منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 12
  1. #1

    حياة أميرة عثمانية في المنفى

    حياة أميرة عثمانية في المنفى : كيتزي مراد"1"
    صحيح أن مسلسل (طعام .. صلاة .. حُب)،لم يحقق ذلك النجاح الكبير،أو لم يكسر الأرقام القياسية،إلا أن متعة السياحة في الكتب،وفكرة (تمرير) عدد كبير من الصفحات تحت غطاء (المسلسل)،مما يعني أن (المتصفح)،قد قرأ – في المسلسل الماضي – 38 صفحة!! بطبيعة الحال،هذا إذا كانت الحيلة قد انطلت عليه فقرأ 38 صفحة،تمثل سياحة في 470 صفحة ... ما سبق دفعني – أو دفع بي – إلا السياحة في كتاب آخر،ولكن هذه المرة لن نصحب (المقداد) وهو يجمع مهر (المياسة)،كما لا نكون مع زرقاء العينين،(مطلقة)،بل سنكون مع (موعظة)،ليس بالمعنى المباشر للكلمة.
    يستطيع المرء أن يتخيل حياة سليلة الخلفاء العثمانيين،بل حياتها المترفة،ثم ينظر – بعين الاعتبار – إلى نمط حياتها بعد ذلك في المنفى.
    الكتاب – كما جاء في العنوان – هو (حياة أميرة عثمانية في المنفى)،لمؤلفته كينيزي مراد،وقد نقل الكتاب عن الفرنسية حافظ الجمالي،ونشرته دار طلاس في دمشق،سنة 1990م،في طبعته الأولى.
    اهتم كثيرا بالسير الذاتية،وبالرحلات،ويكمن سر ذلك في أنني أعتبرهما (مادة أولية) للتأريخ،فمن يكتب سيرة حياته،أو يسجل رحلته لا يحمل نفس التصورات التي يحملها (كاتب التأريخ)،ومن هنا فإن الأول يخبرك بمشاهداته،أو بمعلومة اطلع عليها بكل بساطة ... وتستطيع أنت – أو من يقرأ التأريخ بعد ذلك – أن يقارن بين معلومة (شاهد العيان)وبين ما كتبه المؤرخ.
    قبل أن نبدأ الرحلة،يبدو لي عنوان الكتاب وكأنه يحمل نوعا من (التداخل) – إن صح التعبير – فهو يشير إلى حياة (أميرة). صحيح أن الأميرة المقصودة هي (سلمى) و قبل أن تصبح هي الشخصية الرئيسة،أي قبل أن تتزوج - وهي في لبنان - وتذهب إلى الهند ثم إلى أوربا،كانت هناك أمها (السلطانة خديجة) والتي عاشت المنفى في لبنان،فنحن إذا أمام سيرة (أميرتين) عثمانيتين في المنفى.
    يبدو أنني قد عرفتكم – قبل أن نبدأ السياحة – على (سلمى) و(خديجة)،ومع ذلك فلا بأس أن أقول بأن السلطانة خديجة هي بنت السلطان مراد الخامس (خلعه السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1876م)،ابن السلطان عبد المجيد الأول (1839 – 1861)،ابن السلطان محمود الثاني (1808 – 1829) إلى آخر السلسلة الممتدة في تأريخ العثمانيين.
    فيا لله كم في التأريخ من عبر.
    القسم الأول : تركيا
    تبدأ القصة من موت السلطان عبد الحميد الثاني،ولكنها تعطي – أيضا – صورة لحياة الأميرتين :
    (وصلت،بعد أن أرهقها الجهد إلى الباب الضخم،باب الحرملك،الذي يقوم على حراسته خصيان سودانيان،على رأس كل مهما طربوش فاقع الحمرة. (..) ومن غير أن تنظر إليهما،اجتازت العتبة،ووقفت لحظة أمام المرآة الفينيسية،لتتحقق من حسن ترتيب خصل شعرها الأحمر،وثوبها الحريري الأزرق،ثم لما راقها منظرها،دفعت ستارة البروكار ودخلت إلى الصالة الصغيرة،التي اعتادت أمها أن تبقى فيها بعد الظهر،بعد الحمام.(..) وكانت السلطانة المتمددة على الديوان،تنظر إلى سيدة القهوة الكبيرة،تصب سائلها في فنجان موضوع في كؤيس مطعّم بالزمرد.
    وكأنما داخل البنيّة فورة من كبرياء،فتجمدت وأخذت تتأمل أمها وهي في قفطانها الطويل. ومن عادة السلطانة(الأم)،متى ظهرت بين الناس،أن تتقيد بالموضة الغربية،التي أدخلت إلى إستانبول،منذ نهاية القرن التاسع عشر. أما في بيتها،فإنها تؤثر أن تعيش على "الطريقة التركية". ففي هذه الحالة لا نراها تستخدم مشدات البطن،ولا الأكمام المنفوخة،ولا التنورات الضيقة،بل تضع على جسمها الثياب التقليدية،بمتعة ظاهرة،وتتمدد بشكل مريح على الصوفات اللينة التي تُفرش بها صالات القصر الكبرى.
    - اقتربي،يا سلمى السلطانة.
    بهذه الكلمات تخاطب الأم ابنتها الصغيرة،ذلك أن البلاط العثماني لا يقبل إهمال تقاليده،ويخاطب الآباء أبناءهم،مضيفين إليها {هكذا! : ولعل المقصود يخاطبون أبناءهم بأسمائهم مضيفين .. - محمود} كل مالهم من الألقاب،حتى ينشأ الأبناء،منذ أصغر العمر،على تقاليد المرتبة التي يملكونها بحكم مولدهم،ويشعروا بكامل حقوقها وواجباتها. (..) سلمى تقبل بسرعة أصابع الأميرة المعطرة،وتحملها إلى جبهتها،كإشارة احترام،وأخيرا،بلغ بها الهيجان أقصى حدوده،ولم تعد تصبر على حبس الكلام أكثر من ذلك،وهتفت تقول :
    أيندجيم { : يا أمي العزيزة المحترمة - محمود} إن العم "حميد"قد مات!
    وظهر شيء من البريق على العينين الرماديتين – الخضراوين. مما حمل البنيّة على الظن بأن ذلك الألق علامة نشوة،ولكن سرعان ما انطلق صوت شديد البرودة يعيدها إلى النظام،إذ تقول :
    - كأنك تشيرين إلى جلالة السلطان عبد الحميد،على ما أظن. فليقبله الله في جناته. لقد كان سلطانا عظيما. ولكن من أين جاءك هذا الخبر الحزين؟
    - أهو خبر محزن؟ قالت البنيّة ذلك مندهشة،وهي تنظر إلى أمها. أو محزن موت هذا العم الكبير شديد القسوة،الذي أزاح أخاه عن العرش،أخاه الذي هو جد سلمى،وأشاع أنه مجنون؟
    والحقيقة أن مرضعتها كثيرا ما روت لها قصة مراد الخامس،وهو أمير محبب،كريم،ومن المؤسف أن "مراد الخامس"لم يحكم إلا ثلاثة أشهر ... ذلك أن أعصابه الرقيقة هُزّت هزا عنيفا بدسائس البلاط،والاغتيالات التي رافقت وصوله إلى السلطة. فأصيب بانهيار نفسي عميق. لكن الطبيب النمساوي،المختص الكبير لييديرسدروف Liedersdorfكان قد أكد أنه إذا خلد إلى الراحة،فسيبرأ خلال عدة أسابيع. لكن المجموعة التي كانت حوله،لم تحسب أي حساب لهذا الرأي. فخلع مراد،وحبس مع أسرته كلها في قصر تشيراغان.
    ولقد عاش السلطان ثمانية وعشرين عاما في هذا الأسر،محاطا باستمرار بجواسيس أخيه الذي كان يخشى تدبير مؤامرة،تهدف إلى إعادته إلى العرش. وكان عمره ستا وثلاثين سنة،عندما دخل سجنه هذا،ولم يخرج منه إلا عندما مات. (..) ومن المستحيل أن تكون الأيندجيم قد شعرت ببعض الأسى،وهي التي بقيت خمسة وعشرين عاما سجينة في قصر تشيراغان،ولن تستطع استعادة حريتها إلا عندما قبلت ذلك الزوج الفظيع،الذي فرضه السلطان عبد الحميد.
    فلِم تكذب؟
    لكن هذه الفكرة الكافرة نبهت سلمة فجأة،وجعلتها تتخلى عما كانت تعيش فيه من أحلام. إذ كيف استطاعت أن تتخيل للحظة واحدة أن هذه الأم الكاملة إلى هذا الحد،تتدنى بنفسها إلى الكذب؟ إن الكذب أمر يناسب العبيد الذين يخشون العقاب،ولكن هل يناسب سلطانة؟ ومع حيرتها هذه،أجابت أخيرا :
    كنت أمر في الحديقة. وسمعت الأغوات يقولون ذلك.
    وفي نفس اللحظة ظهر في العتبة خصيّ،سمين بعض الشيء. وعلى يديه قفازان أبيضان،وعلى جسمه ذلك الثوب الأسود الكلاسيكي،ذو الياقة الشبيهة بياقة لباس الضباط،أي ما كان يسمى بالاستانبولين. وبعد أن انحنى أمام سيدته مرات ثلاثا،استوى واقفا،ويداه متصالبتان تواضعا فوق بطنه،ليقول بصوت حاد :
    سيدتي السلطانة العظيمة الاحترام ..
    فقاطعته الأميرة قائلة : إني أعلم. إذ لقد كانت سلمى أسرع منك. فقل ذلك لأختيّ،الأميرة فهيمة،والأميرة فاطمة،وكذلك أخبر أبناء الإخوة،الأميرين نهاد وفؤاد،أني أنتظرهم هنا هذا المساء.) {ص 14 - 16}.
    وحضرت الأميرتان :
    (فاطمتها الرقيقة العذبة،التي تلبس ثوبا من التفتا العاجية اللون،يُبرز حسن عينيها السوداوين وكذلك تتأمل فهيمتها المتألقة،التي تبرز قامتها الناعمة من داخل ثوب ذي ذيل،تناثرت عليه صور الفراشات،وكأنما قد أتى به مباشرة من عند أدلر موللر،أحسن خياط في فيينا – أما روائع باريس فإنها لم تعد تصل،مع الأسف،منذ أن خطر ببال الدولة،في آب / أغسطس / عام 1814،ذلك الخاطر بإعلان الحرب على فرنسا.
    (..) وفي أعلى السلم كانت السلطانة خديجة قد تقدمت. إنها تبدو أطول من أختيها،ولها مشية منزلقة،شهوانية،مغرية،وعلى شيء كبير من العظمة. ونراها تفرض نفسها على أكثر الناس بعدا. وعندما يتحدثون في الأسرة عن السلطانة،على الرغم من أن الأخوات كلهن سلطانات،فإنهم إنما يتحدثون عنها هي،بصورة مؤكدة. وتجمدت فاطمة،أمام أختها الكبرى،من غير أن تخفي إعجابها،ولكن فهيمة،المستاءة،والتي هي تبعا لمعايير الموضة،الأجمل بين أخواتها،أسرعت فقضت على السحر :
    - ما ذا يحدث يا أختي العزيزة حتى تستدعينا بمثل هذه السرعة؟ لقد اضطررت لإلغاء الأمسية التي دعيت إليها لدى سفير النمسا – هنغاريا. تلك الأمسية التي كنا نقدر أنها ستكون مسلية جدا.
    - إن الذي يحدث،هو أن عمنا السلطان عبد الحميد،قد قضى نحبه. هكذا قالت السلطانة بلهجة أكثر رسمية من المألوف،لاسيما وأنها لم تقرر بعد السلوك الذي عليها أن تعتمده في هذه المناسبة. واكتفت فهيمة برفع حاجبيها.
    لم يكن لموت هذا ... الطاغية،أن يحملني على العدول عن حضور البال (حفلة الرقص). ..) { ص 19 - 20}.
    وأسرة السلطانة خديجة تستعد لجنازة السلطان عبد الحميد،انتهت هذه الحلقة،فإلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.
    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

  2. #2
    حياة أميرة عثمانية في المنفى : كيتزي مراد "2"
    في ظل النقاش حول وفاة (العم حميد) .. (وفي هذه اللحظة ظهر أحد الخصيان،يعلن عن وصول رسول من السلطان.
    وكان هذا الرسول سودانيا عظيم الهامة. ومع أنه عبد،فقد نهضوا جميعا،لا احتراما لشخصه،لأنه غير موجود بالنسبة إليهم،ولكن تعبيرا عن الاحترام للكلام الذي هو حامله.
    إن جلالته الإمبراطور،السلطان رشاد،أمير المؤمنين ... وظل الله على الأرض،وخاقان البحرين،الأسود والأبيض،وسلطان البرين،يرسل إلى أفراد أسرته هذه الرسالة : بمناسبة موت أخينا المحبوب جدا،السلطان عبد الحميد الثاني،ندعو الأمراء والأميرات من أسرة جلالة السلطان مراد إلى الاشتراك في المأتم،في الأماكن والطريقة المحددّة في الأعراف. فليكن السلام معكم،وليتولاكم الله جل وعلا بلطيف عنايته.
    وهنا نراهم يتقبلون الأمر الصادر. وليس من شك في أن رسالته ليست بدعوة،بل هي أمر.
    وما كاد الرسول يغادر المكان حتى دمدم الأمير نهاد،رافعا كتفيه وقائلا :
    ليحدث ما يحدث،فلن أذهب.
    وتتدخل السلطانة خديجة لتقول بلهجة اللائم.
    - يا نهاد،أظن أن (فؤاد) على حق. فالموقف خطير. وعلينا أن نبقى على وحدة الأسرة.
    - وحدة الأسرة! آه. لنتحدث عنها،يا خالتي العزيزة. إنها أسرة لم تنقطع منذ ستة قرون عن الاقتتال من أجل السلطة. فكم قتل جدنا مراد الثالث "قاهر الفرس"من إخوته؟ إنهم تسعة عشر فيما أظن. وكان أبوه أكثر تواضعا،إذ لم يقتل إلا خمسة.
    وأجابت الخالة :
    - لقد كان ذلك مبررا بضرورة الحكم. وقد حدث مثل هذا في كل الأسرة الحاكمة. لكن الذي حدث في أوربا،أن الملوك لم يكن لهم إخوة بهذا العدد. وأنا لا أحقد في هذا على السلطان عبد الحميد. ففي تلك الظروف الصعبة التي كانت فيها إنكلترا وفرنسا وروسيا تريد اقتسام أراضينا،كان يجب بلا ريب أن يوجد رجل مثله،لكي يدير دفة الحكم. ولقد استطاع خلال ثلاث وثلاثين سنة أن ينقذ الإمبراطورية من شرور الدول،التي كانت تريد تمزيقها. أما أبي. المفرط في حرصه على الشرف،والشديد الحساسية،فربما لم يكن قادرا على أن ينجح في ذلك. وأخيرا،أليست مصلحة البلاد أولى بالرعاية من سعادتنا الشخصية؟
    وعندئذ تبادلت فهيمة السلطانة والأمير فؤاد غمزة عين ساخرة. ذلك أن كبراهم كانت دوما امرأة تحرص على الواجب. ولكن من يهتم اليوم بهذه المبادئ الكبرى؟ أما فهيمة فتريد قبل كل شيء أن تتمتع،وهي تقبل على المتعة إقبالا عنيفا بحكم شعورها أنها أضاعت في الأسر أجمل سني حياتها. إنها من المرح،والخفة بحيث لقبت بلقب "السلطانة الفراشة" (..) – إذا كنت أفهم سيادتك (أفنديمز)،فإنه ليس علينا فقط أن نحضر المراسم،بل لعل علينا،كذلك،أن نذرف فيها بعض الدموع،لنكون في مستوى الموقف.
    - يكفيكم أن تحضروها. ولكن تذكروا هذا،يا فؤاد،وأنت يا نهاد،فلئن وصلتما إلى العرش يوما،فانسجوا على مثال السلطان عبد الحميد لا على مثال جدكم السلطان مراد. إذ لا تملك المرأة،في آن واحد،أن يكون لها ولد،وأن تحتفظ بعذريتها. وعندما انفجرت ضاحكة من سحنتهما المندهشة – إذ إنهم لن يتعودوا أبدا على خشونة كلماتها – نهضت لتختم الاجتماع) {ص 22 - 24}.
    الآن يقترب الحديث عن شخصية سترافقنا طول هذه السياحة – إذا كتب لها الاستمرار - ولكن قبل ذلك نذهب إلى السوق في رفقة السلطانة :
    (في صباح اليوم التالي،ما كادت السلطانة خديجة تستيقظ من نومها،حتى استولت عليها رغبة مفاجئة في المضيّ إلى السوق لتشتري بعض "الشرائط" والعادة هي أن الباعة النساء من الأغارقة والأرمن،هن اللواتي يأتين إلى القصر ليعرضوا{هكذا!} أشيائهن،إذ لا يحسن بالأميرة أن تتردد على هذه الأماكن الشعبية،حتى ولو بقيت بعيدة عن الأنظار في عربتها المغلقة أحسن الإغلاق.
    ولكنها اليوم لا تريد الانتظار.
    فاستدعت زينل،خصيّها المفضّل. وهو ألباني طويل القامة،ذو بشرة شديدة البياض. ويجب أن يكون في الأربعين من عمره،وتلاحظ السلطانة بشيء من المتعة أن سمته الجديدة،تليق عليه هيبة الباشا.
    وتتذكر الآن ذلك المراهق المرعوب الذي وصل منذ خمسة عشر سنة إلى قصر تشيراغان،حيث كانت تعيش سجينة مع أبيها،وإخوتها. وكان قد أرسل إليهم من قبل رئيس الخصيان لدى السلطان عبد الحميد،الذي وجد في إرساله هذا،وسيلة مناسبة للتخلص منه. ذلك مع أنه كان موهوبا بشكل خاص – لأنهم كانوا يعلمون الأطفال الذين يهيئونهم لخدمة البلاط الملكي – ويتميز بالذكاء والحيوية – فإنه فيما بعد بدا عصيا جدا على نظام الحريم القاسي.
    ومع ذلك،فإن زينل هذا سرعان ما تلاءم مع صورة الحياة في قصر تشيراغان. فهل كان مثلا يشعر بأنه أكثر حرية،من هؤلاء المساجين؟ وتذكر خديجة أنه كان يتبعها إلى كل مكان. وكان شديد الانتباه لأصغر حركاتها،على حين أنه كان يتجاهل أختيها الأميرة فهيمة و الأميرة فاطمة. ولقد اختارها هي وحدها ليقوم بخدمتها. (..) ومن أعماق صمتها تتجه إليه،وتقول له أخيرا :
    يا أغا أريد أن تجد لي عربة من عربات الأجرة،وبأسرع ما يمكن. وينحني الخصي،مخفيا دهشته. ذلك أن عربات القصر المغطاة والمكشوفة،وهي خمس،في أحسن حال! وبطبيعة الحال،فإن هذه العربات تحمل الشارات السلطانية ... فهل ترغب سيدته أن تمشي،مجهولة الهوية،في الوقت الذي كان فيه زوجها خيري بك،في رحلة خارج المدينة؟ و زينل هذا معتاد على نزوات النساء،فلطالما لاحظها بين نساء الحرملك،حيث كان يخدم لمدة أربعة عشر عاما. لكن سلطانته هذه مختلفة! فأنب نفسه على أنه شك فيها،ولو للحظة،وأسرع ليجد لها عربة أجرة. ){ص 25 - 27}.
    أخذت السلطانة معها (سلمى) في رحلة التسوق،وسارت العربة،حتى أوقفها الازدحام،فقال زينل :
    ( - يا صاحبة السعادة،لم يعد في وسعنا أن نتقدم. فمن هنا يجب أن يمر الموكب الجنائزي.
    وترتسم ابتسامة هادئة على محيا السلطانة.
    - أحقا هذا؟ لقد نسيت ذلك. إذن فسننتظر ريثما يمر.
    وألقت سلمى نظرة باتجاه أمها،إن هذا هو فعلا ما كانت تفكر به : فالشرائط لم تكن إلا ذريعة! فأيندجيم لا تهتم كثيرا بزينتها! والشيء الذي كانت تريده،هو أن ترى موكب الجنازة،ولما كانت التقاليد تقضي بأن لا تحضره الأميرات،فقد وجدت هذه الحيلة للحضور.
    وكان هناك جمهور كبير من الناس قد تجمع،على دهشة كبيرة من السلطانة. فقالت في نفسها :
    "يا بؤسهم،إن الناس لقليلو المتع،في أيام الحرب هذه،حتى يكفي أي شيء،لإخراجهم من منازلهم".
    وفجأة يسود الصمت. إذ لقد ظهر الموكب في أعلى الشارع.
    كان النعش مسبوقا بفرقة عسكرية موسيقية بالإستانبولية السوداء. ومرت الجنازة ببطء،محمولة على أكتاف الجنود. ويتبعها الأمراء،مشاة على الأقدام،بترتيب الأعمار،وعلى صدورهم أوسمة الألماس. ويأتي بعدهم الأصهار (الدامادا) أزواج الأميرات،ثم الباشوات في زيهم الاستعراضي الموحد،ثم الوزراء بالريدنجوت المزين الجوانب بمطرزات الذهب. وأخيرا،وعلى نفس مستوى الوزراء في هذه الاحتفالات الرسمية،يأتي ألكيسلر آغا،حارس أبواب السعادة،ورئيس الخصيان السود،في القصر.){ص 28}.
    ثم نصل إلى مربط الفرس،تقارن السلطانة بين جنازة عمها،وجنازة أبيها،ولكن قبل ذلك، يستمر وصف جنازة العم:
    (وعلى جانبي الموكب،وعلى طول الثلاثة الكيلومترات التي تفصل جامع أيا صوفيا،عن الضريح الذي سيقبر فيه السلطان،ينتشر الجنود في لباسهم الرسمي في وضعية التأهب. من الواضح كل الوضوح،أن حكومة تركيا الفتاة،التي أزاحت السلطان عبد الحميد عن العرش،قبل عشر سنوات،وتحت رعاية السلطان رشاد،هي التي بيدها مصائر الإمبراطورية. ولقد شاءت أن يكون الاحتفال بدفن السلطان ضخما. وفي وسع المرء أن يبدو طيبا مع الموتى.
    أما الطيب .. فإن الرجل الذي يحتفل بدفنه اليوم،لم يعرفه قط .. وكانت الدموع تغشّي نظرة السلطانة. وفجأة ترى نفسها قبل أربعة عشر عاما،في تلك الليلة شديدة البرد التي قبر فيها أبوها السلطان مراد،بأمر من السلطان عبد الحميد،بصورة سريعة جدا. إذ لم يصحبه إلى القبر إلا بعض خدمه الأوفياء،أما الشعب الذي أحبه حبا جما،فإنه لم يسمح له بالإعراب عن أسفه.
    وترتجف خديجة. ذلك أن العظمة التي تحيط بالموكب الجنائزي،لذلك الجلاد،أثار كراهيتها من جديد. (..) وشعرت السلطانة بأن طعما مرا يملأ فمها. أهو الغيرة؟ وهل تغار من ميت؟ .. إنها تفهم الآن ما هي الرغبة التي دفعتها لتجاوز الأعراف،من أجل حضور هذا الاحتفال الجنائزي. ولقد ظنت أن هذا منها ليس إلا من قبيل الفضول : والحقيقة أنها أرادت الشعور بالانتقام. فلقد جاءت تلاحظ وتستنشق وتتذوق موت الرجل الذي كان يقتل أباها،يوما بعد يوم،خلال ثمانية وعشرين عاما. (..) وفجأة ندت عن الحضور صرخات. وحاولت السلطانة داخل عربتها أن تكبت ابتسامة. إن هذا هو السبب الذي جعل الناس كثيرين في الاحتفال : إذ قلما يهتم الشعب باللياقات التي تمنع إحاطة الميت بالسخط. ولهذا جاء يحيي الطاغية التحية التي يستحقها!
    ولما كانت شديدة الانتباه،فإنها أصغت بأذنها،داخل هذا الصخب،إلى ما بدا لها أنه تأوهات وشهقات وبكاء. ولكن هذا مستحيل،ويجب أن تكون أساءت السمع! ومع ذلك ... فقد كان ما سمعته قائما فعلا. فتجمدت في مقعدها،وعلا وجهها شحوب كلون الموت.وما ذلك الذي طنت أنه صرخات كره،بدا فعلا صرخات تألم ويأس. فاشتد فيها الاستياء. ماذا؟ أهذا الشعب الذي كان في الماضي يهزأ بالطاغية،يبكي عليه اليوم؟ أو نسي تلك السنوات السوداء التي كانت فيها الشرطة ودوائر المخابرات تحكم حكما مطلقا؟ أو نسي كم صفق للانقلاب الذي قام به رجال تركيا الفتاة،وأطاحوا فيه بالسلطان عبد الحميد،وأحلوا محله أخاه "رشاد"؟ فهزت رأسها باحتقار،وكأنها تقول : "حقا إن ذاكرة الناس قصيرة".
    وبدا وجه امرأة من نافذة،وهي تتألم،وتتوجع،,تقول :
    أيها الأب. لِمَ تتركنا وتتخلى عنا؟ ففي زمانك كان لدينا خبز نأكله. أما اليوم فنحن نموت جوعا!
    وانضمت أصوات أخرى بعضها إلى بعض،لتقول :
    أين تمضي؟لا تتركنا وحيدين. ){ص 28 - 30}.
    لم أكن أرغب في إنهاء هذه الحلقة بهذا الكم من الكراهية .. ولكن : كم تبدو بائسة – يأكل الحقد قلبوهم،تحت ستائر الابتسامات - حياة قوم في الأعالي،ربما حسدهم بعضنا!! ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

