"ناجي العلي".. أكله الذئب
التصاق المثقف بطبقته حتى الرمق الأخير
عمان - محمد داود
--------------------------------------------------------------------------------
درويش : شو بشوفك مستلمنا هاليومين يا ناجي… حاط دبساتك على طحيناتنا.. شو في؟
العلي : يا عمي ما تزعل مني.. هاي الشغلة مش ضدك شخصيًا.. أنا ما في بيني وبينك إلا كل خير ومحبة.. وانت عارف؟
درويش : لا .. أنا زعلان بجد.. ليش كل اللي رسمته وكتبته ما بخليني أزعل؟
العلي : يا محمود إنت إلك حق تزعل.. لو أني ما تعرضت إلك وأهملتك.. مثل ما بهمل دائمًا الساقطين.. أنا انتقدتك لأنك مهم لشعبك، وأنت لازم تفرح.. مش تزعل؟
درويش : (بغضب مكتوم): مش أنت اللي بصنفني مهم ولا لأ.
وبعد حوار تأرجح بين الغضب والنقد.
قال العلي: يا عمي انتو بتقولوا بمد الجسور مع اليسار الإسرائيلي.. مدو زي ما بدكوا… بركي الجسور بتقيدكم مستقبلاً.. أما أنا وجماعتي فلا.. إحنا يا عمي إلنا جسورنا..جسورنا إحنا مع الناس المشردة.. ممدودة بخط واحد ما في غيره.. من باب المخيم لباب الحرم.. مع أهلنا في الداخل.. هاي جسورنا وما بنعرف غيرها.. وإحنا بننتقد كل واحد بيحكي هالحكي..
درويش (مهددًا): آه.. بس انت مش قدي يا ناجي.
العلي (مستعبطًا): شو يعني .. مش فاهم.. الشغلة صارت شغلة قدود.. قدك وقد غيرك.. والله أنا لما برسم ما بحسب قد لحدا.. وأنت عارف يا محمود؟
ثم بعد وصلة حوار تهديد من درويش واستعباط من العلي
قال درويش: هلا مش وقت المزح.. بدي ياك تفهم يا ناجي منيح اليوم.. إني أنا محمود درويش.. إللي قادر يخرجك من لندن في أية لحظة.
العلي: (ساخرًا بمرارة وحزن):
أووف… والله هاي جديدة يا زلمة.. بالله عليك بتعملها يا محمود؟ وشو هالسطات اللي صارت عندك.. والله أبو رسول (الاسم الحركي لمدير المخابرات الأردنية الأسبق محمد رسول الكيلاني) بزمانه ما قال هالحكي.. ولا صلاح نصر قبله (..) على كل حال انتو يا عمي السلطة.. انتو الدولة والشيلة (..) هاي مش أول مرة بتصير ولا آخر مرة.. مش عملتوها قبل سنتين في الكويت وخرجتوني؟ وقبلها قال الختيار (الاسم الذي يطلق على ياسر عرفات من قبل أنصاره) قائدك وصديقك في ثانوية عبد الله السالم في الكويت في الـ 75 أنو راح يحط أصابعي في الأسيد إن ما سكت.. بعدين هالشغلة صارت مش فارقة معي هالخد صار معود عاللطم.
هذه المقتطفات من حوار تليفوني جرى بين "ناجي العلي" رسام الكاريكاتير الفلسطيني المعروف أثناء وجوده في العاصمة البريطانية، و"محمود درويش" الشاعر الفلسطيني الأشهر المقيم آنذاك في باريس، وقد روى العلي ملخص الحوار مع درويش في حوار نشرته مجلة الأزمنة العربية (عدد 170 /1986/ ص14) وجاء هذا الحوار عقب رسم كاريكاتيري للعلي انتقد فيه درويش الذي دعا إلى مد الجسور مع اليسار الإسرائيلي، وأعاد الناقد والكاتب العربي شاكر النابلسي اقتباسه في كتابه الجديد "أكله الذئب … السيرة الفنية للرسام ناجي العلي".
أكله الذئب
ويمضي النابلسي في سرد الأيام الأخيرة من حياة الرسام الفلسطيني مستعرضًا الرسم الكاريكاتيري الذي يُعتقد أنه السبب في تصفية العلي فيقول "لم تمض فترة على مواجهة العلي لمحمود درويش إلا وكان العلي قد دخل في مواجهة جديدة مع سلطات المنظمة العليا. فقد كانت هناك كاتبة قصة مصرية مغمورة تُدعى "رشيدة مهران" ولم تكن معروفة لا في مصر ولا في الأوساط الفلسطينية، ولعل تعرّض العلي لها في الكاريكاتير المشهور الذي رسمه ثم اغتيل على أثره بعد أيام معدودات هو الذي شهر "رشيدة مهران" وجعلها علمًا من الأعلام وكلمة في الأقلام".
