مَثُلَ الرجلُ أمام القضاء ..

وقد استجمعَ كلَّ ما استطاعَ أن يُلَملِمَهُ منهيبةِ الأمجاد السالفة ..



وباستكانة الضعيف الذي أوهَنَتهُ ذاتُ الأمجاد ..

فطأطأ قليلاً ..

وكأنَّ عُنُقَهُ قد داهَمتُه الشيخوخة فلم يعد قادراً على حملِ ذلك الرأس بذاتِ المظهرِ المتخم تفاخراً واعتزازاً ..



لم أعرِف ماالذي جذبني إليه ..



كنتُ أقفُ إلى جانبه متحرِّزاً .. في ذاتِ الوقت



من أن ألمُسُه فأصدَعَ كبرياء شيخوخَتِه ..

أو أن يترنَّح بعيداً عني .. فأندم على سقوطٍ لا أقدِرُ أن أتداركه فيه



لم يكن يعير لوقفتي أيَّاهتمام ..

وكأنما أحمالُ الماضي وتبِعَاتُ ذلكِ التاريخ الطويل والعمرِ المتمادي على مدى ثمانيةِ عقود .. قد قَزَّمتني أمامَ تلكَ العَظمة إلى درجة الانسحاق



لكنَّهُ في ذاتِ الوقت .. أشعَرَني من خلال لفتة .. عابرةٍ سريعة .. تقَصَّد أن يلتَفِتها تجاهي بعد أن اقتنصها في لحظةِ صمت متأهبة .. قدَّرتُ لحظتها حجم ما اكتنفَته من امتنان ..



كان .. يتأهب لسماعِ الحكم بعد ساعاتٍ طويلة من المداولات والتحقيقات وتفنيد الأمور والأسباب والدوافع والمبررات ..

وكان القاضي في ذاتِ الوقت .. ينظرُ إلى ذلك الكم الهائل من الأوراق المتراكمة أمامَه .. والمكتظةِ بتخاريف الماضي وتُرَّهاتِه

ثم ينظرُ في وجه ذلكَ الرجل الذي تهاوى أمام عُتيِّ الأيام والسنين .. ليس إلا .. ليس إلا





واحتار .. أيَّ عدالةٍ سَيُحْكِم ..

ومن أيِّ حجمٍ من المادة المتهالكةِ أمامَهُ .. سيقتصُّ لمظالِم الماضي المرتحل



ثم .. أيَّ قصاصٍ مهما يكن .. هل سيمنَحُ كلَّ أولئك المنسحقين حقوقَهم .. يا تُرى؟؟



وهو إن اقتص .. لن يقتَصَّ إلا من عمرٍ متداعٍ .. سيمتدُّ لأيامٍ أو أشهرٍ على أبعد تقدير .. أياماً أو أشهراً





لم يكن يعلمُ ذلك القاضي أيهُما أقرب ..



قبضةُ عدالَتِه أم قبضةُ ملَكِ الموت المتَرقِّب هناك قرب نهاية الممرالطويل بين الشجيرات .. إلى منصةِ الإعدام



وضِمْنَ ما لديه من مُعطَيات ..

وبعد آخرِ مداولةٍ مع مساعديه ..



وأمام قضاة التحقيق ومحاميي الحق العاموالحضور والشهود .. وكلُّهم قيام ..

نطقَ حُكمَ إعدامِ الرجل ..



كانت لحظةً برهميةً .. لشدة ثقَلِها ..

انسردَت أمامَهُ فيها آلاف الذكريات والآلام والمنغصات وحالات الندم والحسرات والإخفاقات والنجاحات والمنجزاتِ والمُسَوَّفات



وامتدَّ به ذهنُه إلى أتِ اللحظات ..

كيف ستتوقف به عجلة العمر دون أن يفعَلَ كذا .. ويبدِّل كذا .. ويُشَيِّدَ كذا ويقوِّضَ كذا



ذلكَ الرجلُِ الذي اعتادَ على تسجيلِ إنجازٍ واحدٍ على الأقل في كلِّ لحظةٍ من سالِفِ حياتِه





ليس من ذلك بُد ..

ولو كان غيرَ ذلك .. ما كان قارون مات .. ولا فرعونُ غرِق .. ولا روما احترقت ولا بروتيوس فَني ..



لو كان غير ذلك .. لدامت لمن هم أكثرُ قوةً وأعتى شكيمةً وأوفرُ رجالاً وأجَلُّ قدراً



ليس من ذلك بُد ..



أمسَكتُ بذراعِهِ وانطلقتُ خلف خطواتِه البطيئة القصيرة المتأنية .. وكأنَّ قدميه قد كبَّلتهما أصفادُ الزمن .. حتى استغنى بها عن أصفادِ العدالة ..



أجهشتُ خلفَهُ بالنحيب ..

ليس عليه .. ولكن .. لحكمةٍ انقطاعِ الأثر



لم يكن الموت يبعُدُ عنه أكثرَ من خطواتٍ خارج القاعة .. خطواتٍ وئيدةٍ متهالكة ..



تتنازَعُها بين الحين والآخر وقفة .. لا أدري .. أهي وقفةُ تأملٍ .. أم استغفار



وفجأةً ..





سقط ...