  3. #3
    حياة أميرة عثمانية في المنفى : كيتزي مراد "3"
    لا يقف الأمر عند تلك المشاعر التي تكنها السلطانة خديجة لعمها،بل يبدو أن أسرتي السلطانين،كانتا تتجنبان اللقاء!
    (وكان قد حان الوقت لتمضي إلى تقديم تعازيها لأسرة الميت. وباستثناء الاحتفالات الرسمية التي يحاولن فها عدم التعرف ببعضهن على بعض،فإن هذه أول مرة تلتقي فيها الأسرتان.
    وتجتاز السلطانة خديجة الحديقة،متبوعة بأختيها وابنتها،لكي تتجه إلى الجسر المبني من الحجر الذي نبتت عليه الطحالب فيما بعد. وكانت النسوة الأربع يلبسن اللباس الأبيض {هذه "لقطة" تصلح كنهاية ممتازة لحلقة من مسلسل متلفز - محمود} لون الحزن،أما اللون الأسود المعتبر كلون الشؤم،فإنه محرم في البلاط العثماني.
    وساعدهن الخصيان،فصعدن إلى القارب اللطيف،بعد أن حياهن المجدفون العشرة الذين يلبسون،على ما كانت عليه الحال أيام سليمان الرائع،قمصانا واسعة من الباتيستا وسراويل قرمزية اللون. والمجدفون لا يكونون إلا عشرة،عندما يستقبل الأمراء والأميرات.أما الوزراء فحصتهم ثمانية مجدفين. وأما السلطان فإنه يستخدم عادة (قايق){نوع من القوارب التي تستعمل للنزهات القصيرة في البحر - محمود} فيه أربعة عشر مجدفا.
    وعندما كان القايق يسبح فوق الماء،كانت السلطانات يرفعن حجبهن لكي يتمتعن بالنسيم العليل،إذ ما من إنسان هناك لكي يراهن. أما المجدفون فعليهم أن يخفضوا عيونهم،وإلا فإن التسريح عقوبتهم. وفي الماضي كان هذا العقاب هو الموت.){ص 31}.
    من أي إسلام أخذت تلك العقوبة؟!!! والتي لاشك أن الإسلام بريء مها.. ويا له من فرق شايع بين العقوبتين (القتل) ثم (التسريح)!!! ويا ترى تحت أي تأثير تم تخفيف العقوبة؟! أهو (العدول عن الظلم) فقط،أم لأسباب أخرى؟!! الضغوط الأوربية مثلا!!!!!!!!
    ثم ..( وصلت الأميرات إلى قصر بيلربي،وقد دُخن قليلا بهواء البحر،فواكبهن الخصيان في البهو الكبير ذي السقوف المزينة بأشكال هندسية خضراء وحمراء،وذي الجدران المكسوة بمرايا دمشقية مطعمة بالصدف. وكان هذا القصر قد بني في القرن الماضي بأمر من السلطان عبد العزيز،الذي أراد له زينة شرقية فخمة ليتميز بها من الدُرجات{الموضات- محمود} الآتية من أوربا. ويروى أنه عندما جاءت أوجيني دو مونتيجو،التي كان يحبها حبا شديدا،أقامت فيه قبل أن تمضي لتدشين قناة السويس،فأمر السلطان بأن تطرز الناموسية،التي تنام تحتها الإمبراطورة بألف حبة من اللؤلؤ الناعم.(..) وعندما ظهرت السلطانات الثلاث،دمدم الحضور دمدمة الدهشة. لكن "الكادين"{أرملة السلطان عبد الحميد -محمود} تبتسم،وهي أذكى من أن يخفى عليها السبب السياسي لهذه الزيارة. ومع ذلك فإنها لا تقلل من شأن هذه الزيارة العظيمة. فنهضت على عجل،لاستقبالهن،إذ حتى في ذلك اليوم،الذي وصلت فيه إلى قمة الفخار والتشريف{كونها تستقبل العزاء في السلطان عبد الحميد،لعدم وجود أمه،وهي أكبر الزوجات سنا-محمود} لا تنسى الاحترام الواجب للأميرات بالدم. ومهما يكن الأمر فإنها،ككل زوجات السلطان،ليست إلا امرأة من الحريم،تميزت عن غيرها بحظوتها لدى السلطان الشديد القوة.
    أما سلمى الغارقة في تقديم احتراماتها الصغيرة،فإنها تقبل يد النساء المتميزات اللواتي يحطن بالزوجة العزيزة. وكانت تتهيأ للسلام على سيدة قميئة جدا جالسة على يمينها،ولكنها أمام نظرات البعض العنيفة التي ركزت عليها،لم تجد بدا من التوقف. فماذا أتت من السوء؟ وبحكم ما اعتراها من الاضطراب،نظرت إلى أمها التي كانت تدفعها بحزم إلى الأمام.
    - سلمى،هيا سلّمي على خالتك السلطانة نعيمة،ابنة المرحوم السلطان عبد الحميد.
    ولكن البُنية تراجعت وهي تهزّ خُصل شعرها الأحمر،لتثير أكثر العجب والاستغراب.
    فأزاحتها عنها أمها إزاحة مفاجئة،والتفتت إلى الأميرة قائلة :
    - أرجو أن تعذري هذه الطفلة،فحزنها على فقد عمها لابد أن يكون قد رفع حرارتها.
    لكن السلطانة نعيمة،التي قابلت هذا الكلام بشيء من الاحتقار،أزاحت وجهها،كما لو أنها لم تكن تستطيع أن تتحمل رؤية التي تكلمها. وعندئذ انتصبت خديجة بقامتها الطويلة،وألقت على الجماعة الحاضرة نظرة ساخرة،ومضت لتجلس على يسار"الكادين"التي دعتها إلى الجلوس بجانبها. فانتصرت. أما ما ظهر من عامية على ابنة عمها،فقد كان بمثابة الاحترام. وما من شخص هنا يخفى ذلك عليه. وهكذا فإن الجرح بعد أربع عشرة سنة،ما يزال ينزف،كما كان الأمر من قبل! ){ص 32 - 33}.
    عدم قدرة الأميرة نعيمة على إخفاء كراهيتها للسلطانة خديجة،لم يأت من فراغ،فعندما تزوجت الأخيرة بزوج فرضه السلطان عبد الحميد عليها :
    (.. وكان القصر الذي أهديته من قبل السلطان – كما هي الحال مع كل أميرة تتزوج حديثا – ملاصقا لقصر ابنة عمها نعيمة. وتعودت خديجة أن تزور السيدة الشابة،قريبتها. وكانت تقدم لها نصائحها،كأخت كبرى،وتوصل إليها بواسطة زينل،بعض الهدايا الصغيرة. وسرعان ما جعلت منها صديقة. وكانت نعيمة تعشق زوجها الأنيق،المتفتح،أكبر العشق. فهل من انتقام منها أفضل من أن تسرقه منها. وأية وسيلة أوثق من هذه لكي تجرح جلادها وجلاد أبيها،ذلك الأب الذي كانت تحبه حبا جما،عندما تجعل ابنة السلطان تيأس من الحياة بهذه الصورة؟
    وبهدوء وصبر،قامت خديجة،كما لو أنها تقوم بواجب العدالة،بإغواء كمال الدين. وكان ذلك سهلا عليها،لأن نعيمة القليلة الحذر،حرصت،خلافا للتقاليد، على أن يلتقي زوجها،أفضل صديقاتها.وكانت خديجة جميلة،فوقع الباشا في غرامها،وصارحها بحبه لها،في رسائل غرامية عنيفة،كانت تحفظ بعناية. (..) فجعلت من رسائل كما الدين حزمة،ونادت زينل وأمرته أن يسلمها إلى السلطان،مدعيا بأنه عثر عليها بالمصادفة.
    وكانت تحرص على الانتقام،وعلى حريتها. ولم يكن لمثل هذه الفضيحة إلا أن تؤدي إلى الطلاق.){ص 34}.
    نُفيَ كمال الدين باشا إلى بروسة العاصمة القديمة .. أما السلطانة خديجة،فقد استدعاها السلطان عبد الحميد .. (واكتفى بالضحك الساخر منها و ... أعادها إلى زوجها.
    ولن تتخلص خديجة من زوجها إلا بثورة 1908،التي خلعت السلطان عبد الحميد. (..) وبعد ذلك بسنة،وخلال نزهة في "مياه آسيا الحلوة"{نهر صغير في ضواحي إستانبول-محمود} التقت خديجة بدبلوماسي جميل،فوقعت في حبه،وقررت الزواج منه.
    وكان ذلك الدبلوماسي هو خيري رؤوف بك،أي أنه أبو سلمى وخيري الصغير){ص 34 - 35}.
    وجاء عيد (البيرم) – الأضحى – ولكن قبل ذلك،أليس ممن الممكن إعادة الروح – من الموتة الصغرى – إلا بالموسيقى؟!! .. (وانتهى صوت منغم،عذب ومُلحّ،بأن يجعل سلمى تستفيق من نومها. فتفتح عينيها،وتبتسم للمراهقة التي تمس العود بريشتها،على مهبط السرير. وهذه عادة شرقية،للحذر من يقظة مفاجئة،ذلك أن الروح،على ما يقولون،تمضي إلى عوالم أخرى. ويجب أن نمنحها الوقت الكافي للرجوع بالتدريج إلى الجسم. (..) وفي ذلك الصباح،شعرت بأنها فرحة بشكل خاص : إنه البيرم. العيد الأكبر في الإسلام،الذي يستعيد ذكرى تضحية إبراهيم بابنه لله،وعلى كل إنسان أن يرتدي ألبسة جديدة ويتبادل الهدايا مع الآخرين. والمدينة كلها تدوي من ضجيج الألعاب،وصرخات البهالين،وباعة السكاكر. (..) ولكن الاحتفالات تكون أعظم ما تكون في قصر ضولمة باهتشه. حيث يستقبل السلطان،لمدة ثلاثة أيام،عظماء دولته وكل أفراد أسرته.
    وأبت سلمى كأس الحليب الصباحي،المفروض أن يحفظ لها بشرة حلوة،وقفزت من السرير. ومضت متعجلة إلى الحمام،حيث تقوم عبدتان بتهيئة حمام الورد لها (..) ومن أباريق الفضة يسيل الماء الفاتر على جسد الطفلة الأبيض. وبعد أن تنشفها العبدتان بالموسلين الأبيض،ترشان على جسمها وشعرها رذاذا من تويجات الورود،وتمسدانها لمدة طويلة. (..) وها إن هذه {السلطانة خديجة -محمود} دخلت بهوها الصغير،فنهض خيري بك، ليقبل يدها،وبعد أن قال لها ما تقتضي به الأعراف في هذه المناسبة من تمنيات وتهان،قدم لها علبة مجوهرات من المخمل وتقضي الأعراف أن يقدم الرجل لزوجته بمناسبة بيرم،وكذلك بمناسبة عيد ميلاد السلطان،هدية ما لامرأته. فإذا لم يفعل ذلك،فإن هذا إشارة إلى قرب الطلاق. ويتنهد الداماد داخل نفسه. ولكن من حسن الحظ أن سكرتيره يفكر بكل شيء! وكان داخل العلبة عقد عظيم من الياقوت الأزرق،بل شديد الزرقة. وتدمدم الأميرة قائلة :
    وأي ماء رائع! {في الهامش : في الشرق العربي اصطلح الناس على قول ماء الألماس،أو مية الألماس،على كل المجوهرات المصنوعة من الألماس}.
    وينحني الرجل بهدوء :
    لا شيء عظيم الجمال بالنسبة إليك،يا سلطانة! {التعجب من الأصل!- محمود}
    لقد قام سكرتيره بكل ما يجب أن يقوم به. ولكن أنى له،في مثل أيام الحرب هذه والتضييق من المخصصات المدنية {في الهامش : مبلغ يعطى لأفراد العائلة المالكة للإنفاق على حاجاتهم الشخصية}. أن يدفع ثمن هذا كله؟ (..) ثم سحب من جيبه علبة مجوهرات ثانية،أصغر من الأولى – وهذه اختارها هو – ووضعها بين يدي سلمى. إنها مشبّك،وهو عمل دقيق يمثل طاووسا،له ريش مزين بالزمرد.){ص 37 - 39}.
    عذرا .. الآن عرفت سبب علامة التعجب تلك،بعد أن قال للسلطانة أنه لن يذهب إلى الاحتفال،مع أنه سوف يذهب :
    ( ولكنه لا يستطيع إلا أن يثير زوجته. فمع مضي السنين،أصبح لا يتحمل دوره هذا المصطنع. أما الطلاق،فإنه ليس بموضع بحث. إذ لا يطلق الإنسان زوجته وهي سلطانة،فهي وحدها لها هذا الحق،إذا وافق السلطان على ذلك.
    وعلى كل حال فإن خيري بك لا يملك ما يلومها عليه. فهي زوجة كاملة،ولكنها أميرة إلى أقصى الحدود ... ومضجرة إلى حد الموت.{!!!!!-هذه من عندي} هكذا كان يفكر،دون أن يعترف أنه مسحوق بشخصية أقوى من شخصيته،مما يحيله إلى مجرد ظل. ){ص 40}.
    نترك هذه الملاحظة غير المهمة،وننقلكم إلى قصر :
    (.. ضولمة باهتشه كله بالرخام الأبيض،يمتد بكسل على طول البسفور. ويلاحظ الإنسان فيه كل أساليب العمارة،من كل العهود وكل البلاد،بنظام فوضوي غني. فهناك نجد الأعمدة الإغريقية،والأقواس المورسكية،والغوطية،أو الرومانية Romans،كما نجد الزخرفة المثقلة تغمر الواجهات بباقات الزهر،وأكاليله،والورود {لماذا يصر المترجم على إغضاب سيبويه؟!! فــ"الورد" جمع !!-محمود} والرصائع،المزينة بنعومة بالأرابسكات المذهبة. لكن"الطهوريين"يجدون ما يسمونه "بحلوى العروس"شيئا بشعا جدا. ولكن الكثرة،والكرم،والأناقة الخيالية،والجهل البريء،بكل قواعد الزخرفة القانونية،تجعل ذلك كله،قريبا إلى النفس،كما لو أن طفلا وضع كل أنواع الزينة المتباينة،التي وجدها في خزانة أمه،لكي يبدو أجمل مما هو. وهذا لا يفهمه إلا الشعراء،والشعب التركي شاعر.
    وعندما دخلت سلمى القصر،تجمدت أمام وابل الذهب والكريستال. وكثيرا ما كانت قد زارته من قبل،{لماذا يعقد تركيب الجملة؟!-محمود} ولكنها في كل مرة تقف فاغرة الفم أمام كل هذه الأثقال من الفخفخة. فالشمعدانات والثريات تدوي بآلاف وريقاتها البراقة،وسلّم الشرف مصنوع من "البكراة Baccarat"{في الهامش : البكرا : نوع من الزجاج الثقيل الفرنسي الأصل (من قرية بكرا)} وكذلك المواقد الضخمة ذات الجوانب المقصوصة قصة الماس،والتي تشع بنجمة أضواء متقزحة،يتغير لونها في مختلف ساعات النهار.
    وتحب البنية الصغيرة هذا البذخ. فهو يشد عزمها عندما يُدخل في روعها أن قوة الإمبراطورية لا تغلب،وأن ثروتها لا تنفد،وأن العالم جميل وسعيد. هنالك طبعا هذه الحرب،التي يتحدث عنها أصدقاء أبيها،ثم هؤلاء الرجال والنساء،ذو النظرات المحمومة،الذين يتزاحمون حول شبك قصرها،لكي يطلبوا الخبز. إلا أنهم يظهرون في عيني سلمى وكأنهم يسكنون كوكبا آخر،فالحرب بالنسبة إليها ليست إلا كلمة في الفم الثرثار،لدى الأشخاص الكبار.){ص 40 - 41}.

    إلى اللقاء في الحلقة القادمة ...إذا أذن الله
    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

  4. #4
    حياة أميرة عثمانية في المنفى : كينيزي مراد"4"
    في هذه الحلقة نواصل متابعة الاحتفال بالـ(بيرم) – عيد الأضحى - ،فبعد انبهار (سلمى) بزينة القصر، نجد السلطانة خديجة وسلمى .. (وبعد مجموعة الخصيان التي استقبلتهما،ها نحن الآن أمام مجموعة من الفتيات،كلهن رائعات – ذلك أن البشاعة شيء محرّم في القصر – يحطن بهما لمساعدتهما على التخلص من حجبهما،على حين أن (القهوجية)،التي ترتدي بنطالا واسعا وقميصا صغيرا فضفاضا،مطرزا بالشركسيات،تقدم لهما القهوة معطرة بالهال،لكي يستريحا من عناء الرحلة.(..) وظهرت سيدة المراسم،التي تبدو فخمة في جاكيتتها الطويلة،المطرزة بالذهب،كعلامة على وظائفها العليا. ولقد جاءت لتبحث عن الأميرات،وتقودهن إلى السلطانة الوالدة،أم السلطان.{رشاد - محمود}. إذ أن كل زيارة إلى القصر تبدأ،أو يجب أن تبدأ بهذه السيدة العجوز،التي هي الشخصية الثانية في المملكة {هكذا!-محمود} بعد ابنها.
    وتجلس السلطانة في جلالها،في بهو مفروش بالحرير البنفسجي،ويتألف أثاثه من مقاعد ثقيلة،من الطراز الفيكتوري. ويدعي العارفون أنها كانت جميلة جدا،ولكنها مع تقدم العمر،والإقامة الطويلة،في جناح الحريم،أصبحت ضخمة. ولم يبق منها إلا عيناها الزرقاوان الرائعتان،اللتان تشهدان على أصلها الشركسي.(..) وتتذكر هذه السيدة العجوز ذلك اليوم،الذي وقعت فيه عين السلطان عليها وأعجبته. وكثيرا ما تشير إلى ذلك في أحاديثها. وأصبحت نتيجة ذلك غوزدي Geuzde،أي تلك التي تلفت نظر السلطان. وحصلت على حق التفرد بغرفة لها على حدة. واشتُري لها فساتين جديدة من الحرير. وكان من حظها أن السلطان لم يتعب منها ولم يزهد بها،وأعاد طلبها مرات كثيرة. وحصلت على لقب "إقبال"أو المحظية،فنقلت عندئذ إلى غرفة أكبر. ووضع في خدمتها ثلاث كالفات{نساء مكلفات بخدمة القصر-محمود} وحان عليها الوقت لكي تحمل وتلد.
    وكثيرا ما سمعت سلمى حديث سيدات عجائز في القصر،يقصصن كيف أن هذه الشركسية الجميلة،عندما ولد ابنها رشاد،رفع من شأنها وأعطيت لقب "الكادين"الثالثة. ولم يكن يكفي الارتقاء عن مستوى الإماء،أن تكون الفتاة جميلة،بل إنها كانت بحاجة إلى الذكاء والعناد،لكي تحظى بهذه المرتبة المرغوبة والمحسود عليها. ذلك أنه كلما علت الفتاة في مراتب الحريم،ازدادت الخصومات واشتد التنافس،وكبرت الأخطار. وفي هذه القمم،يصبح الصراع عنيفا بلا رحمة. وكان أبناء هاته الكادينات،في الواقع،كلهم أمراء،من الأسرة المالكة. وكان العرف يقضي بأن يتربع أكبرهم سنا على العرش. ولكن خلال القرون الستة التي عاشتها الأسرة العثمانية،كثيرا ما رأى الناس،الأبناء الأوائل يختفون،كضحايا للحوادث،أو مرضى بأمراض غريبة.
    ولم تترك هذه الكادين لأحد حق رعاية طفلها،لأنها كانت تعرف جيدا نماذج من المرضعات و الخصيان،أُغروا من قبل فتاة منافسة أخرى،وقتلوا الولد بصورة ما. ولقد أقسمت أن يكون ابنها سلطانا،وأنها ستكون السلطانة الوالدة. وكانت حياتها كلها مركزة على هذه الغاية. وكان عليها أن تنتظر عمر الثامنة والسبعين لكي يتحقق لها هذا الأمل.
    أما الآن فإن الطموح الذي رافقها خلال ستين سنة من الدبلوماسية والمؤامرات،قد فارقها،ولم تعد شيئا آخر غير امرأة عجوز متعبة.
    وأخذت السلطانة الأم وليدة،بيدها شديدة البياض،تدغدغ بضربات خفيفة خدها،مما يشير إلى الكثير من العطف،كما كالت المديح للسلطانة خديجة على مظهرها الجميل. ثم إنها عبّت نفسا طويلا من نارجيلتها المذهبة،وأغمضت عينيها وانتهت المقابلة. (..) وفجأة علت ضجة : فالسلطان عاد من صلاة السلاملك. وستبدأ مباشرة حفلة تقبيل اليد. (..) أما سلمى المحصورة بين سيدتين ضخمتين جدا،فإنها تجد صعوبة حتى في التنفس،ولكنها تأبى أن تتخلى عن مركزها هذا في الملاحظة،ولو دفعت لها كل أموال الدنيا.
    ورأت،وهي تنظر من حوالي ثلاثين مترا تحتها،غابة من الطرابيش الأرجوانية،والريدنجوتات السوداء أو الرمادية،التي تزينها ألوان الزي العسكري. ولما كانت قد بهرت بآلاف المصابيح الموجودة في قاعة العرش – وهي أكبر قاعة من نوعها في أوربا كلها – على ما يقال – فإنه كان عليها أن تنتظر مدة طويلة قبل أن يتاح لها التعرف على بعض الوجوه.
    وكان السلطان يجلس في صدر القاعة،ويبدو كشكل كهنوتي في عرشه الذهبي الواسع،المرصع بالأحجار الكريمة. ويقف على يمينه أمراء الأسرة،باللباس الرسمي الفخم،تبعا للمرتبة والعمر. (..) ويأتي كل واحد من الحضور بدوره،ويتقدم باتجاه العرش،ويركع ثلاث مرات (أو يسجد) على الأرض،ثم ينهض لا ليقبّل يد السلطان،إذ ليس من حق أحد أن يمسها،ولكن ليقبل رمز السلطة،وهو بطرشيل etole من المخمل الأحمر،المزين بأشكال بلاطية من الذهب،يمسك به رئيس المراسم.
    ثم يأتي كبار الموظفين،الذين يمثلون مختلف الوزارات،بالريدنجوت الأسود،ثم يأتي بعدهم،مبهورين بكل هذا البذخ،وجهاء القوم الذي أريد لهم أن يكافؤوا على ولائهم،الذي بدا بشكل متميز. ولما كان هؤلاء جميعا في أشد حالات التأثر من التشريف الذي يحاطون به،وكذلك من الخوف من سوء رعاية تقاليد المراسم المقدسة،فإنهم يقبلون البطرشيل،ثم يخرجون متراجعين إلى الوراء،متعثرين أحيانا،على مرأى من عيون الحضور الساخرة.
    ويسود الصمت فجأة. ويحبس كل إنسان أنفاسه،ذلك أن أعلى سلطة دينية في المملكة،أي شيخ الإسلام،الذي يضع عادة ثوبا أبيض طويلا،وعمامة من البروكار،يتقدم تجاه السلطان،الذي بدوره ينهض تكريما له،حتى يستقبله. ويأتي وراءه كبار العلماء،وفقهاء الدين،بثياب خضراء،أو بنفسجية،أو سمراء. ويتبعهم ممثلو المذاهب الدينية في المملكة،مثل بطريرك الروم الأرثوذكس والبطريرك الأرمني،الذين يلبسان لباسا أسود،وكبير أحبار اليهود،الحاخام،الذي يتمتع بوضع خاص،منذ أن جعلت السلطنة من نفسها،في القرن السادس عشر حامية لهذه الطائفة المضطهدة في أوربا.
    وخلال الحفلة التي دامت زهاء ثلاث ساعات،كانت الأوركسترا الإمبراطورية،ببذلة بيضاء يلبسها كل فرد من أفرادها،وفي صدرها،مقدمة حمراء وذهبية،تعزف "موسيقى"عسكرية عثمانية،وسيمفونيات حماسية لبيتهوفن. وكان يديرها الموسيقي المشهور لانج بك وهو رئيس أوركسترا فرنسي وقع في حب الشرق.
    وكانت النساء وراء مشربياتهن (أي الحواجز الخشبية المثقوبة ثقوبا كثيرة بصورة فنية)،يضحكن ملء قلوبهن،فيرى بعضهن بعضا رئيس القوى الألمانية،الجنرال فون ساندرس. ذلك الجنرال الذي تجعله يبوسته وتعاظمه شبيها بكاريكاتير للضابط الروسي. وكذلك الماركيز الجذاب بالا فيشيني،سفير النمسا وهنغاريا،الذي كثيرا ما يصادف في إستانبول مساء راكبا حصانه الأشقر. ويقول الناس إنه يعرف كل شيء،فإذا أخبر بشيء بدا مندهشا كأنه لا يعلم شيئا. إنه دبلوماسي كامل.
    والحقيقة أن هؤلاء السادة الثلاثة الحقيقيين للبلاد،هم الذين يحب النساء أن تراهم : الوزير الأول الكبير المرهف،طلعت باشا،الذي له جسم الثور،والذي تدل يداه الحمراوا اللون على أصله المتواضع،والقصير الشاحب اللون جمال باشا،وزير البحرية الذي يخفي تحت المظاهر الأليفة،قسوة صارمة،على مال يقال. فلقد أرسل عام 1915 إلى سوريا،فقمع الثورة التي التهبت مطالبة بالاستقلال،بعنف لا حد له،لقب من أجله "بجلاد الشام". {جمال باشا الجزار-محمود}.
    ولكن نجم المجلس كان بالتأكيد الوسيم أنور باشا. وهو رجل لطيف،نحيل،ووزير للحربية،ورئيس الثلاثي المشهور. ويقال أنه قادر على إغراء النساء جميعا. أما شجاعته فلا حد لها. (..) ولكنه في هذه الأشهر الأولى من عام 1918،حيث يتراجع الجيش على كل الجبهات،فقد سمعة الرجل الذي كان يطلق عليه لقب نابوليونيك،وبدأت تذبل يوما بعد يوم. وتطول الألسن لنقد ذاك الذي عبده الناس يوما ما.
    وتهمسُ إحدى السيدات قائلة : إنه لشيء مخجل أن يقيم هذه الاستقبالات المكلفة في هذه الأيام الشديدة الضيق.
    وتقول أخرى: إن هذا الابن لموظف صغير،لمسرور من أنه تزوج أميرة،سرورا تجاوز به كل الحدود.
    وحقا فإنه بطل ثورة تركيا الفتاة،كان قد تزوج السلطانة ناديا،ابنة أخ السلطان رشاد. وهو جد فخور بامرأته،حتى يريد أن يريها للناس جميعا،وهو يستمر في قلب هذه الحرب،بإقامة حفلات يبلغ فيها الإسراف غايته. وعلى حين أن الناس،حتى في القصر الملكي،قد ضيقوا على أنفسهم،فإنك ترى مائدته غنية جدا. ولكن الأسرة قد تسامحه على هذا كله،لو أنه لا يلعب هو نفسه دور الإمبراطور،مصدرا الأوامر باستمرار إلى الملك العجوز،فيذله ويذل الأسرة كلها معه.
    وتتألم الأميرات فيقلن مستنكرات :
    - انظروا كم أن جلالته مريض،وحصياته تجعله يتألم ألما لا يطاق. ولكن أنور باشا أرغمه مع ذلك،منذ عدة أشهر،على الذهاب إلى المحطة لاستقبال القيصر غليوم الثاني.
    والحقيقة أن ما يسوءهن ليس التعب الذي يسببه للباديشاه بالدرجة الأولى،بل الإذلال الذي يذيقه إياه : وأصلا فإنه ما من سلطان تحرك من قصره لاستقبال أحد الناس،ملكا كان أو إمبراطورا.
    وبصورة خاصة،فإنهن لسن على وشك نسيان شنق الشاب الجميل صالح باشا،زوج منيرة السلطانة،إحدى بنات أخ السلطان الأثيرات عنده. فلقد اتهمه بالتآمر على تركيا الفتاة،وقضى بشنقه. وجاءت السلطانة تقبل رجلي السلطان،وتوسل هذا الأخير إلى أنور باشا لتخفيف هذا الحكم على الدامادا،ولكن عبثا. وكان على السلطان رشاد أن يصادق على الحكم،وقلبه محطم. ويقال إنه أعاد التوقيع ثلاث مرات،بسبب الدموع التي كانت تشوش عليه الرؤية.
    وهكذا كانت التعليقات والانتقادات تأخذ سبيلها بين الناس،وكانت سلمى تصيخ السمع،بكامل أذنيها لما يقال،عندما انقطعت الموسيقى فجأة. فنهض السلطان،وأنهى الاحتفال. وترك قاعدة العرش ببطء،متبوعا بالأمراء،وحيا الهاتفين التقليديين من العلماء الذين يقولون :
    "أيها الباديشاه،كن متواضعا،وتذكر أن الله أكبر منك"
    وكانت النساء يستعجلن باتجاه القاعة الكبرى الزرقاء،حيث سيأتي الشاه ليزورهن. (..) ومن خلال أهداب عينيها،المنخفضتين نصفا،بدأت سلمى تتفحص هذا الرجل العجوز ذا الشعر الأبيض،الذي تشي نظرته الزجاجية،وشفتاه الثخينتان بطيب قلبه. وكان قد أجلس أمه بجانبه وبدا يبتسم بكل هدوء.
    وتفد بعدئذ السلطانات،اللواتي يسمونهن "السلطانة خانم". وكانت ذيولهن الطويلة تدمدم فوق السجادات الحريرية،وتقف كل منهن أمام السلطان وتحييه ثلاث مرات بانحناءات رشيقة من جسمها،وتنسحب لتجلس على يمين السلطان. ثم تأتي الكادينات والوصيفات اللواتي يجلسن إلى يساره. وأخيرا يأتي دور سيدات القصر والكالفات القديمات،اللواتي بعد أن يحنين الهامة حتى الأرض أمام السلطان،يذهبن فيجلسن في آخر الصالة.
    ومتى انتهت هذه التحيات،يظهر عبدان يمسكان بين أيديهما،قماشا من المخمل مملوءا بقطع ذهبية سُكت في السنة نفسها. وتأتي الخازنة الكبرى فتغرف ملء يديها من هذه القطع،وتنثرها باتجاه الأوركسترا {في حدود ستين عازفة-محمود} والكالفات الصغيرات اللواتي يجمعنها،وهن يباركن للباديشاه،على كرمه.
    وعندئذ تبدأ فترة المحادثة. فيرجو الباديشاه قريبتاه،وزوجاته بأن يجلسن. ويبدي قلقه على صحتهن،ويقول لكل منهن كلمة طيبة. (..) وبعد أن يسود الصمت فترة تظن كل سيدة أنها لن تنتهي،يبدأ الملك بالحديث عن حماماته. فهو هاوي لهذه الطيور التي يستوردها من أوربا.(..) ثم يتلكم على وروده الحلوة التي يقطعها،عندما يمضي من حديقة قصر الهامور الصغير،موضحا أنه لا ينبغي أن يقطف منها أكثر من وردة واحدة من كل شجرة،حتى لا يؤذيها. إنه رجل ذو رقة بالغة.
    ويحكى أن الشيء الوحيد الذي يخرج به عن طروه هو أن يضع أحد السفراء الأجانب،رجلا على رجل،في حضرته. وعندئذ يقول متألما : إن هذا الكافر حشر رجله في أنفي. ولكنه يكظم غيظه بقراءة سورة ما من السور القرآن،لأنه تقي جدا،وهو عضو في جماعة صوفية،ولكنه لا يتحدث عن هذا أبدا.){ص 41 - 48}.
    بعد ذلك ينصرف السلطان .. فتبدأ الاحتفالات ... والرقص ... ومسابقات الشعر ... و تقدم أصناف الأطعمة .. وأقزام السلطان يدخلون السرور على السيدات المحتفلات ...
    (وعندما قطعت سلمى البسفور الذي أضاءه القمر،في القايق الذي أعاد أهلها إلى قصر أورطاكوي،كانت تفكر بأن ذلك اليوم كان جميلا،وأن الحياة حلوة. فكيف يمكن أن نصدق طيور النمس،التي تتنبأ بانسحاق إمبراطورية بمثل هذا الغنى وهذه القوة؟.){ص 49}.
    كذبت طيور "النمس" وإن صدقت ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة ...إذا أذن الله
    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

  5. #5
    حياة أميرة عثمانية في المنفى : كينيزي مراد "5"
    هذه الحلقة،أبعد ما تكون عن أجواء الاحتفالات التي طغت على الحلقة الماضية .. (وكانت خديجة السلطانة تمضي كل أسبوع لزيارة مستشفى هازيكي ،في مركز المدينة،لكي تحمل إلى الجنود المرضى أو الجرحى،شيئا من الدعم المعنوي وبعض الهدايا الصغيرة. وحتى ذلك الحين،لم تكن قد أخذت معها سلمى،خوفا من أن تتأثر بهذه المناظر تأثرا سيئا. ولكن البنت أصبحت في السابعة والنصف،وتفهم الكثير من الأشياء. ومن ناحية أخرى،فإن السلطانة من أنصار الرواقية،(الصبر على المكاره). ولما كانت،من أبكر العمر،قد عاشت أقسى التجارب،وخرجت منها سليمة،فإنها ترى أن لا شيء يساوي التجربة والاختبار،في تعديل الطبع وتثقيفه. ولقد رأت النساء الجميلات من بنات الطبقة الممتازة في إستانبول،تلك الآثار السيئة للتربية الضعيفة،المرخية للعزم،فلم يعد في وسعها ألا أن تحرص على صيانة سلمى منها.
    وعندما أخبرت زوجها بعزمها هذا،فإن هذا الرجل،اللامبالي في العادة،غضب غضبا شديدا.
    - إنك تريدين إفساد حياة هذه الصغيرة. وسيكون لديها الوقت،فيما بعد،لترى ألوان الشقاء،وربما تعيشها أيضا – من يدري؟ فدعيها إذن تعيش هادئة.
    ولكن السلطانة ترى أنها الحكم الوحيد هنا فيما يتعلق بتربية ابنتها،كما هي كذلك في كل ما يتعلق بشؤون البيت. وإذا هي تركت لزوجها أن يهتم بتنشئة ولدهما خيري – ذلك أن الصبيان،في ديار الإسلام،إنما يربون بدءا من السابعة من العمر،على أيدي الرجال – فإنها ستقبل ما تقضي به التقاليد طبعا،ولكنها تشك في أن تكون هذه التربية ناجحة. ذلك أن جبن كبير أولادها يجرح كبرياءها.(..) ومن حسن الحظ أن يكون الأمر شيئا آخر مع سلمى،فخديجة تجد فيها قوة شبابها وشجاعتها. أما خيري،فيبدو أنه يميل إلى أبيه. وانتهت هي باليأس من ابنها وزوجها. معا.
    ومع ذلك فإن الله وحده يعرف أنها أحبت خيري رؤوف بك،بكل ما في المرأة من عنف في الحب،إذا كانت في الثامنة عشرة من عمرها،وبكل مطالب المرأة التي كانتها في الثامنة والثلاثين عندما التقته. ولربما كانت قد أسرفت في مطالبته بما لا يستطيع. وهكذا فإن أحلامها كمراهقة وحيدة،وكامرأة أسيء إليها من زوجها الأول الذي كانت تكرهه،قد نقلتها إلى زوجها الثاني. (..) وذات صباح حار من أيام تموز / يوليو /،مضت السلطانة هي وابنتها إلى المستشفى. وكانت سلمى قد قضت نهار البارحة بصنع حزم صغيرة كهدايا للجرحى. وقامت إحدى الكالفات بتهيئة مناديل الشاش الزهرية. وفي كل واحد منها،وضعت علبة من التبغ،وحلوى وبعض النقود،ثم غلفت بشريط جميل من الساتان الأزرق. وهنالك المئات من هذه العلب،تملأ حتى القمة،جملة السلال المزينة بإطار من القماش الملون. وهذه تقدم انطباعا أجمل،وسلمى سعيدة جدا،لا تكاد تهدأ،من فرط الفرح،بعملية غير مألوفة من هذا النوع.(..) وأخيرا يصل الركب إلى إستانبول القديمة {في الهامش : كانوا يطلقون هذا الاسم على الحي القديم من استانبول} (..) وأبعد من ذلك تقوم سوق صغيرة. وهناك باعة سمان يعتلون عرشهم فوق أهرامات الخضار والفاكهة،ويقدمون لربات البيوت المحجبات بمناديل سوداء ما يحتجن إليه من بضاعتهم. وتحت شجرة من الأشجار يجلس الكاتب الشعبي،مع مجموعة أقلامه،ومحبراته،ويكتب عروض حال للناس،بوقار،على حين أن سيدات عجائز،يجلسن على الأرض ويحزرن المستقبل،برمي عظيمات على قطعة من سجادة قديمة. (..) وبعد ساعتين من بدأ الحركة،وصل الركب سالمين،ووقفت العربات جامدة في فناء المستشفى. ولم تنتظر سلمى أن يأتي زينل ليفتح لها الباب،بل قفزت منه قفزا على الأرض. فهي متلهفة لرؤية المحاربين الشجعان"كما يسميهم خالها فؤاد".
    المستشفى بناء كبير،رمادي اللون،بُني في القرن السادس عشر،بأمر من السلطان سليمان الرائع. ودخلت السلطانة وابنتها متبوعة بخادماتها،في البهو الكبير،حيث كان ينتظرهم مدير المستشفى. وانحنى بأكثر ما يستطيع أمام السلطانة،وألح عليها أن تمر بمكتبه لبعض الاستراحة وتناول القهوة قبل زيارة المرضى. ولكن السلطانة أبت ذلك عليه،على أكبر فرح من سلمى،وتحمل هذا الرجل الصغير سوء حظه بقلب طيب (..) وما إن دخلت الجماعة في الممر الأول حتى شعرت البنت الصغيرة أن حلقها تملكته رائحة حامضة حلوة،تنتزع منها قلبها. فتعض على أسنانها قائلة : لا مجال لان أكون مريضة! ولكن كلما تقدم الزوار قليلا،ازدادت الرائحة ثقلا،وقلّ احتمالها. وتفكر البُنية قائلة : "ما أغرب هذه الأدوية!". ولم تفهم القضية إلا عندما وصلت إلى الممر الثاني،وأصابها الرعب. ففي الأرض،وفي كل الزوايا،كانت هناك سطول صغيرة مفعمة بضمادات لطخت بالدم وفضلات الإنسان. وهناك رجال متمددون على فراش،أو على مجرد غطاء،وهم يئنون. وبعضهم ينادي أمه. وآخرون رؤوسهم مقلوبة،وعيونهم مغمضة،يبدو أنهم يتنفسون بصعوبة. وفي هذا الممر الذي لا هواء فيه،لا يوجد أقل من مئة. وإلى جانب بعض المتميزين نجد امرأة – هي أخت؟ أو زوجة؟ تسند عنقا،أو تعطي كأس ماء،أو تطرد الذباب الذي أغراه الدم.
    وشرح المدير القضية فقال :
    إن هذه الفضلات تبقى هنا ليلا ونهارا. ونحن نتسامح بذلك،لأنه ليس عندنا من عناصر الخدمة ما يكفي للقيام بواجب هؤلاء المساكين.
    فالممرضة،وهي فتاة ترتدي صدرية بيضاء،طويلة،وشعرها مرصوص بوشاح أبيض،هي الوحيدة التي تخدم كل غرف هذا الممر. وهي تقسم وقتها بين إعطاء الإبر،وأخذ الحرارة،وتوزيع الأدوية القليلة التي لا تزال جاهزة. وليس لديها أي وقت لراحتها الشخصية.ومع ذلك فإنها لا تزال تحتفظ بالبسمة،وتجد كلمة مواساة لكل مريض. وسلمى التي لم تعد لديها إلا رغبة واحدة،هي الهروب من هذا المكان،وتشعر فجأة بالخجل : إن عليها أن تقاوم.
    وبعد أن اجتازت الأم و ابنتها بعض الأمتار،التي بدت لها وكأنها لا تنتهي،دخلتا في قاعة كبيرة. وهنا،تصبح الرؤية أوضح. فلوحظت نوافذ عالية تثقب الجدران مطلية باللون الأزرق لاستبعاد "العين"،كما أن الأسرة تمتد على صفوف طويلة. وكان المرضى قد ناموا على الفُرش مباشرة،لأن الأغطية انتزعت منذ مدة طويلة لتحل محل الضمادات المفقودة – وبين هؤلاء ممن هم،في أكثر الأحوال في أول الشباب – من يئنون من الألم.(..) ثم إن أغلب المرضى يتقاسمون الأسرة الضيقة،اثنين اثنين. ومع ذلك فهم محظوظون لأن الموشكين على الموت،أولئك الذين لا ينتظر منهم أحد إلا النفس الأخير،وُضعوا تحت الأسرة،خوفا من أن يفقدوا المستشفى محلات ثمينة. وفي كل صباح،يتكرر الشيء نفسه،إذ ترفع الجثث لردها إلى أسرها،أو يلقى بها في الحفرة العامة. ويؤتى من جديد بالجرحى الذين لا يرجى بقاؤهم أحياء،فيوضعوا تحت الأسرة،وهكذا ... على حين أن القادمين الجدد يوضعون في مكانهم.
    وترتجف سلمى،مقسمة بين الغثيان والاستغراب. وتتساءل : "أين هم إذن محاربونا الشجعان؟". وهي لا تستطيع أن تربط بين الجنود الذين أُعجبت بهم في الاستعراضات،وبين هذه المخلوقات التي يشتد منها الأنين. وكأنها تحب أن تبكي،,لكنها لا تعرف ما إذا كانت تبكي بداعي الشفقة،أو بداعي خيبة الأمل. فالشجاعة أمام الموت،والفرح بأن يهب الإنسان حياته للوطن،أكل هذه العواطف التي يكثر الجنرال – الأمير من الحديث عنها،ليست إلا كذبة كبيرة؟
    وتحس عندئذ بأن أمها تضغط على يدها،وتقول :
    - هيا،يا بنيتي الصغيرة،تشجعي،أنا هنا. غير أن هذا الحنان اللا مألوف يدخل إلى نفسها الاضطراب أكثر وأكثر أيضا،فتتوسل قائلة : أيندجيم! أرجوك لنمض.
    فتهز السلطانة رأسها بوقار حزين،وتقول :
    - يا سلمى،إن هؤلاء الرجال في نهاية البؤس،أو لست قادرة على منحهم شيئا من المواساة؟
    وتود سلمى لو أجابت بكلا،وأنها لا ترغب بعد الآن في رؤيتهم،وأنها تحتقرهم لتألمهم بهذه الصورة التي زال منها الخجل ... إنهم حيوانات! وفجأة ترى بأنها لم تعد تشعر لا بالشفقة ولا بالخوف،ولكن فقط بغضب هائل ضدّ هؤلاء الجرحى،وضد الجنرال – الأمير. بيد أنها تسمع نفسها تجيب :
    - بلى،أيندجيم.
    وتبدأ بتوزيع الهدايا الزهرية والزرقاء. وتجد خديجة أمام كل سرير كلمة مواساة مناسبة. أما الأقل ضعفا بين هؤلاء،فيشكرونها بابتسامة. وبعضهم يتمسك بها،كما لو أن وجود هذه السيدة الجميلة الرصينة في عالمهم المرعب،يمكن أن يدفع عنهم الموت. والبعض الآخر،يحولّون رؤوسهم عنها.
    وتتابع سلمى،وهي ممتلئة حقدا،وعيناها مثبتتان على أحذيتها البيضاء،فتشعر فجأة بأنها اختطفت : ذلك أن رجلا شدها إلى سريره وهو يدمدم القول : "نجلا،يا طفلتي الحبيبة"،وعلى وجهه سمات الضياع. فبدأت سلمى تصرخ،مرعوبة. فأسرعت أمها وأنقذتها مباشرة. ولكن بدلا من أن تبعدها عنه،أبقتها بجانبه،وأحاطتها بيدها الحامية.
    - إن هذا الجندي المسكين يظن أنك ابنته. فدعيه يتأملك،فلعل لحظته هذه هي آخر سعادة له في هذه الدنيا.
    أنا ابنته؟ فتتصلب – ترى كيف يتجرأ؟
    ومرت دقيقة،وكأنها زمن طويل. ثم إنها بصورة غير محسوسة،وأمام النظرات المفعمة حبا لهذا الأب المستعار،بدأت تشعر بذوبان عدائها،وتشاركه في البكاء رغما عنها.
    وبعد شهرين .. ){ص 56 - 62}.
    عفوا. انتهت الحلقة .. فإلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.
    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

  6. #6
    لسلام عليكم .. سُرق بريدي .. ولم أستعده إلا اليوم ...عذار للإزعاج وهذه الحلقات المنشورة من :
    حياة أميرة عثمانية في المنفى: كينيزي مراد"6"
    كان من الطبيعي،بين ضفتي نهر (ثراء طبقة) و(بؤس) بقية الشعب،أن تكون النتيجة :
    (وبعد شهرين من ذلك التاريخ {تأريخ زيارة السلطانة للمستشفى-محمود}،أذيع نبأ الهزيمة في 30/9/1918. إذ أن الإمبراطورية العثمانية كحلفائها ألمانيا والنمسا – هنغاريا- طلبت الهدنة .. وأخيرا انتهت الحرب،والشعب الذي استنفدت قواه،بدأ يتنفس.
    وسلمى الآن سعيدة : إذ لم يعد مجال لزيارة المستشفيات ولا رؤية الجرحى،ولا الموتى. (..) ألئك الذين سعدوا بالهدنة – وكانوا يقولون "السلام"بدأوا يفقدون روحهم،عندما تقدم أسطول المنتصرين،بعد ثلاث عشر يوما،وذات صباح بارد،كثير الضباب،من شهر تشرين الأول / أكتوبر /،واجتاز الدردنيل،ومضى منه إلى البسفور.
    هنالك ستون قطعة بحرية،إنكليزية و فرنسية وإيطالية وإغريقية – وكانت مشاركة هذه الأخيرة غير واردة في اتفاقات الهدنة – ولكن تركيا يومئذ أضعف من أن تحتج،لاسيما وأن البلاد فقدت حكومتها. ذلك أن الثلاثي الذي جرّها إلى الحرب،هرب في نفس اليوم الذي أعلنت فيه الهدنة. وكانت القطع البحرية،المسبوقة بطرادات،تقترب من الشاطئ في صمت مهيب. وببطء دخلت في القرن الذهبي،حيث ألقت المراسي،ووجهت مدافعها إلى قصر السلطان ومقر الباب العالي،الذي هو مقر أعضاء الحكومة.
    وكانت السلطانة واقفة وراء النوافذ تنظر إليها. وتقول في ذات نفسها "لقد سقطنا إلى الحضيض". فلأول مرة منذ أن استولى أجدادها على المدينة،أي منذ خمسمائة سنة تقريبا،تراها احتلت من جديد. وهذه الإمبراطورية التي أرعبت أوربا خلال خمسة قرون،تجد نفسها الآن تحت رحمة أوربا. وهي سعيدة أن أباها مات،وعلى أقل تقدير،لم تقع هذه النكبة في أيامه. (..) فتشاهد منظرا،جعلها مذهولة : فعلى الأرصفة،من ناحية المدينة المسيحية،كان هناك جمهور متعدد الألوان يهز أعلاما.
    وتلاحظ خديجة وجود الأعلام الفرنسية والإنكليزية،والإيطالية. ولكن أكثرها أعلام مخططة بالبياض – وهي أعلام إغريقية!
    لم تصدق ما ترى،فسوت المنظار،ثم أعادته إلى مكانه بحركة غاضبة،قائلة : الخونة. إنهم يرحبون بقدوم العدو!
    وتشعر فجأة أنها متعبة لدرجة الموت،وتتساءل،"ولكن لماذا،لماذا". إن أغاريقنا عثمانيون {في الهامش : كانوا يطلقون اسم العثماني على كل سكان الإمبراطورية،سواء كانوا أغارقة،أم البلغار،أم العرب،أم من الأتراك،أم من أية قومية أخرى. أما كلمة تركي فكان يحتفظ بها للناس الذين هم من العرق التركي-محمود}،كالآخرين! وهم مسيحيون. وليكن،ولكنهم يملكون كامل الحرية في ممارسة طقوس دينهم،وبطركهم هو أحد الشخصيات الأعظم أهمية في الإمبراطورية. وفي الواقع،فإنهم أكثر حظا من أتراك الأناضول،الذين ينهكون أنفسهم في فلاحة أرض غير معطاءة. وعندما استقلت اليونان منذ تسعين سنة،كان لهم كامل الحرية في الرحيل،فآثروا البقاء هنا،حيث تزدهر أحوالهم. أما الأرمن واليهود،فإنهم سادة التجارة والمال. وماذا يريدون أكثر؟
    والحقيقة أنها تعرف جيدا ماذا يريدون. ولكنها تأبي أن تصغي لهذه المطالب الخارجة عن الحدود. إنهم يريدون العودة ستة قرون إلى الوراء. وطرد أتراك تراقيا الشرقية،وإستانبول خاصة،لكي يعودوا إمبراطورية بيزنطة. وهم يعتمدون على المحتل لكي يساعدهم في تحقيق أحلامهم. (..) ثم إن الأحياء المسيحية في غلطة وبيرا،تزهو بحيوية جديدة. فالفنادق والحانات ملأى ببحارة وجنود يتكلمون بصوت أعلى من ذي قبل. وينقون مبالغ لم يقبضها القيمون عليها منذ زمن طويل. أما الضباط فإنهم يترددون على البارات الأنيقة،حيث تقوم لاجئات روسيات،طرتهن الثورة البلشفية،بتقديم المشروبات لهم (..) وستقر الإدارة بسرعة استعادة "حفلات الشاي الراقصة"،وسنرى العسكريين الوسيمين يراقصون الجميلات من المجتمع البيروتي،في رقصة الفالس (..) وفي الطرف المقابل،في المدينة الإسلامية،لا نجد إلا الحزن. فلا يخرج الإنسان من بيته إلا في أدنى الحدود،خوفا من أن يزعجه الجنود الذين كثيرا ما يكونون سكارى،أو على الأقل حتى لا يكون عليه في الأرصفة الضيقة أن يمحى أمام المنتصر. وإنه لإذلال جارح،بالنسبة إلى الأتراك،الذين تعودوا أن يغلبوا الآخرين من الشعوب،أن يغلبوا على يد هؤلاء (..) ولا يمكن أن نرى بلا استنكار وحقد،ذلك التعاظم الغالب،لدى الأقليات المسيحية،التي كنا نظن،حتى ذلك الحين،أننا نعيش معها في أحسن التفاهم.(..) غير أن المستقبل يبدو أكثر سوء : إذ يتحدث الناس،بقلق عن تعيين الجنرال فرانشي ديسبيري FrsnhetdEsperey. وهو المعروف بسلاطته وعنفه،لقيادة قوى الحلفاء. وتقول الإشاعات إنه يريد أن يجعل من إستانبول عاصمة فرنسية،وجعل سكانها الأتراك عبيدا. (..) وفجأة تقرع الطبول،ويبدأ عزف الأبواق. هاهو الجنرال يبدو أكثر فخامة مما كان الناس يتخيلون،بقبعته الحمراء،وقميصه الفضفاض،وهو على ظهر حصان أبيض رائع. وينفجر الجمهور تصفيقا. أما الحصان الأبيض فلم يخف على أحد : ذلك أن السلطان محمد الثاني المنتصر عام 1453،دخل إلى بيزنطة على حصان أبيض،وعلى حصان أبيض يعود جنرال مسيحي جدا،فيملك المدينة. ){ص 62 -70}.
    يبدو أن الجنرال (ديسبيري) اعتمد على ذكاء الأتراك / العثمانيين، في قراءة رمز (الحصان الأبيض)،ولكن الجنرال (غورو) لم يكن شديد الثقة في ذكائنا نحن العرب ... فركل قبر صلاح الدين وقال،مقولته المشهورة : "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
    لم يتوقف الأمر عند رمز الحصان الأبيض .. (ويأتي خصيّ بالصحف. وهي كلها تنشر،في الصفحة الأولى ذلك البيان المشترك للمندوبين السامين،الإنكليزي والفرنسي والإيطالي. وهو يقول :
    "إن رجال المنظمة المسماة وطنية،يحاولون عرقلة الإرادة الطيبة الموجودة لدى الحكومة المركزية. ولهذا فإن قوى التحالف تجد نفسها مضطرة لاحتلال القسطنطينية".
    وتفكر سلمى وتقول في نفسها: "أي هوس في الاستمرار على إعطاء اسم مسيحي لهذه المدينة،التي أصبحت منذ خمسة قرون تسمى باسم إستانبول". ){ص 112 - 113}.
    يبدو أننا،قبل أن ننتقل – أو تنتقلون – إلى الحمام التركي،في حاجة إلى أن نعرج – في سياحتنا هذه – على كتاب،ألقينا عليه نظرة في مرة سابقة – حلقة واحدة ولم نكمل السياحة – وفيه تتحدث المؤلفة عن (الشرق) الذي اخترعه الأوربيون :
    (ولكن رغم هذه الثروة الطائلة من الصور المتوفرة أمام الرسامين الأوربيين فإن ثمة ما كان يكبلهم ويجعلهم يخرجون عن الموضوع الذي يرسمونه،والقليلون هم الذين استطاعوا أن يرسموا المشاهد الشرقية كما رأوها دون أن يضيفوا عليها شيئا من عندهم. وهكذا تحولت لوحات أكثر الرسامين الاستشراقيين من واقع تراه أعينهم إلى حكاية ترويها ريَشهم،وأصبح الشرق بين أيديهم رمزا وأسطورة. لقد قدموا لأوربا ما كانت تريد أن تراه أوربا،ولهذا فإن الجادين من رسامي المناظر لم يحظوا بالشعبية السريعة التي نالها الرسامون الاستشراقيون. ومن هؤلاء كان مثلا الرحالة الذكي والمُجد (إدوارد لير Edward Lear ) الذي لم يكن في رسومه مواصفات "الشرق" المطلوب في عصره. فمائياته الدقيقة والمتأنية لم تلقَ سوى اهتمام ضئيل إذ لم يكن فيها ما يثير،فكان أن مات مغموما محروما من أي تقدير لأنه،كما كتب إلى الليدي وولدغريف عام 1868،لم يفعل سوى أنه "رسم حياته بأمانة".
    أما (ج. ف.لويس John Frederick Lewis) فقد انتهج مسلكا مغايرا لطريق (لير) واختار منذ البداية أن يرسم شرق المستشرق،ووقع تحت تأثير الكتابات الاستشراقية فنشر مجموعة من أعمال الحفر بعنوان (رسوم القسطنطينية) عام 1837،أي قبل ثلاث سنوات من زيارته الفعلية لهذه المدينة.){ص 128 – 129 (أساطير الغرب عن الشرق : لفق تسد) / رنا قباني / ترجمة : د. صبح قباني / دمشق / دار طلاس / الطبعة الثالثة 1993م}.
    ونحن إذ نعلم أن مؤلفة كتاب (حياة أميرة عثمانية في المنفى) - وهي حفيدة السلطانة خديجة – لا تنقل،كل ما كتبت، من (مذكرات)،أو(وثائق)، ولكنها .. تركت لحدسها ليسد ما لم يرد في الوثائق. وفي ظل هذه الحقيقة،من حقنا أن نتساءل عن تأثر المؤلفة – الحفيدة – بثقافتها الغربية،أو سقوطها تحت سطوتها؟!!
    في ظل هذا ننقل وصف الأستاذة (رنا قباني) لإحدى اللوحات الاستشراقية،ثم نقارن بينها وبين ما جاء في كتاب (حياة أميرة ... ).
    ولكن. قبل نقل وصف اللوحة،نلفت النظر إلى عناوين لوحات أخرى،مثل لوحة (تنفيذ الإعدام دون محاكمة)،,التي رسمها (هنري رينو Henri Regnault) سنة 1870 ،ولوحة (بدوي يقايض على جارية بسلاح)،والتي رسمها (جون فيد John Faed) سنة 1857،ولوحة (سوق الجواري)،والتي رسمها (جيوم)،وليس لها تاريخ. أما لوحة (الحمام التركي)،فهي للشهير (جان أوغست دومنيك آنغر )،وقد رسمها سنة 1863 ،واللوحة : ( تشتمل على ست وعشرين امرأة عارية يستمتعن بملذات الحمام. لقد جعل (آنغر) المرأة العازفة في مقدمة اللوحة مديرة ظهرها للناظر لا إعراضا عنه بل لتقود عينيه إلى داخل المشهد،فهي غافلة عمّن وراءها ولكن نظرها يتركز فقط على النساء اللواتي هن قبالتها في اللوحة. وكذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء فهن يبدون غير مدركات أن ثمة من ينظر إليهن فلا واحدة تتطلع نحو الخارج حيث المتفرج،إنهن في مكان حميم يحسبنه مغلقا في وجه كل من يريد أن يختلس النظر إليهن.
    ويزيد من الطابع النسوي لهذه اللوحة شكلها الدائري والتركيز على استدارة (..) والنحور والبطون فيها،كما أن استدارت اللوحة توحي إلى المشاهد بأنه يسترق النظر من خلال ثقب الباب فيدخل في روعه أنه تسلل إلى الشرق المحرم وأنه يرى عالم مسراته بدون أن يُرى.
    تبدو جميع النساء في اللوحة وكأنهن توالدن من نموذج واحد،فهن امرأة واحدة صُورت في أوضاع مختلفة. إنهن متشابكات في وضعيات غرامية (كتلميح غربي للعلاقات السحاقية الشرقية). والواقع أن المتفرج لا يرى أيّ نشاط ذي علاقة بالاستحمام : فالحمام هنا لا أكثر من مناسبة للتعري والمغازلة. واللوحة لا تخرج عن كونها خليطا من الأفكار المكررة والمبتذلة حول شهوانية الشرقية. فالمداعبة بين النساء والعطور،والموسيقى،كلها تمد المرء بإمكانيات لا حد لها من الإمتاع،إلا أن ذلك ينحدر إلى درجة الإسفاف المضحك فتكديس الأجساد في مثل هذه الكتلة الضخمة إنما يزعج أكثر مما يبهج.){ص 131 – 132 (أساطير الغرب عن الشرق ..}.
    نعود إلى السلطانة خديجة .. (وردا على الاستياء العام،فإن السلطانة خديجة فكرت بتنظيم واحدة من "هذه الدعوات إلى الحمام"(..) ولم تضع لذلك شرطا إلا شرطا واحدا : فليس على مدعوة أن تتحدث عن هذه الأحداث – ذلك أننا لن نصل مع ذلك إلى حد السماح للمحتل بأن يفسد كل شيء. وفي مثل هذه الأحوال البائسة تصبح التسلية نوعا من التحدي أو شبه الواجب الوطني تقريبا.(..) .. تستقبل المدعوات في البهو الكبير،من قبل كل العناصر النسوية في القصر،أي من حوالي الثلاثين"كالفا"الكبيرات أو الصغيرات،اللواتي عليهن أن يحيين المدعوات بوابل من الورود. وبعد أن يساعدن على خلع الشرف (الملاءة)،يأخذن بأيديهن إلى الأبهاء الصغيرة،المزينة بالمرايا والأزهار،المجاورة للحمام. وتتولى إحدى العبدات أن تجدل شعورهن بأشرطة ذهبية أو فضية طويلة،وتعيد هذه الجدائل بشباك إلى أعلى رؤوسهن،ثم تلفهن بمنشفة حمام كبيرة مطرزة تطريزا ناعما،وتضع في أقدامهن خفافا مطعمة بالصدف.(..) وتتجه المدعوات عندئذ إلى القاعات الساخنة،وكل واحدة منهن تحيط بها عبدتان مكلفتان بتحميمها،وتمسيدها،ونزع ما على جسمها من شعر،وتعطيرها من الرأس حتى القدمين. (..) وهناك حيث يكن متمددات بلذة عنيفة،يتذوقن شراب البنفسج أو الورد،التي تقدمها كالفات صامتات،ويكون هناك وراء بعض الستائر أوركسترا تقدم موسيقى ناعمة،خفيفة. (..) يقوم بين هؤلاء النسوة المستسلمات لأجسامهن،الحريصات على راحتها نوع من التواطؤ السعيد،المؤلف في آن واحد،من الميل (..) ومن الفرح الطفولي. فتراهن يعجبن ببعضهن(؟؟) وتأخذ كل منهن الأخرى من الخصر.){ص 73 -75}.
    لا تكتمل الصورة إلا بالعودة إلى كتاب الأستاذ (رنا).
    كلنا نعرف كيف هو (الشذوذ) – الآن - في الغرب،رغم انفتاحه،وخلوه من الكبت ... لننظر كيف كانوا ينظرون إلينا،وكيف كانوا ينظرون إلى أنفسهم.
    (وقد شهدت إحدى المحاكم الاسكتلندية في القرن التاسع عشر دعوى قضائية أقامتها تلميذة اسمها الآنسة (كامنغ) ضد معلمتين في مدرستها بتهمة السحاق. إلا أن القضاة "أثبتوا"براءة المعلمتين بحجة أنهما غير قادرتين على ارتكاب خطيئة "لا وجود لها في بريطانيا. وبعد أن أسقطوا الدعوى راحوا يكيلون الإهانات للآنسة (كامنغ) – وهي نصف هندية – لأنها وجهت أساسا هذا الاتهام :
    "رأى القضاة أنه نظرا لكون الآنسة (كامنغ) قد نشأت في الشرق الفاسق،فلا يمكنها أن تدرك مدى الاشمئزاز الذي تخلفه مثل هذه التهمة في بريطانيا. "وقد أشار القاضي (لورد كيدوبانك) إلى أنه كان شخصيا في الهند ويستطيع أن يقول إنّ الآنسة (كامنغ) قد نما لديها حب الاستطلاع حيال الأمور الجنسية عن طريق مربياتها الهنديات الداعرات اللواتي بإمكانهن،خلافا للنساء البريطانيات،التحدث بمثل هذه القذارات.){ص 89 – 90 (أساطير الغرب عن الشرق ..}.
    انتهت الحلقة .. ولم يبق غير بعض الشهادات الغربية،قيلت في حق كتاب الأستاذة (رنا).
    تقول ديبورا ميسن ،في جريدة (نيويورك تايمز ) :
    (لقد بينت رنا قباني أن محصلة كتابات الرحالين الاستشراقيين كانت تأكيد التحامل الغربي وتخليد الصورة التي لفقتها أوربا عن الشرق).
    ويقول بيتر كونراد،في جريدة (الأوبزرفر) :
    (إن رنا قباني،المولودة في دمشق،أخذت على عاتقها إنقاذ الشرق العربي الإسلامي مما لحق بهما من ازدراء غربي على مدى قرون عديدة،ولاشك أنها في غضبتها العارمة،التي تغلي في كل سطر من سطور كتابها،كانت على حق تماما).
    وتقول إنيجلا كارتر،في جريدة (الغارديان) :
    (إن رنا قباني استطاعت،كامرأة عربية ذات حجة قوية،أن تسقط الأقنعة عن وجوه الكتاب الغربيين الاستشراقيين الذين كانوا في نظر مواطنيهم أنصاف آلهة).
    يبدو أن قدر هذه الكاتبة أن تكشف (أقنعة الغرب)،قديما وحديثا!! فقد كشفت في ..(مقدمة كتابها الصادر بالإنكليزية "الروايات الإمبريالية" عن اعتداءات وقعت عليها عند التحاقها بأول دفعة فتيات في جامعة كامبريدج التي كانت مغلقة أمام النساء حتى عام 1980. وذكرت أنها تعرضت إلى موقف في هذه الجامعة التي تعتبر أرقى مؤسسة أكاديمية غربية تبين حجم النفاق الغربي في اتهام العرب باحتقار المرأة،وذكرت كيف عرض عليها المشرف على أطروحتها للدكتوراه أن تكون عشيقته وأوصى بطردها من الجامعة عندما رفضت ذلك.){جريدة الحياة العدد 12079 في 2/11/1416هـ = 21/3/1996م}.
    إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.

    حياة أميرة عثمانية في المنفى : كينيزي مراد"7"
    يبدو أننا سنظل في جو (الحمام التركي)،ولكن هذه المرة،من أجل حديث السيدات عن (الغرب)،وسلوكه الذي كان يتسلل إلى (تركيا)،تلك التي كانت لا تزال معظم نسائها يحتفظن بـ(الحجاب)،بينما تتسلل القيم الغربية،خصوصا عبر(السفارات الأجنبية) ..
    (وتتحدث امرأة شابة عن زوجها،وهو موظف كبير في وزارة الخارجية. فهو رجل حديث يأخذها معه إلى كل الاستقبالات الرسمية. وتروي أنها رافقته،ذات ليلة،إلى عشاء دعت إليه السفارة السويسرية،وهي إحدى السفارات القليلة،التي ظلت على الحياد.
    - فلم يكن هناك إلا أوربيات،أنيقات جدا،ولكن بلباس يكشف الصدور والظهور كشفا خجلت منه عنهن،والأدعى إلى الاستغراب،هو أنه ما من واحد من الرجال الحاضرين أعار ذلك انتباها. فهم يمشون بين هؤلاء النساء المعروضات بهذه الصورة دون أن يبدو عليهم أي اهتمام.
    - ولكن هذا معروف،فالغربيون لا يملكون رغبات قوية،على ما تقول السيدة المجاورة لها،التي تبدي مظهر الخبير العليم،ولهذا فإن نساءهن يستطعن التنزه وهن نصف عاريات.
    فيضحك الجميع.
    - ما شاء الله – والحمد لله – إنه لا يمكن أن نقول مثل هذا عن رجالنا. فهم لا يستطيعون أن يلمحوا ساعدا،أو كعب قدم،من غير أن يُجَنّوا به!
    وتتنهد امرأة سمراء جميلة،وتقول :
    - كم يجب أن تكون هؤلاء الأوربيات بائسات. فلو كنت مكانهن لمت من الأسى.
    - ولكنهن لا يعين ذلك .. فهن يحسبن بأنهن حرات،ويقلن إن رجالهن متسامحون،على حين أنهم غير مبالين.
    وتشير سيدة نحيلة قصيرة،ممن يدعين أنهن من المثقفات إلى أن :
    - هذا ربما ينشأ عن دينهم. فالنبي عيسى {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -محمود}– الذي يعتبرونه كإله،ذلك أنهم يؤمون بعدة آلهة،أو لنقل بثلاثة : هم الآب والابن والروح القدس- هذا النبي {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - محمود} كان يبتعد عن النساء،ولم يتزوج قط. وأهم الفرق المسيحية،أي الفرقة الكاثوليكية،تعتبر أن الطهارة الجنسية هي أعلى صور الكمال. ولهذا فإن رهبانهم يبقون عزابا،وكذلك بعض فتياتهم اللواتي يسمونهن راهبات.
    وأمام هذه الكلمة يصرخن جميعا : عازبات؟ كما لو أنهن لا يصدقن. إذ أن العزوبة بالنسبة إليهن هي اللعنة. أوليس أول واجب من واجبات المرأة أن تنجب،أوَلم يكن للنبي {صلى الله عليه وسلم-محمود} نفسه تسع زوجات؟ إن هؤلاء المسلمات لا يرين أن الجنس شيء يتصل بفكرة الخطيئة،بل العكس تماما.){ص 75 - 76}.
    ويمتد الحديث عن المسيحية،ليصل إلى (أكل لحم المسيح) {عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-محمود }/وهل ذلك من باب (الرمز) أم أنهم يعتبرون ذلك حقيقة :
    ( - ربما كان هذا مجرد رمز.
    - هذا ما كنت احسبه. ولكن لا. إنهم يقسمون أن إلههم كائن في هذا الخبز،لحما ودما،فيعروهن من ذلك رجفة.
    - ويجرؤون على القول إننا متعصبون!
    وتخلص المثقفة إلى القول،بصورة الجزم القاطع.
    إن القضية هي دوما على هذه الصورة. فالأقوياء لا يفرضون قوانينهم علينا،بل يفرضون كذلك أفكارهم.
    وكان شيئا من الحزن يرين الآن على الحضور. فكيف حدث أن وصلن للحديث في السياسة؟ وهذا على الرغم من أن الجميع تعاهدن على تجنب كل موضوع مزعج.
    وكانت هذه اللحظة هي التي اختارتها إحدى الأميرات لكي تقول،بلهجة غريبة :
    - هل تعرفن آخر خبر؟
    فاتجهت جميع الأنظار إليها،وقلن :
    - قوليه بسرعة،لا ترهقينا بالانتظار.
    - حسنا،هاكن : إن روز دور ... الوردة الذهبية.
    ولمعت عيون المدعوات من جديد : فماذا عساه أن يكون روز دور قد فعل؟
    - إن روز دور قد طلب يد صبيحة السلطانة.
    فتكاثرت علائم الاستغراب (..) أفتتزوج الجميلة صبيحة،الابنة المفضلة للسلطان وحيد الدين،اللواء الشاب،بطل غاليبولي،الذي أنقذ،في أشد ساعات الحرب،إستانبول من يد البريطانيين،الذين كانوا يهاجمون الدردنيل! ولكن الجميع يعتبرون أن روز دور هو وجه أسطوري. ذلك أنه تحدى رأي رؤسائه،وتحدى جيشا أوربيا أكثر عددا،وأفضل عدة. فلقد استطاع،بجرأته،وثقته المطلقة بنفسه وبرجاله،أن يتغلب على وضع أجمع الخبراء كلهم – في إستانبول وفي الجبهة – على أنه ميئوس منه. وقد جعل منه هذا النصر،الذي يعود إلى عبقريته العسكرية،مشهورا،لاسيما وأنه بعد عدة أشهر،عندما واجه الجيش الروسي،استعاد مدينة بيتليس وموش،فحقق بذلك النجاحات التركية الوحيدة،بين مجموعة الهزائم. (..) وعندما عاد إلى إستانبول منذ نهاية الحرب،صار يرى في البلاط. ويحب السلطان أن يستشيره حول الوضع المعنوي للجيش،وأن يستمع إلى آرائه المتميزة عن الآخرين. (..) وعندما يأتي إلى القصر،كانت الأميرات المختبئات وراء المشربيات (الشمعدانات)،ينظرن إلى الضابط الوسيم الذي يمر،وعليه أكاليل المجد،ولقد حلمت أكثر من واحدة منهن أن تصبح امرأته،بل إن سلطانة صبية تجرأت فكتبت إليه رسائل بريئة غرامية،وكانت توصلها إليه بواسطة أحد العبيد. لكن هذا القاسي القلب لم يتنازل مرة ليجيب،فأوقعها ذلك في المرض،من شدة الحزن. أتراه كان يظهر بمظهر اللامبالي،لأنه كان يطمع ببنت السلطان،وهو من أصل متواضع؟ ولكن هذا غير مهم. ففي تركيا ليس هناك أرستقراطية،خارج الأسرة المالكة. وفي وسع الإنسان أن يصل إلى أعلى المراتب،اعتمادا على مزاياه وحدها. (..) – ولكن أخيرا،ماذا قال السلطان للباشا،تماما؟
    - لقد قال : إن ابنته ما تزال صغيرة،وإنه سيفكر.
    - أصغيرة،صبيحة السلطانة؟ولكن عمرها لا يقل عن عشرين سنة!
    وعندئذ خفضت الأميرة صوتها،ودمدمت تقول :
    - يبدو أن السلطان يتردد. ولاشك أن الباشا هو أفضل لواء في جيشنا،ولكنه شديد العنف،ويكثر من الشراب. ثم إنهم يقولون،إن له آراء تميل به إلى الحكم الجمهوري.
    واعترت المجموعة رجفة المذعور.
    - أو هو جمهوري،هذا الروز دور؟ إن هذا مستحيل! وعندئذ لم تعد الأميرة تحتمل ،فالتفتت إلى جارتها،لتقول:
    عفوا سيدتي،ولكن من هو هذا الروز دور؟
    كيف يا سلطانة،ألا تعرفين! قالت ذلك مندهشة. ولكنه هو اللواء مصطفى كمال!){ص77 -79}
    كأن التأريخ يعيد نفسه،في صورة الانبهار بالغرب – بصحافته في حالتنا هذه – كما صوره الحديث عن (المنع) وأثره .. ( .. "الجيش اليوناني يحتل إزمير،وبعد بعض المعارك الدامية،عاد الهدوء".
    وتنهد خيري رؤوف بك،واسترخى جسمه على المقعد الأكاجو،ليقول :
    - لئن كانت الصحافة الأجنبية هي التي تكتب ذلك،فيجب أن يكون صحيحا.
    وكمثل الكثيرين من أبناء جيله،ومحيطه،كان الداماد شديد الإعجاب بأوربا،وليس لديه إلا الازدراء،لما يسميه"بالتركيات"،,لاسيما صحافة بلده،بل إنه لا يقرؤها،ويكلف من يرسل إليه كل يوم نصف دزينة من الصحف الفرنسية والإنكليزية. إن هذا هو وجهة نظر العدو.فليكن،ولكنه في رأيه أكثر موضوعية من وجهة نظر الصحف المحلية،الخاضعة للرقابة. وينسى أن هذه غير مفروضة إلا من قبل المحتلين،هؤلاء الأوربيين الذين ما أكثر ما يعجب بهم. وعنده أن هذه تفاصيل،ذلك أن الإعلام،في تركيا،كان دوما،على كل حال،تحت المراقبة،(..) أما أن الصحافة في البلاد"الحرة"خاضعة لرقابة في مثل الصرامة،ولكن برهافة أكبر – من حيث أن الحكومات قد فهمت أن المنع أو البطش،لم يكونا خطرين فقط،بل بلا جدوى – فإنه لا يريد أن يفهم ذلك. ويعتبر أنهم نمامون،أولئك الذين يقولون : إن الديمقراطية قد أصبحت سيدة من يحسن التلاعب بالأخبار وتزوريها.ففي أوربا،على ما ترى هذه العقول الفاسدة،لا تسجن السلطة مديري الصحف،بل يدعونهم إلى العشاء،ويصارحون "بالمشكلات الحقيقية"على أفضل وجه. وعندما "يدللونهم"بهذه الصورة،فإنهم يصلون في أكثر الأحيان إلى استبقائهم في نوع من الحياد المحابي.
    لكن هذه الملاحظة تستفز خيري بك. وعلى فرض أنه صدقها،فإن هذا لا يغير شيئا من قناعته بأن سلام تركيا،إنما يمر من باب"تغريبها". وكثيرا ما يقول : "يجب أن نأخذ من أوربا ورودها،ولتذهب الأشواك غير مأسوف عليها". ){ص 81 - 82}.
    ختام هذه الحلقة سوف يكون ... بعد اختيار سلمى لعقد من الزمرد،من بين الكثير،والكثير من المجوهرات،وعندها :
    (يقدم "الجواهري"مباركته ببعض الكلمات.ويمسك بالعلبتين،ويدخلهما في حقيبة من الجلد القاتم. ثم قدم تحياته،وودع الأميرة،مستأذنا بالانصراف.
    وتنظر إليه سلمى وهو يخرج،فلا تصدق عينيها.
    - أيندجيم،لِمَ حمل مجوهراتك،وأين هي التي اشتريتها اليوم؟
    والحقيقة أن زيارات مميجان أغا،التي تباعدت في الأيام الأخيرة،كانت دوما مناسبة لمشتريات عظيمة.
    - يا سلمى،إني لم أشتر ... بل إني بعت المجوهرات التي أشرتِ إليها.. أترين؟ فالحرب ثم الاحتلال،جعلا الأشياء غالية جدا. ولدينا هنا ستون أمة يجب الإنفاق عليهن. وحقا فأنا أستطيع أن أتخلص من نصفهم عددا. ولكن إلى أين يذهبن؟ وكثيرات هن اللواتي يقمن عندي منذ الطفولة. أما الأخريات فقد كبرن لدى أبي. وكن دوما وفيات لنا. ولا يطاوعني قلبي في الاستغناء عنهن. ولهذا فأنا أبيع مجوهراتي. وعلى كل حال،فإن لديّ الكثير الكثير منها!
    - ولكن إذن،يا أيندجيم،نحن فقراء.
    وشعرت سلمى بأنها مسحوقة. إذ لقد رأت في الطريق أطفالا،شاحبي اللون،كانوا يبيعون شرائط الأحذية،وخيطانا ودبابيس،موضوعة في علبة من الكرتون،مربوطة بأعناقهم. وقالت لها الآنسة روز{مربيتها-محمود} إن هؤلاء "فقراء صغار". فأعطتهم بعض قطع النقود وابتعدت عنهم بسرعة،خجلا من نظراتهم الطامعة والحزينة،التي كانوا ينظرون بها إلى ثوبها الجميل،وخُصل شعرها المعتنى بها. وقد آلت على نفسها أنها لن تكون أبدا،أبدا فقيرة. وبعد قليل،اطمأنت وهي تفكر أن الإنسان يولد إما غنيا،وإما فقيرا،كما يولد أبيض أو أسود. وأن العالم مقسم على هذه الصورة،وأنها،لحسن الحظ،في الطرف الأفضل.
    أما الآن،فإن حديث أمها يغرقها في مهاو من المخاوف : فعندما تزول المجوهرات،أيكون عليها عندئذ أن تذهب لتبيع الدبابيس في الطرقات؟
    وتطمئنها أمها قائلة :
    ولكن لا،أيتها الحمقاء الصغيرة،فنحن لسنا فقراء. وبالمقابل فإن حولنا عددا يتزايد من هؤلاء. ولهذا قررت منذ الغد أن أصنع "فقرا مين تسور باسو"أي حساء للفقراء.){ص 103 - 104}.
    إلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله.






    أقول لصاحبي والعيس تهوي *** بنا بين المنيفة فالضمار
    تمتع من شميم عرار نجد *** فما بعد العشية من عرار
    الصمة بن عبد الله القشيري


    حياة أميرة عثمانية في المنفى"8"
    في هذه الحلقة سنأخذ جزء من حلم "سلمى"المشترك مع المثقفة خالدة أديب :
    (وخالدة أديب؟ إن سلمى تعود فترى المرأة ذات الثوب الأسود،التي كانت تخطب في الجماهير،مساء الاستيلاء على إزمير. وعندها أن خالدة هذه تجسد فكرة الحرية. ستعمل إذن في حقل المرأة،وستلغي هذه الملاءات البغيضة،وهذه المشربيات الخانقة،وتُفتح نوافذ العربات،وأبواب الحريم. وستساعدها سلمى. وهما معا،ستؤسسان عالما جديدا،لا يضيق به صدر الإنسان أبدا.ويكون بوسع النساء أن تصبح ملوكا وسلاطين،كما هي الحال في إنكلترا.){ص 145}.
    لكن حلم سلمى لم يحالفه الحظ سريعا .. (في هذا اليوم،كان مزاج سلمى سيئا. فقد احتفلت البارحة بعيد ميلادها الثاني عشر،أي في أبأس يوم من أيام حياتها.
    ذلك أنها وجدت بين الهدايا العديدة التي قُدمت لها،علبة كبيرة كتلك التي تتلقى فيها أمها،أثوابها من باريس. ورفعت الغطاء،كالمحمومة،مغلقة عينها،ثم فتحتهما ... لتجد شرشفا من الحرير،فيروزي اللون،ومعه وشاح من الموسلين.
    فانقبضت حنجرتها،وفاضت عيناها بالدموع. فأدارت ظهرها لما وجدته،وعلى الرغم من إلحاح الكالفات اللواتي يهنئنها بالصعود إلى مرتبة امرأة،فإنها رفضت،بكل حسم،أن تجرب هذا السجن المتنقل.
    وإنها الآن لعاتبة على والدتها،أنها خضعت للأعراف،لاسيما وأن استخدام الشرشف كان في طريقه إلى الزوال،إن لم يكن في المدن الصغيرة،ففي العاصمة على الأقل. وكانت الأنيقات من الفتيات والنساء قد حَوّلن هذا الثوب الفضفاض إلى ثوب من قطعتين متلائمتين فيما بينهما،ثم دفعن الحجاب بأناقة إلى طرف الرأس،ولم يعد إلا زينة لها أطيب الآثار.){ص 167}.
    يبدو أن (الحجاب) لم يكن هو الوحيد الذي في طريقه إلى الانحسار،فبعد انتصار (الكمالية)،يصل (زينل) إلى قصر السلطانة خديجة،,فتسأله سلمى:
    (- يا آغا،ماذا يجري؟
    غير أنه لم يسمع. فبدأت بدورها تعدو وراءه،وتصل لاهثة،إلى عتبة البهو الصغير في الحين الذي كان فيه زينل،المترنح ينحني في تحيته الثالثة :
    - أيتها السلطانة المحترمة جدا.
    وتراه يلهث ويدير عينين يائستين.
    - أيتها الأميرة المحترمة جدا ...
    ويفتح فاه،ولكن الأصوات تنحبس في حلقه،وفجأة تراه ينفجر شاهقا من البكاء.
    فتشير السلطانة بأن يؤتى له بمقعد،ويرطب وجهه بالماء (..) واستطاع الخصي،بعد بضع دقائق أن يستعيد هدوءه, فوقف وصالب كفيه على البطن،وخفض بصره،وتمتم،وكل أعضائه ما تزال ترتجف،قائلا :
    - إن جلالته ... قد .. هرب!
    فانتصبت السلطانة واقفة،وقالت له :
    - أيها الكذاب! كيف تجرؤ؟
    ولم تستطع أن تكمل جملتها،إذ أنها هي الأخرى يتملكها الإحساس بالاختناق. وحتى الإماء،والكالفات،المندهشات،لا يفكرن في تقديم المساعدة إليها. وجاء صوت صاف يفسد الصمت :
    - قل ما عندك،يا آغا،أرجوك.
    وكانت سلمى،الجريئة وحدها بين كل هؤلاء النساء،الموشكة على السقوط على الأرض،تريد أن تعرف. فيقول:
    - إن جلالة السلطان،قد ترك إستانبول هذا الصباح،برفقة ابنه،الأمير إيرطو غرول،وتسعة عناصر من حاشيته. فقد ركبوا البحر على متن بارجة بريطانية اسمها "مالايا".
    (..) وتتساءل سلمى وتقول : كم هو مخجل! ترى كيف استطاع أن يفعل بنا هذا؟ وإذن فقد كان الطباخون على حق،عندما كانوا يقولون إن السلطان بدأ يخاف. وعندما كنت أنقل أحاديثهم إلى أيندجيم،انزعجت وغضبت وقالت إن الطباخين لا يمكن أن يفهموا إلا سلوك الطباخين،وليس سلوك السلطان. بيد أنهم هم الذين كانوا على حق,ولقد سلك السلطان سلوك الطباخين،وبدأت تدور في غرفتها،راكلة قطع الأثاث الناعمة من الغضب. (..) وفجأة ساد الصمت،وسلمى تلاحظ،بعد أن فتحت عينيها،نسيم آغا،الخصي الأسود المفضل لدى السلطان وحيد الدين،الذي كان يدخل عليها. ترى لماذا لم يسافر مع سيده فانتصبت السلطانة،وفي نفسها بصيص من الأمل في النظرات.
    - تبارك الله الذي أرسلك،يا آغا!
    قالت هذا وهي ترجو الآغا أن يجلس،بغية أن تظهر للخادم الوفي،اعترافها بجميله. لكنه يحرص على أن يبقى واقفا : ففي أيام الشقاء بالضبط،وعندما تكون الأسرة المالكة هدفا للاحتقار والنميمة،يحرص هو أن يبرهن على احترام أكبر. (..) ويقص الخصي،ودموعه تغرغر في عينيه،ما يلي :
    إن السيد ناداني في مساء اليوم السابق لسفره،وأسر إليّ بسره الكبير،وأمرني بأن أهيئ له بعض الحقائب. وتجرأت ونظرت إليه،ورأيت أن عينيه كانتا حمراوين. فقال لي : "كن مقتصدا،وخذ قليلا من الأشياء"فأخذت سبع"بدلات" فقط. وكذلك،على ما أمرني به،ذلك اللباس الرسمي الفخم الذي لبسه يوم تتويجه. وكان قد طلب إلى عمر ياور باشا،أن يقوم بحساب المال الذي يملكه،وقال لي وهو يضحك،وكما لو أنه يبكي : "ستأتي إلينا خلال بضعة أيام. ولكن كن مستعدا،يا نسيمي،للكثير من العذاب،وذلك لأن الله يشهد أنه ليس لديّ الكفاية من الموارد لأعول بها أسرتي. ولكن على أنه ما من إنسان سيعرف ذلك،إذ أن الشعب يقيس شرفنا بمقياس أموالنا". (..) ويتابع الخصي كلامه،فيقول :
    إنك تتذكرين،إفنديميز،تلك المحبرة الذهبية،وحامل السجائر المطعم بالياقوت،اللذين اعتاد الباديشاه استعمالهما؟ ففي اليوم السابق لسفره،أمر ياور باشا أن يردهما إلى الخزانة،وأن يأتيه بالوصل. ودهش لذلك زكي بك والكولونيل ريشارد ماكسويل،اللذان كانا هناك،وأشارا على جلالته أن يأخذ معه بعض الأشياء الثمينة،لكي يستطيع أن يعيش في الخارج. فرأيت سيدّنا يشحب لونه،وردّ على الكولونيل بلهجة شديدة البرودة : "إن ما معي يكفيني أما الأشياء الموجودة في القصر فإنها ملك الدولة!"ثم التفت إلى زكي بك،وترك لغضبه أن ينفجر،وقال : "من الذي رخص لك أن تكلمني بهذه الصورة؟ أتريد أن تلوث شرف الأسرة العثمانية؟ اعرف إذن أنه لم يوجد في أسرتنا من هو سارق. فامض الآن في سبيلك!"ولم يكن يملك يوم سفره إلا 35 ألف جنيه إسترليني،ورقا"){في الهامش : مذكرات نسيم آغا}.
    - هذا صحيح تماما. وفي وسعي أن أؤكده.
    والتفت الحاضرون جميعا. ذلك أنه ظهر في العتبة الجنرال عثمان فؤاد،مصحوبا برجل طويل القامة،في ثياب الضباط. وهذا الأخير هو الذي تدخل وقال هذا،بصورة قليلة الاحتفال بالبروتوكول. فذهلت الكالفات. وصرن ينظر بعضهن إلى بعض : ترى هل يجب أن ينسحبن؟ لكن الفضول كان أقوى من المواضعات الاجتماعية. فاكتفين برد الأغطية على وجوههن. وبحركة آلية،بحثت السلطانة،في الديوان عن قطعة الموسلين لكي تحجب عن ناظر الأجنبي شعرها الغزير. وعندما لم تجد ذلك،هزت كتفيها بصورة غير ملحوظة! ما أهمية ذلك! فالأحداث أخطر من أن تصر على الشكليات. (..) أما الضابط،فقد بدا متضايقا. وقال :
    - على الرغم من أني ضابط في الجيش الوطني – وحك حنجرته – ولا أتنكر لأي شيء في المعركة التي خضناها،فقد كنت أريد أن أقول لك،يا سلطانة،أننا كثيرون {هكذا-محمود}ألئك الذين يأسفون على إلغاء الملكية. ومنذ زمن طويل،كنا نشك في نيات كمال باشا. ولكن كان علينا أن نختار إما البلد،وإما الملكية. وكان ذلك صعبا. ذلك أننا كضباط عثمانيين،كنا أقسمنا يمين الولاء للسلطان. واستقال البعض منا. وأنا على الرغم من الصلاة التي تشدني إلى أسرتكم،فقد قررت البقاء. فتركيا بحاجة إلى كل جنودها.
    ويشعر الإنسان أن العقيد (كريم) قد حضر خطابه بعناية،ولكنه ليس مع ذلك مرتاحا. وكان الصمت،في البهو الصغير،يزداد كثافة. وكانت الكالفات يحبسن أنفاسهن،في حين أن السلطانة تعبث بخاتمها. وفجأة،ترفع رأسها،لتقول :
    أعتقد،يا سيادة العقيد،أنك لم تأت لتحدثني عن حالاتك النفسية.
    فترتعد سلمى. إذ ما من مرة رأت أمها بمثل هذه الشدة في الوخز،تجاه إنسان ثانوي. ولكن ربما كانت لا ترى الآن أن العقيد رجل ثانوي،بل كممثل للسلطة الجديدة. وربما كانت هذه الصفة هي التي تسحقها باحتقارها.
    فاحمر وجه العقيد،وحسبت سلمى أنه على وشك النهوض للرحيل. وأجاب العقيد بقوله :
    الحقيقة،يا سيدتي السلطانة،أن ذكرى طيبك الماضي،هو الذي دفعني إلى المجيء.{سبق للسلطانة أن خبأته في قصرها،أيام مقاومة الاحتلال،ووقفت في وجه الجنود الذي يبحثون عنه،وأشهرت مسدسها. وقالت أن عليهم أن يحضروا ورقة من السلطان نفسه،لتسمح لهم بتفتيش قصرها،فأحاطوا بالقصر،وتم تهريب العقيد في ملاءة امرأة-محمود}.
    وألاحظ الآن أني قد أخطأت،وأن بعض الأشياء،للأسف،لا يمكن أن تنسجم فيما بينها.
    فعضت السلطانة خديجة شفتيها. ذلك أن الجرح مال بها عن العدالة. ولكن الآن،وقد حدث الأذى وتم،فإنها لن تمضي إلى حد الاعتذار! واكتفت بالقول :
    - إنني أصغي إليك.
    وعلى الرغم من أنها أرادت،بهذه الكلمات،أن تلطف الجو،فإن هذه قرعت الأسماع كأمر ملكي.
    ولما كان الأمير فؤاد ديبلوماسيا،فقد تناول هو الكلام،قائلا :
    هيا،يا صديقي،فنحن نتحرق شوقا إلى حديثك. (..) أستطيع أن أؤكد لك بأن أنقرة هي التي دفعت بالسلطان إلى الهرب. (..) وتدخلت السلطانة وعيناها تبرقان : إن مصلحة أنقرة واضحة،ولكن مهما كانت الضغوط،فإنه لم يكن للباديشاه أن يهرب. ){ص 179 - 187}.
    وصل مسلسل إلغاء الخلافة ذروته :
    (وفي يوم 27/2/1924،وُجهت الضربة الأخيرة فأدانت المجموعة الكمالية ما يحاك من مؤامرات من أنصار العهد القديم،وقضت بإلغاء الخلافة. وفي اليوم الثالث من أيار،وبعد أسبوع من الاحتجاجات والمشادات،انتهى البرلمان بالخنوع. وصوت برفع اليد لا على طرد الخليفة عبد المجيد فورا،بل على طرد أفراد الأسرة العثمانية جميعا.
    وكان علينا جميعا أن نرحل في غضون ثلاثة أيام. (..) وكانت المراهقة،بعينيها، تسأل أمها،ولكن أمها أخفت وجهها بيديها،وبصعوبة ما استطاعت سلمى أن تسمعها تقول :
    - المنفى؟ .. هذا غير ممكن ..
    أما الجنرال الأمير فكان في البهو الصغير المزين بأزهار النرجس،يدور كالأسد المستعد للانقضاض.
    - لقد جُردنا من جنسيتنا،ومُنعنا من أن تطأ أقدامنا أرض الوطن مرة ثانية. وأموالنا مصادرة. وكل ما هو من حقنا الآن،هو أن نحمل معنا حاجاتنا الشخصية. آه! كدت أنسى شيئا،فقد قررت الحكومة الكريمة منح كل منا ألف ليرة ذهبية،بحيث نستطيع العيش بضعة أشهر! هاك،يا عمتي العزيزة جلية الموقف. فنحن مطرودون كمجريمن! ولاسيما أولئك الذين من بيننا وهبوا دمهم لتركيا.
    قال هذا يضع يده على صدره المزدان بالأوسمة التي نالها في ساحة القتال. (..) ويقول الجنرال الأمير :
    سلطانة تذكري أنه ليس لدينا إلا ثلاثة أيام. (..) هنالك ضباب .. وسلمى لا تذكر إلا ضبابا من الأنين،والجنود،والدموع،والصغائر،والإخلاص،والوفاء اللا منتظر،والخيانات أيضا ..
    وخلال ثلاثة أيام، تاهت البُنية،ورُدّت على أعقابها من غرفة إلى أخرى من قبل الخادمات والخصيان الذين ينتزعون الثياب المعلقة من أماكنها،ويطوونها،ويضعونها في الحقائب (..) ومع ذلك فإن بعض الصور من داخل هذا الضباب تطفو على السطح،كجزيرات صغيرة من الألوان : مثل صورة الخياطات المنحنيات على أرواب أمها،واللواتي يخفين في تضاعيفها بعض الحلي : ويقلن إن للسلطانة الحق في حملها معها،ولكن لا يعرف أحد،ما إذا كان أحد رجال الجمارك يُبرز الكثير من قوة الوجدان! بل يبدو

