العاشقة والمدينة
تكسر الليل أمام عناد الصباح ، لم تفلح محاولاته أن يطول ولو لحظات نزولاً عند الرغبة الملحة للكثير من محبيه ... قاوم ... أعتم ... تداعى ... تماسك .... وانهار ، ثم تلاشى ، كانت مقاومة الصباح أشد ، ورغبته في البزوغ فوق وجه المدينة الحزينة أقوى من أي وقت مضى ... لا لشيء بل رأفةً بالعاشقين..
لقد أثقلوا مدينتهم بالتنهدات الحارة المنتظرة ، فقام بكسر العتمة الساترة ، وفرض ضياءه ، أما الليل فلم يبقَ منه سوى بعض الظلال المعتمة .
شدت تحت مرفقيها كفيها وقربت من صدرها زنديها العاريين بحركة لاشعورية حين داعبها برد الصباح ، كانت تريد أن تبرد أكثر وأن تتعب أكثر من انتظارٍ لا تعرف متى ينتهي ، بل لا تريد أن ينتهي ، فهو ما تبقى من حب لم تتصور أن هناك في الدنيا غيره ...
ـ ما أثقل الصباح الذي يكسر انتظارات العاشقين !! وما أجمل ذلك الليل الذي مضى بآهاتهم ودموعهم وتنهداتهم .
كحلت عينيها برؤية المدينة المتثائبة . للمدينة وجه عجوز رحل عنها أحباؤها المقربون ، وأتى غيرهم ... تُمسك بيدين مرتعشتين مسبحة كل حبة منها صنعها محب لذلك كانت كل حبة بلون ، وكلما انتقلت الأصابع المتعبة من حبة إلى حبة يقول الفم الأدرد : الحمد لله ...
قالت العاشقة الصغيرة للمدينة :
ـ لقد ملأت لياليك انتظاراً .
قالت المدينة المتعبة :
ـ كانت كل الليالي حباً وانتظاراً.
ـ لكن انتظاري ممتع.
ـ لكل انتظار طعمٌ . لقد تشابك في فمي الحلو والمر ...
ـ وهل عادوا؟؟؟
ـ لقد عادوا ،لكنهم رحلوا من جديد ... ثم عادوا !!!!
ـ وهل سيرحلون من جديد ؟!!!
ـ قد يرحلون ...إني أراهم يحزمون الأمتعة ... وربما يطول غيابهم هذه المرة .
خافت العاشقة الصغيرة على أملٍ ضعيف آنس وحدتها في لياليها الطوال،ثم قالت :
ـ ولم يرحلون؟.. يجب أن يبقوا أحباباً
ـ وجه الغريب على هذه الأرض يأخذهم للبعيد.. يشتتهم ويطيل لياليهم.
لم تفهم الصغيرة ما سبب هذا الرحيل والضياع ، فلم كل هذا الرحيل عن بعضهم ، يجب أن يكونوا أحباباً بكل بساطة . قالت الصغيرة للمدينة العجوز :
ـ .. وإن وُجد الغريب سيظل ما بينهم أقوى من الغريب..
هزت المدينة العجوز رأسها و زفرت بحسرة،ثم قالت :
ـ آه يا صغيرتي ..
أدركت الصغيرة أن في قلب العجوز الكثير من الآلام ،فقالت وكأنها تبرر مفاهيمها :
ـ تلك هي شرفة بيته ، إنها تقبع منذ سنوات طوال أمام شرفة بيتنا لقد صار لهما نفس الألوان والتجاعيد ،فالسنين خطت على البيتين الآثار ذاتها . وعلى الشرفتين التقى مراهقان أكلا الخبز من فرن واحد ، وتذوقا طعم الخضار والفواكه من بستان واحد ، بل وشربا الماء من منهل واحد . وإن أردتِ أن أزيد أقول لقد تنفسنا من هواء واحد،
بل وورثنا من جدودنا وآبائنا تربيةً مليئةً بالخير والحب ...ولكن...
ذرفت العاشقة دمعة حرى أحرقت وجنتيها .. هدهدت المدينة العجوز كتفي الصغيرة بيدين حانيتين ..وبحركات متقنة، فقد اعتادت أن تكفكف دمع العاشقين ... وربما أصبحت أكثر مدينة في التاريخ بكى أمامها عاشقون ، فكفكفت دموعهم بكل حنان.
هدأت الصغيرة ثم تابعت كلماتها بعد أن ابتلعت ما شرقت به من الدموع وقالت :
ـ.... لكن أخي قال له أن يبتعد .لم يدرك حبيبي معنى البعد إلا بعد أن وقع الرحيل ... لقد قلت له لا ترحل معهم وابقَ معي ..تجاهل كلماتي، ثم رحل لاحقاً بأخي .. وتقابلا هناك مثلما تقابلا هنا . لكنهما كانا في خندقين متضادين ... ثم ملؤوا وجهك بالحرائق . ألا تذكرين ذلك الرحيل يا جدتي ؟؟؟!!
شردت المدينة بذكرياتها .. حرائق تشتعل وخنادق تُحفر. ناس يقتلون وآخرون يولدون تحت القصف , وعاشقون يبكون أحبابهم . وجراحٌ شارك كل العالم بصنعها بل وتفننوا في التمزيق والتجريح ...ورغم ذلك نهضت من تحت رمادها وعالجت جراحها وعاد إليها عاشقوها . قالت المدينة للعاشقة :
ـ ومع ذلك فقد عادوا , وعادت ضحكات الحب تزهر فوق جبيني ..
قالت الصغيرة بغضب :
ـ لكن حبيبي لم يعد ...ما زال هناك يقاتل.
رنت المدينة المتعبة ,وأخذ الحزن يتسرب إلى قلبها , وتدلت خصلات شعر شابت من الجراح والانتظار والغياب .
أدارت العاشقة الصغيرة وجهها، ونظرت في الأفق. رأت فيه أشياء غريبة .. وكأن أحداثاً مرعبةً تتجه نحو المدينة ...وتذكرت شيئاً . لقد غاب أخوها منذ أيام ..
ـ هل رحل أخي يا جدتي هل ذهب إلى هناك مجدداً . هل ذهب ليقاتل ...
لم تجب المدينة بل ظلت مطرقة ..هل هي تتألم أم تصلي لأبنائها كي يعودوا ...بدت كعاشقة فقدت للتو حبيبها ... فقامت العاشقة الصغيرة وأخذت تربت على كتفيها .. في محاولة لرد المعروف نظرت العجوز بإعجاب لابنتها الوفية ,وكان وجهها قد تغير ..فقد ظهرت عليه من جديد الحرائق والخنادق وكانت أصوات الرصاص أقوى من الأنين..!!!
وفي الليلة التالية عادت العاشقة الصغيرة لتعلل نفسها بالانتظار . أما المدينة العجوز فقد عادت لمسبحتها التي صنعها أبناؤها تسبّح باسم الله وتحمده كلما انتقلت من حبة إلى حبة .
2008