أقتل .. الآن !!
لا يزال يأتي لهذا المكان في ذات الموعد من كل عام.لا يزال يجلس صامتا يرنو إلي الخضرة المترامية ثم يخرج صورة من جيبه يتطلع إليها طويلا ثم تدمع عينيه ويخرج منديله ليجفف عرقه ودموعه.وكنت أبحث عنه إذا ما تغيب عن موعده ولكنه لم يفعلها إلا قليلا.لم أكن أجرؤ على الجلوس إلى جواره.تحيط به هالة من الوقار والغموض.لم يكن يشعر بي وأنا أنظر له طويلا وهو صامت ثم يقوم يتكأ على عكازه وبعد أيام أرى عربته وهي تترك بلدتنا ولا يعود إلا في الموعد ذاته من العام التالي.وكانت السنة الأخيرة لي في محافظتي وانتقلت إلي القاهرة وعدت في إجازتي الأولي ورأيت عربته تقترب من عربتنا التي تعطلت في الطريق ولست أدرى كيف تملكتني الجرأة لأشير إليه أو كيف توقف لي أو كيف عرفني.وبقيت صامتا لا أنطق بشيء بعدما شكرته على توقفه لي وعرفني بنفسه وأخبرني أنه سيمكث كثيرا وربما للأبد في قريتنا وأنه يروق له هذا النوع من الشباب الجديد الفضولي الذي لا يقوى على جمح فضوله.ولم أفهمه وقال أنه ينتظر زيارتي له. يشغلني أمر الرجل الذي شغل بالي طويلا بغموضه ووفائه لهذا المكان الذي يأتيه مرة كل عام وكنت أسمع عن الرجل وعن ابتعاده الطويل عن قريتنا وعودته المباغتة منذ سنوات وعلمت أنه تزوج وابتعد بزوجته ولم تعد معه بل علمنا أنها ماتت وانقطعت أخبارها وأخباره عنا بغيابه.وزاد ما عرفته عنه غموضا.ترددت طويلا قبل أن أطرق باب منزله الأنيق الذي يتوسط مكان خال على أطراف بلدتنا و..وحسمت أمري أخيرا فطالما أني وصلت لهذا المكان بناء على دعوته لي بمقابلته فلأمضى بطريقي للنهاية وليكن ما يكون !!وطرقات على بابه حتى فتحه ودعاني للدخول وأغلق الباب خلفي وهو يرحب بي فلا أفعل سوى هز رأسي مع همهمات لم يعييها إنما جلس وهو يشير لي ففعلت ما فعله .
- منزلك جميل .
- كل شيء يبدو جميل حين يكون جديد ولكن حين تعتاده النفس فإن الضجر سرعان ما يجتاح المرء منا !!
ودعاني للدخول لمكتبه مكانه المفضل كما أخبرني واجتزنا خطوات سويا مجاورين بعضنا ووقفت أمام مكتبة ضخمة تحوي الكثير من الكتب وأخذت أتأملها وأقلب في بعضها ..
- تقرأ ؟؟.
- هوايتي الوحيدة .
- لمن ؟!
- لكثيرين من العقاد إلي شوبنهور إلي ماركس إلي موباسان إلي هيجو إلي شكسبير إلي إدجار بو إلي فولتير وطه حسين والسباعي والمعرى
- ومن يعجبك ؟.
- اثنان لم أذكرهما حقيقة .
- من ولم؟.
- تشارلز ديكنز وزفايج .
- صاحب الشفقة ؟.
- أجل .
- جيد .
- ديكنز كان صاحب رؤية عميقة لمجتمعه ويناظره محفوظ وإن كان محفوظ له أفضلية عن ديكنز هي محليته الطاغية مع مشروعه العالمي الذي لم يتخل عنه وزفايج لأنه صاحب حس مرهف وله مثيلين يربط بينهما تناقضا !!
- يربط بينهما تناقضا ؟!
- السباعي وغراب فالسباعي رومانتيكي حالم وغراب مأساوي معبر ويتفق مع السباعي في التوجه !!
