-
أنـور الرحـبي.. شاعـراً وموسيقيــاً
في معرضه الأخير..
أنـور الرحـبي.. شاعـراً وموسيقيــاً
يقول كالفن يونغ- وهو فنان جوّاب ومكتشف..إنه سأل اعرابياً هرماً من عرب الاهوار- جنوب العراق- عما وقع اليه من تاريخ أسلافه فيها.
أجاب الاعرابي: لا أعرف منذ متى نحن هنا، ربما وكما أعتقد ان قبيلتي نزحت اليها من الارض اليابسة المحيطة بالاهوار منذ عشرات أجيال مضت، وأعتقد انه لم يكن آنذاك وقبل ذاك في الاهوار غير الطيور والبهائم السارحة.
بهذه المقاربة، تساءلت، الى أي مدى تعامل أنور الرحبي مع الخزين الثقافي والموروث البيئي بأدوات غير تلك التي ألفناها، كخلفية للعمل الفني باعتبارهما (أي الخزين والموروث) وجوداً مادياً وشيئاً ذاتياً معاً.
ثم، لِمَ تعامل مع الخاصية اللونية كحالة خاصة ترسم صورة المفردة شعرياً، ثم وصلت التعبيرية عنده الى درجة التساوق والتناسب ما بين المسافات والمساحات الميلودية- الهارمونية..بين اللوني والزمني، وهل لذلك معطى؟.
لست مغالياً إذا قلت ان ما تركه معرض الفنان التشكيلي أنور الرحبي الذي أقامه منذ فترة في صالة الشعب..كان كبيراً في تأثيره عليّ..تأثيرات قادتني الى كومة من الاسئلة مثل تلك وأخرى ثم رمتني تحت وقع موسيقا التشكيل تارة أو القصيدة اللوحة تارة أخرى، ذلك أنه صنع نظاماً جمالياً فريداً من خلال اتجاه فني اختطه لنفسه بوضوح، مازجاً فيه بين مدارس فنية مختلفة وحالات تعبيرية وصلت حد التجريد، لكنه تجريد غير مختزل فالتراث مادته الأولى، ترجمه بإبداع بين فعّال ومنسي في لوحة يقف الناظر أمامها حائراً بفعل صدمة الادهاش والتلقي وهو يركز على الخواتم والنايات والدفوف والهباري والشال، وأحلام الليل الفراتية ونسائمه، وعادات وتقاليد اجتماعية..ولأن التراث مادته الأولى فهو يلعب دور المحفز في الشكل واللون والايقاع ويأخذ لنفسه مكاناً مهماً في وعي الفنان ويصبح القوة الدافعة لأحلامه، ويسمو الى مرتبة الحاجة التي ولدته في فكرة التشكيل.
يتحرك الرحبي في هذا المعرض في نطاق عالمين: عالم التجربة الحسية وعالم التجربة الضاغطة بعنف، هما العالمان اللذان يصنعان مجمل العملية الابداعية، لذا حاولت استجماع لوحات المعرض محاولاً اعادة ترتيبها ذهنياً وحسب الحالات التي ذهب اليها الفنان نفسه في واقعه وأحلامه وأوهامه.
المفاجأة لم تكن فقط في وحدة ترابط الموضوع، بل بوجود وحدات قياس مسافات ما بين لون ولون-مساحياً وايقاعياً- وما بين رؤية ورؤيا، ما بين لذة وانتشاء حالة ..وجيثوميتها، وهذا الشعور نادراً ما يتوفر عنده أو ما يحس به متلق للتشكيل، وان وجد ذات الشعور بدرجة اكبر في الموسيقا والشعر.
يثبت هذا الامر ان الرحبي الانسان والفنان متصالح مع ذاته- على الاقل في هذه المرحلة- رغم وجود مؤشرات فنية على غليانه الداخلي بتأثير الفعل الموضوعي، هذا الاحساس بالتصالح وبالغليان- أحياناً- انما هو نتاج قراءة منطقية لمنجزه الابداعي من خلال التعبير الصادق، القوي، المؤثر..أوليس غريباً ان يرسم تشكيلي قصيدة لم يقرأها!؟ أو يعزف لحناً موسيقياً لم يحلل جملته !!.
