كرستوف لكسنبرج والتفكير بالأظلاف!
بقلم إبراهيم عوض


للمستشرق الألمانى أو المتألمن: "كرستوف لكْسِنْبِرْج" Christoph Luxenberg)) بحث بعنوان "سورة النّجم: قراءة سريانيّة- آراميّة جديدة" طبق فيه، على صدر سورة "النجم، دعواه الطويلة العريضة عن غير علم أو منطق بأن فى القرآن أشياء كثيرة لا يمكن فهمها بدون الرجوع إلى اللغة السريانية لأنها مأخوذة من تلك اللغة لفظا ومضمونا، إذ كان لمحمد معاونون ممن يعرفون لغة السريان يساعدونه على تأليف القرآن وشحنه بالكنوز الدينية السريانية. وهذا البحث مترجم إلى العربية على يد التونسى ناصر بن رجب الذائب غراما وهياما بالمستشرقين العابثين بالقرآن، والمدابرين للعقل والبرهان. وكنت، وأنا أقرأ البحث، أتخيل أنى فى محل تحف ثمينة أتأمل كنوز الفن والجمال والإبداع، وإذا بثور يدخل بغتة ويدهس كل التحف الرائعة الثمينة بأظلافه دون وعى أو إدراك. وهذا طبيعى، فهو ثور، وكيف يدرك الثور قيمة التحف أو يعرف أنه يحطم أشياء غالية عزيزة لها عند البشر الراقين مكانة، وأى مكانة؟ ولكرستوف لوكسنبرج كتاب كامل فى دعوى استعانة النبى بالسريان فى تأليف القرآن اسمه بالألمانية: " Die Syro-Aramأ¤ische Lesart des Koran: Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache"، وبالإنجليزية: "The Syro-Aramaic Reading of the Koran: A Contribution to the Decoding of the Language of the Qur'an". وربما أتيح لى يوما أن أتناوله بالنقد والتحليل، إذ هو أساس تلك الصرعة السريانية السخيفة فى ميدان التفسير القرآنى التى يراد منها نشر التشكيك فى القرآن وفى نبوة محمد بين المسلمين بكثرة الإلحاح عليها هنا وهناك. وكنت أخاطب زوجتى البارحة قبيل الفجر عن الموضوع، وتذاكرنا أيام بعثتى فى أكسفورد والكتب الكثيرة التى قرأتْها معى هناك، فوجدتها تتساءل فى تلقائية: ألا تلاحظ مدى الانشغال الرهيب بالإسلام فى أرجاء العالم ووتيرة الهجوم المتلاحقة عليه؟ قلت لها: إن الغرب يضع فى ذهنه منذ البداية الإتيان برقبة هذا الدين العبقرى. وللأسف فإن أتباعه الآن لا يعرفون قيمته ولا عظمته كما ينبغى، وجل اهتمامهم الطعام والشراب والتناسل، اللهم إلا القليل منهم، وكان الله يحب المحسنين! بل إن بعضهم يتبرع بمعاونة الغربيين فى الإيقاع بهذا الدين تحدوهم مشاعر النقص والدونية متصورين أنهم، بوقوفهم إلى جانب الغرب ضد دينهم، قوم متحضرون إذ يساعدون الجانب القوى المنتصر من البشر ضد قومهم الضعفاء المستذَلين المهانين. وبدلا من أن يأخذوا بيد قومهم ويدلوهم على السبيل الصحيحة، سبيل الإسلام بمبادئه السامية وقيمه الرفيعة، نراهم يخونون أمتهم وينحازون لأعدائهم ضدها. ومنهم مترجم البحث الحالى إلى لغة الضاد، فهو يزعم أنه يقف مع العلم ضد الجهل، والإبداع ضد التقليد والتكرار غير المفيد. وهو فى هذا يفترى الكذب والباطل مما سوف يتبدى بعد قليل على نحو ساطع من ردى على لكسنبرج وإظهارى عوراته بل سوآته بل مقاتله الفكرية والعلمية والبرهنة على أنه ليس سوى بهلوان كبير، ودجال من الطراز السخيف. يقول لكسنبرج فى أول بحثه ما نصه: "لقد أظهر التحليل الفيلولوجي أنّ الألفاظ الثلاثة التي تُكوِّن هيكل كتاب الإسلام المُقدَّس لها جذر سرياني: 1- قرآن (وهي صيغة مُحرّفة من "قِرْيانا"- كتاب طقوس) (1)، 2- سورة (من السريانيّة "سورة كْتَابْ"، تعني حرفيّا: نصّ الكتاب- كتاب [مقدّس])، 3- آية (قراءة خاطئة للّفظة السريانيّة "آثَا" - علامة [من بين معاني أخرى]: أ- علامة سماويّة- مُعجِزة، ب- كلّ علامة من العلامات التي تتكوّن منها الكتابة، أي كلّ حرف من حروف الأبجديّة). وهكذا يبدو واضحا وبشكل مطّرد أنّ نصّ القرآن، وهو أوّل كتاب تأسيسي في لغة الأدب العربي، لا يمكن فهمه ضمن محيطه التّاريخي إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار اللّغة الأدبيّة المُهَيْمِنة في تلك الفترة وفي ذلك الوسط. لقد وصف آرثر جيفري، في كتابه: "The Foreign Vocabulary of the Qur’an"، المكانة الرئيسية التي تحتلّها اللغة السريانيّة في مجمل المفردات القرآنية الأجنبيّة التي يحتوي عليها القرآن، على النّحو التالي:"السّريانيّة: ذاك هو، بدون أدنى شكّ، المنبع الغزير الذي نهل منه القرآن. فاللّغة السريانية، التي لا تزال حيّة إلى اليوم كلغة ليتورجيّة، وكذلك كلهجة تتكلّم بها أقليّة من المسيحيّين الشرقيّين في سوريا وبلاد ما بين النهرين وفارس، كانت في تلك الفترة (ظهور الإسلام) لغةَ التخاطُب لتلك الجماعات المسيحيّة التي كانت معروفة معرفة جيّدة لدى العرب. (وكتب جيفري في الهامش: بالنّسبة لهذه الدراسة فإنّ لفظ سريانيّة- الآراميّة المسيحيّة. وهذا يشمل اللّهجة المسيحيّة الفلسطينيّة واللّهجة الآراميّة للمسيحيّين القاطنين شمالي سوريا بالإضافة إلى لهجة الرُّها (أورهاي بالآراميّة) السريانيّة الكلاسيكيّة التي نعرفها جيّدا من خلال الأدب والتي من المعروف أنّها استولت بغير حقّ على لقب "سريانيّة"). إنّه من الصّعب تحديد مدى انتشار استعمال اللّغة السّريانيّة في زمن محمّد في المنطقة التي تُعْرَف اليوم بسوريا، ولكن يبدو من المؤكّد إلى حدٍّ ما أنّه، عندما كانت اللّغة الإغريقيّة هي اللّغة الأدبيّة المهيمِنة في المنطقة في تلك الفترة، فإنّ السكّان العاديّين الأصليّين كانوا يتكلّمون عامّةً السريانيّة"".والملاحظ أن المستشرقين بوجه عام حريصون بشكل سخيف ومَرَضِىّ على أن يرجعوا كل لفظ دينى فى الإسلام إلى لغة سامية أخرى غير العربية: فهذه الكلمة آرامية الأصل، وتلك عبرية، وتيك سريانية... إلخ. ولم يحدث، فى حدود ما أذكر، أن رد أحدهم كلمة عبرية أو آرامية أو سريانية إلى أصل عربى، مع أن كل تلك اللغات لغات سامية ترجع كلها إلى أصل واحد، ومن ثم فالصلات بينها قوية، ووجوه الشبه فى الألفاظ والمعانى كثيرة، وبالتالى لا ينبغى أن نقول باستعارة العربية من أى منها بل بانحدارها كلها، ومنها العربية، من اللغة السامية الأم، سواء كانت لغة حقيقية أو أصلا مفترضا، ودعنا الآن من أن بعض علماء الساميات يجعلون من العربية أصلا لكل تلك اللغات بمعنى أنها هى اللغة السامية التى تفرعت منها كل هذه الألسنة. إذن فاللغة السامية هى الصلة المشتركة بين تلك اللغات المذكورة، ومعها الأكادية والبابلية والفينيقية والحبشية... وعلى هذا فمتى توقفنا عند شىء مشترك بين العربية وأى منها، وكان لا بد من القول باستعارة إحداهما من الأخرى فالمفروض أو الأرجح على الأقل أن تكون العربية هى المعيرة، والأخرى هى المستعيرة. لكن المستشرقين بعامة يصرون على نهجهم ذاك الغريب المدابر للعلم والمنهج العلمى مكايدةً للإسلام ونكايةً فيه. ذلك أن العربية عندهم هى لغة محمد، ولغة القرآن الذى نزل على محمد، ولغة الدين الذى أتى به محمد وانتصر على اليهودية والنصرانية وتحولت الملايين من أتباعهما إليه عبر القرون، أما الآرامية والسريانية والعبرية فلغات اليهود والنصارى، رغم أنها كلها لغات شرقية، أى ليس لهم منها شىء لا فى الثور ولا فى الطحين، لكنها العصبية الدينية الغبية. ولدينا هنا ثلاث كلمات (هى "القرآن والسورة والآية") يقول المؤلف إنها موجودة أيضا فى السريانية. وسوف أصدقه مؤقتا وأفترض أنها موجودة فى هاتين اللغتين بنفس النطق والمعنى. فلم يا ترى ينبغى أن نقول باستعارة العربية لها من السريانية؟ بل لم لا نقول إن السريانية هى التى استعارتها من لغة الضاد، وبخاصة فى ضوء ما يقوله بعض المتخصصين فى اللغات السامية من أن العربية هى اللغة السامية الأم التى انبثقت منها الآرامية والسريانية والعبرية وغيرها من اللغات السامية؟ فإذا ما تبين لنا أن كلمة "القرآن" مشتقة من "ق ر أ"، وكانت مادة "قرأ" موجودة فيها على نطاق واسع، ووزن "فُعْلان" منتشرا انتشارا واسعا كـ"برهان، وفرقان، وتكلان، وحسبان، وعمران، وبنيان، وجردان، وفقدان..."، إضافة إلى أنها ليست بنفس النطق والمعنى فى السريانية، كان لنا أن نقول إن المستشرقين يتساخفون فى موقفهم ذاك. وهذا أخف لفظ يمكن أن نصفهم به هنا. وإذا كان محمد قد استعار تلك اللفظة رغم ذلك من السريانية محولا إياها خطأً من "قريانة" إلى "قرآن"، وهم يقولون إن محمدا كان يستعين بسريان فى تأليف قرآنه، فكيف يا ترى نعلل ذاك الخطأ، فى الوقت الذى كان حوله سريان أصلاء على سن ورمح؟ ترى لماذا لم يصلحوا له ذاك الخطأ؟ بل لماذا يقع ذلك الخطأ أصلا، وهم موجودون؟ ألا تَرَوْن أن المستشرقين يقلبون الوضع رأسا على عقب؟ هل هذا علم؟ هل هذا تفكير علمى؟ والمعروف أن الرسول عليه السلام، بأمر من الله سبحانه، كان حريصا على إبعاد أى عنصر يهودى أو نصرانى عن دينه حتى إنه، حين فكر فى طريقة لدعوة المسلمين إلى الصلاة، واقترح عليه بعضهم النفخ فى الشبور كما يفعل اليهود، أو قَرْع الجرس على النحو الذى يصنع النصارى، رفض هذا وذاك، واستقر الأمر على الاستفادة من الصوت الإنسانى الجميل الرقراق. كما أنه قد أمر أتباعه أن تكون لحاهم مخالفة للحى غيرهم كما هو معروف. وهناك حديث يحض على الصلاة فى النعال، وصيام تاسع المحرم مع عاشره جميعا مخالفةً لليهود. وكان اليهود إذا حاضَتِ المرأةُ فيهم لم يُؤَاكِلُوهَا ولم يُجَامِعُوها في البيوتِ، فسأل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ، فأنزلَ اللهُ تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض... إلى آخر الآية. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اصْنَعُوا كلَّ شيءٍ إلا النكاحَ. فبَلَغَ ذلك اليهودَ، فقالوا: ما يريد هذا الرجلُ أَنْ يَدَعَ من أمرِنَا شيئًا إلا خالفَنا فيه. وفى المدينة نزل الوحى بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعدما كان المسلمون فى مكة يستقبلون الكعبة وبيت المقدس معا فى ذات الوقت قائمين إلى الجنوب من الكعبة بحيث تكون بينهم وبين بيت المقدس فى الصلاة، فيستقبلون الاثنين جميعا، وبعدما صَلَّوْا بعض الوقت إلى الشمال حين لم يعد ممكنا الصلاة إلى الكعبة وبيت المقدس فى نفس الوقت، أتى الوحى بالتحول فى الصلاة إلى الجنوب فى مكة حيث يقوم البنيان الذى شاده من قديمٍ أبوهم إبراهيم. فكيف يقال إن الرسول قد أخذ "القرآن" من "قِرْيانة" السريانية؟ وهذا إن كان، ولا يمكن أن يكون، هناك سريان فى مكة، وكذلك لم يكن حوله سريان فى أى مكان أو زمان ولا كان يعرف سريانا فى يوم من الأيام ولا استعان بأحد من السريان أو الجن الأزرق فى صياغة قرآنه، ببساطة لأن القرآن كتاب سماوى جاء من عند رب العالمين. وهذا ما يحاول المستشرقون والمبشرون إثارة الضجيج حوله بهذه البهلوانيات المضحكة التى مكانها الوحيد المناسب هو السيرك. ثم لماذا السريانية بالذات؟ هل فيها سرٌّ باتعٌ جعلت لكسنبرج يختارها هى بالذات دون غيرها من اللغات ساميّة كانت أو حاميّة؟ لاحظ، أيها القارئ العزيز، أنه يقول بوجود السريانية آنذاك فى الشام والعراق فقط، وإن لم يكن رغم هذا متأكدا مما يقول. ومن ثم كان سؤالنا المشروع بل وسؤال أى شخص عنده عقل ومنطق: إذا كان موطن السريانية على هذا البعد الشاسع من مكة حيث ظهر محمد والقرآن فكيف يا ترى تفسر تأثر القرآن بها؟ وأين الدليل على ذلك التأثر؟ ومتى تم؟ ومن كان الوسيط أو الوسطاء الذين أخذ محمد السريانية عنهم وأدخلها قرآنه؟ وفى أية ظروف كان ذلك؟ ولماذا سكت معلموه أو معاونوه عن ذكر دورهم، وبخاصة حين خدعهم وجعل من نفسه نبيا وتركهم يقشرون بصلا وفاز هو بالغنيمة وصار اسمه يدوى كالطبل: أولا فى بلاد العرب، وبعد هذا فى بلاد الدنيا كلها، فى الوقت الذى لا يذكرهم ولا يبالى بهم ولا يعرفهم أحد، وقبعوا فى الظلام والخفاء ونسجت عليهم العنكبوت بيتها ونسيهم العالم أجمع؟ والعجيب أن ألفاظ "السريانية" و"السريان" (أو "النبطية" و"الأنباط" بنفس المعنى) لا وجود لها لا فى الشعر الجاهلى ولا فى شعر المخضرمين ولا فى شعر صدر الإسلام بما فى ذلك شعر أمية بن أبى الصلت المتصل بكتب أهل الكتاب ولا فى القرآن ولا فى أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ولا فى كتب السيرة النبوية. ويؤكد البروفسير دانيال كينج، أستاذ اللغة السريانية- الآرامية بجامعة كارديف، فى بحثه: "A Christian Qur'an?" أن فى كلام لكسنبرج عن الألفاظ السريانية المزعومة فى القرآن ما يدل على اضطراب علمه بتلك اللغة، وعلى تسرعه وتعسفه فى استنتاج نتائجه. بل لقد لاحظ أن بعض تلك الألفاظ لا وجود لها أساسا فى لغة السريان.ونبدأ بمناقشة تساخفات لكسنبرج، وأولها التساخف الخاص بدعوى سريانية كلمات "قرآن" و"سورة" و"آية": أما "قرآن" فهو مصدر مشتق من مادة "ق ر أ"، وألفاظها كثيرة فى القرآن الكريم، ومعظمها مرتبط بقراءة القرآن: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأعراف/ 204)، "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (النحل/ 98)، "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا" (الإسراء/ 13- 14)، "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا" (الإسراء/ 45)، "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا" (الإسراء/ 106)، "وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ" (الشعراء/ 198- 199)، "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (المزمل/ 20)، "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" (القيامة/ 16- 18)، "وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ" (الانشقاق/ 21). ومن شواهد شعر تلك الفترة فى هذا المجال البيتان التاليان لشاعرين أحدهما لم يسلم قط، وهو أمية بن أبى الصلت، والثانى لم يكن أسلم بعد، وهو كعب بن زهير. يقول أمية:كِتابًا مِنَ الله نَقْرَا بِهِ = فَمَنْ يَعْتَرِيهِ فَقِدْمًا أَثِمْويقول كعب:يَسْقِينَ طُلْسًا خَفِيّاتٍ تَراطُنُها = كَما تَراطَنُ عُجْمٌ تَقرَأُ الصُّحُفاومن استعمال العرب آنذاك لكلمة "قرآن" بمعنى الكلام المقروء، وهو المعنى اللغوى العام لا الاصطلاحى لتلك الكلمة، ما جاء فى "اتفاق المبانى وافتراق المعانى" للدقيقى من أن أبا بكر سأل عن "قرآن" مسيلمة، أى الكلام الذى كان يزعم أنه ينزل عليه من السماء ويقرؤه على أتباعه. وفى "البداية والنهاية" لابن كثير خبر آخر عن هذا الموضوع وردت فيه لفظة "قرآن" بنفس المعنى. وفى "المثل السائر" لابن الأثير وصف لكتاب "الشاهنامة" بأنه "قرآن القوم".