وصمت لأني رأيته ينظر لصورة تتوسط الجدار.كانت صورته مع زوجته كما أرى.شابا يافعا تنم عينيه ونظراته عن ذكاء دفين.عاود النظر لي لما رآني توقفت ولاحظ أني انتبهت إليه.
- وهل هناك من لا يزال يقرأ ؟!
- تأكيدا يوجد من يقرؤون وسيظل هناك من يقرأ ؟!
- هل أبقت لكم الحياة وقتا للقراءة ؟!
ضحكت.وضع نظارته على مكتبه .
- كنت في كل مرة أراك تنظر لي وأنا جالس لهذا المكان الذي آتيه مرة كل عام وأعجب لإصرار فتى لا تزال الحياة أمامه على مراقبتي كل مرة عله يجد جديدا في أمري يشبع فضوله ومع إصرارك على سبر أغواري ولو بتصرف يخالف ما اعتدت أن تراني عليه كان إصراري أن أظل كما أنا ..
- أنت شخص محير حقيقة ؟!
- دعك من هذا كله هل حاولت أن تكتب من قبل ؟.
- أكتب ؟.
- ألم تجرب هذه المتعة ؟.
- حاولت ولكن فشلت ربما لأني أرى الكتابة فضاء متسعا وأنا أحب أن أنغلق وتنغلق علي أفكاري .
- وأنت فتى غريب.حاولت أنا وها هو كل ما كتبته .
ودفعه نحوى.حزمة من الأوراق وهو يقول :-
- معذرة اعتدت أن أنام مبكرا .
حملت أوراقه وانصرفت غاضبا ألعنه في نفسي.
******
رصاصة اخترقت كتفي منذ أيام.اختبأ لدى احد أقاربي.لصوصا صرنا بمنطقه العجيب والقرش صاغ الزيادة أفقدنا الكثير وأسأل هل الزيادة تؤدي دوما إلى نقصان؟ إنها لم تمنعني من السير خلفهم و المناداة بما ينادون به.و أيامي تمضي وهي إلى جواري.لم أزل بعد أفكر في بلدتي. أبي رحل منذ أيام وترك لي ثروة لا بأس بها ولكن فيم تجد الثروة لرجل آثر مثلا في زمن انفتح فيه كل شيء على بعضه؟!.اليوم أيضا لم أزل أتألم بالرصاصة.واليوم قتلوه.
- هل أظل في انتظارك ؟!.
- الآن نتزوج..
أتلفت حولي هذا الصباح.لا تدرك أني أراقبها تلك الملعونة.إنها تسير إليه لابد من الهروب.خانني الجميع فما السبيل إلي الفرار وكل الطرق سدت في وجهي.إلي أين أسير وأنا الظمآن وليس أمامي سوى بئر ملئ ماء فأبتسم ولكن سرعان ما أعبث حين ألمح هذه اللوحة.حاذر هذا الماء مسموما!! لم يعد يربطني بها شيء.ما أضيع الثورات حين تظل حبيسة الصدور.منذ شهور قتلوه.قتلوا فيه الرمز وقتلوا فيه أبوابا كثيرة فتحت لا بفعل قانون التغيير الأبدي وحده ولكن بفعل الزمن الذي لم يعد يقبلنا سويا إما نحن وإما هو ولم يهزم الجمع كالعادة !!
لا زلت أسرع وأهرول خلفها.أشعر كذلك أنها أدركت بمراقبتي لها.ترى إلي أين تمضي بي؟ شقة تدخلها وتغلقها عليها.آه يا ملعونة.كنت بالأمس تجلسين إلي جواري وتسألين باستمرار متى نتزوج والآن توشين بي إليهم من أجل ثمن بخس دراهم معدودة يا ملعونة.لحظات وأفقت ولم أدر كيف جئ بي لهذا المكان المظلم.نور يضاء بغتة يؤلم عيني التي سرعان ما تعتاده .
- أهلا.أخيرا أفقت .
- من أنتم ؟.