  7. #7


    حياة أميرة عثمانية في المنفى"9"
    أهلا بكم في بيروت ... ومع القسم الثاني .. هذا القسم يبدأ بداية غريبة ... يبدأ هكذا :
    (في وسعها أن تصفعني بقدر ما تستطيع،فلن أخفض عيني. وتكفي شكوى واحدة،وتكون قد انتقمت،ولن يكون بها حاجة إلى الضرب،وقد تعفو. إنني لن أقدم لها هذه الفرصة. فذلك معناه أنها على حق.
    وفي ساحة اللعب،وحول المرأة التي تلبس الثياب السوداء،وحول الفتاة ذات الخُصل الحمراء،كانت الطالبات يزدحمن،صامتات. وهذا الذي بدا كأنه وليمة – يكاد ينتهي إلى مأساة – وأخيرا سنرى هذه الوقحة تبكي. والأم أشيليه تضرب بعنف – إنها على وشك أن تقصم ظهرها ... فلماذا لا تصرخ وتبكي هذه الحمقاء؟ أولا تعلم أن عليها أن تصرخ قبل أن تشعر بالألم. فالراهبات ذوات قلوب رقيقة،ولا يحتملن سماع الصراخ.
    وتوقفت الراهبة،متعبة. وترفع سلمى ذقنها،وتكسو وجهها بسيماء الاحتقار – كما لو أنها ضحية أمام معذّبها.
    - ستكتبين لي الدرس مئة مرة!
    - كلا.
    فعمّت الدهشة الطالبات : إنها قوية،هذه التركية الصغيرة. واصفرت الأم أشيليه،وقالت :
    - إنكِ الشيطان! وسنرى ماذا تقول عن سلوكك الأم المديرة.
    وانطلقت بما تلبس من تنانير وأكمام،وأدارت ظهرها،واتجهت إلى مكتب الراهبة العليا.
    واقتربت مراهقة سمراء من سلمى بخجل. إنها أمل،بنت أسرة درزية كبيرة،من هؤلاء الإقطاعيين الذين سيطروا على الجبل اللبناني قرونا وقرونا. وقالت لها،قلقة :
    - ستُطردين إذن. فماذا ستقول أمك.
    - ستهنئني.
    - ؟؟؟
    - إن أمي لا تقبل أن تهان أسرتنا. وهذه التي يقال إنها مدرّسة تاريخ ليست إلا كاذبة!
    أو يقال عن راهبة إنها كاذبة! إن الطالبات لا يصدقن ما يسمعن. ويبتعد بعضهن لينقلن الكفر الذي لا يصدق،لغيرهن. ولا يَجرؤ أحد على تخيل ما قد يقع – ولكننا حتما سنتسلى.
    وتنظر الأم مارك،في مكتبها المغلف بخشب قاتم،إلى الصليب الذي علّق فيه المسيح،داعية أن يلهمها الصواب. فهذه حالة تمرد موصوفة. وهي مضطرة إلى الرد بعنف. ولكن هل تستطيع أن تقسِر هذه الصغيرة على أن تقول السوء عن ذويها؟ وفي العام الماضي،جوبهت بمشكلة مماثلة،بعد الدرس الذي كان يتعلق بالحروب الصليبية! وكان في الصف طالبتان مسلمتان،جاء أبوهما فأخذهما دون أن ينبسا ببنت شفة.
    وهذه المؤسسات،الشبيهة بهذه التي تديرها الأم مارك في بيروت – أي مدرسة أخوات بيزانسون – مفتوحة للأطفال من كل الأديان. وهي لا تهدف إلى هداية "الغنمات الشاردة"ولكنها لا تفقد الأمل بأن كلام الربّ مثل البذور التي تُرمى في الهواء وستنتهي ذات يوم بأن تنبت.
    ويقرع الباب بثلاث ضربات خفيفة. وتدخل صبية ذات شعر كثيف،ملتهب،فوق ياقة من الدانتيل الأبيض،الذي يُحلي اللباس الأزرق – البحري. وعيناها منخفضتان،والجبهة عنيدة،وتقدّم عميق الاحترام بانحناءة كبيرة.
    - يمكنكِ أن ترفعي راسك يا آنسة.
    وتضرب الأم مارك على مكتبها ضربات خفيفة بأصبعها العاجية الطويلة.
    - إنك ترين،يا ابنتي،أني مترددة. فماذا تفعلين لو كنت في مكاني؟
    ولكنها لم تتوقع تلك النظرة المثقلة بالتأنيب،ولا الرد الجارح،على ما فيه من حسن التهذيب.
    - ليس لي شرف الحلول محلك،أيتها الأم المحترمة.
    - "الأم"!
    - عفوا؟
    - أمي المبجلة.
    - نعم،الأم المبجلة.
    واختارت الأم مارك أن تضع الحذف (حذف حرف ي من "أمي"والاكتفاء بالأم وحدها) على حساب الجهل باللغة الفرنسية،وتابعت كلامها بلهجة ناعمة،قائلة :
    - إن الأم أشيليه تطلب طردك. وتؤكد أن في سلوكك خطر على النظام في الصف.
    وتسكت سلمى. وتفكر بأمها. مسكينة أيندجيم. فبعد خيري الذي يأبى أن يذهب إلى المدرسة،لأن رفاقه يسمونه "صاحب الحمرنةAnnesse" بدلا "صاحب السمو Altesse". وهاهي تسبب لها مشكلات جديدة. وعندما خطر لها ما ستعانيه أمها من ذلك،ضعُف عزمها.
    - أيتها الأم المحترمة – ما ذا تفعلين لو أنهم أرغموك على حفظ – وهنا يضعف صوتها – على حفظ أن جدك كان مجنونا ... وعمك الكبير كان شيطانا مغرما بدم الآخرين ... وعمك الآخر ضعيف العقل،والأخير جبانا؟
    وتنظر الأم مارك من جديد إلى الصليب الذي عليه المسيح. ثم استدارت إلى المراهقة،وعيناها تلمعان.
    - إن سيدنا يسوع المسيح قد صُلب{"ولكن شبه لهم"-محمود}،لأن معاصريه كانوا يرون فيه "دجالا".فأحكام الناس،كما ترين،تعكس حدودهم : فليس هناك من تاريخ،بل هناك وجهات نظر. والوحيد الذي يعرف الحقيقة،هو الذي لا يملك وجهة نظر،لأنه غير محدود بشيء. فهو في كل مكان،إنه الله.
    وباعتبارها حفيدة متأخرة لأسرة عظيمة من أيام الصليبيين الذين حاربوا،ووهبوا حياتهم للحقيقة،فإن الأم مارك تضطرب وكأنها قد خانتهم. ورأت أن تستعجل الخلاص من هذه القصة،ولكن صوتها يضطرب قليلا عندما تنطق بحكمها :
    - إنك لن تحضري بعد الآن درس التاريخ،وستدرسين البرنامج وحدك. وأعتقد أنه ليس من الضروري أن أشير إلى هذا الحادث أمام السلطانة.
    - أوه! شكرا يا أمي المبجلة!
    وباندفاع طبيعي،قبلت سلمى يد الراهبة العليا،وحملتها إلى جبينها كما كانوا يفعلون في البلاط العثماني.
    وتمتمت الراهبة، مندهشة :
    - امضي بسلام،يا بنيتي!
    ومن غير أن تفكر سلمى،وحسب العادة الإسلامية،أجابت :
    - رافقتك السلامة،يا أمي!
    وبدا للأم مارك أن المسيح،من صليبه،يبتسم لها.
    وإذا قارنا بيروت بالعاصمة العثمانية،وجدناها مدينة حلوة في المحافظات،يسكنها حوالي المئة ألف نسمة،تزينها بيوت بيضاء ذات سقوف من القرميد الأحمر،ومحاطة بحدائق كثيرة الظلال.
    وفي الغرب في حي رأس بيروت،حيث استقرت السلطانة،يمكن للإنسان من الشرفة أن يرى البحر،ذا اللون الأزرق الشديد الزرقة حتى أن سلمى صُدمت منه أول مرة،كما يُصدم الإنسان مما يبدو له من سوء الأدب لدى إنسان ما. ولكن البُنيّة فهمت تدريجيا أن كل بيروت كانت على صورة البحر المتوسط ضاحكة،ممتلئة حيوية،على نقيض إستانبول وبوسفورها،اللذين كان شفوفهما المتقلب المغمور بالأحلام والأشواق،يُثير الرغبة في البكاء من شدة الرقة.
    ثم إن السيدة اللبنانية التي أجرتهم بيتهم الجديد"تعشق تركيا والأتراك!" – ككل سكان الحي،على ما تؤكد هي.
    وبزهو ما تعظّم لهم شأن بيتهم المجمل بأشجار التين دون أن تشير إلى المزاريب التي تهرّب ما يجري فيها من الماء،وتملأ الجدران ببقع كبيرة من العفن،ولا إلى النوافذ التي لا ترى حرجا من مرور الهواء،منها،بكامل الحرية.
    وتشرح لهم :
    - أن الأسر السنية تسكن في رأس بيروت،وتلك الأسرة التي كانت في عهد العثمانيين،وحتى مجيء الفرنسيين،سادة المدينة،خلال أربعة قرون.
    "أما هنا فتسكن عائلة الغندور،التي كانت تملك إدارة حصر التبغ والتنباك. وأسرة البلطيجي،والتي تسيطر على المرفأ. وهناك نجد بيت الداعوق،وبيهم،والصلح. وهم جميعا أغنياء جدا! ثم إنهم يتكلمون اللغة التركية،كما يتكلمون اللغة العربية،وأحيانا نراهم يفاخرون بوجود دم تركي في عروقهم،عن طريق جدّة شركسية أو إستانبولية".
    وتضيف إن هذا المجتمع الراقي السني،على أفضل حال مع الأسر الرومية الأرثوذكسية،التي تشكل أقلية عظيمة القوة. وهذه جميعا تستقبل الزوار،تقريبا كل يوم. فيلعب الرجال بالورق والبوكر،وتلعب النساء بالبيناكل،وفي آخر ما بعد الظهر،يتنزه الناس على الأحصنة،في الهضاب المجاورة،ولاسيما في الربيع عندما يتعطر الجو برائحة الزعتر والزعرور.
    وتهز السلطانة رأسها،بأدب،فتفهم صاحبة البيت أن في ذلك دعوة لمواصلة الحديث،فتسرع إلى إيضاح أن هذه الأسر : أي السرسق،والطراد،والتويني،وكلهم من أصحاب المصارف،هي التي تقدم أجمل الاستقبالات.
    ويلتقي عندهم كل أهل بيروت،من مسيحيين ومسلمين.والمسيحيون هنا هم الذين يتبعون الطقوس الإغريقية،ذلك أن الموارنة،باستثناء بعض الأسر المقيمة هنا منذ أجيال كثيرة،قلائل في بيروت. وما تزال أكثريتهم تسكن في الجبل،وهم فلاحون حريصون على أرضهم وكنيستهم. (..) .. إن الهوة تكبر بين البيروتيين القدماء،و البيروتيين الجدد. بيد أن الإدارة الفرنسية لا تشجع المارونيين وحدهم،بل إنها بحاجة كذلك إلى دعائم قوية لدى الطائفة الإسلامية. وهي تعلم أنه لا يمكنها أن تنتظر من البورجوازية السنية العليا،الكثير من الحماسة،وذلك أنها عندما أنشأت لبنان،فصلته عن المملكة العربية التي وعد بها الإنجليز العرب والتي كان عليها أن تضم سورية ولبنان وفلسطين. وعدا ذلك فإن الانتداب اضطر لكي يثبّت وجوده إلى الضغط على المصالح الاقتصادية لهؤلاء السنيين الأغنياء. ومع ذلك فإن العلاقات تظل سليمة،وأحيانا جيدة بين الطوائف. فقد كان اللبنانيون دبلوماسيين دوما. أما فيما بينهم (بين السنيين خاصة) فإنهم يتهمون فرسنا بأنها أساءت إلى ثروة البلاد،بصورة خاصة،عندما عوضّت عن الليرة الذهبية،بليرة ورقية تعتمد على الفرنك. وهم مستاؤون،بشكل خاص،من أن أعظم المراكز نفوذا فيالسياسة،والقضاء،والجيش،قد أعطيت للمسيحيين. وبالمقابل فإن هناك طبقة بورجوازية متوسطة،سنية،لم تكن تكلّف في عهد العثمانيين بوظائف هامة. فصار الفرنسيون يعتمدون على بعض هذه الأسر،ويشجعونها ليكسبوا إخلاصها.
    وإلى هذا المجتمع البيروتي،المشرف على تحولات عظيمة،بتأثير سادته الجدد و"أصدقائه"وصلت السلطانة خديجة،مصحوبة بولديها،و زينل،وكالفتين.) {ص 215 - 221 }.
    وهنا بالضبط ... انتهت هذه الحلقة .. فإلى اللقاء في الحلقة القادمة .. إذا أذن الله
    س / محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

    *************
    لا أدري ما قصتي مع هذا الكتاب .. أو قصته معي؟ في نشري السابق لهذه السياحة .. أصبحت بآلام في الظهر،حتى توقفت عن السياحة .. والآن .. لست على ما يرام .. ثم اكتشفت .. أن هذه المسلسل – التركي – يقع في 24 حلقة !!

    خلاصة ما بقي .. كادت سلمى أن تتحول إلى "نجمة"سينمائية .. ثم كادت أن تتزوج ملك ألبانيا،وقرأت وتحدثت مع (زينل) – ألباني الأصل – عن بلادهما ..ثم فشل المشروع،حيث خشي "زوغو"من غضب اتاتورك إن هو تزوج حفيدة سلطان عثماني .. ثم تزوجت – بالمراسلة – أميرا هنديا شيعيا .. أمير (بادلبور) ... وذهبت إلى هناك .. فواجهت مجتمعا مغلقا على النساء .. في (الزنانات) .. وسيطرة أخت زوجها عليه .. كما حضرت وباء اجتاح (رعيتها) .. فعملت "ممرضة" تساعد الطبيب .. وقد حذرتها جدة زوجها – إنجليزية الأصل – من البقاء في الهند .. وأن تهرب بنفسها ....إلخ
    ثم استغلت (حملها) لتغادر إلى باريس .. ليتبعها (أمير) بعد ذلك .. ولكن الحرب العالمية قامت .. فتعذر التواصل . . وفي باريس .. تعرفت على أمريكي ... ثم احتل الألمان باريس ... وسلمى من رعايا بريطانيا العدوة .. فعانت الأمرين .. من الفقر والجوع وابتزاز أصحاب المساكن .. كما تعرضت للنصب .. وقد أنجبت (بنتا) .. هي مؤلفة هذا الكتاب .. فإلى الحلقة الأخيرة .. والدراما المؤثرة جدا .. في موقف (زينل) ..
    حياة أميرة عثمانية في المنفى"24" : (الأخيرة)
    (الآغا زينل : "زيزل" )

    ويعصف البرد والجوع بسلمى،وبينما كانت ترقص بصغيرتها ..
    (وفجأة شعرت بألم،كأنه خنجر في البطن،يحملها على التأرجح. فتحس باختناق،,تريد أن تصرخ ... ولكن الطفلة بين يديها،ويجب ألا تدعها تقع. واستنهضت كل قواها،وحاولت أن تتعلق بالطاولة،هناك،على مقربة منها،فتمايلت،وشعرت بحرقة لا تحتمل،وكأنها تمزقها ... كما لو أن هناك موقدا،وستارة من رماد .. ولم تر شيئا ... وتشعر بأنها ستسقط،ولا تتوقف عن السقوط .. (..) ولم يكتشفها زينل إلا بصورة متأخرة،بعد أن عاد من شراء حاجاته. وها هي سلمى متمدد على الأرض،بيضاء،شديدة البياض. لكنها خلال سقوطها حمت الطفلة التي تبكي من شدة الخوف.
    وفي مستشفى الأوتيل – ديو ،كان الجراح يذرع مكتبه جيئة وذهابا. وكان ينظر بمرارة إلى يديه القويتين اللتين توصفان عند الناس،بأنهما أعجوبتان : أما هذه المرة،فإنهما لم تستطيعا الإنقاذ.
    بيد أنه منذ أن وصلت سلمى،فيما يشبه الإغماء،أمر بأخذها إلى غرفة العمليات. وكانت مصابة بالتهاب حاد في الصفاق. ففتح البطن،وقص،وربط،وخاط،خلال ساعتين،وقد استبسل في العمل،وحوله ممرضتان صامتتان.(..) غير أن الحمى عادت في الليل،وفهم أن تسمم الدم بدأ. وكان هناك شيء واحد يستطيع إنقاذها،هو هذه الأدوية الجديدة"المضادات الحيوية"التي كانوا يصنعونها في أمريكا. أما في فرنسا،فإنها لم تكن قد وجدت بعد. (..) والآن يجب أن يكلم الأب،الذي بقي لا يتحرك منذ البارحة،في الممر. (..) ولم يكن بحاجة إلى الكلام،لأن زينل كان يعرف. ولقد عرف ما جرى،في اللحظة التي كانت فيها ابنته الصغيرة،تلفظ أنفاسها الأخيرة. فشعر،في جسمه كله،بهزة،وبدت له كأنها تنزع شيئا ما منه. فترك نفسه ينزلق على الأرض،وصدم جبينه باب الغرفة.
    وجاءت الممرضة،فوجدته هناك،فيما يشبه الإغماء. فأجلسته وغسلت له صدغيه،حتى يعود إلى كامل وعيه. ذلك أن عليه الآن أن يعمل،ويتخذ بعض القرارات. فماذا يجب أن يفعل بالجثة؟ وهم أجانب،,ليس لديهم كهف عائلي. فأين إذن يقبرونها؟ (..) ولا يتذكر زينل ماذا جرى خلال الساعات التالية،ولا يعي شيئا آخر غير أن امرأة في ثياب بيضاء تطرح عليه بعض الأسئلة،لم يكن يفهم منها شيئا،وكان يقول فقط : إنه يريد أن تدفن في مقبرة إسلامية،بعد أن قدم لها محفظة أوراقه.
    ورأى بعد الظهيرة عربة موتى يشدها حصان هزيل،ثم حملها الرجال الذين رافقوها،صندوقا من الخشب الأبيض. وأشاروا إليه بأن يتبعهم.
    ولكن كم من الوقت مشى وراء سلمى؟ لقد كان المطر المثلج،مطر كانون الثاني / يناير/ يتسرب إلى ما تحت ثيابه،ولم يكن يشعر بذلك وكان يتذكر النزهات الطويلة التي كانا يقومان بها،كما يتذكر بسمتها المداعبة،عندما كانت تطلب منه أن يعدها بأن يكون معها حتى نهاية العالم.
    وأخيرا وصلوا إلى أرض ضخمة،غامضة،مقلقة بجدرانها المهلهلة،وعلى مد النظر،كانت هناك صفوف من الشواهد،تبرز من العشب : وكان هذا هو المقبرة الإسلامية،مقبرة بوبينيي Bobegny ولم يستطع زينل أن يكبت شهقة بكاء،عندما فكر بالمقابر الحلوة التي تشرف على البسفور،والتي كانت سلمى تحب النزهة فيها.
    ولكن إمام المقبرة عيل صبره : ذلك أن الوقت أصبح متأخرا،ويجب بسرعة أن نصلي صلاة الميت،لاسيما وأن هذا الرجل المسكين لا يملك المال الكافي لكي يدفع تكاليف احتفال أهم من هذا،بل إنه لم يكن معه ما يشتري به شاهدة قبر ينقش عليها اسم المرحومة.وليكن ما يكون،فإننا سنكتبه على قطعة من الخشب،حتى إذا ما نبت العشب،لم تختلط القبور على أصحابها،فالعائلات لا تحب هذا الخلط. وأية تعاسة!
    وينظر زينل إلى الحفرة السوداء التي حفرها رجلان في القسم المخصص للنساء،وإلى النعش الذي سينزلونه إلى مكانه بالحبال. ولكن لماذا حبسوا ابنته الصغيرة في هذه العلبة؟ لابد أنها ستختنق فيها،وهي التي لم تحتمل قط أن تحبس. ففي عالم الإسلام،يلف الجسد في قماش ابيض ثم يوضع هذا على التراب مباشرة. ولكن يقولون : إنه ليس لهم الحق،في فرنسا،أن يفعلوا هذا.
    وعندما انتهى رجال المقبرة من عملهم،كان الظلام قد حل تقريبا. أما صاحب العربة فقد هجر المكان منذ مدة طويلة وبقي زينل وحده في المقبرة،بين آلاف القبور،أو قل بقي وحده مع سلمى. وكان يفكر،وهو أمام هذا المربع من التراب المطروق،بالأوابد الرخامية الفخمة التي كانت تستمر،قرنا بعد قرن،في إستانبول،في التذكير بأمجاد السلطانات العظيمات،فيرتعد ... ومن يستطيع أن يحزر أن أميرته تنام في هذا القبر المسكين؟ بل من سيتذكر؟
    وتمدد على الأرض التي حفرت من جديد. مغطيا ابنته الصغيرة بجسمه،ومحاولا أن ينقل إليها شيئا من حرارته الحية،ومن حبه. إذ لم يعد لها الآن غيره. ولن يتخلى عنها. إذ لقد وعد السلطانة بذلك.
    - آغا!
    وتعدو سلمى نحوه من آخر الحديقة،وهي أحلى ما تكون في ثوبها الحريري،و خصل شعرها الأحمر تتطاير في الهواء.
    - آغا،خذني معك. أريد أن أرى الألعاب النارية على البوسفور! وتعلقت برقبته. وأخذت تتسلى بشد شعره.
    - تعال بسرعة،يا آغا،إن هذا ضروري ! إنني أريده!
    - ولكن من الممنوع أن تخرجي من الحديقة،أيتها الأميرة الصغيرة.
    - أوه،آغا،إنك لم تعد تحب سلماك. وماذا تعني كلمة ممنوع؟ آغا،هل تريد أن أكون تعيسة؟ ..
    ومرة أخرى،عاد فقبل. فهو لن يستطيع أن يخالف لها أمرا ... فيهبطان،يدا بيد،من خلال الممرات التي تعطرها الميموزا والياسمين،باتجاه الشاطئ الذي ينتظرهما فيه القايق الأبيض والذهبي.
    وقفزت،بخفتها المعهودة. وكانت السهام النارية تلهب شعرها،وحينما كان يستقر في مكانه كانت عيناها تلمعان وتهمس في أذنه قائلة :
    - والآن،يا آغا،نسافر نحن الاثنين معا،في رحلة طويلة جدا.
    واستيقظ زينل بضربة خفيفة على كتفه. فقد كان النهار على وشك أن يطلع. وكان فوقه رجل ينظر إليه بفضول.
    - يجب ألا تبقى هنا،لآن المرض سيصيبك من جراء ذلك!
    وساعده على النهوض،وعلى نفض التراب الذي يُلوث ثيابه. وقاده بيده،وهو يرتجف من البرد،إلى الغريفة التي يضعون فيها أدوات الحفر،في مدخل المقبرة. وهناك أشربه قدحا كبيرا من القهوة الساخنة. وكان يسمى "علي"وهو حارس المقبرة. وجلس بجانبه كأنما هو متضامن معه على الضراء.
    - وإذن فكهذا يا أخي،ماتت السيدة؟
    وتأتأ زينل وهو يصك أسنانه بعضها ببعض.
    - إنها ابنتي.
    - ولم تضع شاهدة باسمها،لابنتك؟
    ويهز زينل رأسه،وفجأة يشعر أنه ضعيف. ذلك أنه منذ ثلاثة أيام لم يأكل،منذ اللحظة التي رأى فيها سلمى ..
    - خذ،وكل. ثم إن العامل الذي يُصنّع الرخام صديقي،وفي وسعه أن يعطيك رخامة صغيرة،بثمن رخيص. وهكذا فقد سحب زينل بعناء،ساعته من جيب صدرته. وكان هذا كل ما بقي له من أيام العظمة في أورطاكوي. وكان قد احتفظ بها لليوم الذي لا يبقى معه شيء. أما الآن ..
    - ليس عندي غير هذا. أفيقبل؟
    - احفظ ساعتك،ستكون إليها في حاجة،فيما بعد. ولا يزعجك فأنا سأتولى شأن الشاهدة, ويجب أن يتساعد المسلمون فيما بينهم.
    وعلى الرغم من احتجاجات زينل،فإنه خرج. وبعد عدة لحظات،عاد وهو يحمل حجرة صغيرة بيضاء،قطعت على شكل قوس. ونقش عليها بتعليمات من الخصي،وبأحرف عرجاء ما يلي :
    سلمى
    13 – 4 – 1911 / 13 – 1 – 1941
    ولكن شيئا ظل يزعج زينل،فقال لصديقه :
    إنهم لم يدفنوها كمسلمة. إذ وضعوها في علبة بيضاء. فهل تظن أننا نستطيع؟ ..
    وأشرق وجه علي،ذلك أنه يحب على المؤمنين الحقيقيين.{هكذا} وبقفزة واحدة،مضى يبحث عن معول. ووجد في المستودع غطاء أبيض. وذهب الاثنان معا إلى القبر. ولم يحتاجا إلا إلى ربع ساعة لكي يزيحا التراب الجديد،ورفع النعش،وانتزاع المسامير.

