عن القراءة والكتاب في أوطاننا

وشهد شاهد من أهلها، قرية وديعة هادئة تنام في أحضان بارونات الكوكايين والماريخوانا بكولومبيا، ومن منّا لا يعرف هؤلاء البارونات، إنهم طغاة، قساة لا قانون جائر فوق قانونهم، ولا قسوة أشد من قسوتهم، إنهم جبابرة فوق الأرض.
مواطن بسيط، مسكين، لا حول له ولا قوة، يملك كوخا وبجانبه مخزن صغير للكتب، يقتنيها كلما دخّر بعض الأموال. راودته فكرة عظيمة، لم يسبق للسواد الأعظم منا تصورها. إنها فكرة استثمار هذه الكتب بإيصالها إلى القراء البسطاء ثم كرائها لهم مقابل أتعابه.
يتشتت القراء في قرى كثيرة وبعيدة، مما يستلزم على المواطن العظيم إيجاد وسيلة نقل هذه الكتب، فكان له في البداية حمار واحد، ثم حماران وبعدها حمير يحملون لمسافات طويلة كتبا للصغار وللكبار. استحسن أهل القرى هذه المبادرة العظيمة من هذا الرجل العظيم، وراحوا ينتظرونه بشغف كبير، يسألونه عن بعض العناوين ويناقشونه في أخرى، ثم يكترون ما يملأ عقولهم بالحكمة والمعرفة فترة انتظارهم عودة هذا الرجل العظيم في المرة القادمة.
هذه القصة ليست من صنع الخيال، وإنما هي حقيقة شاهدها الملايين من الناس عبر قنوات التلفزيون الفضائية.
كان من الممكن ألّا يبث الشريط في القنوات التليفزيونية، لأن لا شيء فيه يثير العجب والاستغراب، إن لم يكن تأخرا وعودة إلى الماضي السحيق، عصر الحمير والبغال. كما كان من الممكن أن أشاهد الشريط وأمر عليه مرور الكرام ولا شيء يثير اهتمامي، لأن هذا المواطن لم يعمل إلا أقل ما يجب عمله وهو إيصال الكتب إلى القراء. إلا أنّ المفارقة تكمن في ضعف المقروئية عندنا في العالم العربي، وإعراض الناس عن الكتاب رغم توفره شكلا ومضمونا في كل مكان، بل وأدخل قصرا إلى بيوتنا عبر وسيلة الأنترنات والأقراص المضغوطة، ما يعرف بالكتاب الإلكتروني. فلا يعقل أن يكون بعض الناس رغم ضعفهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يحنون إلى الكتاب ويطالعون ما تجود به قرائح الشعراء والمفكرين والعلماء بشغف كبير، وينفر منه من كان انتماؤه لأمة اقرأ، والدين الذي جعل القراءة فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
إنّ هذه المفارقة تثير العجب وتطرح أكثر من استفهام.. لماذا هؤلاء يحبون القراءة والمطالعة، ونحن نعرض عنها؟
لقد طرح شكيب أرسلان نفس السؤال بصيغة أخرى: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وحاول محمد الغزالي الإجابة عن هذا السؤال من خلال كتابه: سر تأخر العرب والمسلمين. كما حاول الكثير من المفكرين والتربويين تفهم هذه الظاهرة وإيجاد الحلول لها، إلا أنّ دار لقمان بقيت على حالها.
هل نعترف بعدائنا للكتاب، ونسلم بأنّ أمة اقرأ لا تقرأ، ونركن للنوم العميق في عزّ النهار؟ فيما الشعوب الأخرى تستيقظ في الظلام الدامس، تجتهد وتكد، تكتب وتقرأ على ضوء شماعة أو مصباح صغير.
إنّ غدا لناظره قريب، وهذه السياسة المنتهجة في حق الثقافة والكتاب قد تلقي بنا في الهاوية حيث لا منقذ ولا رحيم، تتكالب علينا الأمم كما تتكالب الكلاب على فريستها.
كانت ولا تزال سياسة تحبيب المطالعة من مسؤولية العائلة بالدرجة الأولى والمعلم بالدرجة الثانية والدولة من خلال مؤسساتها الثقافية والاقتصادية والتربوية بالدرجة الثالثة، إلا أنّ إيصال الكتاب إلى القارئ بسعر مدعم وبشكل لائق وجذاب هي من مسؤولية الدولة أولا ثم العائلة ثانيا ثمّ المعلم ومن يليه ثالثا ورابعا..