- نحن الذين تهاجمنا باستمرار وتظاهرت ضدنا يومها.يوم الرصاصة.
لا زلت أسترد وعيي تدريجيا.أنتم إذن.أنتم الذين كنت أتظاهر ضدكم دون أن أعرفكم.أنتم سبب ألمي بالرصاص واعتقالي !!
- وماذا تريدون ؟.
- لاشيء سوى الصمت !!
- كلا لا أستطيع .
أنظر إليها ممتعضا.في عينيها أمرا غريبا ربما أجهله إذ لم أره فيها من قبل .
- لم تترك لنا الخيار .
ضربة على رأسي وأعود لفقدان وعيي من جديد !!
*****
- قتلته لأنه كان يجب أن يموت.قتلته لأنه لما كان الخيار بين الأنا ونحن كان لزاما أن يضحى الأنا من أجل نحن !!
- قتلته لأنها كانت لحظة إما أن يمضي التاريخ بنا لنضحي لصوصا بفعل القرش صاغ الزيادة.لصوصا في العلن وهم يسرقونا على الدوام. قتلت فيه الأنا وليتني ما فعلتها !!
وليتني ما أفقت تلك اللحظة .
عينيها تحمل نظرات ملتاعة ودماء تغرق ما حولها.أحاول النهوض فلم أقو.أقفز نحوها.تتهدج أنفاسها .
- صدقني لم أخنك.كنت أحاول إنقاذك ..
وصمتت ولم تكمل.ليتني لم أستيقظ قط.طرقات قوية على الباب ثم سرعان ما يفتح بفعل القوة.ضابط ينظر نحوى ..
- البلاغ صحيح !!
****
حاولت أن أدافع عن نفسي وأن أؤكد أني لم أقتل زوجتي ولكن كان كل شيء ضدي.أمر وحيد جعل العقوبة تخفف عني.
أمر أشار علي به المحامي الذي وكل بالدفاع عني إذ كان يدرك براءتي ولكن قوة الأدلة كانت أقوى منه ومني !!
وفعلت ما طلبه مني .
اعترفت أني فعلا قتلتها.قتلتها دفاعا عن سمعتي لأني كنت أشك في سلوكها وأخلاقها وأني راقبتها فترة طويلة تأكدت فيها شكوكي وحاولت أن أوقع بها ولما رأيتها معه غلى الدم في عروقي وقتلتها قبل أن يفر هو بفعلته !!
واستطاع المحامي أن يؤكد الأمر بتحويل شهادة الشهود لصالحي وكذلك بعض الجيران الذين كانوا يروني أهبط خلفها بقلق ورعونة.
وخففت المدة.
وليتهم أعدموني كما كان الحكم بداية.وحرت إلي أين الملاذ من ضميري الذي لا يتركني لحظة.إنها لم تخني كما قالت وكيف يكذب المرء وهو يعي أن لم يعد له نصيب من حياة فلم يكذب ؟.
كيف وافقت على ما قاله من أجل مزيد من دقائق في حياة بقيت لي بضمير يؤرقني على أني شهرت بها والصحف لم يكن لها شاغل أياما كثيرة سوى قصة المناضل الذي تلقى رصاصة في كتفه أيام القرش صاغ الزيادة والذي لا يزال ثائرا لم يتحمل خيانة زوجته وقتلها واثقا من المجتمع الذي معه ولكن الفانون لا يزال كما هو ؟.
إلي أين الملاذ من ضميري .
في المرة الأولي لم أقتل واتهمت بالقتل .
والآن أرى أن الحياة لم تعد مجدية .
والآن فقط .
أستطيع أن أفعلها.الآن أقتل !!
ولم أكن بحاجة إلي أن أخمن الباقي من القصة وذهبت للمحقق وذهبنا لبيته .ووجدنا جثته معلقة تتدلى بحبل مشدود إلي السقف ولسان متدل من فم وعين مفتوحة ذاهلة رأت أن الحياة ملهاة أمام سوط قاتل ممدود لا يقطع أبدا بفعل الحياة ..
الضمير !!
حمادة البيلي