فيما سماه "شكر وتقدير واجب"، من "الشعر المصري القديم وبناؤه الإيقاعي خلال نصوص الدولتين الوسطى والحديثة: دراسة لغوية أدبية"، رسالته للماجستير التي حصل عليها عام 2009، بشعبة الآثار المصرية من قسم الآثار والحضارة بكلية الآداب من جامعة حلوان- توجه إليَّ هاني رشوان -وهو الآن باحث دولي رفيع المستوى- قائلا: "أستاذي وصديقي وأخي د/محمد صقر أستاذ اللغة العربية بدار العلوم، والذي كانت مجهوداته العلمية بمثابة الثقاب الاستهلالي الذي أشعل في ذهني الضوء لرسم الطريق في كثير من الإشكاليات الفنية التي استعصت على الكثيرين من متخصصي الشعر والأدب المصري القديم"، ولم يكن ما أشار إليه غير مقالي "تغزل الجاحظ عن الصناع: دراسة نصية عروضية"!
لقد خرج هذا المقال من رحم تجربتي الطويلة تدريس علم العروض، بقسم اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس! نعم؛ فقد أعرضت قليلا قليلا عما جرت به العادة في الجامعات القديمة، وأقبلت أعالج القصائد الطبيعية الكاملة، "مُنَبِّهًا عَلَى خَصَائِصِهَا الْصَّوْتِيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا فِي تَمْيِيزِ أَنْوَاعِ الشِّعْرِ، تَوَصُّلًا إِلَى الْأَفْكَارِ الْبِنَائِيَّةِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا فِي أَدَاءِ رَسَائِلِ النُّصُوصِ وَتَلَقِّيهَا"، غير مشغول بتعديد الصور الوزنية والقافوية التي لن يحيط بها استقصاء، ولا خائف من العجز عن تخريج ما أهملتُه منها. كيف وهي خصائصُ روحٍ يتنقل في أجسام كثيرة، إذا ضبطتُها في أحدها لم أخش أن تخالفه سائر الأجسام ما دام فيها كلِّها الروحُ نفسُه! ثم إن ما أستفيده من المعنى الصوتي العروضي البنائي، أَبْعَدُ تأميلًا مما أهملتُه، وأَصْعَبُ تَحْصيلًا!
اغتنمت في هذا المقال أحد عشر نصا شعريا غزليا، نظمها الجاحظ بلسان الخَيْليَّ (القائم على رعاية الخيل)، ثم الطَّبيب، ثم الخَيّاط، ثم الزَّرّاع (الفَلّاح)، ثم الخَبّاز، ثم المُؤَدِّب (معلم الصغار في الكُتّاب)، ثم الحَمّاميّ (القائم على الحَمّام العامّ)، ثم الكَنّاس (القائم على تنظيف البيوت)، ثم الشَّرابيّ (القائم على بيت الخمر)، ثم الطَّبّاخ، ثم الفَرّاش (القائم على فرش البيوت)- ليقنع الخليفة المعتصم بضرورة تثقيف أولاده خشية أن يعجزوا عن البيان بما يناسب المقام، مثلما عجز هؤلاء الصناع، الذين لما تغزلوا لم يتخلصوا من آثار صناعاتهم؛ فافتضحوا!
تقدمت بدراسة هذه النصوص خطوة ثانية صريحة، في سبيل التطبيق النصي العروضي، حتى أفضيت من معالجة بضع عشرة فكرة، إلى بيان علاقة طائفة منها بما عرف عن الجاحظ من "عناية بالمهمل"، وعلاقة طائفة ثانية بما عرف عنه من "تأمل المفارقات"، وعلاقة طائفة ثالثة بما عرف عنه من "الترفيه عن المتلقي"، تلك الشعب الثلاث التي استحدثها الجاحظ في الكتابة العربية.
ولقد كان من عجائب هذا المقال أنه نُشر في العدد 36 من مجلة كلية دار العلوم بجامعة القاهرة حين كان رئيس تحريرها أستاذنا الحبيب الدكتور شعبان صلاح -نسأ الله في أثره!- فشكوت إليه إخلال الطباعة ببعض ما فيه؛ فنُشر في العدد 38 سليما معافى دليلا خالدًا على ما ينبغي أن تكون عليه رئاسة التحرير! ثم كان من بركات هذا المقال أن أثنى عليّ فيه أستاذنا الحبيب الدكتور علي أبو المكارم، ثناء عريضا لم أعهده لا منه ولا من غيره؛ حتى ظننتُ به الظنون، عفا الله عني، ورحمه، وطيب ثراه!