    وقال علي :
    - حسنا،سأتركك الآن،واختفى في الوقت الذي كان فيه زينل يفتح النعش. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يراها فيها،ما أجملها في قميص نومها الطويل الأبيض،أما خصل شعرها المذهبة فكانت متدلية على كتفيها،وعليها كل سمات الفتاة الشابة. فانحنى وهو يرتعد وطبع قبلة رقيقة جدا،على خدها.
    وعندما نهض،كانت عيناه جافتين. وبلحظة واحدة،فارقه الهيجان. ذلك أن هذه الراقدة الباردة غريبة عنه. أما ابنته الصغيرة فإنها لم تعد هنا. لقد مضت مع ضحكاتها ونزواتها،وألوان أشواقها،وكرمها،وكل ما كان يجعل منها "سلمى". مضت وفارقت هذه الدنيا ...
    وبنعومة،لفّ الجسد في القماش الأبيض،واتخذ كل الاحتياطات،كيلا يجرحها. وعاد فأنزلها في الحفرة،أو قل في هذه الأرض التي كانت سلمى تحب أن تستنشق رائحتها،والتي تستقبل الآن جمالها. وترى أنها ابنتها. (..) وفجأة انقطعت أنفاسه،وجحظت عيناه من الرعب. والطفلة! ... لقد نسي. فمنذ ثلاثة أيام بقيت وحدها،دون أي إنسان يغذيها. أو يسهر عليها .. ولعلها ماتت ..
    ورفع صوته،متوسلا إلى الله،أن يحميها!
    ولم يعد يعرف كيف عاد إلى الفندق. ويبدو له أن (علي) أوقف سائق عربة من عربات الموتى. كان يعود إلى باريس،فوضعه بدلا من النعش في عربة،وبعد ذلك جرى كعجوز مجنون راجيا من الله أن يرأف بالصغيرة.
    وعندما دخل الغرفة،وجد الصغيرة متمددة على السرير وكأنه لم يعد فيها دم. وكانت عيناها مغلقتين،ورأسها مقلوبا إلى الخلف،والفم مفتوحا،وتنفسها عسيرا.
    فصرخ بدرجة من القوة حملت جارته في الدور الذي هو فيه على أن تهرع إليه. فقالت له :
    إن من الضروري أن لا تحرك الطفلة من مكانها،وإن عليه أن يرفع رأسها قليلا لكي تشرب بعض الماء،لكن الصغيرة ترفض كل شيء ...
    وعندئذ أخذها زينل بين ذراعيه. فوجد أنها باردة كالثلج. فغطاها بغطاء،وهبط السلم كالعاصفة،ومر بالمطرونة إيميلي،التي حاولت اعتراضه.
    - قف،قف،إنك مدين لي بأجرة أسبوعين!
    وبدأ يجري،ونزل في جادة الشهداء،ولا تكاد ساقاه تحملانه. ووجد على الطريق جملة عيادات طبية. ويرن الجرس،ويقرع الباب،فلا يرد أحد. كان ذلك يوم الأحد. وأخيرا ومن شدة اليأس،اتجه إلى أحد رجال الشرطة الذي دله على القنصلية السويسرية،حيث يوجد دوام كل يوم للأجانب.
    ومضى الخصي حتى وصل جادة غرينيل Rue Grenelle وهناك شعر أن قلبه على وشك أن يفارقه. ولكن يجب أن يقاوم. إذ ليس له الحق في أن يموت قبل أن ينقذ ابنة سلمى.
    ولكنه عندما دخل قنصلية سويسرا واستقبلته سكرتيرة ذات خدين مدورين،وسألته عما يريد،لم يسعه إلا أن يضع الطفلة بين ذراعيها،ويقع على الأرض،عاجزا عن أن يقول أية كلمة.
    ومرت بعد ظهر ذلك اليوم مدام نافيل،زوجة القنصل،لتبحث عن قائمة عناوين لتلك السوق الخيرية القريبة التي يقيمها الصليب الأحمر،وما كادت ترى الطفلة،حتى أخذت الهاتف،وطلبت طبيبها الشخصي. ثم إنها أعطت للعجوز المسلم كأسا من الفودكا. وكاد زينل يختنق منها،وأراد أن يردها،ولكنها طمأنته.
    - إن هذا ليس بكحول! إنه دواء.
    وبسرعة،شعر بتحسن،وقصّ على هذه السيدة حكايته كلها : لقد ماتت أميرته،وتركت الطفلة لحالها في الفندق ثلاثة أيام. وبعد عدة دقائق وصل الطبيب.
    ودمدم قائلا،وهو يرى حالة الطفلة :
    - من حسن الحظ أن الوقت لم يفت! وأخرج من محفظته إبرة،وحقنها بمصل. ثم فحصها بنعومة. وقال :
    - إنها ضعيفة جدا. وقد تأثرت الرئتان .. ويبدو أنها لم تأكل شيئا ولم تشرب،منذ عدة أيام.
    وسمع أنينا حمله على أن يلتفت برأسه. ونظر بإشفاق إلى الرجل العجوز وهو متهاوي على كرسيه،وقال له:
    - لا تقلق أيها الرجل الطيب. سننقذها إن شاء الله. ولكن لابد من عناية مشددة. وكأنما كان يتجه بكلامه إلى السيدة نافيل،ذلك أن مصلحة الإسعاف مرهقة جدا بما لديها من أيتام الحرب. وهذه الطفلة بحاجة إلى أن يكون هناك إنسان إلى جانبها دوما. وإلا فإني أخشى أن ...
    وقاطعته زوجة القنصل،بقولها :
    - سآخذها إلى بيتي،يا دكتور،طول المدة اللازمة. فلقد هبطت عليّ هذه البنيّة من السماء. ولا أستطيع تركها تموت.
    وخلا عدة أسابيع كان زينل يأتي كل يوم لزيارة الطفلة. وسرعان ما عادت الطفلة إلى السلامة،بفضل الغذاء الصحي المتوفر في قنصلية سويسرا. هذه الجزيرة من البحبوحة والخيرات،في وسط باريس المحتلة. وهاهي الآن بنيّة بضّة الجينات{هكذا} والخدود،تستقبل بفرح هذا الخصي وتسميه"زيزل".
    ولقد قصّ كل شيء على زوجة القنصل،غاضا النظر بطبيعة الحال عن مرحلة الرجل الأمريكي،والرسالة التي أرسلت للراجاه. وهو يرجو أن لا يكون الراجاه قد تلقاها،لأنه لم يجب قط. فإذا انتهت الحرب،فإنه يستطيع استعادة طفلته. وهذا هو الحل الوحيد،مادامت سلمى قد غادرت إلى دار الآخرة. وستكبر الأميرة الصغيرة في الزينانا،وتتزوج،وستكون حياتها مريحة وبلا مشاكل.
    أوليس هذا ما أرادت أن تقوله سلمى وهي على فراش موتها؟ إن الخصي يتذكر تلك الممرضة الشابة التي هرعت إليه في اللحظة التي كان فيها ينزل المستشفى،وقالت :
    أيها السيد! انتظر،فأنا التي كنت قريبة من ابنتك،عندما ... أخيرا،أي قبل ذلك بلحظة،وتعلقت بيدي وتمتمت : "عفوك،يا أمير ... الطفلة ... لقد كذبت..." وكانت هذه آخر كلماتها.
    وارتعش زينل. وبدأ يفكر بالكآبة التي ينبغي أن تكون استولت على المرأة الشابة،عندما وجدت أنها تموت،تاركة طفلتها بلا أب .. لقد فعلت كل شيء لكي تبقي ابنتها حرة. ولكنها لم تتخيل لحظة واحدة،أنها هي نفسها يمكن أن تموت،وأن الطفلة عندئذ ستجد نفسها وحيدة.
    ... يا أميرتي الجميلة،أيتها الصغيرة المسكينة ... هكذا كان يقول زينل،وهو يرى البنية في الجانب الآخر من الغرفة،تلعب مع دماها. ومنذ الآن فإنها في أمان،ولم تعد بحاجة إليه. وقد فعل من أجلها كل ما يجب أن يفعله،وبقدر ما استطاع،سواء أحسن أم أساء. أما الآن فإن به رغبة ملحة،هو أيضا،لكي يمضي ويستريح.
    وقبّل الطفلة على جبينها بنعومة كيلا يزعجها،وتركها وخرج،بخطوات بطيئة.
    ثم لم يره أحد بعد ذلك قط.)
    خاتمة
    وهكذا انتهي حكاية أمي.
    وبعد قليل من موتها،تقدم زائر إلى قنصلية سويسرا. وكان هذا،أورهان،ابن عم سلمى. وكان قد كتب على بطاقته هذه الجملة فقط : "من قبل الأميرة الميتة".
    وأُعلم الراجاه،بالطرق الدبلوماسية أن له ابنة. وكانت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين الهند،كمستعرة بريطانية،وفرنسا المحتلة. فلم يستطع استعادتها إلى بادلبور. ولم يلتقيا إلى بعد انتهاء الحرب. ولكن لهذا قصة أخرى.
    أما زينل،فإنه لم يُعثر له على أثر،تُرى هل مات من شدة الحزن،أو من شدة البؤس،أو أنه غريب بين الغرباء،سيق بين من سيقوا في عربة مرصصة،كغيرها من العربات؟
    أما هارفي فإنه لم ينس. غير أنه لم يتلق رسائل سلمى إلا عند موت زوجته. وكانت قد أخفتها،مدة ثلاث سنوات.
    وما كادت الحرب تضع أوزارها،وفرنسا تتحرر،إلا وهرع إلى باريس. وعندما علم بموت سلمى،أراد أن يهتم بالطفلة. ولكن ما كاد يبدأ عملية تحضير الأوراق الرسمية،حتى مات هو أيضا بسكتة قلبية.
    وفيما بعد،وبصورة مـتأخرة جدا،أردت أن أفهم أمي. فسألت ألئك الذين عرفوها،وقرأت كتب التاريخ،وصحف ذلك الزمان،والوثائق المبعثرة المتصلة بالأسرة،ووقفت طويلا في الأماكن التي عاشت فيها،وجربت أن أعيد تركيب مختلف أطر وجودها،التي انقلبت اليوم انقلابا لا سبيل إلى معرفة أصله،وأن أحيا من جديد ما كانت قد عاشته هي نفسها.
    وأخيرا،وحبا بالتقرب منها بدرجة أكبر،طبعا بأن أعود فأجدها كما هي،تركت لحدسي وخيالي أن يرمما الثغرات التي لم تعن الوثائق على ملئها.){ص 746 - 758 .}

    كل سياحة ... في – أو مع – سيدي الكتاب وأنتم بخير.
    س/ محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
    ((سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب))
    هذا تعليق وجدته في ختام السياحة .. ولا أتذكر لمن كتبته!!!!!!!!
    لم أكن أعلم أنني شايب لهذه الدرجة؟
    وعذرا للبنية الكريمة .. من النسيان .. والنشر ..
    بُنيتي الكريمة ...
    لعلك تذكرين أنني قلت لك – ذات رسالة – أنني أحب التفكير في الأمور بشكل بطيء .. أو هذه هي قدراتي العقلية.
    وقد فكرت في تعليقك على هذه الحلقة من المسلسل ..
    كما تذكرت تعليقا سابقا لكِ ... حول هذا المسلسل ... وقولك أنه أقرب إليك من مسلسل (طعام ... صلاة .. وحب)!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
    فكرت في تعليقك،لا في إطار الرواية ككل،ولكن في محيط هذه الحلقة التي انتزعت منك التعليق .. فوجدت التالي :
    أولا : سعادة "سلمى" عند حضورها العشاءات .. ( حيث تطيش من كونها امرأة جميلة ومشتهاة)
    ثانيا : اعترافها لرشيد بحبها له : وهذه نقطة تتعلق بالضعف البشري ...
    ثالثا : لفتة أنثوية جدا – فات عليّ أن أعلق عليها – أعني غضب سلمى من عدم تأثر أمير لسفرها،أو عدم (نطقه) بما يشي بلك التأثر ... بل تقول – وهذه هي اللفتة الأنثوية التي أقصد – أنه بدا وكأنه سعيد برحيلها!!!!!
    رابعا : بعد (الأزهار) : تمنيها لو قال لها كلمة أحبك ,,, إذا لارتمت بين ... وربما عدلت عن السفر .. وقد علقت على ذلك بأهمية الكلمة .. وتساءلت إن كانت بعض البيوت التي تشتت كان يمكن إنقاذها بكلمة رقيقة من الزوج؟
    فهل تعليقي هو (المثالية) – الأكثر من اللازم – التي كنت تقصدينها؟
    أعلم أن صاحب التجربة يقيم الأمور من زاوية مختلفة عن التي ينظر منها من (يُنَظّر) من برجه .. وليس عاجيا بالتأكيد ... ومع ذلك فإن تعليقي عطفا على كلام (رمز الأنوثة) – سلمى – كما أن أحدا لا يستطيع أن ينكر خطورة الكلمة ... فبكلمة يتزوج الإنسان .. وبكلمة يقع الطلاق ... وبكلمة – رقيقة أو غزلية – قد تنجرف إنسانة ... وقد تكون قبل ذلك شديدة الاتزان ...
    دمت بخير
    ملاحظة : لا زالت عبارة (تغيرا طفيفا أفرح به كالأطفال) ... ترن في مكان ما من تلافيف عقلي!!
    سؤال لا يبحث عن إجابة – بالضرورة - :
    هل أخبرته بذلك ؟!! لن أقول هل عبرت عن فرحك بذلك التغيير – الصغير – بصفته – عند الحوار – مجرد درجة في سلم التغيير إلى الأفضل ... حيث لا تتغير الأمور دفعة واحدة .. وأعلم يقينا ... أن المرأة تخشى – وحق لها – من السخرية من فرحها الصغير .. فتنكمش على نفسها مخبئة ذلك الفرح .. لكي لا يطير هو الآخر.
    ملاحظة أخرى : قلتِ : (أعادني .. ) ... وهناك فرق بين (أعادني) و (عدنا إلى بعضنا) ..
    الأولى : حين تكون المرأة لا تزال في العدة.
    الثانية : إذا كانت قد خرجت من العدة .. ولديها كامل الحرية في العودة وفي عدمها ..
    والثانية يجب أن يوضع تحتها أكثر من خط أحمر .. بل من المهم الإشارة إليها بصفتها تعني العودة المختارة.

    وفقكم الله .. أسعدكم الله ... حفظكم الله

  8. #8
    حياة أميرة عثمانية في المنفى"10"
    إلى ذلك ..(المجتمع البيروتي،المشرف على تحولات عظيمة،بتأثير سادته الجدد و"أصدقائه"وصلت السلطانة خديجة،مصحوبة بولديها،و زينل،وكالفتين.
    وهنا حصلوا على نجاح كبير نشأ عن فضول الناس أولا،وعن تعاطفهم ثانيا. وعلى كل حال فإن السلطان مراد الخامس لم يؤذ أحدا،لا لسبب غير أنه لم يحكم،ذلك المسكين،إلا ثلاثة أشهر .. أما ابنته البائسة! فلقد بقيت سجينة مع أبيها ثلاثين سنة،ثم عشرين سنة أخرى،مقسمة بين زوج كان على الأرجح يضربها،والآخر كان بالتأكيد يخونها،ثم جاءت الحرب،والثورة،والنفي أخيرا! وهكذا فإن كل سيدات المجتمع المحيطات بها،كن يتألمن لها،وصرن يتسابقن إلى زيارتها.
    ولكن إذا كن يتوقعن – وعيونهن سلفا تتألق لهذا التوقع – كنشوة مؤثرة،وتفاصيل لم يُسمع بها من قبل حول الصورة التي عوملت بها الأسرة الملكية،أو في أقل الدرجات،بعض التنهدات،والنظرات الحزينة،التي توفر الفرص للإمساك بيد الأميرة،وحلف اليمين لها بأن ستملك صداقتهن الأبدية – فإنهن قد خاب فألهن.
    وفي البهو ذي الستائر الحريرية الصفراء التي عفا لونها قليلا،كانت السلطانة تستقبلهن بالبسمة الأليفة،وبحس الكرامة الخاص بملكة تأتيها رعاياها لتقدم لها احترامها. أما أسئلة الزائرات التي بدأت بأن تكون رسمية،ثم مع الأيام،غدت أكثر فأكثر إلحاحا على ما يتوقعنه من كشوف ومصارحات،فإنها كانت تجيب عنها بهدوء لا يعرف الاضطراب. وحقا،فإنه ليس لديها ما يمتعهن أن تقوله،فكمال لم يفعل إلا ما قدر أنه واجبه،أما إمكانية قيام ثورة مضادة،وإعادة النظام السابق؟ فذلك خاضع لإرادة الله ... (..) وخلال أسابيع كان البهو لا يفرغ من الزائرات. ولكنهن مع الأيام،باعدن بينها. ذلك أن هذه الأميرة التي كان يقال : إنها ذكية،والتي كانت شخصيتها ممتدحة بينهن،ليس لديها ما تقوله! فيزهد المجتمع البيروتي،ويمضي ليتعلق بآخرين. فيما عدا بعض المتحذلقات من ذوات المستوى الأكثر تواضعا واللواتي واظبن على زيارتها،بغية أن يروين لصديقاتهن المنبهرات،بأن "صديقتهن"السلطانة،كانت اليوم"مزكومة"بعض الشيء أو أنها كانت تلبس ثوبا من الحرير الأخضر كان يهبها حقا سمتها السلطانية!
    وفي الهدوء الذي اعتادت عليه السلطانة فوجدته من جديد،كانت تضحك بصمت.
    لقد لقنتهن درسا،هؤلاء البله،اللواتي كن يردن التطاوس،إذ يضعن على صدورهن سلطانة! أيدعونني! حقا إنهن لا يرين ما في ذلك من حرج! فهل لأميرة من أسرة ملكية،ومن عمري،أن تتحرك من بيتها؟ فاذكري يا سلمى هذا : إنه ليس لأننا أصبحنا لا نملك المال،يجب أن نغير طريقتنا في السلوك. فأنت أميرة،ويجب ألا تنسي ذلك أبدا.
    وتطلق سلمى واحدة من تنهيداتها .. "أميرة بلا مال،ماذا يعني ذلك؟ إنني أضحوكة الصف كله. ورفيقاتي يسمينني بصاحبة السمو ذات الكلسات الملقوطة".
    ومع ذلك فإنها تكتفي بالجواب :
    إنه يصعب عليّ،يا أيندجيم،أن أنسى ذلك.
    وتنظر إليها خديجة مندهشة :
    هل من شيء يزعجك؟ في المدرسة؟
    كلا يا أيندجيم. إن المدرسة سارة جدا.
    كان يجب أن توفر العناء على أمها،بأي ثمن. فالسلطانة تظل شامخة الرأس،ولكن،بمرور الزمن،كانت نظراتها التي كانت ممتلئة حيوية في الماضي،وعميقة،قد غشيها تعبير مؤلم. فهي لا تفهم،ولا تقبل سوكت شعبها.
    وفي الصباح والمساء تصغي إلى الإذاعة،وتحاول الاستماعي إلى أخبار تركيا. فحذف المدارس والمؤسسات الدينية،وإغلاق مراكز التجمعات الصوفية،قد أثار استنكارها. وبالمقابل فإنها شعرا بلذة الانتصار عندما سمعت أنهم ينزعون الحجاب بالقوة،ويأمرون الرجال بنزع الطربوش،كرمز على الانتساب إلى الإسلام،تحت طائلة الشنق! ففي هذه المرة،لا بد للأتراك أن يثوروا!
    ولكن الأمر في هذه المرة ظل كما كان في غيرها من المرات،فقد قبل الأتراك ما جرى. ويوما بعد يوم كانت الثنية تتعمق أكثر فأكثر على زاوية شفتي خديجة. (..) لا ريب أن المحاكم الاستثنائية قائمة في كل مكان والمعارضة و الصحافة،ما زالتا خاضعتين للرقابة. (..) .. ذات يوم،ألغى أستاذ الرياضيات درسه،لأنه كان مريضا. فعادت سلمى إلى البيت قبل ساعة من موعدها. فأوقفت على العتبة : وسمعت جلجلات الضحك! وببطء اقتربت ورأت ... أيندجيم – أيندجيم التي تضحك كما لم ترها تضحك منذ زمان طويل منذ مغادرة إستانبول. وكان زينل جالسا على وسادتها وهي،جاثية بين قدميها،وهو سعيد يخطب :
    فشعرت المراهقة بأن حنجرتها تنقبض،وأنها خدعت : فأمها لا تريها إلا وجها حزينا. فلِمَ تجد مع زينل بهجتها القديمة؟
    وتقدمت وهي صفراء الوجه تماما،فنهض الخصي،وتوقفت السلطانة عن الضحك،وسألتها :
    - ماذا هناك يا سلمى؟ أأنت مريضة؟
    وتتصنع القلق وتقول في نفسها : ولكني أستطيع أن أموت مادام زينل هنا.
    أما خيري الذي لم تكن سلمى قد رأته،فيضحك،ويقول :
    - هي غيرى. هذا كل شيء. أوَلا تفهمين،يا أيندجيم،أن الآنسة لا تحتمل أن تهتمي بأي إنسان آخر غيرها،حتى بي أنا؟ وعندما تبتسمين لي،يمتقع لونها كسفرجلة قديمة!
    وتنظر سلمى إلى أخيها نظرة أفعوية. إذ لقد كانت تسيء تقدير قوة الملاحظة لدى أخيها (الباتابوف) السمين. ولكنه سيدفع الثمن. وبانتظار ذلك،فإن من الأفضل التخلص من هذا الموقف.
    - أأنا غيور،أية فكرة! إني لست غيور! بل كنت مندهشة .. ومسرورة بأن أسمعك تضحكين يا أيندجيم.
    وتشعر آنئذ أن صوتها يرن رنة المداجاة. وقطعا لما قد يحدث،تدّعي أنها تريد ترتيب كتبها،وتنسحب إلى غرفتها.(..)
    - إنهم يقتلون أصحابنا بالمئات.
    وجذبت أمل سلمى،إلى ركن من أركان ساحة اللعب،وكان وجهها أكثر شحوبا مما هو في العادة.
    قام الفرنسيون،في الجبل،بإحراق قرى بكاملها،بلا أدنى شفقة على النساء والأطفال. وسوف يندمون. إن انتقام الدروز،سيكون مخيفا.
    وهبط بالون الأرض بين أرجلهما. وتزاحمت طالبتان وهما تضحكان،للإمساك به. إنها الأيام الأولى للخريف،والشمس أشبه ما تكون بالحرير.
    وأخذت سلمى بيد أمل. ذلك أن هذه الدرزية الصغيرة هي صديقتها الوحيدة في مدرسة أخوات بيزانسون،بل الوحيدة التي تجرأت على كسر العزلة التي كانت تحيط بها. وفهمت المراهقة ما في سلمى من قلق واضطراب،ذلك أنها مرت،هي الأخرى،بمثل هذا،وهي التي يقول فيها الراهبات : "أمل،جميلة،ذكية،وكم هو مؤسف أن تكون هذه المسكينة مسلمة!". وفي البداية،لم تكن تريد البقاء. وكانت تبكي كل يوم،ولكن أباها لم يقبل ذلك منها : فأفضل المدارس في لبنان هي المدارس المسيحية. وتعتبر الأسرة المسلمة أن مما يشرفها أن ترسل بناتها إليها.
    وتسأل سلمى أمل،بنعومة،قائلة :
    - أمل اشرحي لي أرجوك،فاللبنانيون الآخرون قبلوا الانتداب الفرنسي. فلم يحارب الدروز؟
    - إنها مسألة شرف!
    وتتألق العينان الزرقاوان.
    لم نكن في البداية ضد الفرنسيين،ولكن المندوب السامي،الجنرال ساري،شتم رؤساءنا. (..) – إذن فأنتما تتآمران؟
    وانتصبت أمل أمامهما،وقد استعدت للقتال.
    - ما أكثركما حصافة! { ما أشد حصافتكما} والواقع أننا كنا نتناقش في الطريقة الأنجع لطردكم من لبنان.
    وكانت ماري لور تنظر إليها بشيء من العطف.
    - أوه،أوه! هوني عليك،يا صغيرتي،فبعد كل حساب،لولانا،لكانت بلادكم ما تزال منطقة مستعبدة للعثمانيين!
    وتتدخل ماري أنييس قائلة :
    - أنهوا أحاديثكم. فحولنا من يستمع إلى ما نقول. ولئن علمت الأمهات أننا نتحدث في السياسة،إذن لكان عقابنا الطرد من المدرسة.
    واحتجت سلمى بلهجة جافة،قائلة :
    - إن هذا بالغ السهولة أن نهرب الآن بعد أن شتمتمانا!
    وهزئت ماري لور من صاحبتها،وقالت :
    - انظري،إن الأميرة تطلب تعويضا. حسنا. إني أقترح أن نسوي النزاع فوق ساحة الرياضة. وأنا أترك لكما اختيار الأسلحة : فإما العدو،وإما القفز.
    - القفز! بالمظلة.
    وكانت ماري لور أطول منها بعشرة سنتيمترات،وسلمى تعرف أنه ليس لها أدنى حظ في التسابق بالعدو معها.
    وتقع ساحة اللعب (..) وحلوهما كانت الطالبات يتجمعن منتبهات.
    وتتطوع اثنتان لرفع العوارض على أبعاد متساوية : عشرين فعشرين سنتيمترا. ولديهما القليل من الوقت قبل نهاية الفرصة. وهناك طالبتان للمراقبة.
    وأول قفزة كانت كلعبة أطفال.(..) وهنا يصبح الأمر جديا. وتقفز الواحدة بعد الأخرى،متجمعة كل منهما حول نفسها،ومتركزة. (..)ولم تكد تنهض من مكانها حتى هبطت ماري لور وراءها. فتصالبت نظراتهما،وترددتا لحظة،ثم تباعدتا.
    - 80 ،2 مترا.
    وبهدوء تسلقت سلمى الدرجات. وشعرت بارتجاف غريب في صدرها. أما تحتها فيسود الصمت. وهناك عشرون زوجا من العيون ينظر إلهيا.ولا مجال للتراجع.
    فتتنفس بعمق : هيا!
    وما كادت تنطلق حتى عرفت. وكما لو أنها تضاعفت – سجلت الكسر،وحرقة ضربة السوط،والألم اللامحتمل،,في الوقت نفسه،تسجّل نوعا من الارتياح : لقد انتهى الأمر،,ليس عليها الخوف.
    وكانت الصرخات تدوي حولها،وكل شيء يدور. لا .. إنها لن تتقيأ،إنها ...
    أين هي،وماذا حدث.ولِمَ تغسل لها الأم جان وجهها بالماء المثلج؟ ولِمَ هذا الوجه المرعوب؟
    وعندئذ شدها ألم في الساق اليمنى إلى الحقيقة.
    - لا تتحركي يا صغيرتي،ستصل عربة المستشفى. ولكن أي سوء تبصر. كان يمكن أن تقتلي نفسك. فلِم قفزت من مكان بهذا العلو؟
    وترد سلمى بتقطيب وجهها،وتقول :
    - كنت أتدرب .. كمقدمة للألعاب الأولمبية.
    وينقلب وجوه البنات من القلق إلى الإشراق،وتكثر الضحكات. وكان هذا أكثر مما تتحمله ماري لور.
    - إن الحق عليّ،يا أمي فأنا التي ..
    وقاطعتها سلمى بحدة :
    - إنك أنت التي جعلتني أتذوق الرياضة. وكان عليّ أن أفهم أني لست بحيث أضاهيك.
    وتتنهد الأم جان قائلة :
    - يا طفلتي المسكينة. أترين إلى أين يؤدي الغرور والزهو بالنفس؟ (..) وعادت سلمى بعد شهرين إلى المدرسة على عصوين،ودخلت الصف. فاستقبلت بحماسة. وحتى البنات اللواتي لم يكلمنها قط،تجمعن حولها،عَجِلات.
    ومن آخر الساحة كانت ماري لور،تتقدم غير مبالية. وقالت لها :
    - إني سعيدة أن أراك ثانية.
    وهي جملة بسيطة. ولكن أحدا لم يخطئ في فهمها : إذ صدرت عن رئيسة الرابطة الفرنسية المارونية،مما يعني أنها تؤكد الصداقة.
    أما بالنسبة لسلمى فإن النهار مضى كعيد،وحتى الراهبات كن يقدمن لها مختلف صور العناية.
    وفي المساء، اقترحت عليها ماري لور أن ترافقها. وكما هي الحال مع أكثر الطالبات الفرنسيات،فإن تحت تصرفها عربة لها سائق ينتظرها عند باب المدرسة. وكادت سلمى أن تقبل عندما فاجأت نظرة أمل الحزينة.
    - إن هذا لطف منك. ولكني أحب أن أتنفس الهواء الطلق. وشاءت أمل أن تحمل لي كتبي.
    ولم تُخدع ماري لور بالكلام،فهزت كتفيها،وقالت :
    - إني آسفة،وكنت أظن أن لدينا أشياء نقولها لبعضنا. ثم أضافت : ولكنك على حق،بلهجة اللا مبالية،التي لا تحسن إخفاء خيبة أملها. فالوفاء في المقام الأول!
    ورأتها سلمى تبتعد،وقلبها حزين لأنها رفضت اليد الممدودة. وكانت تشعر أنها أخطأت. وعبثا حاولت أن تفكر في الأمر،وأن تبرر ما فعلت – فهل كانت تستطيع التخلي عن أمل التي كانت إلى جانبها حتى في أسوأ الظروف؟ وأخيرا تضاءل الفرح بذلك النهار. وحتى الشمس،فإنها فقدت بعض حرارتها. ){ص 221 -235 }.
    وتبدأ سلمى في الحلم .. تحلم بحضور (حفلة راقصة ) ... ولكن!!
    (وتتأمل سلمى الجالسة بين زينل والكالفات،نقوش السجادة الأرابسك التي تكاد ... أن ترقص. ولقد سمعت ماري أنييس تقول إن أستاذا في هذه العصرونيات جاء ليعلمهن الشارلستون فتتخيل الضحكات،والموسيقى،وكأن ساقيها تمشي عليهما النمل ولكن ماذا يجدي أن تحلم؟ فهي لن تذهب.
    وأصلا،فإنها لا تملك ثوبا مناسبا تضعه على جسمها لمثل هذه الزيارات. ثم إن الزيارة تقتضي أن يُرد عليها بمثلها. فأين تجد المال اللازم لذلك؟
    وقد أصبحت الأسرة تعيش على ميزانية صغيرة. وفي كل شهرين أو ثلاثة،وعن طريق ابن عم ميمجيان آغا،يأتي صائغ قضى شبابه في إستانبول،وهو مخلص لهذه الأسرة،فتبيعه السلطانة قطعة مجوهرات،تتنازع عليها نساء المجتمع الماروني،اللواتي اغتنين من جديد. لا من أجل جمال الحجرة{هكذا} الثمينة،ولكن من أجل أن يحظين بحمل مخلفات هذه الأسرة العثمانية التي كانت مسيطرة في بلادهن مدة أربعة قرون.
    ولكن مقتنيات الأسرة من الحلي ليست مما لا ينفد. ويحدث أحيانا أن تتخذ السلطانة لهجة قاسية،وأن تتكلم عن ضرورة الاقتصاد – مما يضحك كل الموجودين في البيت. ذلك أن الأميرة لا تملك أي فكرة عن المال. ولقد رفضت باستمرار أن تراجع الحسابات – وتقول : "أتنظرون إليّ كبائعة؟ أو كامرأة قادرة على تقليب القطع النقدية التي تبعث على التقزز".
    وكان زينل هو الذي تولى الشؤون المالية للبيت. فهو منذ الآن الرجل الوحيد في الأسرة. ذلك أن خيري في السادسة عشرة من عمره،ليس إلا صبيا يكثر من الحرد. أما وأن السلطانة قد سعدت بخلاصها من هذه المهمة"التي لا تحتمل"فقد تركت له كامل الحرية في التصرف،وما من مرة تتقدم بملاحظة ما،أو تقول كلمة حول تواضع المائدة التي كثيرا ما تكون هزيلة. فهي قادرة فقط على التحليق فوق هذه التفاصيل.
    وبالمقابل فإنها لا تعرف أن ترفض شيئا على الفقراء الذين يقرعون بابها،{"ترفض"هنا بلا معنى!! والمقصود : أنها لا تستطيع أن ترد سائلا} فكرمها مشهور لدى سكان الحي جميعا،وما من إنسان يفكر في جعلها تلاحظ بأن الدنيا قد تغيرت،وأن عليها أن تكون أقل كرما. ولاسيما سلمى. فلقد رأت دوما من حولها يعطي للأصدقاء والخدم والعبيد والمعوزين. كانوا يعطون. وكان هذا أمرا طبيعيا،يؤلف جزءا من نظام الأشياء. أما اليوم،فإنه لم يعد هنالك مال. فهل هذا سبب كاف للتغيير؟ الحقيقة أنها،كأمها،لا تستطيع أن ترى عينين تتوسلان من دون أن تستجيب لهما. ذلك أن فعل الخير يسرها أعظم السرور.
    وذات يوم،كانت إحدى رفيقاتها تراها تفرغ ما لديها في حاملة النقود،في كل مرة يمر بها سائل ويمد إليها يده،فاستاءت منها هذا،وقالت لها :
    - ولكن توقفي عن القيام بدور الأميرة!
    وفي تلك اللحظة،دهشت سلمى من هذا القول. أما فيما بعد فقد تساءلت عما إذا كانت تعطي ما تعطيه لتحتفظ بوهم التميز عن الآخرين،أو بوضع لم يعد لها أبدا. وقد أقضها هذا التساؤل،بعض الوقت. ثم إنها قالت لنفسها،إنها لا تزيد على أن تنقاد لغريزتها: وكما أن واجب الجندي أن يقاتل،وواجب الطبيب أن يُعنى بالمرضى،فإن طبيعة الأمير،على ما ترى هي،أن يظهر بمظهر الأميري.
    وجاء موزع "بربري"يحمل رسالة. ولما كان مزهوا بلباسه الأحمر الرسمي الذي يبرز عظمة بشرته السمراء،فإنه وقف على مدخل البهو،حين كانت السلطانة تمزّق الغلاف المزين بتاج ذهبي سميك. وتقرأ :
    "وصحيح أن (الخديوي) حصل بفضل الإنكليز،على لقب "ملك مصر"،على ما كانت تفكر به،متسلية،وإذا هو بقي على شروط الطاعة المعروفة،فلعله يصل ذات يوم،إلى لقب "الإمبراطور". وكان التسامح الساخر،الذي كانت تستقبل به،بوجه عام،صغائر الغرور لدى أمثالها،قد تلوّن اليوم بشيء من الزهد : وهي غير قريبة من نسيان ما وقع سابقا،وهو أن السلطان الكريم رفض عام 1924 أن يستقبل الأسرة العثمانية المنفية.
    وتدل الكتابة العالية المركز عليها على شخصية تعي أهميتها،وهذه بنت أختٍ للملك فؤاد،هي الأميرة زبيدة،تمر ببيروت وتحب بهذه المناسبة أن "تَسعَدَ"بمحادثة السلطانة.
    "أوَ تَسعد. فعندما كنا حماتهم .. ولم يمر وقت طويل على ذلك،أي منذ اثنتي عشرة سنة،كانوا يطلبون التشرف باستقبالنا لهم! ولكن هيا ... سنستقبلها بشكل لائق. ولكنه ليس من المؤكد أنها ستجد فيها .. ما يسعدها!؟.
    وأخذت السلطانة واحدة من أواخر أوراقها التي تحمل شعارات الإمبراطورية،وخطت،مع بسمة خبيثة،بضعة سطور،تدعو فيها الأميرة إلى زيارتها في الغد،في ساعة الشاي.
    وكان العقد الثقيل المؤلف من حبات الزمرد يتوهج،وفي المركز ماسة كبيرة كعين السّماني تتألق بأشعتها المتنوعة الألوان.
    وعلى العتبة وقفت الأميرة زبيدة مبهورة،حتى ليصعب عليها أن ترفع عينيها عن عنق السلطانة.
    - ادخلي،يا عزيزتي،أرجوك.
    وفي الحال تعرفت زبيدة على اللهجة الإمبراطورية،حيث يختلط التهذيب المرهف،والسمو الرفيع،مع أكبر قدر من الظهور على السجية،هذه اللهجة التي تملؤها وهي فتاة شابة،بالإعجاب،والحقد،والتي لم تصل،مع جهودها كلها،إلى تقليدها.
    وعلى الكرسي العالي،في آخر الصالة،كانت السلطانة في شكلها القاتم،تنتظر،بلا حركة.
    وبسرعة تعود الأميرة إلى نفسها،وتنحني بلطف مقدمة أعمق تحياتها وتمنياتها،واليد على القلب،ثم الشفاه،ثم على الجبهة. وعندما تنتصب واقفة،ترى نظرة باردة،كلها تساؤل. ومن المؤكد أن مضيفتها كانت تتوقع ثلاث انحناءات،كما يقضي بذلك العرف في البلاط العثماني. وفي هذه القاعة الضيقة في بيتها البيروتي المتواضع. تبقى السلطانة "سلطانة"أكثر منها في أي وقت آخر. وتعود هذه المرأة الشابة،بعناء كبير،فتنقاد للعرف،موائمة بين تمنياتها وبين المكان الشديد الضيق،في الوقت الحاضر،محمرّة خجلا منذ البداية بعد أن أعيدت بصمت،ولكن بوضوح إلى مكانها.
    وأخيرا تبتسم لها السلطانة،وتشير إلى مقعد قريب منها لتجلس عليه. ولا تدرك ما وراء ذلك إلا بعد أن جلَست : ذلك أن المقعد الذي تجلس عليه الأميرة أدنى من الكرسي العالي الذي تجلس عليه السلطانة،مما يرغم الأولى على مد عنقها لكي تكلم مضيفتها : ذلك هو مبدأ العرش ومقاعد الدوقات الصغيرة.
    وكانت الأميرة التي شعرت بأنها تضيق بجلستها أكثر فأكثر،تتساءل عما إذا كان يجب عليها أن تعتبر نفسها مهانة،وأن تعرب عن ذلك. وفي هذه اللحظة بالضبط تتلكم السلطانة بأعذب لهجة في العالم لتشكرها على إضاعة جزء من وقتها الثمين للقيام بزيارة لمسكينة منفية. ترى هل كانت تسخر؟ ولكن ما الوسيلة لاتخاذ موقف بائس،أمام هاتين العينين البراقتين،وهذه الكلمات التي تقطر عسلا ..؟
    لكن الساعة التي تلت كانت من أطول الساعات التي عرفتها الأميرة زبيدة في حياتها،فقد جاءت متوجة بثروتها،وقوتها،لتلاحظ شقاء أسرة كانت دوما تغار منها،وفي نفسها أن تتألم،وتواسي،بل لتقدم بلطف وذوق،مبلغا صغيرا خبّئ في أعماق حقيبتها. وهاهي الآن تستقبل بنبل وتعاظم كانا أكبر مما عرفته في الأيام التي كانت فيها هذه الأسرة هي الحاكمة.
    وتساءلت الأميرة عن الأقاويل التي كانت تذاع عن فقر السلطانة – وحتى عن شقائها على ما كان يقول بعضهم. ترى كيف أخذت بها وخُدعت إلى هذا الحد. وحقا فإن البيت ليس كبيرا،ولكن حليّ السلطانة،وفخامة الاستقبال،حيث كانت تتتابع المشروبات،والحلوى المقدمة في آنية من أفخر ما يوجد من أنواعها،أي من الفضة المذهبة،وعلى أيدي ثلاثة من الخدم الذين يتقنون المهنة إلى أبعد حد،كل ذلك لا يدل على الضيق : فماذا تفعل؟ وكان التساؤل مثيرا للغاية،وكان من المستحيل طرحه.
    ومنذ أن حانت فرصة طبيعية،عادت الأميرة فقدمت شكرها،وطلبت الإذن بالانصراف،دون أن تنسى التمنيات – التي قدمتها،ثلاث مرات،دون أن تدير ظهرها،أمام السلطانة الجالسة على كرسيها العالي،التي تبتسم لها في طيبها العظيم.
    أما الشيء الذي لن تسمعه الأميرة المنكودة الحظ زبيدة،وما هي بعيدة عن تخيله،فهو انفجار الضحك لدى السلطانة خديجة بعد مغادرتها مباشرة.
    - حقا لم تكن تلك المرأة المتصنعة تصدق ما تراه عيناها! وأعتقد أني لقنتها درسا جيدا!
    ولن نحصل بسرعة على زيارات من هذا النوع. هيا،يا أبنائي،تعالوا،فالحلوى لذيذة جدا!
    فجاءت سلمى وخيري و زينل والكالفتان المتنكرتان بزي القائمات بالخدمة،وجلسوا جميعا على الطاولة. وتبعهم رجل قصير،أجلسته خديجة إلى يمينها،وملأت له هي بنفسها صحنه. إنه صديقها الصائغ الأرمني الأمين. وسيغادر المنزل بعد ساعة،وفي كيسه الجلدي الكبير،ذلك العقد الضخم،وصحون الفضة المذهبة التي أعارها للسلطانة بهذه المناسبة.){ص 239 - 242}.
    لابد أن تنتهي هذه الحلقة هنا ... والسلطانة تحتفل بهذا (الانتصار الصغير) .. هل من جديد في هذه الدنيا؟!!
    الملك فؤاد يرفض استقبال (الأسرة العثمانية المنفية) ... ثم لا يجد (رضا بهلوي : ملك الملوك) من يستقبله ... غير "السلطان" محمد أنور السادات ... وها هو "السلطان" زين العابدين بن علي معلقا في السماء لعدة ساعات لا يجد من يستقبله!!!!!!!!!! وذلك (الصهيوني) يحاول (إهانة) السفير التركي – قبل سنوات – بإجلاسه على كرسي أكثر انخفاضا من كرسيه هو!!!!!
    إلى اللقاء في الحلقة القادمة ... إذا أذن الله.

    إلى اللقاء في الحلقة القادمة ...إذا أذن الله
    س/ محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب


    حياة أميرة عثمانية في المنفى"11"
    نبدأ هذه الحلقة،بحنين (سلمى) إلى وطنها ... (في وسعنا،بكل هدوء،أن نلاحظ مرفأ بيروت،من شاطئ مدينة الحصن،من فوق صخرة تنهض عموديا من البحر.
    وفي كل خميس،تأتي الباخرة بيير – لوتي من إستانبول،وتفرغ حمولتها من الركاب. وبعد عدة ساعات،وعندما تكون قد امتلأت بالبضائع والمسافرين،تعود الباخرة البيضاء الكبيرة من جديد إلى العاصمة،وتحمل معها أحلام مراهقة تستند إلى الجانب الصخري،وتتابعها بنظراتها،بعنف،حتى تختفي عند حدود الأفق.
    وفي البداية كانت سلمى تنزل إلى المرفأ. وهناك تختلط بالجمهور،وتترك الناس يزحمونها ويهدهدونها،وعيناها مغلقتان،محاولة أن تجد آثار أصوات بلدها،ورائحته. ثم إذا هي غمرت بذلك كله،عندئذ،وعندئذ فقط،كانت تسمح لنفسها بالنظر. ويبدو لها عندئذ أن هذه الوجوه التي رأتها،تعرفها،وكانت تتفحصها بحماسة،واحدا بعد آخر،محاولة أن تلتقط في النظرات صورا تحدثها عن مدينتها،وأن تجد في بسمة ما،ذلك الألق المتشوق،لغروبات الشمس،على القرن الذهبي. وكانت تمسك نفسها بعناء عن سؤال الناس : هل الأهل في إستانبول سعداء؟ وأن تطلب قطعة من خبز السمسم،تجاوزت السلة،لتلحظ بها حرارة نبرة،أو وردة ذابلة.
    وكان هؤلاء المسافرون،المزدانون بأوهامها،موضوع تأمل من قبل هذه المسكينة. وكانوا يتجاوزونها،مندهشين،مستنكرين.
    أما بعد ذلك، فقد فضلت أن تلجأ إلى صخور هذا الشاطئ الخيالي.وبعيدا عن الجمهور الذي ظل محتفظا بسره،وعن هذا الشيطان ذي الجوانب الحسنة الاستقبال والهادئة،تجد حلمها بصورة أفضل. (..) واستمر ذلك حتى فقدت بييرلوتي،بالتدريج،سحرها وأصبحت كغيرها من المراكب،وأصبح لركابها ذلك الوجه العاجي المغتبط،كالمسافرين الذين يفدون من أية نقطة في العالم. (..) وبعد ذلك. وبعد زمن طويل من نسيانها طريق المرفأ،بدأت سلمى تتساءل عما إذا كانت تمضي إلى هناك لتغذية عذابها،أو لتقضي عليه،ولتتحرر منه.){ص 259 - 260}.
    وتنتقل دفة الحديث إلى السلطانة خديجة .. (وهذه السلطانة التي كان قصرها أورطاكوي،يعج بالناس،والتي كانت تقسم وقتها بين أعمال البر التي تقوم بها،وبين المناقشات السياسية،وبين مجالس الأسرة،وأصدقائها وصديقاتها،والتي كانت تشرف على جيش من العبيد والخادمات وتقوم هي نفسها بحل مشكلة كل واحد منهم على حدة،هاهي ومنذ سنتين،محصورة في هذا البيت،وليس لها من صحبة غير هاتين الكالفتين،,غير هذا الخصي ... وحقا فإن زينل أكثر من بكثير من خصي،إذ لقد أصبح المحاسب،وأمين السر،والمستشار في كل ما يهم الحياة اليومية،ولكن هل هو صديق،أو ممن يباح له بما في النفس؟ إن سلمى تعرف أمها،وتعرف أنها حتى إذا أصابها اليأس،فإنها لن تتساهل ... تجاه الأدنى. وليست القضية قضية زهو أو عجيب – فالسلطانة تقدر زينل أكثر بكثير مما تقدر أغلب أمراء الأسرة – ولكنها قضية منظومة من القيم،وهي من الرسوخ،بحيث أنه ما من كارثة تستطيع هزها أو زلزلتها : إذ لا يطلب العونُ من أولئك الذين يعتبرون بحكم التقاليد،ممن علينا أن نحميهم،فمع هؤلاء يمكن أن نتقاسم الأفراح،ولكننا لا نتقاسم المصائب والأتراح.
    وفي القاعة يجلس شخص مهيب،كله أسود : إنه نائلة السلطانة بنت السلطان عبد الحميد. وكانت الأسرتان لا تتزاوران في إستانبول. ولكن المنفى قرّب بينهما. وما أقلهم عددا في بيروت! ذلك أن أكثر الأمراء والأميرات قد تبعوا الخليفة إلى نيس،حيث عاد للتكوّن،بلاط صغير. وإلى هنالك ذهب العم فؤاد – "إلى بلاد النساء الجميلات"على ما كان قد صرح به،مغطيا شقاءه بالمزاح – والسلطان الفراشة التي طالما حلمت بأن تعرف الشاطئ اللازوردي. وكثيرا ما كنت سلمى تفكر بهذه الخالة،المرحة،الأنيقة،التي كانت تدفع بالذوق إلى الدرجة التي كانت معها تجعل فرش عربتها منسجما مع لون أثوابها،يوم تحتاج إلى التنقل. ترى ماذا فعل الله بها؟ وهل هي سعيدة في باريس؟ بل إن مراهقتنا لا تستطيع أن تتخيل صورة حياتها هناك. أما فهيمة السلطانة فقلما تكتب عن أخبارها. وبالمقابل فإن فاطمة السلطانة،تكتب بانتظام. فلقد استقرت في صوفيا مع زوجها وأولادها الثلاثة،وأصبحت تعيش حياة هادئة،يضيئها وجود شيخ عظيم للدراويش،تزوره عدت مرات في الأسبوع.(..) والباقي هنا – هو المنفى،والعودة الممكنة – وهذا ما كانت تتحدث عنه السلطانة خديجة وابنةُ عملها نائلة. أما أخبار إستانبول فسيئة. ذلك أن مصطفى كمال أوقف أهم معارضيه،بحجة اكتشاف مؤامرة ضده. وبعد أن حوكموا محاكمة تافهية،صرح خلالها القاضي "علي الأصلع"للصحفيين بأن المتهمين كانوا مذنبين حقا،نُصبت لهم المشانق،وتم التنفيذ هذا الصباح،في 27 آب / أغسطس 1926. وكانت إذاعة لندن هي التي أشاعت الخبر،وأوضحت أن الوضع هادئ. أما محاكم الاستقلال فإنها تظل عاملة، في المدن كافة.
    وتعبر السلطانة خديجة عن استيائها،وإذن فمن بين كل الأبطال الذين حاربوا من أجل استقلال تركيا،لم يبق أحد؟
    وعلى كل حال يبق الوزير الأول عصمت اينون. وقد أطلق عليه لقب"سوط الغازي"لأنه شديد على الذين ينحرفون عن الخط. أما أكثر الآخرين،مثل رؤوف باشا ورحمي والدكتور عدنان وخالدة أديب،فقد نفوا أنفسهم منذ عدة أشهر. وعندما حل كمال الأحزاب رأى هؤلاء أنه لم يبق لهم ما يفعلونه،وأنهم هم أنفسهم في خطر.
    وتنهدت السلطانة . وقالت :
    مسكينة تركيا. وماذا أقول عندما أفكر بأن هذه الحكومة مضت إلى حد تغيير اسم الله وأن على الناس في المساجد أن يُصلوا لـ"تانري"بحجة أنه اسم أكثر تركية! .. ولقد انتظرت مدة طويلة رد فعل الشعب على هذا،ولكني ألاحظ الآن أنه مقيد تماما.
    وهنا ضعف صوتها،وتابعت تقول :
    وأصل من هنا إلى التساؤل،عما إذا كنا حقا سنعود يوما ما لديارنا .. وبلادنا ...
    وهذه هي المرة الأولى التي تعترف فيها السلطانة بشكوكها. فأخذ الاضطراب بسلمى كل مأخذ،واقتربت،فقبلت يد عمتها،وجلست على الوسادة إلى جانب أمها.
    أيندجيم،من المؤكد أننا سنعود. ففي إستانبول،كل الناس مستاؤون،كالطلاب،والمثقفين،ورجال الدين،والتجار خاصة. وتذكري ما كتبه ميمجيان آغا إلى ابن عمه : "إن السوق كلها معادية للنظام الجديد،وعندما تبدأ السوق بالتحرك،فإن القادة يكونون في خطر".
    وكانت المراهقة قد وضعت في نظراتها كل ما تستطيعه من القناعة : إذ يجب ألا تفقد أمها الأمل. فبدأت الأم تداعب بحنان،خصلات شعر ابنتها الأحمر.
    إنك على حق يا بنيتي. وقد تنتابني أحيانا نوبات اكتئاب ليس على الإنسان أن يُعيرها أي انتباه.
    وتشعر سلمى بقلبها ينقبض : فإنها تقبل كلامها حتى لا تحزنها،وكل منهما تمثل على الأخرى. وفي الحقيقة فإنهما،كلتيهما،تعرفان. تعرفان؟ وتعود فتنتصب،استياء – فماذا تعرفان؟ لا شيء! بل هما بكل بساطة في حال من قبل الهزيمة. ولكن سلمى،وهي وحدها،ترفض! "إذ يجب أن تناضل،على ما كانت تقوله قديما أيندجيم. فكل شيء ممكن دائما". (..) وذات صباح،ومن غير أن يحدث شيء ينبئ عما سيكون،استيقظت سلمى مرهقة،مثبطة العزيمة. ونظرت إلى غرفتها ذات الأثاث العادي جدا،وفكرت : "إن الحقيقة،هي هذا!". ودفعة واحدة،استولى عليها اليأس،وارتمت على وسادتها وبدأت شهقات البكاء. آه،كم تكره لبنان. فنحن دوما أمام هذا البحر الأزرق،وهذه الشمس العنيدة،وهذا المرج! وكم تكره هؤلاء الناس الذين يستقبلونها في"بيوتهم"،وكل هؤلاء الذين يستطيعون أن يقولوا : "جماعتنا،بلدنا،وطننا"من دون أي رغبة في البكاء. وكل هؤلاء الذين يخصّون الآخرين ... وأبدا لم تعود فتجد إستانبول،ولن تخص أحدا مطلقا. ففي كل هذه الأيام،كانت تكذب على نفسها. إذ لا يمكن أن نناضل إلا إذا كان لنا أرض نقف عليها،ونحارب فيها وجها لوجه،أرض لنقع فيها،ومنها سننهض. ولكن عندما لا يكون هناك ما يثير فيك أي صدى،وعندما لا تستطيع يداك أن تلمس شيئا لك حقا،وعندما يحكم على أقوالك بأن لا تكون أكثر من ضجيج ... فأنى لك أن تحارب؟ وضد ماذا؟ وضد من؟ (..) – ولكن من الذي سرق البسمة من ابنة عمي الحلوة؟
    وكان قد وصل الأمير أورهان،حفيد السلطان عبد الحميد،وهو يوقد سيارة من نوع دولاهي،بيضاء رائعة. إنه يقوم بوظيفة تاكسي،كما يقول. وهذه طريقة في أن يضع نفسه في خدمة كل الناس،وبالتالي لا يخدم أي إنسان. كان قصيرا ونحيلا،ولكنه ذو قوة هركولية،ومزاج حاد،وهو لا يتردد،عندما يتخذ زبون ما لهجة لا تروقه،لا يتردد في أخذه من عنقه،ورميه خارج السيارة. وهكذا وجد بعضهم نفسه ملقى على الأرض،دون أن يفهم ماذا كان يحدث له : وكان ذلك فقط لأن سموه شعر بأنه شُتم.
    وسلمى تعشق هذا الرجل. فهو غريب،لا يتقيد بالمواضعات،على نقيض ابن عمه خيري الذي لا يرتدي منذ بلغ الثامنة عشرة من العمر،إلا بدلات قاتمة وياقات منشّاة،حتى في عز الصيف. أما أورهان،فإنه في العشرين من عمره،ولا يتخذ موقف الجد من شيء. وهو يأبى الكلام عن تركيا،ويسخر من مزاج ابنة عمه الصغيرة.
    إنه دمك السلافي! فكل هؤلاء الجميلات الأوكرانيات والشركسيات،اللواتي حلّى بها أجدادنا حريمهم،نقلن إلينا حبة! هيا،يا أميرة،استفيدي من حريتك. فأنت تعرفين أنك في إستانبول تظلين سجينة. هيا أسرعي وجمّلي نفسك،فأنا آخذك تحت لأنزهك.
    ويركبان،ضاحكين،في السيارة البيضاء،تحت بصر السلطانة المتسامحة. فابنتها الصغيرة بحاجة إلى بعض التسلية،ومع أورهان،تكون تحت حراسة جيدة.
    وأخذ الاثنان طريق دمشق،الذي يصعد متثنيا بين أشجار الجيكاراندا ذات الأزهار البنفسجية،والعندم الهندي،والعرعر. ولقد طلبت سلمى،بأعذب صوت لها،أن تسرع السيارة،وأن تمضي بعيدا. (..) وتنهدت لشعورها بالراحة،وأنزلت زجاج السيارة وعرّضت وجهها للهواء،وكانا كلما ارتفعا على الطريق،ابترد الهواء،وصفا الضياء وترك الصنوبر والسرو مكانهما لأشجار الخروب،ذات الجذوع الملساء والأوراق الخضراء البرونزية،الناعمة الملمس،حتى ليكاد الإنسان أن يداعب جسده بها.
    ولقد تجاوزا بحمدون. وانتصبت أماهما سلسلة جبال لبنان،الزرقاء بعض الشيء،مما عليها من ضباب،وتميز فيها بعض شعاعات الشمس،قمة جبل صنين الملأى بالثلج.
    وقفزت سلمى من العربة،وبدأت تعدو على الطرق،في وسط الحشائش العالية،والغويبات الملأى "بالوزال"ووجهها يتطلع إلى السماء،وذراعاها مفتوحتان،كما لو أنها تريد ضم كل هذا الأفق،وامتصاصه،وتملكه،ثم تعدو وتعدو حتى ليقال،إنها لا تريد أن تقف،فتسمع من بعيد صوت أورهان،يناديها،ولكنها لا تلتفت إليه،وتريد أن تبقى وحيدة مع هذه الطبيعة التي تردها إلى نفسها،والأقرب إليها من أعز الصديقات،هذه الطبيعة التي تستسلم لها دون الخوف من أنها ستتخلى عنها،والتي تشعر من كل مسامها بأنها تدخل إليها،وتهبها القوة،والشدة.
    وارتدت بعنف على العشب،وهي تشم الآن رائحة الطبيعة،ورأسها فيما يشبه الدوار،وتصعد إلى ساقيها وبطنها تلك الاهتزازات الحارة للأرض،وهي تشعر بأنها تنصهر فيها. إنها لم تعد سلمى،بل هي أكثر من ذلك،إنها هذا الغصين من العشب،وهذه الوريقات،وهذا الغصن الذي بتمطى لكي يبلغ السحاب،بل هي هذه الشجرة التي تمد جذورها حتى الأغوار العميقة والخفية لولادتها،وهي هدير النبع وماؤه الشفاف الذي ينطلق هاربا،فيبقى دوما هناك. إنها مداعبة الشمس،دوران الريح،وهي لم تعد سلمى،بل هي موجودة،فقط.
    وعلى طريق العودة لا تنطق الفتاة بأية كلمة،وتحاول أن تحمي فرحها،كأنما هو لهب ضعيف تخاف أن يخبو. وظن أورهان أنها حزينة،فجد يبحث عن طريقة لتسليتها. ويقص عليها مئة قصة لا تسمع منها شيئا. ولعلها تؤثر أن يسكت. ولكن أنى لها أن تفهمه أن الصمت قد يكون أعز الرفاق،وأكثرهم حرارة وأعظمهم انتباها،{طبعا هذه العبارات تذكر بالحكمة المشهورة لـ"كونفوشيوس" : ((الصمت صديق لا يخون أبدا))} وأوسعهم كرما،وأنها في كلمة "الوحدة"ترى "الشمس". { في الهامش : كلمة الشمس بالفرنسية هي Soleil،وكلمة الوحدة التي تعني العزلة هي Soletude،ومن هنا نشأ جناس خاص،لا يمكن إنشاؤه في العربية.}.
    وفيما بعد،عندما كانت سلمى تذكر هذه الفترة من مراهقتها،كانت تقول : إنها هذه الصلة الرحيمة مع الطبيعة التي حمتها من اليأس،وردتها إلى نفسها. ولولا هذه الانطلاقات في هذا العالم السحري،لما احتملت الانفصال عن كل ما كانت تحبهـ\،ولما استطاعت،على الأرجح،أن تقاوم الاكتئاب اللاذع،الذي كان يهاجم شيئا فشيئا،منزل طريق رستم باشا.){ص 262 -267 }.

