ويبقى الأسير المناضل جمال أبو جمل شامخاً
بقلم :- راسم عبيدات
..... ستة عشر عاماً متواصلة لم تفض من عضضه شيئاً ،ستة عشر عاماً مرتحلا من سجن لآخر يحمل صليب ألآمه،لم يفقد البوصلة أبداً،وبوصلته تؤشر دائماً أن لا عودة إلا لجبل المكبر مسقط رأسه،هذا الجبل الذي طالما حلم ويحلم بأن يخرج من معتقله وقد تحرر وعادت له عروبته،تلك العروبة التي تسلب يوماً بعد آخر،فأبو جمل يصاب بالذهول عندما يعلم بأن السرطان الاستيطاني لم يعد يبعد سوى عشرات الأمتار عن بيته،وأن الاستيطان يتمدد في المكبر تمدد النار في الهشيم،وكذلك أسماء الشوارع في المكبر تعبرنت،ومساحتها الجغرافية تضيق شيئاً فشيئاً بفعل المصادرات والاستيلاء على الأرض.
أبو جمل الذي دخل السجن في ريعان شبابه،ربما بحسه العفوي أدرك أن أوسلو لم يحقق للشعب الفلسطيني من أهدافه شيئاً،وأن الحديث عن السلام ليس إلا وهماً وكلاماً لذر الرماد في العيون،بل كان له الكثير من التداعيات والمخاطر السلبية والآثار المدمرة على الشعب والأرض،فكما قسم الشعب قسم الأرض.
المهم أبو جمل لا يجيد فذلكات وشعارات وكلام المنظرين من أن أوسلو سيجلب اللبن والعسل الى الشعب الفلسطيني،فهو يشاهد ما يجري على الأرض،حيث الشعب الفلسطيني يجترح شكلاً جديداً من أشكال المقاومة،إنها حرب السكاكين،أو ما يسمى بالسلاح الأبيض،والعديد من العمليات بها تنفذ على مقربة من الجبل،ويقوم بها أناس من القرى والبلدات المجاورة للمكبر،وحس أبو جمل الوطني العفوي دفعه لأن يكون واحداً من مناضلي حرب السكاكين،فيقوم هو وعدد من أبناء بلدته بطعن مستوطن على قمة الجبل ويصيبونه بجراح خطيرة،وليحكم بعدها أبو جمل بالسجن لمدة اثنان وعشرين عاماً،وفي السجن ومن بعد فترة التحقيق أختار أبو جمل أن يكون مناضلاً في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،وربما خياره نابع من انتماءه الطبقي،فهو من عائلة فقيرة وبسيطة،وقد تكون الأحاديث والمشاهدات التي كان يكونها أو يسمع بها عن الجبهة الشعبية من كونها تنظيم منحاز للفقراء والمعدمين من أبناء شعبنا،وما تتمتع به من سمعة نضالية بين جماهير شعبنا،هي التي دفعت به لمثل هذا الخيار.
وفي المعتقل أدرك أبو جمل أن عليه تعويد نفسه على حياة جديدة،ليس بفعل ظروف وشروط وقوانين إدارة السجون،بل علية أن يتعود على الحياة التنظيمية والحزبية،فلا يكفي أن يقول بأنني عضو في الجبهة الشعبية،بل عليه أن يستوفي شروط واستحقاقات العضوية،وفي البداية عليه أن يتعلم القراءة والكتابة،ومن حسن حظ الرفيق أبو جمل أنه وجد من يقوم بهذه المهمة رفاق خلص ميامين من أمثال ياسين أبو خضير وسامر أبو سير وجهاد العبيدي،والذين كانوا من الرفاق الذين يتحلون بسعة الصدر والصبر،حيث كانوا يفردون له مساحة واسعة من وقتهم للتعليم،وبالمقابل أبو جمل كان لدية الرغبة والإصرار على التعلم،وبالفعل بتوفر الإرادة والمتابعة من قبل الرفاق حقق أبو جمل إنجازات عظيمة في هذا الجانب،فهو لم يكتفي بمعرفة القراءة والكتابة ،بل أخذ أكثر من دورة في الخط وحتى في تجويد القرآن من أجل أن يكون قادر على متابعة ومعرفة ما يدور من حوله،ومن أجل أن يكون جاهزاً لما يطلب منه من تكليفات وكتابة تقارير تنظيمية وإعتقالية،وأبو جمل بحكم طبيعته وسجاياه فهو إنسان بسيط وهادئ إلى أبعد الحدود،فيه الكثير من براءة الأطفال،ولذا تراه يتمتع بمحبة كل أبناء الحركة الاعتقالية،وهو لا ينسج ويقيم علاقاته الشخصية على أسس عشائرية وتنظيمية،بل على أساس أن المعتقلين هم عائلة واحدة بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية،وهو تعلم من التجارب بأن الاحتلال في عمليات القمع والتفتيش لغرف المعتقلين وأقسام السجن المختلفة لا يفرق بين معتقل وآخر في القمع والاستهداف،بل يستهدف الجميع بغض النظر عن لونهم السياسي،وأبو جمل حتى في أحلك الظروف الاعتقالية من قمع وتنقلات،تراه محافظ على رباطة جأشه.
وفي المعتقل كان يدمن على شيئين،وربما بحكم طبيعته البدوية الإدمان على شرب الشاي،وكتابة الرسائل للرفاق والمعتقلين والأهل والأصدقاء،رغم أن الرفيق ياسين أبو خضير كان يرد له على الرسائل التي يرسلها له بأقذع الأوصاف والألفاظ،ولكن كما يقول المثل"ضرب الحبيب إزبيب" فما أن يبلغوه الأسرى بأن له رسالة من الرفيق ياسين أبو خضير حتى تنفرج أساريره وتراه يزهو ويختال في الساحة كالطاووس.وطبعاً ياسين لم يقصد أبدا ًتحقير الرفيق أبو جمل أو تقزيمه،بل على سبيل المزاح والمداعبة وما يكنه له من محبة وتقدير.
وأبو جمل كانت تربطه علاقة قوية بابن مجموعته شادي هلسه الذي تحرر من الأسر في إفراجات أوسلو/عام 1999،بعد أن قضى ستة أعوام من فترة حكمه البالغة ستة عشر عاماً،وتحرره ترك فراغاً في حياة الرفيق أبو جمل لفترة من الزمن حيث كان دائما الحديث عنه وتذكره،وبعد فترة من الزمن تعود على تحرر رفيقه،ولكن عاد شريط الذكريات مجدداً وليشتعل بقوة عندما سمع عن أن رفيقه شادي أعيد اعتقاله مجدداً في أوائل عام 2009،فهو لم يترك شاردة أو واردة أو معتقل جديد إلا وسأله عن ابن مجموعته،هل شاهده أو رآه أو سمع عن ترحيله إلى سجن ما ؟وكان أبو جمل في حالة ترقب مستمر لأبن مجموعته ويسأل الأهل أثناء الزيارة إن كان لديهم أخبار حوله،ولم يفقد أبو جمل الأمل عندما سمع عن ترحيل ابن مجموعته إلى سجن أخر أثناء فترة توقيفه،فكان لديه أمل كبير بعد الحكم أن يرحل إلى سجن آخر،قد يكون السجن الذي هو موجود فيه،ولكن حتى هذه الأمنية ولحظة الفرح تلك،لم يشأ أن يحققها الاحتلال لأبو جمل الذي كان يجري الطقوس والإستعدادت لاستقبال رفيقه،وإعطاءه "برشه" سريره لكي ينام عليه،طبعاً إذا سمح له أبو جمل أن ينام فسوف يتسامران حتى الصباح،وسيطرح أبو جمل عليه الكثير من الأسئلة الشخصية والاجتماعية وأحوال البلد والوضع السياسي وقصور مؤسسات الأسرى والسلطة والأحزاب بحق الأسرى وعائلاتهم وغيرها الكثير من الأسئلة التي يمتلك شادي ردود عليها أو التي لا يمتلك ردود أو إجابات عليها أو لا يريد الإجابة عليها.
ونقطة هنا أود أن أسجلها فالرفيق أبو جمل الذي إلتقيته في عام 2002 في سجني شطة ونفحة،لم تكن بادية عليه حالة عدم الثقة واليأس والإحباط التي ألقى أوسلو بظلالها بشكل كبير على أبناء الحركة الأسيرة،ولم يكن يستعجل الخروج من المعتقل،ولكن في عام 2005 عندما سجنت مرة أخرى سألت الرفاق والأخوة عنه،فقالوا أن أبو جمل أصبح يستعجل الخروج من السجن،وهو لم يعد يشرب الشاي بالسكر،واستعجاله الخروج من السجن له علاقة بالشروط والظروف والحياة الاعتقالية والمعتقلين أنفسهم.
ورغم أن الأسير أبو جمل كان يمني النفس بأن يكحل عينية بمشاهدة والده قبل أن يرحل،لكن لم تتحقق له هذه الأمنية،فحاله كحال الكثير من الأسرى الذين رحل أحبتهم من والدين وأخوة وأخوات وأقرباء وهم في السجن،ولعل عزاءه هنا كان في رفيقه المثل والقدوة ياسين أبو خضير الذي رحل والديه وهو في السجن.
ورغم عتمة وظلمة السجن وقساوة وعسف السجان،فأنا واثق بأن الرفيق الطيب المخلص المنتمي جمال أبو جمل سيبقى كما عهدته شامخاً كشموخ بلدته جبل المكبر،تلك البلدة التي أنجبته وأنجبت المئات من المناضلين،الذين ما زال العشرات منهم يقبعون في سجون الاحتلال من ضمنهم اثنان من عمداء الحركة الأسيرة هم المناضلين بلال أبو حسين وابراهيم مشعل والقائمة لم تنتهي بعد، بل مستمرة باستمرار الاحتلال ووجوده.
القدس – فلسطين
24/5/2010
0524533879
Quds.45@gmail.com
--