نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيكم هو عدد الشخصيات التي عاشت بيننا ونذرت عمرها لبناء صرح الوطن وترسيخ قواعده؟ وكم هو عدد الرواد الأعلام الذين حملوا مشاعل الجهاد والتنوير، وتقدموا المسيرة على دروب العمل القومي ومقاومة الاستعمار؟..

أسئلة وإن طرحها الباحث محمد مروان مراد ضمن سلسلة “أعلام

خالدون” في ندوة فخري البارودي التي عُقِدت مؤخراً في ثقافي أبو رمانة، إلا أن إجابته كانت تؤكد أنها كوكبة خيّرة يحتفظ بأسمائها سجل الوطن الذهبي، وفي هذه الكوكبة نخبة تعدّ على أصابع الكف الواحدة، مثيرة للعجب والإعجاب، لأنها عملت على أكثر من ساحة وأبدعت في أكثر من ميدان، ومن هؤلاء رجل سبق عصره، وموقعه يمثل بحق تلك النخبة المتميزة، وهو كما وصفه مراد شيخ الشباب، مبيّناً أن فخري البارودي هو الرجل الوحيد الذي لا تجد إنساناً في كل بلاد الشام لم يسمع به وبنشيده المعروف الذي لهجت به كل الشفاه “بلاد العُرب أوطاني من الشام لبغدانِ” ويشير مراد إلى أن البارودي حصل على الشهادة الإعدادية من مكتب عنبر بدمشق، وهي المدرسة الملَكية الإعدادية الوحيدة في دمشق آنذاك التي تخرّج منها زعماء الحركة الوطنية وكبار المسؤولين ورجال الأعمال، وبعدها التحق بحلقة الشيخ طاهر الجزائري رئيس الأحرار في القرن التاسع عشر، وهنا بدأت عيناه تتفتحان على القضايا القومية، وقد عمل بالتعاون مع أحد رفاقه على إصدار جريدة ساخرة سمّاها “حط بالخرج” وسرعان ما تملّكته مطامح بعيدة تطلّع لبلوغها بعزيمة وإصرار، لهذا وجد في اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914 فرصة لدخول مدرسة الضباط الاحتياط، والانضمام إلى صفوف العثمانيين ومحاربة الإنكليز في فلسطين، ويبيّن مراد أنه وقع في الأسر في معركة بئر السبع، وبعد الإفراج عنه تطوّع في جيش الثورة العربية ضد الأتراك 1916، ليعيّن ضابطاً للأمر تحت قيادة الملكفيصل الأول، ولمّا وقعت سورية تحت الاحتلال الفرنسي أصبح البارودي في طليعة المقاومين له، وقد اعتُقِل في قلعة دمشق ليُفرَج عنه بعد أن أمضى شهوراً تحت الضغط الشعبي، ليتحوّل حينذاك إلى الصحافة لبثّ روح التمرّد في نفوس أبناء البلاد من خلال قلمه، كما عمد إلى افتتاح مكتب لنشر الوعي الوطني سماه “مكتب البارودي لخدمة القوميين العرب”، انضم له كبار رجال الفكر الوطني، فارتفع النداء بإلغاء المعاهدة مع فرنسا وإعلان الاستقلال التام عنها، مما أدى دخوله السجن مرة ثانية، الأمر الذي لم يمنعه من العودة لمتابعة رحلة النضال الوطني بعد الإفراج عنه، وقد اضطر للرحيل إلى الأردن هرباً من عسف الاحتلال ليعود بعد ذلك إلى الوطن ويؤدي واجبه نائباً عدة مرات، ثم متطوعاً في الجيش الوطني عام 1945، وقد صار مسؤولاً عن المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، ويشير مراد إلى أن البارودي استقال من النيابة في الستين من عمره ليفسح المجال لجيل الشباب ليأخذ دوره في ساحة الجهاد ولينصرف إلى مشاريعه وهواياته ومؤلفاته متابعاً العمل بالحماس نفسه حتى اللحظة التي رحل فيها في أيار 1966.





الوجه الآخر



ولكل ما ذُكِر سابقاً، يوضح مراد أن الكثيرين ممن سمعوا بسيرة المجاهد البارودي، تغدو الدهشة جليّة على وجوه بعضهم حين يعلمون أنه كان مفكراً مبدعاً وشاعراً مجلياً، أنتج ديوانَي شعر من حلو الشعر الوجداني الذي كان عنده وسيلة للبوح بعواطفه ونقل مشاعره للآخرين، لذلك تميز شعره بالبساطة والسهولة والعفوية في التعبير، ويؤكد مراد أن البارودي نظم خواطره بعيداً عن التصنّع ورصف البناء الشعبي، فلم يهتم بالقالب قدر اهتمامه بالمادة المصبوبة فيه، ويشير إلى أن ديوانه الأول الذي حمل عنوان “تاريخ يتكلّم” اشتمل على أبيات بسيطة وفيه اعترف البارودي أنه لم يتقيّد بقواعد النحو والصرف، وإن كان قد تقيّد بقواعد العروض والموسيقا، وهذا ما جعله يعتذر من النحويين وقدطلب منهم ستر سوءات شعره وهفواته.



و«التاريخ يتكلم» برأي مراد سجل حافل بالأحداث السياسية والتاريخية للبلاد السورية، وهو يعدّ تاريخاً عاماً للشعب في تلك الحقبة من الزمن، مع تدوين أمين لأحاسيس وانطباعات البارودي، ويشير إلى أن أهم مواضيع الديوان «الحماسة والوطنية»، وهو شعر بالغ الجد والرزانة ويحتل المرتبة الثانية في شعره، إضافة لنقده للأحوال الاجتماعية وحثّه على التعليم والتحصيل وتعليم المرأة ونقد السياسيين وهجائهم ومداعبة أصدقائه والتندّر بأفعالهم.





وطنية ثائرة



أقضّت هموم الوطن بال البارودي فلم يدع حدثاً إلا وانطلق ينبه الجماهير إلى أحوالها، ويؤكد مراد أنه لم يترك موقفاً إلا وتقدّم يضرب للحمية والنخوة في نفوس مواطنيه، لذلك وعندما كانت سورية في مطلع القرن العشرين تحت سيطرة الحكم العثماني كان البارودي في مقدمة الشعراء الذين اعتملت في أعماقهم مشاعر الغضب على الظلم والاضطهاد والمشانق التي أقيمت للأحرار فارتفع صوته بالنداء:



إذا هبّ قومي كنتُ أول ناهض



وإن قعدوا كنتُ الخطيب المناديا



فكم أمّة ثارت بعزمة صادق



تحطم أغلالاً وترغم عاتيا



وحين أُعلِنت الثورة العربية طابت نفس البارودي وتقدمت جحافل الجيش العربي إلى دمشق فزغرد شعره مباركاً المجاهدين:



واعملوا، فالنصر مكتوب لكم



إن ظللتم باتحاد سائرين



واكتبوا في دمكم سطراً به



قد فتحنا لكم الفتح المبين



وحين لم تكتمل الفرحة في قلوب الجماهير بعد أن وقعت سورية ضحية الأطماع الأجنبية وغدر الحلفاء المنتصرين في الحرب بآمال العرب جاء صوت البارودي كما يبيّن مراد مندداً بالاعتماد على الأجنبي:



قسّموا الأسلاك فيما بينهم



غير شكر ومديح وثناء



وإذا استقلالنا مهزلة



فقبضناه هباء في هباء



وبعد أن احتل الفرنسيون سورية عاد البارودي إلى حلبة الجهاد وراح يدعو الثوار إلى التصدي لقتال الغاصبين:



أضرموا الثورة يا قومي فما



بعد هذا العيش غير الدنس



وبسبب ثورته على الظلم ودعمه للمجاهدين ضاق به الفرنسيون ذرعاً فلفّقوا له تهمة وسُجِن في قلعة دمشق، ومن وراء القضبان انتصب شامخاً يردد:



إذا اعتقلوا جسمي فروحي طليقة



وهل كان ذنبي إن أحب بلادي



ولأن البارودي نذر نفسه وفكره لمقارعة الأجنبي الدخيل لم يكتفِ بالشعر والكتابة للتعبير عن ثورته بل خاض غمار العمل الوطني الفعال، فيبيّن مراد أنه أسس فرقة القمصان الحديدية للمقاومة الشعبية وتطوّع في قوّة الدرك وهي الحامية الفعلية لمدينة دمشق، وكان دورها رئيسياً خلال العدوان الفرنسي على دمشق، كما أسس مشروع الفرنك الذي تُصرَف محصّلته على الدعاية للقضية العربية وتسليح الشعب لمقاومة الاحتلال، وأنشأ المكتب العربي للدعاية والنشر لإذكاء الروح الوطنية والدعاية للقضية العربية ودعا بحماس لمقاطعة الإنتاج الأجنبي بكل أنواعه.