    بعد سلمى هاهي السلطانة خديجة ... ( تنهار أكثر فأكثر كل يوم. ثم إن إعادة انتخاب مصطفى كمال لرئاسة الجمهورية،مرة ثانية،في تشرين الثاني / نوفمبر 1926،أصابتها بصدمة لن تبرأ منها. ومنذ الآن،رأت نفسها مرغمة على القول بأن الشعب التركي لن يحارب من أجل عودة الأسرة العثمانية. وتأثرت بذلك صحتها،وازدادت خطورتها. وجاء الطبيب فشخص لديها مرضا في القلب. وقالت له مبتسمة : "حقا يادكتور،إن القضية قضية مرض في القلب"،وتطمينا لزينل وللكالفات،قبلت أن تتناول،كل يوم،جملة الحبّات والنقاط التي كانت زجاجاتها مصفوفة على طاولة نومها.
    وكان ما يقلق سلمى أكثر من المرض،هو ذلك الانقياد أو المطاوعة اللامألوفة لديها : وهي تشعر جيدا أنها ليست نتيجة الأمل في الشفاء،بل نتيجة اللامبالاة العميقة في بالحياة،كأنما هي استقالت منها.وكانت المراهقة تتألم من أجل أمها. وفي الوقت نفسه كانت تحقد عليها أنها لا تقاوم ما بها. وتلك التي كانوا يسمونها "جيها نجير" "غازية العالم" – وإلى هذه الدرجة كانت قوتها لا تنحني في الخصومة – ليس لها الحق في ترك الأمور على عواهنها،ولا الحق في التنكر لنفسها! ولا يجوز لها أن تكشف ضعفها للناس،كأي واحدة من البشر،بل يجب أن تستمر في البقاء "سلطانة". ولئن كان الوثن يبدأ بالتحطيم،فإن العالم كله حولها ينهار.)
    {ص 267 - 268}.
    وانتهت السنة دراسية،وتتعلق سلمى بالسينما،أما السلطانة .. (فإنها لم تقف ضد حب سلمى للسينما،وتعلقها بها. وتقول لنفسها إن خيال ابنتها سيجد ما يتغذى به في هذه القصص الرومانطيقية الجميلة،أكثر مما يجد في الوحدة،داخل بيت،كل ما فيه يتحدث لها عن الماضي. فهذا الفن السابع هو في سبيله إلى أن يأخذ مداه.
    وهناك شركة هوليودية كبرى اسمها Warmer Bros،نجحت نجاحا ضخما في إنتاجها فيلما ناطقا باسم مغنى الجاز،حيث نجد الممثلين يتكلمون.
    وهكذا اعتادت سلمى وأمل،أن تذهبا إلى السينما كل يوم جمعة في الساعة الثالثة،في الحفلة المخصصة للنساء. ويأتي مروان بسيارته إلشيرنار وووكر التي تحمل النسر المذهب الشهير،فيوصلهما إلى السينما،ثم يعود بهما عند نهاية الفيلم.
    ولكن كثيرا ما تقع أخطاء فنية عند العرض،وقد يحدث أن هاتين الفتاتين المراهقتين من انقطاع العرض،تتركان السينما المظلمة وتذهبان فتتنزهان في ضياء الشمس.
    وهذا الحي من المدينة،الذي تجتمع فيه كل قاعات السينما،هو بذاته مغامرة. وهو يبدأ من ساحة المدافع،التي اصبح اسمها ساحة الشهداء،منذ أن قام جمال باشا التركي بشنق أحد عشر معارضا فيها،عام 1915. وهذا الحي هو أكثر الأحياء حركة،وكثرة مارة،في بيروت،وهو مجمع المقاهي العربية،حيث تجد رجالا يضعون الطرابيش على رؤوسهم،ويقضون ساعات طويلة في لعب الطاولة،بكل رصانة،(..) ثم إنه المكان الذي تكثر فيه المطاعم والمقاهي الليلية،أي هذه المحلات التي تتحدث عنها النساء المسلمات في رأس بيروت،ويقلن إن النساء فيها يرقصن عاريات. وتأخذ سلمى بيد أمل : فبمجرد المشي بجانب هذه المحلات يعني أنك تذوقت الثمرة المحرمة. وكان في ذهنهما أن الناس جميعا ينظرون إليهما،وتتخذان صورة اللا مبالي وهما تقطعان الساحة ببطء،باتجاه المطعم الفرنسي،"وهو ملهى مرح جدا" على ما قال أورهان الذي زاره مرة.){ص 271}.
    ويقترب حلم سلمى – بحضور حفلة – من التحقق،ولكن مع مؤامرة صغيرة،بين الصديقتين :
    (وعندما وصلت بطاقة الدعوة،كانت أمل،كما لو أن الأمر،بالصدفة،عند صديقتها – وسألت السلطانة بلهجة الاحتقار :
    من عساهم أن يكونوا هؤلاء السرسق؟ أيكونون تجارا على ما أقدر؟
    وأجابت أمل بلطف :
    أوه،كلا،يا صاحبة السمو،إنهم إحدى العائلات الكبيرة ويقومون بأعمال ضخمة في ...
    وقاطعت السلطانة كلام أمل بجفاف،قائلة :
    إن هذا ما كنت أقوله. إنهم تجار.
    من حسن الحظ أن السيدة غزاوي كانت موجودة هناك. وهذه لبنانية ولدت في إستانبول،وتزوجت أحد كبار الموظفين. فشرحت للسلطانة أن "السرسق"هم أحسن من يوجد في لبنان!
    وهم روم أرثوذكس،بطبيعة الحال،ولكنهم في النعومة،التي للسنيين. ففي أبهائهم لا نلتقي إلا بأفضل شخصيات المجتمع اللبناني. ولئن شاءت الأميرة سلمى أن تخرج إلى الناس ذات يوم،فإنه لا يمكن أن يوجد مكان أفضل من قصر السراسقة. ولكن إذا كانت،سموك،تبتغين إبقائها في البيت،بطبيعة الحال ...
    وكانت سلمى مستعدة لتقبيل السيدة غزاوي على دفاعها هذا،ولكنها كانت مسرورة بتقليب صفحات إحدى المجلات،وعليها سمة اللا مبالاة،كأن الأمر لا يعنيها.
    وتتردد السلطانة خديجة. فالسيدة غزاوي تعرف معرفة كاملة عالمها اللبناني الصغير،واتضح أن نصائحها ثمينة ،دوما : ولكن ملاحظتها الاخيرة هي التي هزت أركان السلطانة،ذلك أنها تنسجم مع الهم الذي بدأ يسكنها منذ بعض الوقت،ويمنعها أحيانا من النوم : ترى ماذا سيكون أمرُ سلمى؟
    وعندما كانت في المدرسة،مشغولة بدراستها،فإن هذا الأمر لم يكن مطروحا،ولكن الآن؟ الآن والمنفى يطول،والعودة إلى تركيا تبدو مجرد خيال،فإذن ماذا سيكون أمرها بعد هذا؟
    يجب أن نجد لها زوجا،و مسلما طبعا،وغنيا،وأميرا على الاقل،وهذه شروط الثلاثة يستحيل الجمع بينها في هذه البيروت،حيث لا تطمع حتى العائلات السنية بزواج مع بنات الأسرة العثمانية.
    ولعل ذلك ممكن من جهة الأسرة الملكية المصرية،أو من الإمارات الهندية..؟
    وبانتظار ذلك،فإن السيدة غزاوي على حق. فليس على سلمى أن تبقى قابعة في البيت. ويجب أن تتعلم منذ الآن الدخول في المجتمع. ولا تكفي المعرفة التي يمكن أن تنقلها السلطانة إليها،لتقوم بهذا الدور،بل إن على ابنتها أن تجابه الواقع. (..) وبكل نعومة تستدير السلطانة نحو أمل،وتقول لها :
    عودي في الغد،يا بُنيّة. وسأعطيك جوابي.
    والحقيقة أنها كانت قد اتخذت قرارها. فسلمى تذهب إلى دعوة ليندا سرسق. ولكن بقى هنالك مشكلة صعبة : فماذا تلبس؟ إذ ما من مال متوفر لشراء الفستان المناسب. ولكنّ عليها،بين كل هؤلاء اللبنانيات المترعات بالحلى،واللواتي يلبسن أحسن ما تخترعه الخياطة الفرنسية،أن تحتفظ بمقامها! لكنّ لدى السيدة غزاوي رايا في هذا الموضوع،وهي امرأة ذات .."
    لئن استطعت أن أسمح لنفسي،يا صاحبة السمو،فإني أسأل لماذا لا تقوم ليلى هانم التي تملك أصابع الجنيات،بأخذ واحد من أثوابك القديمة،وتطوره لهذا الغرض؟ فهذه الثياب الفخمة المقصبة لابدّ أن يسوء حالها إن هي بقيت نائمة في الخزائن.
    ويلاحظ الجميع أن هذه الفكرة رائعة الذكاء،فتقوم سلمى عندئذ باختيار فستان حريري لونه أزرق بحري،يبرز لون عينيها.
    وخلال ذلك يصل سورين آغا. فيوضع في الصورة. إذ لقد أصبح الارمني صديقا للاسرة منذ أن أشار ذات يوم على الأميرة،وضد مصلحته هو،أن تشتري بثمن المجوهرات التي تبيعها له،أسهما في الشركات،لكي تستفيد من أرباحها. ولقد وضع نفسه في خدمة زينل في هذه القضية الحساسة. فكسب بإخلاصه ووفائه ثقة كل هذه الأسرة،وكل أفرادها.(..) وربما لاحظ الإنسان أنه يريد أن يقول شيئا،ولكنه لا يجرؤ. وأخيرا غامر،محمر الوجه،بالقول :
    عفوك يا سيدتي السلطانة،واغفري لي جرأتي،ولكن الأميرة سلمى جميلة. ويجب أن تكون الأجمل،فهل تقبل أن تختار بين الحلي التي أملكها ما ترى أنه الأفضل بالنسبة إليها. كل ما لديّ هو بين يديها،في كل المناسبات التي تحتاج فيها إلى الحلي،وسيكون ذلك شرفا كبيرا لي!
    وتأثرت السلطان بهذا القول،وابتسمت للرجل القصير،ومدت إليه يدها التي أمسك بها،متعثرا،وقبّلها بحماسة.
    الآنسة أمل الدروزي،والآنسة سلمى رؤوف،والسيد مروان الدروزي.
    هكذا قدم المعلن القادمين الجدد،وألقى بنظرة حائرة على الفتاة التي تصحب الدروزي. إذ أنه لم يرها قط في "أربعاءات"ليندا سرسق،(..) وكانت المضيفة قد أسرعت إلى لقاء القادمين الجدد. (..) ولكن اعذروني،إني أترككم،فها هو غبطة البطريرك!
    وتنطلق مهفهفة لكي تقبل الخاتم الذي يتألق في اليد المعطرة. (..) وقاد مروان الفتاتان إلى الشرفة،وهي مكان مثالي ليستمتع الإنسان،دون أن يزعجه أحد،برؤية هؤلاء الحاضرين بألوانهم الغريبة. وبدأ مرشد سلمى يعرفها بالحضور.
    فهذا السيد النشيط،الذي يضع قرنفلة في مزررته،هو نيقولا بطرس،من عائلة من الروم الأرثوذكس أيضا،وهي تنافس عائلة سرسق في فخفخة الاستقبالات. وإلى جانبه الماركيزة جان دو فريج،وهي نبالة بابوية،تلقبها ألسنة السوء"بالماركيزة من عهد قريب". وأبعد منها،هذا السيد القصير،وهو هنري فرعون،رئيس الناي الأدبي،وهو لا يعطي انطباعا هاما،ولكن لا تنخدعي بمظهره،فهو يملك أعظم مجموعة من الأشياء الفنية في لبنان كله،وسوريا على أغلب الظن! (..) وانظري،إن الأميرة شهاب قد وصلت. وهي تنتسب إلى أقدم اسرة أمراء الجبل،وهاهي الجميلة لوسي طراد،مصحوبة بجان تويني،هذا الكهل المتميز جدا،فقد كان سفيرا للأمبراطورية العثمانية،في عاصمة القيصر الروسي،وهو صديق شخصي لإدوار السابع.
    (..) ويضحك الجميع،دون أن يلاحظوا أن رجلين كانا منذ بضع دقائق،يراقبانهم من الجهة الأخرى من الشرفة،مراقبة المهتم الحريص.
    أقول لك إنها فرنسية! فانظر إلى هذه القامة المشيقة،والخصر النحيل،والبشرة البيضاء،إنها روعة حقيقية!
    إنك لا تعرف من الأمر شيئا يا أوكتاف! فهذه العيون الناعسة،وهذا الفم البض الشفتين،البريء والشهواني معا،لا يمكن أن يكون إلا لواحدة شرقية.
    حسنا،فلنتراهن،يا ألكسيس. ولكن لنتراهن،لا على أصل الفتاة،بل على أي منا يكسب مودتها.
    لم أكن أتوقع اقل من ذلك من ضابط فرنسي،فأنت دائما مستعد للهجوم،أليس كذلك؟ ولكن حذار. لقد لاحظت يدها فهي غير ذات بعل. (..) وبكل سهولة ويسر،اقتربا.
    وإذن،يا صدقي مروان!
    وبصورة أليفة جدا،ضربا على كتف الشاب ضربات خفيفة،وانحنيا أمام أخته،مع شيء من التردد أمام سلمى.
    الآنسة؟
    وتسرع أمل فتقول :
    الآنسة سلمى رؤوف. يا سلمى إني أقدم لك ابن العم الصغير لمضيفتنا. ألكسيس،والكابيتين أوكتاف دي فير بري.
    ويبدأ الحديث،بحيوية. وهذان القادمان الجديدان يتمتعان بحب النكتة،وبجمال الخلقة،وهذا الأخير لا يفسد فيهما شيئا.وكانت نظرتهما المعجبة تجعل سلمى شديدة الخفة. ولنذكر الآن أنها كانت قد ترددت في المجيء،خجلا وخوفا من أن يصيبها الملل! ويتناول الحديث كل شيء ولا شيء. وبصورة خفية يسال ألكسيس سلمى :
    آه : أنت مستقرة إذن في بيروت. وأبوك ديبلوماسي فيها على الأرجح؟ لا؟ هل هو ... ميت؟
    وتخذ وضع المتالم.
    أرجوك أن تعذريني. يجب أن تكون أمك متألمة من الوحدة،وأنا واثق من أمي ستسعد بأن تدعوها إلى حفلة شاي. أفلا تخرج؟ أم هي مريضة؟ ما أكثر البؤس! وهكذا فأنت زهرة حلوة وحيدة. ..
    ويحمر وجه سلمى. فما من مرة كلمها رجل بهذه الصورة. والواقع أنها لم تسنح لها فرصة للكلام مع رجل،غير إخوة صديقاتها،اللواتي يعتبرنها كأخت. وبدأ قلبها يخفق بسرعة أكثر بقليل. ترى أهذا هو ما يسمونه "المناغشة"أو الغزلFieurt؟
    وهذه اللحظة التي يختارها مروان،غير الشاعر بما يجري حوله،ليتذكر بأنه لم يقدم احتراماته للخالة إيملي.(..) ويبستم ألكسيس إذ يرى مروان يبتعد ويقول :
    إن هذا المروان رجل لطيف حقا.
    وقالت سلمى :
    بلى،دون أن تدرك الغمزة،مما أضحك أوكتاف كثيرا.
    وغامر فقال ايضا :
    أولا ترين،يا آنسة،أن هذه الأمسية تتطاول قليلا،بل ليس هناك من موسيقى جيدة. فهل تحبين الرقص؟
    وترد سلمى :
    أحبه كثيرا،ولعلها تفضل أن تفرم قطعا صغيرة من أن تعترف بأنها لم ترقص قط،إلا مع رفيقاتها في الصف.
    وإذن فأنا أقترح عليك شيئا أكثر إمتاعا من هذا الاستقبال المزعج. سنقوم بتهيئة حفلة لديّ،مع بعض الأصدقاء،ونساء جميلات. ولديّ آخر الاسطوانات التي ظهرت في باريس. وأنا أضمن لك أنك لن تملي لحظة واحدة. (..) وتتلعثم قليلا،وتقول:
    لا أعرف ما إذا كان مروان وأمل ..
    فيغمز أوكتاف بعينه.
    أوه! إنهم من (الدقة) القديمة،بل لسنا بحاجة إلى أن نقول لهما. فسنقترح أن نصحبك في العودة،لأن بيتك على طريقنا،وتكون اللعبة قد تمت.
    ويشعر ألكسيس أنهما يسرعان أكثر مما يجب. ولكن الزمن يفرض ذلك،إذ سيعود مروان بين لحظة وأخرى. فيقرر أن يضرب ضربته الكبرى.
    لا تقولي لي،أنك لست واثقة منا! ويقو هذا وعليه سمة من جرحت كرامته.
    والحقيقة أنه غير منزعج،من أن ترغمه على الإلحاح في الرجاء. فهو لا يحب الانتصارات السهلة. (..) هيا يا ينيتي الجميلة،افلهذه الدرجة لا نعجبك؟
    وتقدم أوكتاف دو فير بري فاقترب من الفتاة،وبحركة طالما نجحت في الماضي يمد ذراعه الملاطف حول خصرها.
    وحالا،وبقفزة واحدة،تخلصت سلمى من يده،مرتجفة من الاستنكار وقالت له :
    اتركني أيها المقرف!
    وإذن فقد كان هذا لطفهما،وجميل تقربهما. فكيف لم أفهم ذلك من قبل؟ ولكن كيف لها أن تقدر أنهما يعتبرانها ... فتاة ... وتشعر بأنها لوثت،وأذلت،ولديها رغبة في البكاء.
    أهذا أنت. إنه لغريب. وماذا تفعلين هنا يا أميرة؟
    وكان على الشرفة سيدة طويلة القوام تتقدم،فتعرف سلمى بدهشة. أنها عمتها،نائلة السلطانة. فكيف حدث لها وهي القليلة الظهور جدا بين الناس،أن توجد لدى العائلة "سرسق"،عرفت العمة إيميلي في إستانبول،وأنها أرادت تكريمها – والمرة الوحيدة ليست بالعادة – بحضور هذه الأمسية. فطار صوابها – ولكن ماذا حزرت؟ - فتقوم سلمى بتقديم احتراماتها العميقة،وتقبل اليد الممدودة إليها،بينما كان الشابان المبهوتان،ينحنيان :
    صاحبة السمو.
    فنظرت إليهما بعين مملوءة بالشك،ثم قالت بلهجة جافة :
    إني أحرمكما أيها السيدان،من قريبتي. فقد مضى وقت طويل لم أرها خلاله.
    وتأخذ سلمى بذراعها،وتستولي عليها بحكم السلطة.
    هل أنت مجنونة،يا صغيرتي،ووحيدة في شرفة تكاد أن تكون غير مضاءة،مع رجلين ليس لهما – وهذا ما أستطيع أن أقوله لك – أية سمعة حسنة! ولئن كان شرفك رخيصا عليك،فإن شرق لأسرتنا،غالي عليّ! وستعدينني أن تتصرفي في المستقبل،تصرفا أرعى للكرامة. فإذا لم تفعلي فأنا مضطرة إلى إخبار أمك المسكينة،ونصحها بأن تحبسك في غرفتك،حتى يجدوا لك عريسا.) {ص 273- 283}.

    إلى اللقاء في الحلقة القادمة ...إذا أذن الله
    س/ محمود المختار الشنقيطي المدني
    س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب

  9. #9
    بارك الله بك أستاذ محمود وهناك حلقات ناقصة
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  10. #10
    السلام عليكم .. الفضل لله .. ثم لكم .. نشرا .. واهتماما.
    وهذه بقية الحلقات ..

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. ومضة بل مشهد من كتاب "حياة أميرة عثمانية ..."
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-26-2016, 12:32 PM
  2. المنفى – ريتشارد نورث باترسون
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04-01-2013, 10:35 AM
  3. حياة أميرة عثمانية في المنفى _ كينيز مراد
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 04-12-2011, 07:34 PM
  4. العطاء الأوفى للمتنبي كان من بيته بحلب!
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى العرُوضِ الرَّقمِيِّ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-15-2010, 05:10 AM
  5. مشاهدات عائد من المنفى إلى منفاه
    بواسطة عماد على قطرى في المنتدى الشعر العربي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 01-09-2010, 09:17 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •