جمهورية فولتير آخر تحديث:الاثنين ,27/12/2010

خيري منصور

ثلاثة أرباع الفرنسيين لا يعترضون على بناء مساجد في فرنسا، وبعضهم يعرف أن أول مسجد بني في بلادهم كان تسديد دين لآلاف المسلمين الذين قضوا في الحرب العالمية دفاعاً عن فرنسا، وما من مرة يثار فيها هذا الشجن قدر تعلقه بفرنسا إلا ويخطر بالبال ذلك اليميني الراديكالي لوبان الذي لم يظفر بأكثر من عشرين في المئة من أصوات الفرنسيين عندما ترشح للرئاسة . وأذكر أن أحد الصحافيين الفرنسيين قال يومها “إن فرنسا أصبحت في خطر”، وعندما سئل عن السبب أجاب بأن لوبان كان يجب ألا تزيد نسبة ناخبيه على خمسة في المئة، وهي النسبة التي تحدث عنها جان بول سارتر في كتابه “جمهورية الصمت” والتي تضم من هم فرنسيون بالاسم فقط، لأن من طبيعة فرنسا خصوصاً بعد ثورتها عام 1789 أن تكون مستقبلة واستيعابية وليست طاردة، وثمة آخرون طالما تحدثوا عن المعدة الديمغرافية لفرنسا قائلين إنها ذات ديناميات إيجابية وامتصاصية . إن ما جعل من فرنسا هذا البلد الذي اتجه إليه الشرق بحثاً عن التحديث والنور منذ أرسل محمد علي باشا، الطهطاوي وآخرين هو انفتاحها على آفاق إنسانية وعدم انكفائها داخل الشرنقة الجغرافية الخانقة، لكن ما طرأ على عالمنا في مطلع هذا القرن كانت له ترددات زلزالية لم يسلم منها أي بلد في أوروبا، وإن كانت فرنسا هي مسرح السجال حول ما جرى، منذ تولى أحد ناشطيها تكذيب الرواية الأمريكية عما حدث في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام ،2001 إلى الردود الأكاديمية التي قدمها أساتذة فرنسيون على أطروحة فوكوياما عن النظام العالمي الجديد .

لكن فرنسا الما بعد ديغولية تعرضت لمتغيرات عاصفة، ما أتاح للوبي الصهيوني أن يلعب دوراً ملحوظاً في مطاردة مثقفين أعلنوا العصيان على الخرافة الصهيونية واستحقاقاتها الجغرافية، ومنهم الأب بيير وجارودي والأكاديمي الشهير فيريسون .

وحين يوافق ثلاثة أرباع الفرنسيين على بناء المساجد فإن لهذا الاستفتاء دلالات تتجاوز المشهد الراهن، لأن هناك تيارات في فرنسا لا تزال تعيش على فلول الاستشراق الكولونيالي ومنها ما يتزعمه برنارد لويس الذي تفرغ للردود غير الموضوعية وغير العلمية على ما كتبه الراحل إدوارد سعيد عن الاستشراق في الحقبة الاستعمارية والمناخات النفسية السامة التي بثها . ويذكر روجيه جارودي في كتابه “حوار الحضارات”، أن المناهج الدراسية في فرنسا على الأقل في زمانه عندما كان تلميذاً في المدرسة كانت تطرح سؤالاً مشحوناً بالتحذير من المسلمين هو ما الذي كان سيحدث في فرنسا لو أن من وصلوا إلى بواتيه احتلوا باريس؟

إن أوروبا الآن تشهد حرباً سرية أسلحتها ثقافية بامتياز بين من يدعون إلى الانكفاء لأسباب عرقية، وبين دعاة الإنسانوية والانفتاح على الثقافات، وقد لعب اللوبي الصهيوني في فرنسا دوراً لا يستهان به في توظيف أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول للتحريض ضد العرب والمسلمين .

إن المسألة في الجوهر أبعد من قرار حول الحجاب أو استفتاء حول بناء المساجد، فالأصل هو حرية التعبير، وبالتالي تقبّل الآخر المختلف ثقافة وفولكلوراً وعقيدة، وحين ترتد فرنسا عن هذا المنجز المدني الذي تدين به لثورتها وتلك السلالة التنويرية من مفكريها فإنها سوف تخسر أضعاف ما يتوهم لوبان ومن يعزفون معه على الوتر الرّث ذاته أنهم سيكسبونه .

فالتيارات العرقية الراديكالية تسيء إلى الأوطان التي تتحدث باسمها، وتبدد إرثها الحضاري بسفاهة واستخفاف .