نقل رقص السماح إلى دمشق



والغريب أنه لا يمكن لأي حديث عن الموسيقا والغناء في سورية أن يكتمل دون البارودي الذي كان أحد الدعائم الأساسية في النهضة التي شهدتها دمشق على صعيد الموسيقا والغناء في الخمسينيات من القرن العشرين كما جاء في مداخلة الباحث الموسيقي أحمد بوبس الذي يبيّن أن أول نشاط للبارودي في هذا المضمار قيامه مع نخبة من الموسيقيين بتأسيس النادي الموسيقي الشرقي بدمشق 1928 والذي استغله لمقارعة الاحتلال الفرنسي من خلال تقديمه للأناشيد الوطنية، وهذا ما أدى إلى إغلاقه بعد عامين من تأسيسه، إلاأنه وفي عام 1947 استطاع تأسيس معهد موسيقي نجحت جهات دينية متعصّبة في إغلاقه بعد سنتين، ولكن هذا لم يمنع البارودي –كما يشير بوبس- من إعادة افتتاحه مرة ثانية عام 1950 وقد استمر نشاطه فيه حتى عام 1959 حين تم استبداله بمعهد آخر هو المعهد العربي للموسيقا الذي نجح في تقديم فنانين كبار للحركة الموسيقية أمثال عدنان أبو الشامات وزهير وعدنان منيني وغيرهم، ويؤكد بوبس أن البارودي رعى الفنانين في مجال الموسيقا والغناء وقدّم لهم كل العون أمثال كروان، رفيق شكري، عدنان قريش، وصباح فخري الذي رعاه رعاية كاملة، وتكريماً له سمّى نفسه صباح (فخري) ويذكر كذلك أن بيت البارودي كان مفتوحاً لكل فنان وقد استقبل فيه كبار الفنانين العرب الذين كانوا يزورون دمشق أمثال أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، ويؤكد كذلك أنه لولا فخري البارودي لما اتجه الرحابنة إلى الموسيقا الشرقية وهو الذي هاجمهم وهاجم موسيقاه الغربية التي بدؤوا بها، وإليه يعود الفضل كذلك في نقل رقص السماح من حلب إلى دمشق، حيث يشير بوبس إلى أن البارودي وخلال إحدى زياراته إلى حلب شاهد رقص السماح من فرق حلب فافتتن به وقرر أن ينقل هذا الفن الراقي إلى دمشق، فدعا عام 1936 البارودي عمر البطش إلى دمشق ليعلّم طالبات مدرسة دوحة الأدب رقص السماح، وبالفعل قام البطش بتشكيل فرقة من طالبات المدرسة اللواتي قدّمنَ لوحات من هذا الرقص في الحفل المدرسي في نهاية العام الدراسي، وفي عام 1947 استدعى البارودي عمر البطش مرة ثانية إلى دمشق لتدريس الموشحات ورقص السماح في معهد موسيقي كان تابعاً لإذاعة دمشق.



أما الوجه الآخر لمساهمة البارودي في الحركة الغنائية –كما يبيّن بوبس- فتتمثّل بوضعه لكلمات وأشعار الكثير من الأغنيات والأناشيد الوطنية، ومن أشهرها نشيد بلاد العرب أوطاني الذي لحّنه الأخوان فليفل، ومن الموشحات التي كتب كلماتها “غزال كلما ألقاه” وموشح “يمر عجباً ويمشي” الذي لحّنه عمر البطش، كما وضع كلمات العديد من الأغنيات الشعبية الجميلة مثل “عالغوطة يلا نروح” و”مهلك يا شوفير” كما يشير بوبس إلى أن منزل البارودي قد شهد ولادة قصيدة أحمد شوقي “قم ناجِ جلّق” بعد أن استضاف البارودي أمير الشعراء حين زيارته لدمشق برفقة محمد عبد الوهاب عام 1925ويختم بوبس حديثه عن البارودي مشيراً إلى أنه كان متعصباً جداً للموسيقا الشرقية الأصيلة ولم يكن يستسيغ الأغنيات الجديدة، وقد هاجم بشدة ملحني زمانه واتهمهم بالجهل.



بقي أن نؤكد أننا ما أحوجنا اليوم لشخصية كشخصية فخري البارودي.







أمينة عباس - البعث ميديا



http://www.albaathmedia.sy/index.php?option=com_content&view=article&id=46293 :فخري-البارودي-رجل-سبق-عصره&catid=121:2009-08-17-16-41-11&Itemid=174