ينقل النابلسي في كتابه حوارا بين العلي والكاتب والصحفي المصري محمد شاهين: إن رشيدة مهران التي ألّفت كتابًا عن عرفات، ووصفته فيه بأنه "نبيُّها وإلهها" باتت مرافقة للزعيم الفلسطيني، وتحكم في المنظمة واتحاد الكتّاب الفلسطينيين من وراء ستار. لم ينشر حديث العلي مع شاهين، ولم يذكر النابلسي كيف حصل عليه، غير أن الكاريكاتير الذي رسمه العلي كان كافيًا -كما يعتقد كثيرون- لكتم صوته بكاتم صوت استُخدم لاغتياله في لندن في 27 تموز/ يوليو 1987، وقد نعاه الجميع وكتب عنه بإسهاب من اليمين إلى اليسار، ومن المحبّ إلى الكاره كما نعتته وكتبت عنه الصحافة العالمية من شرق آسيا حتى غرب أوروبا، ما عدا مجلة "الكرمل" الناطقة باسم اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذي كان العلي عضوًا مؤسسًا فيه، فلم تأتِ المجلة على ذكر اغتياله وموته بكلمة واحدة، سواءً من قِبل جهاز تحريرها أو الشعراء الذين يكتبون فيها، والتزمت الصمت التام، ثم يورد النابلسي قائمة من التعليقات التي تتهم عرفات ودرويش بالمسئولية عن قرار اغتيال العلي.
هذه النتيجة التي يخلص إليها النابلسي هي التي دفعته لاختيار عبارة "أكله الذئب" المقتبسة من قصة سيدنا يوسف مع إخوته عنوانًا لكتابه، واختيار رسم من رسوم العلي يصور مجموعة من الشخصيات الرخوة المتواطئة (والتي اعتبرها رمزًا للمتساقطين والخونة في لوحاته، ويسميها النابلسي "الفقمازير" ناحتا المصطلح من كلمتي الفقمة رمز الرخاوة والضعف، والخنازير عنوان الخسة والدناءة) وهي ترفع قميصًا مموها اتخذه العلي رمزًا للفدائي والعمل العسكري ضد الاحتلال ككل، والقميص يقطر دمًا فيما انتصب "الزلمة" (وتعني الرجل باللهجة الفلسطينية الدارجة) رمز الشعب الصامد.. بجوار حنظلة أمام مجموعة "الفقمازير".
المهاجر...الطريد
في كتابه الواقع في 463 صفحة من القطع الصغير يتتبع النابلسي مسيرة حياة ناجي العلي منذ خروجه مع أسرته، وهو في عامه الثاني عشر مهاجرًا من قرية "الشجرة" عام 1948، ولجوئه إلى لبنان في مخيم عين الحلوة، الذي أقامه المهاجرون الفلسطينيون، وفيه نشأ العلي الذي لم ينل من تعليمه النظامي غير المرحلة الابتدائية في مدرسة "اتحاد الكنائس المسيحية"، وحاول أن ينتظم في العام 1959 في أكاديمية "اليكسي بطرس للفنون" في بيروت لتعلم فن الرسم إلا أنه لم يفلح في ذلك، حيث كان طالبًا مسجّلاً لمدة عام، ولكنه لم يداوم ولم ينتظم فيها أكثر من شهرين بسبب اعتقاله ست مرات خلال هذه السنة لأسباب سياسية تعود إلى انتمائه لفكر "حركة القوميين العرب"، وتوزيع منشوراتهم، والاشتراك في مظاهراتهم ومهرجاناتهم، والرسم ضد السلطة على جدران المخيم.
ولم تحُل هذه العقبات بين العلي وبين تعلمه ميكانيكا السيارات في المدرسة المهنية التابعة للرهبان البيض في شمال طرابلس لمدة سنتين (1951 -1953)، وعمل في هذه المهنة وسافر للسعودية كميكانيكي سيارات، قبل عودته إلى لبنان وعمله مدرسًا في المدرسة الشيعية الجعفرية جنوب صور بمساعدة الإمام المخطوف-إيرانيّ الأصل لبنانيّ الجنسية- موسى الصدر (1928 - 1978) لمدة ثلاث سنوات.
وفي العام 1962 تعرف ناجي العلي على الأديب والكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني، وبدأ يرسم لوحاته في مجلة "الحرية" الناطقة باسم "حركة القوميين العرب"، قبل أن يتوسّط له في العام 1963 للعمل في مجلة "الطليعة" الكويتية لسان حال القوميين العرب في الكويت التي كانت آنذاك إمارة صاعدة، ومهوى أفئدة الشبان العرب المتطلعين لتحسين ظروفهم المعيشية، وقد استقبل العلي بحفاوة في الطليعة التي أضحت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة قرائه.
ويستعرض النابلسي في كتابه الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالعلي، وأثّرت فيه فنيًا وسياسيًا، مفصلاً مراحل تطوره الفني إلى مراحل حسب الموقع الذي كان ينشر فيه لوحاته بشكل أساسي، وطبيعة هذا الموقع، وهي: مرحلة جريدة السفير اللبنانية (1974 -1976) و(1978 -1983)، ومرحلة جريدة القبس الكويتية (83-1985) وأخيرًا مرحلة جريدة القبس الدولي (1985-1987) بعد أن ضغطت منظمة التحرير ودولة خليجية يعتقد النابلسي أنها العربية السعودية على الحكومة الكويتية لإخراج العلي من أراضيها، وهو الإبعاد الذي اعتُبر فيما بعد مقدمة لتصفيته جسديًا.
الفقمازير...و...الحنفاز
وتركز السيرة على استعراض أدوات العلي الفنية، وهي: شخصية حنظلة التي ابتكرها العلي في العام 1969 وظلّت معه حتى اغتياله بعد أن تطورت من شخصية تراقب إلى شخصية تقود الفعل وتحرِّض، حتى غدت رمزًا للعلي في حياته، ورمزًا من الرموز الفلسطينية الدارجة بعد اغتيال مخترعها.
وأبجديات العلي الكاريكاتيرية ثرية أحصى النابلسي 58 رمزًا منها قبل أن يركز على متابعة توظيف العلي عددًا منها وهي: العلم والقلم والأرقام وبيروت التي كان يرى فيها العلي خط الدفاع الأول عن فلسطين، أما الكوفية وهي الرمز الفلسطيني فإن العلي استخدمها في نقيضين، فقد كانت أحيانًا الستار الذي تستخدمه "الفقمازير" لتمرير أعمالها المشبوهة، وأحيانًا أخرى تستخدمها شخصيات العلي الخيرة التي يطلق عليها النابلسي اختصارًا اسم "الحنفاز" وهي الكلمة التي تتشكل من أسماء مجموعة الشخصيات الخيرة في لوحات العلي وهي حنظلة وفاطمة وزينب والزلمة، وعندما تستخدمها هذه الشخصيات فإن الكوفية تغدو عنوان فلسطين، ورمزًا للعمل المسلح.
ويبدو العلي في سياق السيرة التي أعدها النابلسي مثقفًا عضويًا ارتبط بطبقته حتى اللحظة الأخيرة، ورفض الإغراءات والعروض الكثيرة للانحراف عن المسار الوحيد الذي رأى فيه ضمانة العودة إلى الوطن السليب: وهو الطريق بين المخيم (رمز الشتات)، والحرم (رمز فلسطين وهويتها الحضارية)، لذا فإن العلي هاجم بقسوة كل محاولات الخروج عن هذا الخط، وهي الهجمات التي أدَّت لاغتياله لاحقًا.
وباستعراض عدد من رسومه يقول النابلسي: إنها بلغت 20 ألف لوحة، ونقل عن آخرين قولهم: إن العلي خلف وراءه 40 ألف لوحة. يبدو العلي مبشرًا بالانتفاضة التي ولدت بعد اغتياله بخمسة أشهر تقريبًا، ففي تلك الرسومات التي يورد النابلسي عددًا منها يحتل الأطفال دور الجنود، فيما الحجر هو السلاح المقدس الرخيص الثمن، المتوفر في كل لحظة، والقادر على دكّ حصون المحتل، هذه النقلة في فن العلي من الرصد إلى التبشير بدأت في العام 1975 أي قبل الانتفاضة بأكثر من عقد ولعل سبب هذا التحول كان قوة الدفع التي اكتسبها الحل السياسي/ السياحي (كما كان يسميه العلي) في الوسط الفلسطيني الرسمي، وذلك على حساب الحل العسكري، وهو ما تمثل في برنامج النقاط العشر، وخطاب عرفات في الأمم المتحدة (1974)، وإصرار العلي على البحث عن مخرج من شبكة الأنفاق الطويلة التي تاه في وسطها الفلسطينيون.
الجمال أبيض وأسود
نضج العلي الفني تمثل في انتقاله من الرسم التخطيطي إلى الرسم التشكيلي، وإن ظل مصرًا على استخدام اللونين الأبيض والأسود فقط في لوحاته، ولعل هذا يرجع إلى طبيعته التي لا ترى العالم إلا من خلال التناقضات الكلية بين خير وشر، وجمال وقبح، وتضحية وخيانة لذا فحين تأزمت الأوضاع السياسية العربية بات اللون الأسود خلفية شبه دائمة في لوحات العلي، كما تخلّى العلي في نهاية مرحلة السفير الثانية عن الأنساق اللغوية، واستبدل بها الأنساق الكاريكاتيرية التي امتازت بالبساطة وقلة الخطوط، مما يعكس عبقرية لدى العلي. وقد أسس العلي مذهبًا خاصًا به للجمال، فالجمال لديه لا يعني الزخارف ولا الزينة ولا حسن الملامح وبهائها، فشخصية الزلمة الجميل مثلاً في لوحات العلي كانت من أكثر ملامح الناس قبحًا، ولكنها كانت في الوقت ذاته من أجمل المخلوقات؛ لحرصها على العمل وطيبتها وبراءتها وإخلاصها لمبادئها. كذلك كانت شخصية حنظلة/ القنفذ.
فالجمال في مذهب العلي يعني: البراءة، الشجاعة، البساطة، والشفافية، وكذلك يعني القوة في الفعل الإنساني. وفي الخطوط كان الجمال يعني المثير للدهشة، المحفِّز على فعل ما، الباسط للحقيقة، الخالع للأقنعة، المدافع عن الحق، الداعي إلى الحياة، الباحث عن الخير، وتلك هي الصورة التي كانت عليها فاطمة العلي الجميلة كذلك.
في كتابه يعقد النابلسي مقارنات مستمرة بين ناجي العلي وعدد من المثقفين العرب والفلسطينيين، وخاصة بين تمرّد العلي وتمرّد الشيخ إمام عيسى الذي كان النابلسي نشر سيرته في كتاب سبق كتاب العلي بعنوان "الأغاني في المغاني"، وقد صدر الجزء الأول منه، وكان من المنتظر صدور الجزء الثاني منه قريبًا.
وفي هذه المقارنة يبدو التطابق كبيرًا بين العلي والشيخ إمام، وخاصة في استقراء المستقبل واستشراف القادم ومخالفة السائد من الآراء.
أما المقارنة الأخرى التي كثيرًا ما عقدها النابلسي في كتابه فهي بين العلي ومحمود درويش باعتبارهما مثقفين عاشا نفس الهم وعملا من أجل ذات القضية، والمقارنة هنا تنتهي حسب السيرة لصالح العلي الذي تعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها مشروعًا إنسانيًا، ومن خلال هذه القضية انطلق ناجي إلى العالمية، أما درويش فإن ربطه كشاعر بالقضية الفلسطينية كان أمرًا مثيرًا للغضب والانزعاج بالنسبة له كما يشير في عدة مواضع من الكتاب، وفيما ارتبط العلي بهموم الفقراء تأثر درويش بموقعه السياسي والفكري، وعاب على العلي انتقاد الشرعية، واعتبر انتقادها فعلاً غير شرعي.
وختامًا فإن الكتاب الذي يصنفه النابلسي كمؤلف في نقد الفن التشكيلي يثير المتعة لدى القارئ كسيرة ذاتية لفنان استثنائي، وإن احتوى على أخطاء بسيطة مثل إغفال إدراج اللوحة رقم 141 في الكتاب رغم الإشارة إليها، والإشارة إلى ناهض حتر باعتباره رئيسًا لتحرير صحيفة "الميثاق" ذات التوجه شرق الأردني المعارض، أما المجد فيرأس تحريرها فهد الرماوي
الكتاب: أكله الذئب
السيرة الفنية للرسام ناجي العلي
المؤلف: شاكر النابلسي
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
الطبعة الأولى: 1999
عدد الصفحات: 463 من القطع الصغير