المناصفة في الإرث : أستاذة "سناء" : كيف حصرت النساء في البنت؟!
ليس جديدا أن أقرأ رأيا أختلف معه – هذا طبيعي جدا – أو رأيا يصدمني،وهذا أمر وارد أيضا،ولكن الأمر في مقالة الأستاذة سناء العاجي،والموسومة بـ(نقاش المناصفة في لإرث يفرض نفسه)،فقد وصل حدا غير مسبوق .. لا في الاختلاف مع ما طرحت من وجهة نظر،ولكن من هول صدمة أن تتحول "تنويرية"إلى"تكفيرية"!!
نعم تكفيرية. هكذا قرأت تغريدتها نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيعلينا صراحة أن نتوقف عن مواجهة نقاش المناصفة في الإرث بحجة الإيمان،وأن نعتبر كل راغب في نقاشه كافرا .. )،ومع التغريدة رابط المقالة،للأمانة ظننت أن الأمر لا يتخطى عنوانا لجذب القارئ .. ولكنني فوجئت بأن أختنا الكاتبة تطرح الأمر بكل جدية.. أي نص التغريدة المذكورة!!
جانب أولي للقضية .. لنصور الأمر هكذا .. أنزل الله – سبحانه وتعالى – نصا محكما شديد الوضوح .. فكيف تعاملت معه الأستاذة سناء؟ هل قالت سمعنا وأطعنا ؟ بل ناقشته .. وذكرت أنه يناسب العصر الذي نزل فيه .. مع مبررات سوف نأتي على ذكر بعضها .. إن شاء الله.
هكذا أباحت الأستاذة لنفسها أن ترد نصا قرآنيا .. ثم أغلقت الباب ،لا باب،نقد أو نقض،وجهة نظرها .. بل طلبت بـ"تكفير"من "يناقش" .. مجرد المناقشة!!
واضح جدا أننا أمام إستراتيجية نسوية جديدة .. ولكن قبل ذلك نلقي نظرة على الإستراتيجية القديمة،ونستمع إلى ندوة ( محاولة لصياغة نظرية نسوية متقدمة) .. تقول الدكتورة نوال السعداوي :
(( هناك من النساء من تصر على الاعتقاد – وهذا شائع جدا – بأن المرأة كانت – وما زالت – منذ بدء الخليقة تأخذ هذا لدور الدوني وأنه لم تأت فترات في التاريخ اختلف فيها دورها عمّا هو عليه الآن،ونحن حينما نعثر في التاريخ – على مراحل كانت فيه المرأة {هكذا} تسمي أولادها باسمها – وكانت الأمومة محترمة – وكان الجنس محترما- نقوش الكهوف – وكانت تحكم – وكانت آلهة ..)) فتقول إلهام كلاب :
(( إن نبش الماضي بهذه الصورة الجذرية،يجعلنا نقف وقفة طويلة متأملة مع الدين والأسلوب الذي تعامل به مع المرأة أو وضع المرأة في الأديان السماوية،إن نصف المعتقدات الراسخة في أذهان البشر – في الماضي القريب – والحاضر – وربما المستقبل المنظور – أتت من الديانات السماوية الثلاث،اليهودية والمسيحية والإسلام،وكل تعرض لمسألة المرأة يقود بالضرورة إلى التعرض للدين وهنا الاحتياط والفخ .. فما العمل؟)) . فترد عليها ليلى الحر متسائلة :
(( ولماذا نحن مضطرون لربط تحرر المرأة العربية بإعادة النظر في الدين؟ أليس من الحكمة أن نجنّب أنفسنا سوء التفسير والحملة التي قد يشنّها المتعصبون علينا،وهم كثر،ونكتفي من نقد الدين بنقد المتدينين مثلا؟! إننا لا نستطيع بالطبع الخروج على التاريخ – والقفز عن استعمال الديانات القديمة والحديثة لعرقلة نمو وعي المرأة ولا نملك البحث في (تخلف) المرأة وصولا إلى تقدمها،ما لم نبحث في أسباب التخلف،وأولها صورتها الممسوخة والتابعة والثانوية في الأديان ..)) { ص 279 – 280 ( مجلة قضايا عربية / السنة السابعة / العدد الثاني / شباط / فبراير 1980م}.
إذا تحول الأمر من "انتقاد المتدنين،بدلا من انتقاد الدين" – الذي هو،بأديانه السماوية الثلاثة،سبب تخلف المرأة – إلى "تفجير"الدين من داخله،بوضع تفسيرات تناقض نصوصه الواضحة،ومن ثم القيام بخطوة استباقية بـ"تكفير"وإغلاق باب (الاجتهاد) في النص القرآني!!
الآن نصل إلى السؤال الذي يتربع على رأس هذه الأسطر والموجه للأستاذة "سناء" :
كيف حصرت النساء في البنت؟!
حين ننظر إلى النساء اللائي منحن الله – سبحانه تعالى – أنصبة في المواريث،نجد التالي :
الأم / الزوجة / البنت / الأخت / الجدة لأب ..
أي أن خمسا من النساء قد يرثن .. ولم تر أختنا الكاتبة سوى (البنت)،وآية (للذكر مثل حظ الأنثيين)!!
والحقيقة أن توزيع المواريث – قبل أن يكون نصا قرآنيا أو حسب تعبير الأستاذة سناء (موضوع المناصفة في الإرث يعرف مقاومات كثيرة، أولها أن هناك نصا قرآنيا صريحا في الموضوع) - هو نوع من الرياضيات العليا .. ربع هنا .. وثمن هناك .. إلخ.
وأنصبة النساء في هذه الرياضيات متباينة .. ترث مرة نصف ما يرث الرجل .. كما تتساوى مع الرجل ..حينا .. وقد ترث أكثر منه!!
وهذه بعض الأمثلة التطبيقية :
المرأة ترث مثل الرجل ( مساواة)
بنت، وابن الابن ( للبنت النصف، والباقي لابن الابن، أي النصف)
المرأة تحجب ( تمنع) الرجل من الميراث :
زوجة، وبنت، أخ لأم، أخ شقيق. ( للزوجة الثمن، للبنت النصف، الأخ الشقيق، يحصل على الباقي، والأخ لأم، لا يأخذ شيئا( البنت حجبت الأخ لأم حجب حرمان)
المرأة ترث أكثر من الرجل :
زوج، بنت، عم ( للزوج الربع، وللبنت النصف، والباقي للعم).
إذا هذه امرأة ( أنثى) ورثت مثل ( ذكرين) في المجتمع الذكوري.!!

إن مجرد إلقاء الإنسان نظرة على الأمثلة نرى كم ضيقت الأستاذة سناء ما وسعه الله!!
ثم أتت الأستاذة الكاتبة بحجة رأت أنها تبرر دعوتها للمناصفة في الإرث وذلك حيت كتبت :
(قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية، لم تكن المرأة ترث أصلا. وبالتالي فالفقه المقاصدي يستلزم منا أن نأخذ بهدف التشريع: الإنصاف. أن ننظر إلى ما جاء من أجله الإسلام وليس ما جاء به).
لعل (الفقه المقاصدي) يحتاج إلى دراسة رصينة،تكشف اتخاذه (سلما) لهدم نصوص ثابتة،ولا تقبل التأويل – حسب الملاحظة الموفقة للدكتور ناجي حين : حيث نرى يساريا يرى الدين "أفيون الشعوب"أصبح فجأة يتحدث عن مقاصد الشريعة!! ولكن ما يهمنا هنا .. هذه الحجة التي ساقتها أختنا الكاتبة .. فهل هي حجة فعلا؟
دون كبير عناء يتذكر الكاتب حالتين .. هما تحريم "الخمر"والذي تدرج الإسلام فيه من وصفه بـ"الرجس"إلى "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" .. وصولا إلى "فهل أنتم منتهون"
وحرم الله – سبحانه وتعالى – "الربا"بتدرج مشابه.
وعليه فلو أراد الله – سبحانه وتعالى – أن يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث،بعد أن كانت محرومة منه .. لفعل بإرث المرأة ما فعل – سبحانه وتعالى – بالخمر والربا .. بل إن الأمر أصلا ليس في حاجة إلى التدرج .. بدليل وجود حالات ترث فيها المرأة مثل الرجل .. وحالات ترث أكثر منه .. فأين المشكلة أصلا!!
لا توجد مشكلة أصلا،ولكن مربط الفرس في نظرتنا إلى المال .. الإسلام ينظر له على أنه "مال الله"يعطيه – سبحانه وتعالى – لمن يشاء بالتوزيع العادل الذي يراه .. بينما توجد نظرة أخرى للمال .. تراه "مال صاحبه"يورثه كاملا لمن شاء .. ابنا .. بنتا .. قطا .. كلبا .. إلخ.
لعل أختنا الكاتبة أرادت أن تأخذ من الإسلام (سطوته) لتجبر "المورث" على طريقة معينة لتوزيع التركة .. وإذا كان من يناقش – مجرد مناقشة – اقتراح مناصفة الإرث،ترى الكاتبة أن يكفر ... فكيف بمورث يرفض تلك المناصفة؟!
طرحت أختنا الكاتبة حجة أخرى .. حين كتبت (ولعل الإشكالية تطرح بشكل أكبر لدى الأسر الفقيرة. لنأخذ مثال العاملات المنزليات اللواتي يبعثن بأجرتهن أو جزء كبير منها لأسرهن في البوادي، فيبني الأب بيتا صغيرا أو يشتري بعض المواشي. في حالة وفاته، يرث الأخ ضعف أخته، بينما تكون ساهمت فعليا وبشكل مباشر في تكوين ذلك الإرث).
أختنا الكاتبة هنا أمام احتمالين :
الاحتمال الأول : أن تلك الأنثى التي ساهمت في تكوين الإرث .. امرأة لها "عقل"وذمة مالية" فهي "حرة"وحين تهب والدها مالا .. فقد أصبح ماله،يتصرف به كيف يشاء .. وتبقى نقطة صغيرة .. هي توعية تلك العاملة – والتي جعلتها أختنا الكاتبة مثالا للمرأة المسلمة! – بأن تهب ما تشاء من مال لمن شاءت .. وتأمر – نعم تأمر – ببقية ما لها فيفعل به ما أرادت .. تنمية،أو كنزا .. إلخ.