هل تمعن أحدكم بلوحة «بروفيل بالأزرق» وهل رأى اللون الأبيض موضع خواتم قديمة انتزعتها الحبيبة؟ هل قرأ الرحبي وأنتم معه قصيدة الشاعر «وتشير الى بنصر، نزعوا خاتم الحب عنه، فموضعه، أبيض مثل جرح قديم..».
هل رأيتم لوحة «نساء بالارجواني والأخضر»- شعر احداهن بالأخضر؟ هل شاهدتم لوحة«امرأة بالاخضر والازرق- انعكاس الاخضر على البشرة والشعر؟ وهل شاهدتم بعض الوجه والشعر في «بروفيل بالأخضر»؟ هل شاهدتم الاخضر في «طوق الحمامة»؟
متأكد أنا تماماً ان أنور الرحبي كسر نافذة قلبه، ولملم الضوء والوهم وهو يصنع قصيدته التشكيلية«عينان ذاهلتان..وشعر من الآبنوس، قد اخضر من بلل الليل ..والتمعت خصلة منه فوق الجبين..» هذه الحالات المتحركة بين الشكل الفني واللون والقصيدة الشعرية، تعني ان الفنان سعى بشكل حثيث للبحث في الميدان البصري. انطلاقاً من حالة حسية، ربما لا شعورية، خاصة، قادته الى اكتشاف أنماط من الكثافة التعبيرية في مساحة من انتاجه ..أنماط بصرية ذات صلة بالشعر وبالموسيقا اللونية بحيث يصبح الأخيران (الشعر والموسيقا) مساحة ثانية..كيف؟ في اللوحات التي سميناها، يمكن للمتلقي ذي الخبرة ان يقيس كثافة ومساحة الاخضر بالنسبة للأزرق او الارجواني أو الاحمر«نساء بالارجواني والاخضر» وليقس الاحمر والارجواني والازرق والاسود في «ليلة الحناء» وليقس الاخضر والازرق والابيض في «امرأة الاخضر والأزرق» كذلك في «اعتقال سمكة» الخ..سيجد المتلقي مساحات لونية متناغمة ومتتالية يمكن ان تشاهد كل مساحة على حدة باستمتاع مدهش كما يمكن مشاهدة جميع المساحات مع بعض..الأمر هنا يتعلق بالتحليل الموسيقي اكثر من اعتباره تحليلاً مشهدياً للوحة تشكيلية فثمة وحدة قياس للمسافات والمساحات بين علامة موسيقية وأخرى تسمى فاصلة، والفاصلة نوعان: الأولى لحنية-ميلودية وهي تقيس المسافة بين علامتين وتسمعان الواحدة تلو الأخرى والفاصلة الهارمونية وتقيس المسافة بين علامتين وتسمعان مع بعضهما البعض.
لقد استخدم الرحبي الألوان الاحادية والمركبة على حد سواء وبتناسب واضح وهنا ينشأ الايقاع ببعديه اللوني التشكيلي والموسيقي «انظر لوحات نساء بالارجواني والاخضر- امرأة بالاحمر والبرتقالي-ذكريات مسروقة- اعتقال سمكة» فمن الاحادي البسيط الى المركب ثمة سلسلة من الاهتزازات البصرية التي يقيس ابعادها الدماغ (حتى الابيض مكون من عدة ألوان متسلسلة) وهو ما يسمى موسيقياً بالاوفرتون (overtone series)، حيث يصعب تميزها تشكيلياً وموسيقياً للعين والاذن غير المدربتان.
بهذه الفنتازيا النقدية يمكن القول ان ثمة متجهات قادت الفنان الى مساره التشكيلي في هذه التجربة المهمة من حياته الفنية تجربة داخلية، معبر عنها بالصمت قادته الى الموسيقا التشكيلية وتجربة خارجية معبرعنها بالبوح قادته الى القصيدة التشكيلية والتجربتان شكلتا مدخلاً للبحث عن أنظمة متماثلة أو متقابلة بين الصوت الداخلي والتناغم اللوني وايقاعاته البصرية، وبين النبضات الموسيقية الصوتية-اللونية الموازية لها، أنتجت هذا التحول الحسي الى المرئي التشكيلي.
عبد الكريم العبيدي
جريدة البعث العدد: 13397 - تاريخ: 2008-04-24
-
سمعت عنه كثيرا ولم يتسنى لي متابعة فنه
اهلا بك-وشكرا
بنت الشام
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى