قصة قصيرة8) وصايا رجل محتضر لولــــــــــــده....... !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
اكفهر وجه الابن وهو في حضرة أبيه المحتضر ، على فراش الموت، وقد اصطبغ جسده بلون كركمي بشع، وخارت قواه، وزاغت عيناه.
دار في خلد الابن أن الوصايا التي سيتلوها الأب لا شك تتمحور حول التركة التي ستؤول إلى أفراد الأسرة أو مسائل مادية أخفق الأب في حلها عندما كان بكامل أهليته، إلا أنها كانت أكبر من ذلك وأنضج !
فجأة، وجه الابن هاتفه النقال نحو أبيه، بشكل غير ملحوظ، كي يوثق بالصورة والصوت ما جري بين الاثنين من حوار اللحظات الأخيرة . ثم شرع الأب يتكلم بلغة ممزوجة بالعاطفة والانفعال قائلا بكلمات متقطعة أنهكها الإعياء، ومزقتها نوائب الزمن :
" دأب الإنسان في جميع أرجاء المعمورة على كتمان أسراره ، والتحفظ على عدم البوح بها لأجل غير مسمى قد يطول أو يقصر ، وعذره في ذلك أنه أضحى يعيش في وضع بائس ، لا يحسد عليه ، رغم أنه في بواكير الألفية الثالثة.
فالأمراض الفتاكة تطوقه من جهاته الأربع ، وتلوث الهواء يزيد الطين بلة . أما تلوث الماء فحدث ولا حرج ، ناهيك عن غياب مفاهيم الرحمة والرأفـــة والحنان والتسامح والإنسانية بين بني البشر، إضافة إلى أمراض العصر الاجتماعية المقيتة ، كالأنانية والجشع والحسد وازدواج الشخصية ، والتي هي مسببات الفناء في أية لحظة. لأنها أشبه بفيروسات وجراثيم تفتك بلا رحمة في جسم المجتمع البشري ................إذن ، تساءل المحتضر ، أين المفر ؟"
ثم أردف يقول ، وكأنه قد تعاطى الكورتيزون كي يمنحه الفرصة الأخيرة للكلام.................................
"العقل البشري، يا بني، تلوث، والسلوك الإنساني اضطرب، والتطلعات الآدمية المشرقة انحرفت عن مسارها المألوف وتلاشت، فيم تعرضت القيم والمفاهيم والأعراف والثوابت إلى رجة لا تحمد عقباها سواء عبر المتغيرات السريعة المتلاحقة أو عبر الحروب الجنونية التي ما أنزل الله بها من سلطان، أو عبر الكوارث الطبيعية التي لها أول وليس لها آخر !
في خضم هذه البلبلة الطارئة، يا ولدي، يتيه الإنسان ، فإذا به يمســـــــــــك بتلابيب قشة النجاة، ولكن بعد فوات الأوان !..... يتمتم القاصي والداني وكأن لسان حاله يقول "نحن بغرائزنا ميالون إلى الماضي ، لأنه فردوسنا المفقود !" الواقع الراهن رتيب وممل وكئيب . التصحر بدأ يفترس تربته المعطاءة, وربيعه الشبابي المتألق بات قاب قوسين أو أدنى من الجحيم ، بعواصفه الرملية القاتلة ، التي تدمر الحرث والنسل . هاك على سبيل المثال لا الحصر............. البقر ....ألم يطلها الكثير من تداعيات الألفية الثالثة بما يدعى بجنون البقر ؟ لقد نفقت الملايين منها بجرة قلم ! فيما لم تكن الطيور قاطبة بحال أحسن من سواها من الكائنات الحية، حيث نال منها مرض أنفلونزا الطيور وتم إعدام الملايين منها . المواشي والطيور هم شركاءنا في الوجود فوق هذه البسيطة تعرضوا لذات المصائب المهلكة تحت مسميات مختلفة .
يا ولدي، الأموال بكل أصنافها الورقية والمعدنية، الصعبة والسهلة، لم تعد تجد نفعا ، والجاه، مهما كان عريضا، لا يفي بالغرض ، والمقدسات تكاد تقف عاجزة حيال هذا التسونامي اللا منضبط ........حلول ترقيعية كثيرة يخترعها الإنسان المعاصر للحيلولة دون تفاقم الأوضاع، لكن دون جدوى لأن الجرح بليغ والتمزق عميق !
أضحى الكائن الحي ورقة في مهب الريـح، لا حول له ولا قوة ، إذ لم تعد التكنولوجيا، مهما كانت متطورة، تسعفه. وهبط الذوق الفني في كل مكان إلى أوطأ مستوى، وشاعت الفاحشة في الإعلام بحيث لا يستطيع كائن من كان التمييز بين الصدق والكذب، والوفاء والخيانة ......! ما بالك ، يا ولدي، أن قسوة الحياة المادية الراهنة انعكست على الجيل الجديد بمردود يبعده أكثر فأكثر عن تكوين أسرة سعيدة ؟! إذن، سيتلاشى مجتمع الغد ، وينطفئ معه السراج الذي كان ينير.
أصبحنا، يا ولدي، أسرى لموقف بات فيه الصادق كاذبا، والكاذب صادقا، والعالم جاهلا والجاهل عالما.... ، ضاعت المقاييس، وتشابكت الأرقام والمعادلات، واختلط الحابل بالنابل، وتصدع النسيج المجتمعي، ودق ناقوس الخطر مؤذنا بأن كوكبنا في احتضـــــــار!
أسوق لك، يا ولــدي، هذه النتف لما يعتمل في أعماقي، وتقض من مضجعي، راجيا أن يتسع صدرك لما قلته وما سوف أقوله.....
البشر كبشر قد تغير، والأرض كأرض قد تبدلت . حذار أن تنجر وراء ما تراه لامعا فتحسبه ذهبا ! إياك والانبهـار بالقشور، فاللب هو ما تصبو له الذات.
كن ثابتا على ما ائتمنك الناس عليه، وكن مؤتما مثل ما كان عليه أبوك . أوصيك بتقوى الله، فالدنيا فانية . سأفارق الحياة لا محالة . ولكن، أرجو أن يبقى التواصل بيننا كي تبرهن بأنك خير خلف لخير سلف !