وأما كلمة "سورة" فمادتها متوافرة فى العربية، وهى "س و ر". ومن شواهدها فى شعر الجاهليين قول المثقِّب العبدى:غَلَبْتَ مُلُوكَ الأَرْضِ بِالحَزْمِ وَالنُّهَى = فأنتَ امْرُؤٌ في سُورَةِ المجدِ تَرْتَقيوقول النابغة الذبيانى:أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أعطاكَ سُورَةً = تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ؟* * *وَلِرَهْطِ حَرّابٍ وَقَدٍّ سُورَةٌ = في المجدِ ليس غُرابُهُم بِمُطارِ* * * وميزانه في سورة المجد ماتعوقول عمرو بن شأس الأسدى، وهو جاهلى مخضرم أدرك الإسلام شيخا كبيرا:خزيمةُ ردّاني الفَعَال، ومعشرٌ = قديمًا بَنَوْا لي سورة المجد والكرموالطريف أن السريان لا يستخدمون كلمة "سورة"، التى يزعم لكسنبرج أن الإسلام استعارها منهم للوحدات القرآنية، بل يستخدمون كلمة "إصحاح". فانظر بالله عليك إلى التنطع الاستشراقى الذميم! فالمفروض أن محمدا كان ينبغى أن يسمى سُوَر القرآن: "إصحاحات" ما دام يأتمر بأمر السريان الذين يعاونونه فى تأليف قرآنه. أليس ذلك ما يفرضه المنطق؟ ولكن منذ متى كان لكسنبرج وأشباهه يراعون المنطق عند حديثهم عن الإسلام أو يفكرون فى احترامه؟وتبقى كلمة "آية"، وهذه بعض شواهدها من شعر الجاهلية. يقول الحارث بن حِلِّزَة:أَيُّها الشانِئُ المُبلِّغُ عَنّا = عِندَ عَمْرَوٍ، وَهَل لِذاكَ اِنتهاءُ؟مَلِكٌ مُقسِطٌ وَأَكمَلُ مَن يَمـْــــــــــــــــــشِي، وَمِن دونَ ما لَدَيْهِ الثناءُإِرمِيّ بِمثلِهِ جالَتِ الجِنُّ = فَآبَت لِخَصْمِها الأَجْلاءُمَن لَنا عِندَهُ مِنَ الخَيرِ آيا = تٌ ثَلاثٌ في كُلِّهِنَّ القَضاءُآيةٌ شارِقُ الشَّقِيقَةِ إِذ جا = ؤوا جميعًا، لِكُلِّ حَيٍّ لِوَاءُويقول النابغة الذبيانى:مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ آيَةً؟ = وَمِنَ النصيحَةِ كَثْرَةُ الإِنْذارِ* * *تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها = لِسِتَّةِ أَعْوامٍ، وذا العامُ سابِعُويقول حَجل الباهلى:أَبلِغ مُعاوِيَةَ المُمَزَّقَ آيَةً = عَنّي، فَلَسْتُ كَبَعْض ما يَتَقَوَّلُويقول زهير:أَرَاني، إذا ما شِئْتُ، لاقَيْتُ آيَةً = تُذَكِّرُني بعضَ الذي كنتُ ناسِياويقول سنان المرى:مَن مُبلِغٌ عَنّي المُثَلَّمَ آيَةً = وَسَهْلا؟ فَقَد نَفَّرْتُم الوَحْشَ أَجْمَعاويقول عبيد بن الأبرص:تُرِيني آيَةَ الإِعْراضِ منها = وَفَظَّتْ في المَقَالَةِ بَعْدَ لِينِويقول طرفة بن العبد:فَغَيَّرْنَ آياتِ الدِّيارِ مَعَ البِلَى = وليسَ على رَيْبِ الزمانِ كَفيلُ* * *وَبِالسَّفْحِ آياتٌ كَأَنَّ رُسُومَها = يَمَانٍ وَشَتْهُ رَيْدَةٌ وَسَحُولُويقول عروة بن الورد:عَفَتْ بَعْدَنا من أُمِّ حَسّانَ غَضْوَرُ = وفي الرَّحْلِ منها آيَةٌ لا تَغَيَّرُ* * *تنَكَّرُ آياتُ البلادِ لِمالِكٍ = وَأَيْقَنَ ألا شَيْءَ فيها يُقَوَّلُفالكلمة إذن كانت موجودة فى اللغة العربية وجودا راسخا مطمئنا قبل ظهور الإسلام، ولا داعى للقول باستعارة القرآن لها لا من السريانية ولا من العفاريت الزرق. وأسخف من هذا كله، وهذا كله قد بلغ الغاية فى السخف والرداءة، قول الكاتب المسكين إن كلمة "آية" هى قراءة خاطئة للّفظة السريانيّة: "آثَا". الله أكبر! إن ذلك المسكين الذى لا يحترم عقله (وهو فى ذلك حر، لأنه عقله، فمن حقه أن يصنع به ما يشاء) ولا يحترم عقولنا (وهو بالتأكيد ليس حرا فى ذلك)، ويقول كلاما لو عُرِض على أى طفل صغير لرَفَضَه لسطوع تهافته وتفاهته، يفترض أن الذين تأثروا بالسريانية إنما تعلموها على أيدى أنفسهم وعرفوها معرفة صامتة، أى بالنظر فقط، فهم لا يعرفون كيف ينطقونها لأنهم لم يتلقَّوْها عن أحد يتلفظها أمامهم فيعرفوا منه كيف تُنْطَق ألفاظها، فكأنهم يمارسون الرسم ولا يتعلمون لغة. ومن هنا فحين رَأَوْا كلمة "آثا" وظنوها: "آية" انتهى الموضوع على هذا النحو وظل هكذا إلى الأبد. هذه واحدة، والثانية أنه ليس هناك وجه صلة بين الكلمتين كما يرى القارئ بنفسه. وثالثا كيف يخطئ المتضلعون من السريانية (الذين كانوا يعلّمون محمدا كيفية تأليف القرآن) فى نطقها ويقعون فى هذا الخطإ المبين الذى لا يقع فيه جحش صغير؟ ورابعا كيف نقبل هذا الذى يقوله لكسنبرج فى الوقت الذى تتوافر فى لغة الضاد كلمة "آية"؟ نعم كيف تكون كلمة "آية" متاحة فى العربية ثم يتجاهل محمد هذا ويذهب فينقب هو ومعاونوه أو معلموه فى السريانية فلا يجدون سوى كلمة "آثا"، فيأخذونها ليرموها فى أقرب مقلب زبالة ويستبدلون بها كلمة "آية" الموجودة من الأصل فى لغته؟ صدق المثل: أذنك من أين يا جحا؟ وحتى لو قلنا إن كلمة "آية" نفسها كانت موجودة فى السريانية كما هى موجودة فى العربية فلِمَ ينبغى أن تكون العربية هى الآخذة لا المعطية؟ وسادسا من يا ترى الذين ساعدوا محمدا من العالمين بالسريانية فى استعارة تلك الألفاظ من لغتهم وإدخالها فى قرآنه؟ ومتى كان ذلك؟ ومن الشهود؟ وأين الدليل على أى شىء من هذا كله؟ وسابعا، ويكفى هذا الآن، كيف تتأثر العربية بلغة يبعد موطنها عن موطن العرب كل ذلك البعد الشاسع فى وقت كانت وسائل الاتصال والمواصلات فى غاية البطء والبدائية؟ إن المستشرقين يقولون دائما لنا: إنكم تريدوننا أن نكتب عن الإسلام من وجهة نظركم رغم أننا لا نؤمن به ولا بمحمد. والواقع أنْ ليست هذه هى نقطة الخلاف، فلم يطلب منهم أحد أن يسلموا، لأن الإسلام دين الحرية والرقى، ولا يحتاج إلى الضغط على أحد كى ينال شرف اعتناقه، فضلا عن أن الإسلام الإكراهى لا يُقْبَل عند الله سبحانه. المطلوب هو احترام المنهج العلمى. وأين المنهج العلمى فى الحديث عن تأثيرات سريانية فى ألفاظ القرآن ومضامينه فى الوقت الذى ليس هناك أى دليل على هذه الدعوى، بل كل الدلائل تصرخ بأن شيئا من ذلك لا يمكن أن يكون صحيحا؟ إن صنيع هذا المستشرق ونظرائه إنما يستهدف وضع المسلمين دائما تحت ضغط التشكيك فى دينهم وكتابهم ونبيهم وإرباك ذهنهم وعقولهم وإشعارهم أن كل شىء فى القرآن مؤلف تأليفا وليس نازلا من السماء وأنه لا فرق بينه وبين الكتاب المقدس، الذى انهار تحت معاول البحث والتحقيق بعدما ثبت أنه من صنع بشر. وبهذا لا يكون أحد أحسن من أحد. ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإسلام هو الحصن الحصين المتين للمسلمين. به فتحوا العالم وسادوا الدنيا، وظل الغرب يرتعب منه ومن أتباعه قرونا. وهم موقنون أن المسلمين بدون الإسلام لا شىء: فبه قوتهم، ومنه عزتهم وكرامتهم، وبمبادئه وقيمه العظيمة يمكنهم أن يستعيدوا مجدهم الدابر الغابر ويهددوا أوربا وأمريكا أيما تهديد. فالذى يفعله المستشرقون هو ضربات استباقية حتى لا يفيق المسلمون من سكرتهم وخُمَارهم ويظلوا فى رقدة الوخم والوهن بل رقدة العدم التى هم فيها. واستدامة تلك الرقدة القاتلة إنما تكون بالتشكيك فى مصدر القرآن، والإلحاح على أنه إنجاز محمدى. وما دام القرآن صناعة بشرية فلن يعود له ذلك السحر الآسر الذى يستولى به على العقول والقلوب. على أن دور الغربيين لم يتوقف عند هذا، بل تراهم يعضدون المشائخ الضالين المضللين الذين يلفتون الناس عما فى دينهم من قيم بديعة ومبادئ سامية سامقة ويشغلونهم بالتفاهات والشكليات التى تستهلك اهتماماتهم وتصرفهم عن الجواهر والأصول فلا تكون له قيمة فى عالم الحضارة والصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو حال المسلمين اليوم بوجه عام حتى ليظن من ليس له اطلاع على دينهم أنه دين يأمر بالتخلف والضياع ويَنْهَى عن التقدم والتحضر بكل ما فيه من طاقة وقوة. ومرة أخرى لا يكتفى الغربيون، فى محاربتهم الإسلام، بهذا بل يشيعون الاضطراب فى مفاهيمه ومضامينه قالبين كل شىء فيه رأسا على عقب، وعقبا على رأس. فتراهم يسخرون من الجنة ويتهمون الإسلام بأنه دين شهوانى لأنه يعد أتباعه بمتع الطعام والشراب والجنس هناك، وكأن الجنس والطعام مما يعاب، وكأنهم هم لا يسرقون شعوب العالم ويقتلون منها الملايين بل ويدمرونها تدميرا من أجل المال الذى به يشترون الطعام والشراب ويستمتعون بالنساء. يا لهم من منافقين! ثم إن هؤلاء الشياطين يستديرون من الناحية الأخرى ساخرين من إيمان المسلمين بما فى الجنة من نعيم ومتع، قائلين إن الشبان الذين يموتون فى سبيل دينهم ويضحون بأرواحهم وأموالهم مخدوعون بما يقرأونه فى القرآن من أنه سوف يكون فى الفردوس حور عين، إذ هذا فهم خاطئ لنصوص القرآن صوابه أنهم سوف يأكلون زبيبا أبيض ليس إلا. فهذا هو معنى "حور عين" فى القرآن طبقا لتفسير لكسنبرج. وعليه فهؤلاء الشبان الذين يضحون بحياتهم وراحة بالهم ومستقبلهم الدنيوى تصديا لعربدات الغرب فى بلادنا وإجراماته فى حقنا لن يعوَّضوا عنه بشىء سوى حبات العنب الأبيض المجفف. أما ردى على هذا السخف فهو أن الزبيب أفضل مليارات المرات مما ينتظر لكسنبرج وأشباهه من نيران الجحيم التى سوف يُشْوَوْن فيها شَيًّا وتُقَلَّب وجوههم فى لظاها تقليبا، كلما نضجت جلودهم بُدِّلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، إن لم يكن جزاء كفرهم وإلحادهم، فجزاء كذبهم وقلة ذوقهم وتنطعهم، وإلا فأى حمار ذلك الذى يفسر "الحور العين" بالزبيب الأبيض؟ طيب يا أخى، خَلِّ بعضه أبيض، وبعضه أحمر، وبعضه أصفر، وبعضه أسود، وبعضه بناتيا بدون بذر، وبعضه مُزَّا مُبَذَّرا... وهكذا، وزد عليه أيضا بعض التين المجفف والقراصيا إذهابا للملل ومنعا للشعور بوطأة الضيق جراء لزوم لون واحد من الطعام. وهنا نصل إلى بهلوانيات لكسنبرج فى هذا المجال. إنه مثلا يدعى أن لغة القرآن لا تتطابق ولغة الشعر الجاهلى. كيف؟ هذا ما لا أدريه ولا يدريه أى عاقل فى رأسه مسكة من العلم والفهم. ترى هل الشعر الجاهلى يرفع الفاعل بينما ينصبه القرآن؟ ترى هل الشعر الجاهلى يجر المضاف إليه بينما يجزمه القرآن؟ ترى هل الجملة العربية فى الشعر الجاهلى فعلية واسمية، بينما هى فى القرآن حرفية؟ ترى هل يأتى حرف الجر فى الشعر الجاهلى قبل الاسم المجرور بينما يأتى فى القرآن بعده؟ أم هل يا ترى تختلف مفردات المعجم أو المشتقات أو أنواع الأزمنة أو أدوات الشرط مثلا هنا عنها هناك؟ أم هل ينتمى الشعر الجاهلى إلى اللغة العربية بينما ينتمى القرآن إلى اللغة اللاوندية؟ هل العرب منذ نزول القرآن قد صاروا عربَيْن: عربا يفهمون القرآن ولا يفهمون شيئا فى الشعر الجاهلى، وعربا يفهمون الشعر الجاهلى بكل أريحية بينما يجدون القرآن معمَّيات وألغازا؟ وهل كان المشركون ليسكتوا على تحدى القرآن لهم أن يأتوا ولو بسورة من مثله فلا يردوا عليه بأن اللغة التى نزل بها غير لغتهم التى يعرفونها وينظمون شعرهم ويلقون خطبهم بها؟ بل هل كان يمكن أن يفهموا القرآن، وهو بلغة وقواعد غير لغتهم وقواعدهم؟إن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يخرج من عقل أى إنسان بل من مخرج آخر. أيمكن أن يكون صاحب هذا الخبص واللبص أوربيا ممن صنعوا الغواصات وغَزَوُا الفضاء وشيدوا الطائرات وأبدعوا الصواريخ وسفن الكواكب وبلغوا القمر واخترعوا المذياع والتلفاز والمشباك والأمصال واللقاحات والأدوية لمختلف الأمراض والعمليات الجراحية المختلفة وغير ذلك من ألوف المخترعات فى كل ميدان ومجال؟ بيد أننا ينبغى أن نتنبه إلى أن كثيرا جدا من الغربيين إذا سمعوا بالإسلام والقرآن يضطرب تفكيرهم وتتداخل سلوك عقولهم وتضطرب قواهم الذهنية وتتشوش أمخاخهم فيقولون كلاما أشبه بكلام المجانين أو كلام المتخلفين. وسوف أنقل من الآن فصاعدا أهم ما قاله لكسنبرج عن الآيات الثمانى عشرة الأولى من سورة "النجم"، التى اتخذها مجالا لتطبيق منهجه السخيف فى التفسير السريانى للقرآن المجيد معقبا على ما قاله أولا بأول. ولسوف يتضح بكل جلاء أن الرجل بهلوان كبير ليس له موضع أحق به من السيرك. يقول عن الآية الأولى من السورة الكريمة: "إنّ التحليل الفيلولوجي لسورة النّجم سيقيم الدليل على أنّ موضوعها الرئيسي هو الجدل الشائع في محيط الرّسول (لم يُذْكَر اسمه في السورة)، الذي رُمِيَ بالجنون. ففي الآية 25 من "المؤمنون": "إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ"، وفي الآية 8 من "سبأ": "أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ؟" اتُّهِم محمّد بأنّه ركِبه "جِنٌّ"، وفي خمس آيات أخرى وُصِف بأنّه "مَجْنُون" (ليس بالمعنى الحديث للكلمة، ولكن بمعنى "استحوذ عليه جنّ"، "ركبه جنّ"). يدحض القرآن التهمة الأولى في ثلاث مناسبات: "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ" (الأعراف/ 184)، "أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ" (المؤمنون/ 70)، "مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم" (سبأ/ 46)، ويدحض كذلك التهمة الثّانية في آيات ثلاث: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ" (القلم/ 2)، "وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ" (التكوير/ 22). إنّ سورة "النّجم" تتناول سبب بعض العوارض التي تنتاب النّبي والتي لاحظها خصومه. والسؤال يتمثّل في معرفة ما إذا كانت هذه العوارض نتيجةَ وَسْوَسة شيطانيّة أم وَحْيٍ إلهي. القرآن، بطبيعة الحال، يتمسّك بالحالة الثانية، وينسب أيضا نفس "المرض المقدّس" إلى رُسُلٍ آخرين كانوا قد سبقوا رسول القرآن. ولهذا السبب صرّح القرآن في سورة "الذاريات" (51/ 52): "كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِنْ رَّسُولٍ إلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ". وقد اتُّهِم نوح بنفس التهمة في سورة "القمر" (54/ 9): "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ". وبعد أن وضّحنا السياق الذي يجب أن نتناول فيه سورة "النّجم" يمكننا عندئذ الشروع في تحليل النّص تحليلا دقيقا، آخذين بعين الاعتبار، وفي نفس الوقت، اللّغة العربيّة واللّغة السريانيّة الآراميّة.تحليل فيلولوجي لكلّ آية على حدة: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى"... إنّ ما يصفه نولدكه بخصوص النّحو السرياني، والذي كثيرا ما يُحَيِّر المختصّين في العربيّة، نجده أيضا جليّا في الجملة التي تأتي في مقدّمة السورة التي نحن بصددها. فوحدة الجملة، التي انكسرت بفعل إدخال الفاصلة الخاطئة (بعد "هَوَى")، لم يهْتدِ إليها المفسِّرون والمترجمون. في الحقيقة تحتوي الآيتان الافتتاحيتان على جملة مركَّبة من شرط (آية 1) وجواب شرط (آية 2). وهكذا فإنّ التركيب النحوي للجملة يكون كالتّالي: الكلمة الأولى: "والنَّجْمِ" ليست الفاعل في الآية 1 بل هي قَسَمٌ لا دور آخر له سوى تقديم الجملة التي تأتي لاحقا. وبناء على هذا فإنّ الجملة (الآية) كلّها تكون: "وَالنَّجْمِ"، وليس "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى"... زمن الجملة التي تأتي بعدها "إِذَا هَوَى" زمن شرطي، والفاعل هو الشخص المذكور في جواب الشرط في الآية 2: "صَاحِبُكُمْ". يجب إذن أن نفهم الجملة على النحو التالي: "إِذَا هُوَ (صَاحِبُكُم) هَوَى". جواب الشّرط (جواب القسم) يأتي منطِقيًّا في الآية 2: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى". عندما يُترجِم بل (Bell) هذه الآية هكذا: " Your comrade has not gone astray, nor has he erred "، فهو لا يرى بوضوحٍ كافٍ ما تشير إليه، أي المَسُّ الشيطاني الذي يُعْتَقَد أنّ الذي يُصَاب به يخرج عن الطريق المستقيم وينتابه الهذيان. فلهذا السّبب إذن يؤكِّد القرآن أنّ النَّبي (صَاحِبُكُمْ) لم يَحِدْ عن الحقّ ولا زال عنه، ولم يُصَب بالهذيان. فتصبح ترجمة الآية الأقرب إلى الصواب كالتّالي: "Your companion has not gone astray, nor has he become delirious". وأول شىء ألفت الانتباه إليه هو قول المستشرق إن القرآن ينسب المرض المقدس (أى الجنون) إلى الأنبياء الآخرين. وهذا كذب وافتراء، فلم يحدث قط أن نسب القرآن الجنون إلى أى نبى أو رسول كائنا من كان، وإلا كان هذا منه تكذيبا لهم. كل ما فعل هو ذكره اتهام أقوام النبيين والمرسلين لهم بالجنون مفندا اتهاماتهم ومسخفا عقولهم ومتوعدا إياهم بأسوإ مصير. وشتان هذا وذاك. وهذا يذكرنى بما افتراه خليل عبد الكريم على القرآن من أنه يصف أتباع نوح بـ"الأرذلين" مع أن القرآن لم يفعل أكثر من إيراد ما يقوله المستكبرون الكافرون على أولئك المؤمنين. كذلك فزعم المستشرق أن الآيات الأولى من سورة "النجم" إنما تتحدث عن اتهام المشركين له صلى الله عليه وسلم بالجنون والهذيان هو زعم جاهل. فالآيات تذكر الضلال والهوى والغواية، وهذه أمور أخلاقية. ولو كانت تريد أن تنفى عنه الجنون لذكرت الهذيان لأنه أمر عصبى يرتبط بالجنون. وهذا من الوضوح بمكان مكين، ومن ثم فكل ما قاله الرجل فى هذا الموضوع سخف فى سخف. أما قوله إن المفسرين، ومن ثم المترجمين، قد أخطأوا فهم التركيب الموجود فى الآيات الثلاث الأولى من السورة بسبب جريها على النحو السريانى فلا أدرى أى جنون سول له هذا الهذيان. أى نحو سريانى؟ وأى بطيخ؟ إن معنى الآيتين واضح تماما، وهو القسم بالنجم عند هُوِيِّه بأن الرسول لم يضلَّ ولم يَغْو ولم ينطق عن الهوى. فما المشكلة فى ذلك؟ أهى فى الفصل بين القسم وجوابه ووجود هذا فى آية، وذاك فى آية أخرى؟ لكن ذلك يتكرر كثيرا فى القرآن. وحتى لو سرنا على دربه الملتوى الخبيث وقلنا: إن المعنى هو "والنجم إن صاحبكم إذا هوى ما كان ضالا ولا غاويا ولا ناطقا عن الهوى" لظل الفصل قائما بين الشرط وجوابه كما هو واضح، إذ إن فعل الشرط موجود فى الآية الأولى، وجوابه موجود فى الآية الثانية. وهذا يعنى أن اعتراضه لا يخرج عن أن يكون زوبعة فى كستبان (لا فى فنجان). أما الطنطنة بالنحو السريانى وإنجاده لنا فى فهم هذه الآية التى يزعم أبو جهل غموضها، وما هى بغامضة إلا على لسان الكذاب الدجال الذى يستحق قَطْعَه، فهى طنطنة لا معنى لها ولا محصَّل من ورائها لأنه لا يوجد هنا نحو سريانى ولا دياولو. إن هى إلا شعوذة منحطة يحاول لكسنبرج التأثير بها على السطحيين المتخلفين من أمثاله. والآن أحب أن أنبه القراء إلى أننا لو فصلنا "والنجم" عن "إذا هوى" وجعلنا "إذا" شرطية (وليست ظرفية بمعنى "حين يهوى") لوجدنا أنفسنا إزاء تركيب لا وجود له فى القرآن قط. فالقرآن، حين يستخدم واو القسم مع شىء كالنجم، فهو يرفد المُقْسَم به إما بـ"إذا" الظرفية وإما بنعت أو عطف مثلا، أو يفعل الأمرين جميعا: "والقرآن ذى الذِّكْر * بل الذين كفروا فى عِزّةٍ وشقاق"، "والكتابِ المُبِين * إنا جعلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون"، "والكتابِ المُبِين * إنا أنزلناه فى ليلةٍ مباركةٍ. إنا كنا منذِرين"، "والقرآنِ المجيد * بل عجبوا أنْ جاءهم منذرٌ منهم، فقال الكافرون: هذا شىء عجيب"، و"الذاريات ذَرْوا * فالحاملات وِقْرا * فالجاريات يُسْرا * فالمقسِّمات أمرا * إن ما تُوعَدون لَصَادِق"، "والطُّور * وكتابٍ مسطور * فى رَقٍّ منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع"، "والسماءِ ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهِدٍ ومشهود * قُتِل أصحابُ الأخدود"، "والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق؟ * النَّجْمُ الثاقب * إنْ كلُّ نفسٍ لـمَّا عليها حافظ"، "والشمسِ وضُحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جَلّاها * والليل إذا يغشاها * ... ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورَها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسّاها"، "والليلِ إذا يَغْشَى * والنهار إذا تجلَّى * وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى * إنّ سَعْيَكم لَشَتَّى"، "والضُّحَى * والليل إذا سَجَا * ما ودَّعك ربك وما قَلَى"، و"التينِ والزيتون * وطُور سِينِين * وهذا البلدِ الأمين * لقد خلقنا الإنسانَ فى أحسن تقويم"...وبالمثل سوف يكون عندنا تركيب لا يعرفه القرآن بل ولا تعرفه اللغة العربية. ذلك أن تركيب الآيتين الأُولَيَينْ طبقا للتوجيه الغبى لذلك المستشرق سوف يكون كالآتى: "والنجم: إذا هوى لم يضل صاحبكم" بمعنى أن صاحبكم إذا هوى لم يضل. أى أنه إذا كان قد هوى من الصَّرْع فإنه لم يضل. والآن هل لاحظتم أن فاعل "هوى" ضمير يعود على متأخر لفظا ورتبة، وهو "صاحبكم" (فاعل فعل جواب الشرط)؟ ومعروف أن جواب الشرط يلى فعل الشرط قاعدةً وحكمًا، وهو يليه هنا واقعًا متحققا. وهذا لا تعرفه اللغة العربية ولا يعرفه القرآن. ثم متى يقول العربى: "إن فلانا قد هوى" هكذا بإطلاق دون أى تحديد أو توضيح، ويكون المقصود أنه قد سقط مصروعا؟ بل من قال أصلا إن محمدا كان يصيبه الصَّرْع؟ إن ذلك الشيطان يحاول بخبث، لكنه خبث مفضوح، أن يمرر فى هدوء أن النبى عليه الصلاة والسلام كان مصابا بالصَّرْع وكان يسقط دائما أمام المشركين فى الشارع كلما جاءته نوبة الوحى. يريد أن يقول إن وحى القرآن لم يكن وحيا سماويا بل أثرا من آثار الصَّرْع. ولكن منذ متى كان الصَّرْع يثمر شيئا مثل القرآن أو يثمر أى فكر أصلا؟ إن الصَّرْع حالة يفقد معها الإنسان حسه وشعوره وعقله وتفكيره. فكيف يتسق هذا وذاك؟ وكيف، عندما ينهض محمد من نوبة الصَّرْع، يكون جاهزا بنص قرآنى بلغ القمة فى روعة الأسلوب وفى رقى مضمونه العقيدى والأخلاقى والاجتماعى والاقتصادى والنفسى والسياسى والعسكرى حسب النص الموحى به؟ ولقد سبق أن تناولت تلك التهمة الغبية فى الفصل الثالث من الباب الأول فى كتابى: "مصدر القرآن"، وبينت من خلال ما كتبه الأطباء عن أعراض الصَّرْع أن أعراض الوحى شىء آخر مختلف تماما عن هذا المرض وعن أى مرض غيره. ثم لو كان محمد مريضا بالصَّرْع ويسقط فى شوارع مكة دائما أكان المشركون سكتوا فلم يزفوه بسخرياتهم من هذا المرض؟ أم هل كانوا يؤمنون به حتى لو انطبقت السماء على الأرض؟ وهل المصروع يمكن أن يكون قائدا سياسيا وعسكريا ومشرِّعا وزوجا وصديقا وأبا وحَمًا وقاضيا يبعث على الإجلال والتبجيل بين أتباعه، بل وبين الخصوم الكارهين له؟ وقبل ذلك كله هل حدث أن اتهمه قومه بأنه مصروع؟ الواقع أن ذلك لم يحدث قط. ألا إن ما يقوله ذلك الشيطان المسمى: كرستوف لكسنبرج، على خبثه وشره، لكلام ساذج مفضوح. كذلك يقول الكاتب إن "الهوى" فى الآية الثالثة هى الصَّرْع، فهل يمكن أن يقول العربى إن فلانا لم ينطق ما نطقه عن الصرع؟ يمكننا أن نقول إن فلانا ينطق عن علم أو عن جهل أو عن كبر أو عن فرط سذاجة مثلا، أما أن يقول إنه ينطق (بمعنى "يأتى بأفكار ومبادئ وعقائد وأخلاق") عن صرع فلا. ذلك أن الصرع غياب عن الوعى والإدراك والتفكير والتقدير، وليس حالة يمكن أن يصدر عنها أى شىء من هذا القبيل. أما استشهاده بقوله تعالى عن خمر الجنة: "لا يُصّدَّعون عنها ولا يُنْزِفون" فهو استشهاد فى غير محله، إذ التصديع (أى الإصابة بالصداع) هو نتيجة لشرب الخمر، أما التفكير والتقدير فليسا نتيجة للصرع. وهذا يريك كيف يخبط الرجل خبط عشواء! وهنا أود اهتبال الفرصة السانحة لسَوْق بعضٍ من كلامه فى تحليل الألفاظ العربية وانتقالها المزعوم من السريانية إلى العربية كى يلمس القارئ بنفسه أنه أمام كلام غير مفهوم. وهو نفسه الأسلوب الذى انتهجه لويس عوض فى كتابه: "مقدمة فى فقه اللغة العربية. وهذا مثال من كلام الكاتب الذى يشبه كلام لويس عوض مما يدل على أن الكلامين قد خرجا من معين واحد، واستخدما وسيلة واحدة هى ضرب الوَدْع والشمّ على ظهر اليد. يقول ذلك الأعجمى المتساخف مخطئا القرآن بعد أربعة عشر قرنا لم يستطع أن يدرك خطأه خلالها عمالقة الشعراء والخطباء والبلغاء من مشركين ويهود ونصارى معاصرين للنبى ولا متعصبة اليهودية والنصرانية الذين كانوا يعملون طوال الوقت على تصيد العورات للإسلام فلم يفلحوا حتى هل هلال لكسنبرج فالتقطت عيناه فى الحال تلك الأخطاء. يا له من أعجمى غبى! يقول: "القراءة التقليديّة: "يُنْزِفُونَ" قراءة خاطئة. والتعديل المُقْتَرَح هنا يُبرِّره الفعل السّرياني "اتْرَفِّي" ("استرخى")، وما الصيغة القرآنيّة إلا ترجمة له. أنظر:R. Smith, Thesaurus Syriacus, vol. I, Oxford 1879, vol. 2, 1901.مثلا: "رَفِّيُوتا" و "مرَفِّيُوتا" وما يقابلهما بالعربيّة، حسب بار علي وبار بهلول: "رَخَاوَة"، "ارْتِخَاء"، اسْتِرْخَاء". أن يكون الجذر السرياني "رْ فَ ا" هو نفسه صيغة مُشتقَّة من "رْ/فَ/ح" بحذف الحاء فذلك ما تبرهن عليه دلالة هذا اللّفظ الذي يقابِله منّا (Manna) في العربيّة بكلمة "رَخَفَ" (وهو تبادل صوتمي لكلمة "رَفَحَ"، فالحرف العربي "خَ" هو صوتم آرامي منبثق عن حرف "حَ"، ويؤكّد هذا عديد اللّهجات الآراميّة البابليّة بما فيها اللّهجات الآراميّة الجديدة التي تُعْرَف بالآشوريّة في بلاد ما بين النهرين) ثمّ "اسْتَرْخى" بالمعنى المادّي للكلمة (مثل العجين بالنّظر إلى طبيعته غير المتماسكة).إن هذا الاستشهاد الأخير يُظهر لنا أنّ الجذر العربي "رَ/خَ/ا" هو اشتقاق تطوّر من حذف حرف النهاية: "ف" للفظة "رَخَفَ" (مثلا في اللّهجة الحلبيّة المعاصرة فإنّ لفظة "ب-أَعْرِفْ" تُنْطَق "ب-أَعْرَا). وهذه الأخيرة هي بدورها نطق مشتق من الجذر السرياني الآرامي "ر ح ي ف" الذي يُنطَق بدوره من خلال تخفيف الحرف الوسطي "ح"، والفعل العربي المشتق "رَأَفَ/رَؤُفَ"، ومنه اللّفظ السرياني "رَاحُوفَا" الذي يعطي اللّفظ العربي "رَئِيف". وهذا يمكن مقارنته بالجذر "رْ/حِ/يـ/مْ"، بالعربيّة "رَ/حِ/ي/مْ". أخيرا، نلاحظ أنّ "لسان العرب" يستشهد عند تعرّضه للجذر "رَ/فَ/حَ" بحديث عمر لمّا تزوّج أمّ كلثوم بنت علي، إذ قال: "رَفِّحُونِي". أي قولوا لي ما يُقال للمُتزوِّج، بمعنى "تَفْرَحُ" (وهذه العبارة ما زالت تُقال إلى يومنا هذا قبل أو عند الزّواج)، (وكذلك فإنّ عبارة "فَرَحْ" تُطلق على حفلة الزفاف في مصر مثلا، (وكذلك في تونس)). وهذا يُفسِّر لنا أن الصيغة المشتقّة من الفعل العربي "فَرِحَ" هي تبادل صوتمي للجذر السرياني الآرامي "ر/ف/ح" (أمّا الصيغة العربية الأخرى "رَ/قَ/حَ" التي ذكرها "لسان العرب" على أنّها تؤدّي نفس المعنى هي بوضوح نتيجة للتّنقيط الخاطئ الذي أفرز "ق" عوضا عن "ف"). نودّ أيضا أن نجلب الانتباه إلى صيغة أخرى للإشتقاق العربي لنفس الجذر التي هي نتيجة لقلب "الحاء" إلى "هاء" لكي تعطي: "رَفَهَ/رَفُهَ"، تَرَفَّهَ، والأسماء المشتقّة مثل "رَفَاهَة" و"رَفَاهِيَّة"... إلخ".وهذا نص مشابه من كتاب لويس عوض، وهو عن لفظة "الصحراء" واشتقاقها متنقلة عبر اللغات المختلفة حتى وصلت إلى اللغة العربية طبقا لمزاعم لويس عوض الجاهلة. يقول: "اسم "دوشيرت: Doshert Doshret," بمعنى "صحراء" هو فى تقديرى صيغة من "اسم "سقارة" المصرية، و"سَقَر" أو "صَقَر" العربية، بمعنى "جهنم" أو "مملكة الموتى". وبهذا المعنى يمكن تفسير تردد كلمة "المستقرّ" و"المقرّ" فى القرآن عند ذكر "الآخرة". فالجذر إذن هو "قر" أو "كر" أو "خر" أو "حر" أو "جر" أو "شر" (بالميتاتيز: "روك")، وقد دخلت عليها "س" أو "ص" أو "ح" الابتدائية: إما لأنها صُوَرٌ من "dh-d"، وإما لأنها أداة السببية. وهكذا خرجت من "قر": "سقر" و"سقارة" و"صحراء" و"صخر" و"حجر"...إلخ. و"طوكر" فى العامية المصرية هى صيغة من "صقر" و"سقر" و"سقارة"، وبهذا المعنى يكون اصطلاح "يرسل إلى طوكر" معناها غالبا: "يرسل إلى الجحيم" أصلا، وليس النفى إلى طوكر فى السودان كما يظن عادة، لأن النفى إلى السودان كان عادة فى "فازوغلى" فى السودان وليس إلى "طوكر". ولأن "سقر" و"سقارة" و"قر" و"قرارة" كانت من أقدم العصور تنصرف إلى مملكة الموت أو جهنم بمثل ما تنصرف إلى معنى "الصحراء" ظهرت فى العربية عبارات مثل "سكرات الموت" دون أن يكون لها علاقة واضحة بفعل "سَكِر يَسْكَر"، أى "ثَمِل يَثْمَل". والكلمتان المتطابقتان من مجرد الهومونيمات التى تدعو إلى المجاز فى الاستعمال البلاغى: "وجاءت سَكْرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد" (ق/ 19)، "وترى الناس سُكارَى، وما هم بسُكَارى، ولكن عذاب الله شديد" (الحج/ 2). ومن جذر "كر" أيضا الألفاظ المتعلقة بمملكة الموت مثل اسم الملكين: "ناكر" و"نكير" ومادة "نشر- نشور"، وهى من "ناكر: نا+ شر"، وكذلك مادة "حشر" ومادة "الآخرة". واسم "قرارة- مملكة الموتى" بجوار "شارونة" فى المنيا. قارن "Acheren"...". أما "شديد القوى" فإن لكسنبرج يرى أنه هو الله وأن معنى "ذو مِرَّة": "الذى هو مارا"، أى الرب. وأما جملة "وهو بالأفق الأعلى" فالواو فيها استئنافية لا حالية، وتعنى أن الله يسكن فى الأعالى، أى أن مسكنه فى السماء، وأن "دنا فتدلى" معناها أنه سبحانه قد تواضع فنزل من عليائه ليكون فى مستوى عبده تحببا إليه وتنازلا حتى لا يكسر خاطره. أما من أين أتى التواضع هذا فمن كلمة "استوى"، التى أوصلها لكسنبرج ببهلوانياته وشقلباظاته إلى أن معناها: "تواضَعَ". أى أن الله قد نزل من عليائه نزولا ماديا وأخذ محمدا بالحضن زيادة فى التحبب والتواضع وتبادل معه الحوار وجها لوجه، وإن كان الحضن قد زاد عن حده فآلمت الضمة محمدا غاية الإيلام. معلهش! ملحوقة! إن شاء الله تكون الضمة فى المرة القادمة أرق من هذه! والآن إلى التفاصيل. فهو، بكل وضوح، لا يتصور أو لا يريدنا أن نتصور، أن صفة "القوة" لا يمكن أن يوصف بها أحد سوى الله، مع أن هذه الصفة قد تكررت فى القرآن كثيرا نعتا للمخلوقين كما فى قوله تعالى: "إنى عليه لقوى أمين"، "إن خير من استأجرتَ القوىُّ الأمين"، "اللهُ الذى خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة"، "مَنْ أشدُّ منا قوةً وأكثرُ جمعا؟"، "كانوا أشدَّ منهم قوة". بل إن قوله تعالى فى سورة "النجم": "شديد القوى" قد وُصِف به جبريل فى سورة "التكوير" فى الحديث عن نفس الموقف الذى ورد هناك: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثََمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". فـ"شديد القُوَى" فى "النجم" هو ذاته الموصوف هنا بـ"ذى قوة عند ذى العرش مكين". وهناك رأى محمد جبريل "بالأفق الأعلى"، وهنا رآه "بالأفق المبين". وأرجو أن يتنبه معى القارئ إلى أننا هنا، كما هو الحال مع سورة "النجم" أيضا، إزاء قَسَمٍ متلوٍّ بـ"إذا" الظرفية، مع فصل القسم عن جوابه أيضا.
ومعروف فى الإسلام وفى العقل وفى المنطق أن الله لا يُرَى لنا، على الأقل: بإمكاناتنا الحالية. وقد سبق موسى أنْ طلب من الله رؤيته، فكان جوابه سبحانه عليه: "لن ترانى. ولكن انظر إلى الجبل. فإن استقرَّ مكانَه فسوف ترانى". ثم إنه سبحانه تجلَّى للجبل، فخرَّ موسى صَعِقًا، واعتذر حين أفاق قائلا: "سبحانك! تبتُ إليك، وأنا أول المؤمنين". وقد نفت عائشة أن يكون الرسول رأى ربه البتة. والإسلام لا يعرف التجسيد كالنصرانية، ومن ثم فرؤية الله مستحيلة فى دنيانا هذه إلى أن ننتقل إلى الاخرة، فيصير لكل حادث حديث لا نريد استباقه قبل الأوان. وإذا كان بعض الصوفية يظنون أنهم أفضل من الأنبياء ويستطيعون مشاهدة الحضرة الإلهية فهم وذاك. وللأسف نجد فيهم كذبا وغرورا وقلة خشية رغم تشدقهم بقربهم من ربهم وبلوغهم فى معاريج التطور الروحى درجات سامقة. ولا أدل على ذلك من القصة التى نجدها فى بعض كتبهم عن موسى وصَعْقته، إذ يقال إنه عليه السلام، حين تجلى ربه للجبل عقب طلبه رؤيته، قد خرَّ صَعِقًا، وكان يفيق والملائكة تقوله له: يا ابن الحيض، أَمِثْلُك مَنْ يسأل الرؤية؟ ونحن بدورنا نسأل: إذا كان موسى ابنا من أبناء الحيض، وهو فعلا كذلك، فهل السادة الصوفية أبناء القشدة والعسل؟ إن ما قاله القشيرى كلام لا يليق، إن لم نقل فيه أكثر من ذلك. ومعروف أن بعض الصوفية يَرَوْن رغم هذا إمكان تجلى الله لهم.
وهذا هو الحديث الخاص بكلام عائشة فى إنكار رؤية النبى ربه. فعن مسروق أنها رضى الله عنها قالت له: "يا أبا عائشةَ، ثلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بواحِدةٍ منهنَّ فقد أعظمَ على اللهِ الفِرْيةَ: مَنْ زَعمَ أنَّ محمَّدًا رأى ربَّهُ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على الله. واللهُ يقول: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ"، "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" ... فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنْظِريني ولا تُعْجِلِيني. أليسَ اللهُ تَعالى يقول: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى"، "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ"؟ قالَت: أنا واللهِ أوَّلُ مَن سألَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عَن هذا. قالَ: "إنَّما ذلك جبريلُ. وما رأيتُهُ في الصُّورةِ التى خُلِقَ فيها غيرَ هاتينِ المرَّتينِ. رأيتُهُ منهبِطًا منَ السَّماءِ سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ". ومن زعمَ أنَّ محمَّدًا كَتَمَ شيئًا مِمَّا أنزلَ اللهُ عليهِ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على اللهِ. يقولُ اللهُ: "يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ". ومَنْ زعمَ أنَّهُ يعلَمُ ما في غدٍ فقد أعظمَ الفريةَ على اللَّهِ، واللَّهُ يقولُ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إلا اللَّهُ".
ومن ثم فكل ما قاله لكسنبرج هو كلام فارغ لا مَعْدَى لنا عن وصفه بذلك لأنه هو الوصف الذى ينطبق عليه ويليق به. والعجيب أن لكسنبرج يحسب نفسه خفيف الدم فيقول إن "ذو" فى "ذو مِرّة"، ليس معناها "ذو قوة" بل معناها "الذى هو الرب" لأن "مِرّة" هى فى السريانية "مارا"، أى الرب. وعلى ذلك فمعنى الكلام هو "علّمه شديد القوى الذى هو الرب". وهو يستعين بما يقال فى كتب النحو من أن بعض القبائل العربية تستخدم "ذو" لا بمعنى "صاحب" بل بمعنى "الذى/ التى" كما فى قول الشاعر: "وبئرى ذو حفرْتُ وذو طويتُ"، أى "بئرى التى حفرتها والتى بطَّنتها بالحجارة". لكن فاته أن "ذو" (عندما تكون اسما موصولا) تحتاج إلى جملة صلة. وهنا لا توجد جملة صلة. فهل يمكن أن يقول العرب: "شديد القوى الذى الله"؟ هذا ليس كلاما عربيا بل أعجميا خواجاتيا لكسنبرجيا سخيفا تافها. والعجيب أنه يحاول استغفالنا فى الزحمة فيقول فى عجلة ولهوجة إن "ذو" معناها: "الذى هو"، أى "الذى هو مِرَّة" أى مارا، بمعنى "الذى هو الرب"، وذلك حتى تستقيم له الجملة. وشتان! فـ"ذو" معناها "الذى" فقط دون "هو". ورؤيته حلمة أذنه أقرب إليه من بلوغ غايته من خلال هذا البكش والبهلوانية.
أما كيف تحولت، على يديه الخفيفتين كأيدى اللصوص، كلمة "مِرَّة" إلى "مارا"، أى الرب فى السريانية كما يقول، فمن خلال الزعم بأن هناك خطأ فى قراءة كلمة "مارا" أدى إلى نطقها وكتابتها: "مِرَّة". وهذا هو ما يقال عنه: سمك، لبن، تمر هندى! وخيبة الله على العلم وأهل العلم إذا كان ما يقوله لكسنبرج علما أو له صلة بالعلم والعلماء! لقد قلت من قبل إن هذا بهلوان مكانه الحقيقى هو السيرك. وهأنذا أكرر ذلك هنا. إن هذا الجاهل يظن أنه بجهله ذاك قادر على تخطئة القرآن والعرب والمسلمين أجمعين بنحوييهم ولغوييهم ومعجمييهم ومفسريهم ونقادهم وشعرائهم وكُتّابهم ومفكريهم وحُفّاظهم ومحدِّثيهم وعلمائهم وفلاسفتهم والزعم بأنه الوحيد الذى اكتشف فى القرآن أخطاء لم يتنبه إليها أحد طوال أكثر من أربعة عشر قرنا، وتنبه إلى أن جانبا كبيرا من كتاب الله مأخوذ من السريانية، التى لم يكن أحد يعرف عنها شيئا فى مكة إبان عصر الرسول! خيبة الله على الجهل والجهلاء وثقل الظل ووخامة الروح! بالله عليك أيها القارئ لِمَ يتنكب القرآن كلمة "الرب" ويلجأ إلى "مارا" تلك، وهى كلمة سريانية كما يقول المؤلف الملتاث رغم أن أحدا هناك لم يكن يعرف السريانية؟ ترى بالله كيف كان العرب يفهمون القرآن لو كان بالسريانية،التى لم يكونوا يعرفونها، ولو فى جزء منه؟ ثم أكان المشركون يسكتون فلا يشنعون على محمد وينجحون فى تهييج الخلق عليه وتنفيرهم عن دينه؟
لقد كان الشدياق، رحمه الله، كثير السَّخَر بالمستشرقين وتعالمهم الجاهل كما فى قوله، فى كتابه: "كَشْف المخبَّا عن فنون أوربَّا"، إن المستشرق ريتشاردسون قد "ألف كتابا فى لغته ولُغَتَىِ العرب والفُرْس، فأُقْسِم بالله إنه كان لا يدرى من لغتنا نصف ما أدريه أنا من لغته. بل سوّلت له نفسه أيضا إلى أن ترجم النحو العربى فخلط فيه ولفّق ما شاء، فمثَّل للإضافة بقوله: "قدح فضة" و"ملك كسرى" و"رأس أمان" و"الغالب عجم" و"غالب عجم" و"كتاب سليمان" و"نصرا عقبه"، وفسرها بأنها مثنًّى مضاف إلى "العقبة"، و"نصروا عقبه" و"النصرا عقبه" و"النصروا عقبه". وأورد حكاية من كتاب "ألف ليلة وليلة" عن ذلك الأحمق الذى قَدَّر فى باله أن يتزوج بنت الوزير، فلما وصل إلى قوله: "ولا أخلى روحى إلا فى موضعها" ترجمها: "ولا أعطى الحرية لنفسى، أى لزوجتى، إلا فى حجرتها"... فإن أحدهم لا يبالى بأن يؤدى معنى الترجمة بأى أسلوب خطر له، فلو قرأ أحدهم سَبًّا فى كتبنا نحو "يحرق دينه" ترجمه أن دينه ساطع متلهب من حرارة العبادة والقنوت بحيث إنه يحرق ما عداه من المذاهب، أى يغلب عليها، فهو الدين الحقيقى كما ورد أن الله نار آكلة...". لقد ظننت أننى لا يمكن أن أقع على من هو أجهل من رتشاردسون هذا ولا أشد استحقاقا للتهكم منه ولا أبعث على القهقهة حتى وقع لى لكسنبرج فعلمت أن فى الدنيا من العجائب ما لا يمكن أن يخطر على بال!
فهذا هو مستوى لكسنبرج فى ميدان العلم والتفكير والعقل واحترام المنهج العلمى. إنه مستوًى متدنٍّ لا يصلح صاحبه إلا لأداء الألعاب الأكروباتية فى السيرك كى يضحك الأطفال والعامة ويسرّى عنهم ويبهج قلوبهم فيعودوا إلى بيوتهم آخر المطاف وقد خُفِّفت عنهم لأواء الحياة مما رأوا من الوجوه الملطخة بالأحمر والأبيض والحركات المضحكة التى تشبه حركات البله والمجانين. ومع هذا ينبرى ناصر بن رجب، الذى أخذ على عاتقه مهمة نقل هذا السخف وتلك التفاهة إلى العربية، منخرطا فى وصلات من الإشادة بمنهج المستشرقين العلمى الكفيل بالوصول إلى الحقائق والاكتشافات الجديدة بدلا من أن نظل نلف فى ذات الدائرة مع المفسرين المسلمين الذين يمضغ اللاحقون منهم كلام السابقين دون أن يزيدوا عليه شيئا، جاهلا أن المفسرين المسلمين رغم أخطائهم كانوا علماء أجلاء محترمين يعرفون اللغة والتاريخ والعقائد والأحكام معرفة واسعة وعميقة بخلاف لكسنبرجنا البكاش النتاش.
وبالمناسبة فلكسنبرج يعرف أنه يبكش ويكذب، ومترجمه يعرف ذلك ويباركه، إذ لا يعقل أن يكون هناك عاقل يصدق هذا الهراء، وإلا كانت كارثة بكل المقاييس والاعتبارات. ولكسنبرج، إذ يفعل هذا، إنما يتغيَّا إشاعة الاضطراب فى العقل الإسلامى وبث التشكيك فى الإسلام ونفى الاطمئنان إليه طمعا فى انفلات المسلم مع كثرة الزن على الآذان من دينه. وهذه هى الفوضى الخلاقة فى نظر أمريكا على مستوى الفكر، والفكر يمثل البنية العميقة التى ما إن تنهار حتى ينجرف معها كل شىء.
ترى هل هذا التفسير اللكسنبرجى الحلمنتيشى يعجب حقا ناصر بن رجب؟ خاب إذن وخسر كما خاب أستاذه لكسنبرج خيبة الأزل والأبد! وفوق هذا يتميز ابن رجب برِكَّة العبارة والعجز عن معرفة الإملاء الصحيح حتى إنه ليثبت الهمزة مع كل ألف، غير عارف أن هناك شيئا اسمه همزات الوصل. فكله عند ابن رجب صابون، لكنه صابون كريه الرائحة! كما يخطئ أخطاء فاحشة فى أوليات النحو فيرفع المفعول وينصب الفاعل ويجر ما حقه الرفع، ويثبت ياء المنقوص النكرة فى حالتى الرفع والجر... وهكذا. وصياغة الجملة عنده وعرة حتى إنه ليكثر من نعت النكرة بوصفٍ معرَّف، وتتداخل عنده العبارات وتشتبك كما هى فى الأصل دون أن يقدر على فض اشتباكها وكسوتها ثوبا عربيا جميلا، فضلا عن ترجمته للمصطلحات الموجودة فى النص ترجمة حرفية كقوله: "الفعل الانعكاسى" بدلا من "فعل المطاوعة"، أو "الزمن الشرطى"، ولا أدرى ماذا يقصد به... إلخ.