إنّه واقع أليم لم أجد له بلسما يريحني من ألمه سوى خيالي حين أتركه يفر للحظات، فأتصور نفسي داخل مكتبة كبيرة تزخر بعناوين كثيرة، ألتفت يمينا وشمالا فأرى شبابا وشيوخا يقرؤون باهتمام كبير ما يعرض على رفوف المكتبة في تؤدة وتأن. أسعار الكتب في متناول القارئ العادي والمتخصص، إنها مدعمة من طرف الدولة كما يدعم الخبز والحليب. شكل الكتاب يتراوح من الفاخر إلى الطباعة المتوسطة، فلا وجود للكتاب الرديء في شكله أو مضمونه. إنّها سياسة الكتاب ببلادنا.
لا أخفي عليكم لقد استهوتني بعض العناوين لا سيما الفكرية منها والأدبية، وبعض القصص الخيالية والتاريخية لأبنائي الذين تعودوا ـ لا سيما في فترات العطل المدرسية ـ أن لا يناموا قبل قراءة قصة من القصص الكثيرة المتراصة في مكتبتنا بالبيت.
أما زوجتي، فقد اخترت لها ـ بحكم معرفتي الشديدة لميولها الأدبية ـ بعض الدواوين الشعرية.
صاحب المكتبة يعرفني جيدا لترددي على محله مرة على الأقل كل شهر، أقتني فيها ما أراه جديدا وبناء، في بعض الأحيان يبادرني ويقترح علي بعض العناوين التي يراها مناسبة لي ولعائلتي، لقد استطاع بحكم خبرته وعمله بهذه المكتبة أن يعرف أذواق وميول معظم زبائنه، فيكون لهم الناصح الأمين. لا يمل من كثرة الأسئلة حول الجديد بالمكتبة وقيمته، لأن الأولياء حريصون جدا على ما يقرؤه أبناؤهم ولا يقبلون تساهلا أو تسامحا فيما يخص فلذات أكبادهم، فهم يحبذون دائما القيم والمفيد.
أفيق من حلمي فأجد صاحب المكتبة يتثاوب راغبا في النعاس، تسأله عن كتاب فتكون إجابته لست أدري، نظرته العابسة توحي بأنه لا يفر من الأسئلة فحسب بل يرفضها ويمقتها. مكتبة خالية عن عروشها، يتردد عليها بعض المهوسين بالمطالعة من حين إلى آخر، ولا يشتري أحد منهم كتابا إلا بعد دراسته من جميع النواحي الثقافية والاقتصادية والدينية، وبعد ذلك يلتمس تخفيضا من صاحب المكتبة.
يمتلكني الغضب، فأرفع صوتي في وجه المسؤولين عن الكتاب عندنا، وحين يهدأ روعي يجيبني المسؤول بكل هدوء: تسعيرة الكتاب تخضع لسياسة السوق أي لسياسة العرض والطلب، فلا يعقل أن تهضم حقوق المؤلف والناشر، كما لا يعقل أن يحول الكتاب إلى بضاعة رخيصة تتناقلها الأيادي باستهزاء واستخفاف، يضيع فيها أجر الكاتب وجهد الناشر.
إنّ لهذا الكلام جانبا من المنطق والجدية، إذ كيف لنا أن نفجر إبداعات الكتاب والشعراء إن لم نغدق عليهم من التشجيع والعرفان ما يكفيهم أو يزيد، أليس أحسن ما يغرد الطائر عندما يسقط الندى؟
إنّ المعادلة التالية (القارئ، الكتاب، المؤلف) صعبة التحقيق ولكنها ليست مستحيلة. كلما بذل القارئ جهدا ماديا وفكريا لتفهم الكاتب كلما ازداد هذا الأخير قربا منه ماديا وفكريا. ونفس الشيء بالنسبة للمؤلف، فكلما سعى لمعرفة هذا القارئ فيما يفكر ومما يتألم، ما هي أحلامه..؟ كلما كان هذا الأخير قريبا منه شديد التعلق به.
عندما تتحقق هذه المعادلة، تضحية من القارئ وجهد من الكاتب وأمانة من الناشر، تصبح أحلامنا حقيقة معاشة، وتصبح قصة المواطن العظيم من كولومبيا مجرد قصة عادية لا أكثر..


عثمان آيت مهدي
الإثنين: 07/4/2009