أم أن تغير نصوص الله – سبحانه وتعالى – المحكمة أسهل من توعية عاملة أمية؟!
الاحتمال الثاني : أن تكون أختنا الكاتبة ترى أن المرأة المسلمة ليست لها ذمة مالية،مثل المرأة الأوربية قبل أكثر من قرن،حين كانت بلا ذمة مالية!!
للأسف الشديد أننا نقرأ من يتجاهل تلك الحقيقة .. طامسين التاريخ السلبي للمرأة في الغرب .. وقد تحدث الأستاذ خالد القشطيني عن كتاب البريطانية ماري ولستنكرافت،والذي ظهر سنة 1792م،تحت عنوان "أحقيةق حقوق المرأة"(من هذا الكتاب تفرعت سلسلة من الكتب والرسائل والكراريس في الدعوة لتحرير المرأة،وتبنى الموضوع الكثيرون من رجال الفكر وعلى رأسهم جون ستيوارت مل (..) انصب النضال على هدفين،الأول إعطاء المرأة حقها في فلوسها والثاني إعطاؤها حقها في صوتها الانتخابي،تحقق الهدف الأول في سلسلة من التشريعات جعلت المرأة الأوربية مماثلة للمرأة المسلمة بالنسبة لحق التملك){ جريدة الشرق الأوسط العدد 6925 في 13 / 11 / 1997م}.
ولاشك أن حق التملك يتبعه حق التصرف .. على أن المرأة الغربية لم تحصل على "ذمة"مالية اقتناعا من الرجل هناك بحقها في مالها .. وإنما تحت ضغط ظروف الحرب .. يقول ديورانت :
( فالانقلاب الصناعي يعمل على تأجيل سن الزواج،ويتطلب "حرية"المرأة،وأعني بذلك أن المرأة لا يمكن إغراؤها بالعمل في المصنع إلا إذا اقتنعت بأن الدار سجن،وأجاز لها القانون أن تدخر كسبها لنفسها){ص 421 جـ 3 مجلد 1 قصة الحضارة / ول ديورانت /}
ليس هذا فقط .. بل إن المرأة الغربية – التي ليست لها ذمة مالية في ذلك الوقت – سحبت معها المرأة المصرية – التي كانت لها ذمة مالية،من اللحظة التي أشرق فيها نور الإسلام،في الجزيرة العربية ! – إلى الخلف!

كتبت الدكتورة عفاف لطفي السيد مارسوه {أستاذة شرف في جامعة كاليفورنيا – لوس أنجلوس} عن بعض أسباب تدهور مكانة المرأة المصرية ... فعندما دخل : (نظم المؤسسات الأوربية مثل البنوك وشركات التأمين والبورصات،ففي القرنين الثامن والتاسع عشر كان حق المرأة وكيانها القانوني مهضومين في أوربا نفسها،فكان كل ما ترثه المرأة يقع تحت سلطة الرجل،زوجها مثلا،ويصبح ملكا له. (وعلى العكس من ذلك كانت للمرأة في مصر في هذه الفترة وجود قانوني معترف به وحق امتلاك الثروات)،فالبنوك وغيرها من المؤسسات في الغرب حسب النظام السائد،لم تعترف بحقوق المرأة القانونية،بينما كانت المحاكم الشرعية في مصر تعترف لها بهذه الحقوق.

وهكذا بسبب النفوذ الأوربي حرمت المرأة المصرية من الاستفادة الاقتصادية من هذه المؤسسات ومنعت من الاستثمار فيها إلا عن طريق زوج أو أخ.){ص 30 – 31 (مكانة المرأة من أوائل القرن الثامن عشر إلى اليوم ) : افتتاحية مؤتمر النساء العربيات في العشرينات حضور وهوية ) / تجمع الباحثات اللبنانيات / مركز دراسات الوحدة العربية / بيروت / الطبعة الثانية / 2010م}.
وبعد .. هل بقي شيء؟
نعم. تقول أختنا الكريمة .. ( نقاش المناصفة في الإرث ليس كفرا،بل هو إحقاق للحق. المجتمع يتحول وبنياته الاجتماعية تتحول. لا يمكننا أن نتشبث حرفيا بقراءات معينة للنص القرآني ..).
أولا : هي ليست قراءات .. فنحن أمام (نص) واضح لا يحتمل أكثر من معنى .. الآية تقول ( وإن كانت واحدة فلها النصف و لأبويه لكل واحد منهما السدس). فهل تحتمل لفظة : "لكل واحد منهما السدس" معنى غير المساواة في هذه الحالة تحديدا؟
ثانيا : كيف لعاقل أن يعبد "ربا"لا يعلم أن تغيرات اجتماعية ستحصل.. ولم يترك فرجة لتلك التغيرات؟!! ..

أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني