أحمد منصور
«في زيارة قمت بها لولدي مازن اليوم في قسم شرطة طلخا- بمحافظة الدقهلية- رأيته وبعد أن اختلس النظر إلى حارسه أمين الشرطة واطمأن إلى انشغاله عنه، اقترب مني كثيرا ليسمعني في أذني كلماته الهامسة.. ماما.. نحن نتعذب هنا ويتم الاعتداء علينا بوحشية.. نزلت كلماته عليّ كالصاعقة.. تجمد الدم في عروقي، وتجمدت نظراتي وغرقت في بحر الحزن الرابض في مقلتيه.. إنه ولدي.. فلذة كبدي الذي لم يغادر الطفولة بعد إلا قبل أشهر أو أعوام قليلة.. وقبل أن أرد عليه بكلمة واحدة.. اقترب مني ثانية ثم قال... ماما لا تحزني.. لقد بدأت إضرابا عن الطعام، وبالتالي عن الزيارة.. قمت بالرد عليه بلهفة وتلقائية ستموت... حرام يا بني.. رد عليّ بطيف ابتسامة مفتعلة.. لا تقلقي يا أمي.. فأنا لو مت فلن يكون موتي من الجوع.. لا.. وإنما سيكون من التعذيب والضرب.. لكن المهم لا تنسي أن تخرجي كل شيء أملكه صدقة لله، وبذهول وجدت نفسي أسأله.. وما الذي تملكه يا بني وعمرك لم يتجاوز الثامنة عشرة؟ فإذا به يفاجئني ويرد عليّ بثقة، نعم في أدراج مكتبي ثلاث سبح وزجاجة من العطر.. وربما لم يتذكر شيئا آخر.. ربما سنة من الاحتجاز وسوء المعاملة أنسته بيته وما فيه... هنا انتبه أمين الشرطة إلى ما يدور بيننا من حديث هامس فإذا به يجذبه حتى يعيده إلى محبسه... هنا تذكر شيئا آخر فاستدار على عجل وقال لي قبل أن يبتعد.. وساعتين يا ماما.. وساعتين».

حينما قرأت هذه السطور التي كتبتها تلك الأم المكلومة عن زيارتها لابنها- وقد غيرت فقط في صياغة بعض الجمل- بين كم هائل من القراءات التي تراكمت علي نهاية الأسبوع الماضي أخذني كل حرف فيها إلى عالم آخر فأعدت قراءتها مرة ومرة حيث اغرورقت عيناي بالدموع وفجأة هطلت دموعي كالسيل الجارف ولم أتمالك نفسي من البكاء على ما آل إليه أمر مصر وشبابها وأهلها ومن حجم ما يعانونه من مظالم، لقد أبكاني شخص لا أعرفه وربما لم أبك منذ مدة طويلة كما أبكتني هذه السطور التي كتبتها تلك الأم المكلومة عن ابنها الملائكي الذي تروي قصته... قصة عشرات آلاف من المصريين الشرفاء الذين يقبعون في سجون النظام الإجرامي الذي يختطف مصر، حينما هدأت نفسي سعيت لمعرفة اسمه وقصته، فقلبت بين الصفحات والمواقع حتى أتعرف على هذا الشبل الرجل هذا الطالب الصغير الذي أبكاني بكلماته وصبره وعزمه رغم أنه لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. نكمل غداً.



بقلم : أحمد منصور