع الكلمات ومن ثم العلوم الإنسانية والكونية كلها ...



الثانية وهي الإعجاز الإلهي المطلق والإبداع الذي ليس كمثله شيء. فإخراج الشيء من ضده أعجز وأبلغ وأبين مما عداه ...


فسبحان من أخرجَ القرآن العظيم الغني الكريم البديع من حرف واحد صغير فيه هو حرف الألف أمّ الكتاب (ا) ...



هو الذي أخرجَ نهرَ الكوْثرِ العظيمِ في القرآنِ من أقصَرِ سُورةٍ فِيهِ ... هو الذي جَعَلَ أطولَ سُورةٍ في القُرآنِ باسمِ حيوانٍ مُستحقرٍ مُزْدَجَرٍ، من الناسِ لا يُهاب ... هو الذي جَعَلَ أحكامَ الزِّنا وهو نجاسةٌ ووَضاعةٌ، تخرجُ من سورةِ النورِ وهو قُدسِيَّةٌ وطهارةُ ... وهو الذي يتحدى الخلقَ بِجَناحِ بعوضةٍ، وسَلْبِ ذُبابٍ ...



مُخرج الفرج من العسر ... والعسر من اليسر ... والنُّور من بطونِ الظُلماتِ ... والحياةُ من الأمواتِ ...



بل إنَّ عينَ الإنسان التي بها يَرَى هذه التناقضاتِ وإخراجَ الشيءِ من ضدِّه تنطق بنفسها بهذا التناقضات، إذ هي حدقةٌ مستديرةٌ حالكة السوادِ، في بطنِ كُرةٍ دائريةٍ كالثلج ناصعةِ البياض!


فسبحانَ من أخرجَ وهَدَى خليفتَهُ ونورَهُ الإنسان في الأرضِ، من نُطفةٍ حَقيرةٍ تائِهةٍ في ظُلُماتٍ ثلاث ... وسُبحانَ من يُخرجُ النورَ من الظلماتِ ... والهُدَى من الضَلالِاتِ ... والأحياءَ من الأموات، والأمواتَ من الأحياء ... والذّل من العز والعز من الذّل ... والغِنَى من الفقرِ، والفقرَ من الغِنَى ... واليُسرَ من العُسرِ، والعسْرَ من اليُسْرِ ... والظاهرَ من الباطِنِ ... والباطِنَ من الظاهِر ...


فيشقُّ العدمَ بأمره فيَفْطُرُ منه الوجودَ ... ويَسمعُ للمعسرِ إذا دعاهُ فيخرجُ بلطفه من عسره اليسر ... ويَحنو على الضلالِ فيُخرجُ من ظُلماته الهُدى ...


هو الذي أخرجَ الماءَ مطفئ النَّارِ، من مصدرِ النار (الأكسجين والهيدروجين) ... وأخرجَ الدواءَ من أذيال العقاربِ وأنيابِ الحيات ... وأخرج الخصوبةَ من دمار الفيضانات ... ولبناً سائغاً للشاربينَ من بينِ فَرْثٍ ودمٍ ... وسَكَرَاً حُلواً وثمرات، وفاكهةً كثيرةً وأعناباً من طِينٍ كَدِرْ، وأراضٍ سبخةٍ مالحات ... وعَسلاً مُختلِفاً ألوانُه فيه شِفاءٌ للناس من بُطونِ حَشراتٍ مؤذياتٍ ... وقُطناً وحريراً ناعماً من دِيدَانٍ وشرنقات ... وماءً عذْباً فُراتاً من أرضٍ جُرزٍ مالحات ...


وجعلَ إبراهيمَ أبي المُوحِدينَ يَخْرُجُ من بلادِ الشركِ المُبين ... وأخرجَ ذُريَّةَ الأنبياءِ والخلفاءِ المُباركةِ الحَيَّةِ من صُلْبِ شيخٍ كبيرٍ، وبطنِ عَجُوزٍ عَقيمٍ ... وَوَهَبَ يُوسُفَ المُلكَ وهو سجينٌ ...


ثُمَّ أَخْرَجَ دينَ التوحيدِ من بُطونِ الشِركِ والوَثَنيَّاتِ ... والقرآن العظيم الغني البديع من فم رجلٍ أمّيٍ لا يقرأ ولا يكتب ... عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه المجاهدين أفضل الصلاة والسلام ...




والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على آخر المرسلين سيدنا محمد المصطفى
وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين