الدكتور جيلالي بوبكر
العولمة المجتمع المحلي والدولة القومية
*لقد ألحقت العولمة المدعومة من الأمركة والنظام العالمي وممارساتها في العالم أضرارا كبيرة، ضحيتها الشعوب المستضعفة المقهورة، التي تدفع فاتورة إرادة الهيمنة والتسلط والرغبة في العدوان من قبل القوى المهيمنة الطاغية، القوى التي تحتكر القوة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمالية والعسكرية، في مقابل احتكار شعوب العالم الثالث للتخلف والفقر والنزاعات الطائفية العرقية والدينية والسياسية، هزمتها العولمة وأفقدت أفرادها القوة النفسية والإرادة الفاعلة، فالفرد في العالم الثالث لا يملك الشروط الذاتية والاجتماعية المحفزة على تفعيل قواه النفسية وتحقيق إرادته الفاعلة، لأنه يعيش في تخلف وانحطاط وقهر نفسي واجتماعي يقتل المواهب ويقضي على العبقرية، الأمر الذي جعل البلدان المتقدمة لا تنهب ثروات المستضعفين فحسب، بل تستغل طاقاتهم البشرية اليدوية والعلمية، ومن ذلك هجرة الكفاءات العلمية إلى خارج بلدانها، وصار الفرد في بلدان الأطراف مهزوما في ذاته، لا يملك ما يؤهله لاستيعاب التطورات والتحولات الجارية في عصره، وهو محكوم داخل مجتمعه بما بما يُملى من قبل العولمة والأمركة والنظام الدولي، "إذ أن المجتمعات المهزومة نفسيا، لا تستطيع توظيف إمكاناتها وقدراتها في مشروع التطوير لأن النفسية المهزومة لا تعكس إلاّ إرادة خائرة لا تستطيع القيام بأي عمل. لهذا فإن من الشروط المهمة التي ينبغي توافرها لاستيعاب عصر المعلومات بمتطلباته وآفاقه هو توفر القوة النفسية والصلابة المعنوية التي تبث إرادة فاعلة، وعزيمة راسخة، وتصميما فولاذيا، على تطوير الواقع واستيعاب تحولاته، ومقاومة العوامل المضادة التي تحول دون التقدم والتطور".[1]
* إن الرهان الكبير الذي يتصدى للشعوب المهزومة أمام العولمة هو سبيل النهوض من التخلف والتخلص من الانهزامية، واللحاق بالركب الحضاري في عالم لا يرحم ولا يشفق ولا مكان فيه للضعفاء، والخطر الداهم ليس في الهزائم المادية الخارجية أو حتى العسكرية، بقدر ما هو في الهزائم النفسية، فالهزائم المعنوية التي تتكبدها يوميا الشعوب النامية ومنها الشعوب العربية والإسلامية وأنظمتها أفقدت الأفراد القدرة على توظيف الطاقات والإمكانيات الذاتية الداخلية، وأسقطت جميع المحولات الفردية والجماعية للانطلاق في إدارة الذات والعمل على تذليل الصعوبات وإزالة العوائق من أجل صنع التغيير والإبداع والتطور الذي صار ملكا للأقوياء في العالم وحكرا عليهم، العالم الذي صار بيد القوى المهيمنة التي احتكرت كل عوامل القوة والغلبة والمنعة لنفسها، وقتلت في الشعوب الأخرى الدينامية الذاتية والقوة النفسية والإرادة الفاعلة، فانهزمت الشعوب معنويا، ولم تقدر على الحركة في اتجاه التغيير والتطوير،لأنها افتقدت العوامل الذاتية الداخلية التي من دونها لا تعرف التحول، وهي العوامل التي كانت وراء نهوض الأمم وقيام الحضارات، ومنها حضارة العولمة والأمركة، أصبح الفرد في المجتمعات النامية يعيش التخلف وكل صنوف الظلم والقهر من الداخل ومن الخارج مهزوم مرتين، مرة من مجتمعه نظام الحكم فيه ومرة من العولمة التي هزمته ومجتمعه ودولته، فالهزائم متعددة لا حصر لها، كيف له أن يتحرك نحو الانتصار في أتون الهزائم العديدة والمتلاحقة بدون توقف، لأنّ "حركة المجتمع تجاه التقدم والتطور، حركة ذاتية لا تنتظر المحفزات من الخارج، بل هي مجتمعات مولدة للإصلاح والتطوير وصانعة له. وأن الحركة الذاتية، هي التي تفتح أبوابا جديدة لرؤية المستقبل وبلورة آفاقه. فإن الإمكانات والقدرات التي يتضمنها أي مجتمع لا يمكن توظيفها في عملية التقدم وحسن استخدامها في مشروع التطور، إذا لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع يتحرك بحوافزها، ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات المتوفرة في الإنسان والطبيعة".[2]
* يفتقد الأفراد والجماعات في الدول المتخلفة التعاطي الإيجابي مع التحولات والتحديات التي يعرفها العالم، وفي غياب هذا التفاعل الإيجابي لا مكان للتغيير الذي من شأنه يأتي نتيجة للفاعلية الذاتية، وعند أفول هذه الفاعلية الذاتية بسبب الروح الانهزامية المتولدة عقم الأوضاع الاجتماعية بشكل عام، "هو بداية النهاية لأية حضارة، حيث أن الحضارات الإنسانية التي سادت ثم بادت تكشف لنل أن العنصر الأساسي الذي أنهى تلك الحضارات وجعلها تعيش القهقرى، هو عدم أو ضعف قدرتها على التكيف مع التطورات والتحديات الجديدة، ولا فرق في ذلك سواء كانت تلك التطورات والتحديات والتحولات طبيعية أو إنسانية...من هنا فإننا في هذا العصر الزاخر بالمعلومات وتقنياته المتعددة، لا يمكننا أن نختار هل ندخل هذا العصر أم نغلق واقعنا منه، وإنما من الأهمية توفير كل الشروط الضرورية لاستيعاب تطورات هذا العصر وتقنياته حتى يتسنى لنا المشاركة الطبيعية في عصر لا محل فيه إلاّ إلى المجتمعات الحيّة، الزاخرة بالكفاءات والطاقات الخلاقة". لكن الروح الانهزامية المتولدة عن الشعور بالضعف والقصور والاستكانة أمام حضارة الآخر والتبعية له لا يسمح بالمشاركة الطبيعية ولا بتوظيف الكفاءات والطاقات الخلاقة ولا حتى بتفجيرها.
* من جهة الفرد كان للعولمة تأثيرها السلبي على حياته عامة، لكونها ولّدت فيه الروح الانهزامية التي قتلت فيه كل محاولة للمشاركة الطبيعية الإيجابية في صنع التطور، وأية مبادرة لإبراز إمكانياته وتفجير طاقاته، أما من جهة الدولة القومية في الأطراف فبحكم العولمة بمستوياتها المختلفة الاقتصادية والسياسية والأمنية العسكرية والثقافية والإعلامية، افتقدت الدولة الوطنية ذات الطابع القومي حقوقها وواجباتها نحو مواطنيها، لأن المواطنة والقومية والوطنية لم يعد لها قيمة في ظل الكوكبية، فلم يعد الولاء للوطن أو الأمة أو الدولة المحلية بل صار الولاء العالم لا غير، لهذا لم تعد الدولة تقوم بجميع واجباتها في الاقتصاد والسياسة والأمن والثقافة والإعلام، بل ارتبط ذلك كله بالشركات الاقتصادية المتعددة الجنسيات وبالمؤسسات المالية العالمية، البنك العالمي وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة، وبتقنية الاتصال والإعلام والإشهار المتطورة والمتزايدة في التطور، فصارت دول الأطراف يحكمها النظام الدولي من خلال تأثير الجهات الفاعلة في تدبير شؤون العالم، بالنسبة لما يترتب عن غياب دور الدولة الاقتصادي، "ستجد الدول النامية نفسها في سباق مع الزمن للتحول إلى الخصخصة واقتصاد السوق الحرة، وهو ما يعني القضاء على القطاع العام الذي قاد عملية التنمية لعقود طويلة، وتشريد الملايين من العمال، بعد تطبيق سياسة الإصلاح الاقتصادي، وفقا لمتطلبات العولمة. والواقع أن التوجه الاقتصادي الجديد قد أدى إلى تفاقم الأوضاع السلبية داخل الدول النامية، وحدوث حالات عجز هائلة في موازينها التجارية، إذ تشير الإحصاءات إلى أن قيمة الديون الخارجية للدول النامية تصاعدت من 750 بليون دولار العام 1982 إلى حوالي 1300 بليون دولار العام1989، كان نصيب إفريقيا وحدها حوالي 250 بليونا. ومن المتوقع أن يصل الحجم الإجمالي لمديونية الدول النامية خلال العام 2002 إلى نحو 1500 بليون دولار، وهو ما يعني أن النظام الاقتصادي الجديد يزيد من تهميش الدول النامية، لأن طبيعة تكوين هذه الدول نفسها تساعد على زيادة تفاقم الأوضاع...التقلبات الفجائية للاستثمارات الأجنبية، خاصة قصيرة الأجل، مثل استثمارات الحافظة. التعرض لهجمات المضاربة. هروب الأموال المحلية. دخول الأموال القذرة "غسيل الأموال". تخفيض قيمة العملات المحلية...الحقيقة هي أن إضعاف السلطة الوطنية، لتصبح عاجزة عن تطبيق القوانين الوطنية، داخل حدودها، من أجل المحافظة على انسياب رؤوس الأموال الأجنبية، وعدم استغلال الاقتصاد الوطني لموارده، يؤدي إلى تحقيق مصالح الشركات العالمية، ومن ثم إلى إهمال الوظيفة الاقتصادية للسلطة الوطنية، لتتحول مهمتها إلى حماية نظام حرية التجارة العالمي".[3]
* كما فقدت الدولة الوطنية القومية وظيفتها الاقتصادية وصارت آلية من آليات نظام التجارة العالمي تقوم بدور حماية نظام الحرية في التسويق التجاري العالمي، فقدت من جهة أخرى وظيفتها السياسية، "فقد كانت حماية قيم ومبادئ النظام تقتضي ألا يتدخل أحد في سيطرة السلطة على كافة المؤسسات التي تعمل تحت سيطرة الدولة، إلا أننا بتنا نشهد تغيرا في دور السلطة الوطنية من دور المسيطر وفق مبادئ النظام، إلى دور المساعد في تغيير القيم والمبادئ التي تنادي بالاستقلال ورفض التبعية،في اتجاهالدمج بالمؤسسات العالمية. ولأن العولمة ذات طبيعة اقتصادية ولأن التغيير في البعد السياسي يرتبط بالاقتصاد، فسيتأكد من جديد ارتباط الاقتصاد بالسياسة، ومن ثم فإن السلطة لن تستطيع إتباع إيديولوجية سياسية خاصة بها، أو الانغلاق على نفسها لا اقتصاديا ولا سياسيا، لأن الدولة في عصر العولمة أصبحت عرضة للعديد من التغيرات، وفق شبكة العلاقات في العالم. لذلك، فإن فاعلية الدولة في المجتمع الدولي ستتأثر بفاعلين جديدين هما الشركات والمنظمات العالمية، المفتوحة أمامأي فرد في العالم من أي دولة".[4]وأصبح مصير الدولة الوطنية السياسي بيد الشركات والمنظمات العالمية وعرضة للتحولات السياسية والاقتصادية التي تطرأ على الساحة الدولية ولم تعد قراراتها السياسية والدبلوماسية بيدها لا، الوظيفة السياسية للدولة ترتبط بالاقتصاد "باعتباره الجانب الأكثر وضوحا في العولمة، كما ساهم في ذلك، انضمام الدول للعديد من المؤسسات الدولية، مما جعلها تدفع مقابل ذلك من فوتها محليا، بأن تضطر لقبول تدخل هذه المؤسسات في قراراتها ونشاطاتها. ومن هنا فإن السلطة ستعجز عن الدخول في منافسة تجعل القرار السياسي في حالة توازن مع المصالح الاقتصادية والمالية، باعتبار أن العولمة هي الصفة التي تدعو إلى إسقاط كل الحواجز المحلية، لتقوية الروابط الدولية، وفق نشاطات المؤسسات المالية العالمية".[5]
* إنّ ما تهدف إليه العولمة بالنسبة للدولة الوطنية هو التأكيد على نهاية وظيفة الدولة القانونية والسياسية باعتبارها الإطار السياسي والغطاء القانوني الذي يحدد الهوية ويمثل مصدر السلطة، "عالم العولمة، عالم بدون دولة، بدون أمة، بدون وطن. هو عالم المؤسسات والشبكات، عالم "الفاعلين" وهم المسيرون و"المفعول فيهم" وهم المستهلكون للمأكولات والمعلبات والمشروبات والصور و"المعلومات" والحركات والسكنات التي تفرض عليهم. أما وطنهم فهو "السيبرسيبيس" أو "الفضاء السيبرنيتي" وهو الفضاء الذي تصنعه شبكات الاتصال ويحتوي الاقتصاد والسياسة والثقافة...العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن، وفي مقابل ذلك يعمل على التفتيت والتشتيت. إنّ إضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ أطر للانتماء سابقة على الدولة، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي. والنتيجة تفتيت المجتمع وتشتيت شمله. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا هنا هو: كيف يمكن تحقيق نهضة أو تنمية إذا أصبحت الدولة مجرد دركي يحافظ على "الأمن" لفائدة الفاتحين الجدد": الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسية التي شعارها: "أكثر ما يمكن من الربح بأقل عدد من المأجورين". ثم ماذا ستعنيه "السياسة" و"الديمقراطية" في عالم العولمة هذا؟".[6]في ظل العولمة تسقط وظائف الدولة القومية السياسية والقانونية تجاه مواطنيها، وتُحصر وظيفتها في توفير الحماية الأمنية والغطاء الشرعي للنظام العالمي للمؤسسات والشركات العابرة للقارات، فينتهي الدور السياسي للدولة في غياب البديل الشرعي، وغياب البديل الشرعي الوطني والقومي يؤدي حتما إلى بدائل غير شرعية، الثورة أو الفوضى، عن هذا الوضع يعبر المرحوم محمد عابد الجابري بقوله: "ذلك لأنه إذا غابت السياسة أو "انتهت" فالبديل الحتمي هو الثورة أو الفوضى. ولكي لا تتيه الثورة الكامنة، التي تطبع مشارف القرن الواحد والعشرين، في متاهات الفوضى والتطرف والإرهاب، لابد من "ماركس" جديد يتلافى أخطاء ماركس القديم، وفي مقدمتها خطأ إهمال الشأن السياسي، وخطأ إهمال الشأن الديني وخطأ التنكر للشأن القومي".[7] وغياب دور الدولة القومية السياسي وانتهاك العولمة لسيادتها بطريق مباشرة وطريق غير مباشر، يتعارض تماما مع مبادئ هيئة الأمم المتحدة ومع الركائز التي ينبني عليها النظام العالمي، "وتعد السيادة الوطنية من أهم أركان الدولة. وقد ورد مبدأ السيادة في الفقرة الأولى من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة وأعلنت جميع الدول الأعضاء تمسكها به وبضرورة احترامه وهو أحد الأعمدة التي يقوم عليها النظام الدولي كما يُعد من دعائم القانون الدولي التقليدي".[8]
* إنّ الانعكاسات السلبية السياسية والاقتصادية للعولمة على شعوب الأطراف، تركت آثارها الخطيرة على ثقافات هذه الشعوب وعلى حياتها الاجتماعية، فالعولمة "تطرح شكلا جديدا للأنماط الاجتماعية السائدة، من خلال إحداثها نوعا جديدا من الحراك الاجتماعي، تتحول فيه المجتمعات المغلقة إلى مجتمعات مفتوحة، فتتغير فيها كل الترتيبات الاجتماعية المتمثلة في التقاليد والأعراف السائدة. ولا شك أن ذلك سوف يسبب خلخلة اجتماعية واسعة تتطلب الإعداد لتوجيه القوى الاجتماعية للتكيف مع الأوضاع الجديدة التي أفرزتها العولمة، بالإضافة إلى وضع الأسس لإقامة مجتمع عالمي إنساني. كما تطرح العولمة شكلا جديدا للتعليم وفق التطور التكنولوجي، أسهمت فيه ثورة الاتصالات والمعلومات، يؤدي إلى نشر الأنماط السلوكية السائدة في المجتمعات المتقدمة، بصرف النظر عن مدى قبول أو رفض المجتمعات الأخرى لها".[9]وارتباط الدولة القومية بالاقتصاد العالمي وبالسياسة العالمية يفرض عليها الاتجاه نحو التقليل من خطط الرعاية الاجتماعية، لأن مبدئيا نظام العولمة لا يبالي بالمصلحة الاجتماعية العامة، ولا يوافق على تقديم الخدمات الاجتماعية للجميع، فمؤسسات المجتمع التي كانت تتولى هذه المهام تخلّت عن ذلك، مما يؤدي إلى التهميش والبطالة والفقر والحرمان، وإلى التفاوت الاجتماعي والمعيشي، خاصة بين من يملك التكنولوجيا وبين العاجز عن الحصول عليها، ناهيك عن الأضرار والسلبيات التي تنتج عن قيام التعليم والتكوين والتربية على التكنولوجيا والمناهج التي تفرضها العولمة تصب في أهداف وطموحات الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية، وتعبر عن إيديولوجياتها. يقول أحد المحللين معلقا على إحدى الجلسات التي انعقدت بين الدول الفقيرة والدول الغنية: "إنّ الفقراء عادة يأملون أن ستفر هذه الجلسات عن حلول لمشاكلهم التي لا تنتهي، أما الأغنياء فإنهم يعتبرون الفقراء برميلا بلا قاع، مهما ألقيت فيه من نقود فلن تفيد أحدا ولن يظهر لها أثر...ويمضي الحوار عادة بين الأغنياء والفقراء مثل الحوار بين الطرشان، يرتفع صوت الفقراء كعادته وهم يطالبون، بينما يهمس الأغنياء وهم يصدون، أما طلبات الفقراء الحيوية فإنّ الأغنياء عادة لا يسمعونها إذ يصيبهم نوع من الصمم المؤقت حين يرد ذكرها في الحوار".[10]
* إن الآثار السيئة للعولمة على مجتمعات الأطرف لا يمكن إحصاؤها لكثرتها وتنوعها، فمن هذه الآثار على الجانب الاجتماعي الثقافي الوطني "سحق الهوية الوطنية وإعادة تشكيلها في شخصية عالمية، يفقد الفرد جذوره، ويتخلى عن ولائه وانتمائه. والانتقال إلى العمومية واكتساب هوية جديدة تجر الفرد إلى من الاغتراب، ما بين تاريخه الوطني وما أنتجته الحضارة الجديدة، حيث تذوب الخصوصية الوطنية في استخدام آليات الإبهار، من خلال الأقمار الصناعية، وتنمية التعامل الاجتماعي، دون قيود سياسية ودون حدود الانتماء لوطن محدد أو لدولة بذاتها، وهو ما يمكن لمسه من خلال شركات التواصل الفضائي، التي تبث إرسالها إلى كافة دول العالم، متضمنا الحث المتلاحق بتسرب أراء جديدة، تتحول إلى وجهة نظر، قد تصل إلى مبادئ، وتتحول إلى عقائد جديدة".[11] فالانفتاح الذي تصنعه العولمة للمجتمع المتواجد خارج المركز- خاصة في العالم الثالث-على العالم من غير قيود أو حدود لم توفر إمكانياته وشروطه التي تجعله انفتاحا تحكمه المشاركة الفعالة الإيجابية، بل هو انفتاح تشتيتي للنسيج الاجتماعي للمجتمع وتفتيتي لتماسك القوى الاجتماعية، فلا المجتمع حقق التنمية وتخلّص من التخلف والتبعية واستطاع الدخول في منافسة حقيقية في السوق العالمية الاقتصادية والإعلامية والعسكرية، ولا هو بقي في حالته الأولى يعيش في ظل الدولة الوطنية والقومية، يحكمه الشعور بالانتماء والإرادة في العيش المشترك مع بني أمته ودولته ووطنه، مادامت الإرادة في العيش المشترك مع سكان الأرض قاطبة حلما بعيد المنال وخرافة من خرافات العولمة.
* إن اختراق العولمة للسيادة الوطنية والقومية للدولة ثقافيا واجتماعيا جعلها تتعرض للطعن في هويتها الثقافية وخصوصيتها التاريخية والاجتماعية، على الرغم من أنه لا توجد ثقافة واحدة في العالم، والتعدد والتنوع الثقافي أمور طبيعية ، ومن السهولة أن تنتشر الثقافات عبر شعوب العالم نظرا لتطور تقنية الاتصال والإعلام والإشهار، لكن ليس من الهيّن انصهار الثقافة في غيرها، خاصة لدى الشعوب التاريخية التراثية، فكيف بالعولمة تريد أن تزيح التنوع الثقافي وتصهر كل ثقافات الشعوب في ثقافتها وتطهر الثقافات المناوئة لثقافتها، والهوية الثقافية كيان مركب فردي واجتماعي ووطني قومي الروابط بين هذه المحددات تنبني على التعاطي الثقافي والفكري والاجتماعي السياسي مع الآخر بإيجابية أو بسلبية، وإذا الاختلاف الإيديولوجي أمرا عاديا في حدود العالمية التي تحبذ التبادل الفكري والثقافي الندّي فإن العولمة لا مكان للندّية فيها فهي نفي للهوية الثقافية للآخر وإلغاء الآخر معا، واستبدال الصراع الإيديولوجي والمنافسة الثقافية بالاختراق الثقافي الذي يفرض الهيمنة والاستتباع الحضاري بعيدا عن تدخل إرادة المخترق ثقافيا واجتماعيا، الأمر الذي يجعل الهوية فارغة من أي دلالة ويربط الشعوب بعالم اللاوطن واللادولة واللأمة واللاتاريخ، فتتفاقم الأوضاع وتتفجر الصراعات الطائفية الدينية والعرقية والسياسية وتكون كل الشعوب عرضة للفوضى والحروب الأهلية، هو حال الكثير من شعوب العالم المعاصرة، منها الشعوب العربية والإسلامية، "فالعولمة تكرس الثنائية والانشطار في الهوية الثقافية العربية. إن تجديد الثقافة، أية ثقافة، لا يمكن أن يتم إلا من داخلها: بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، والتماس وجوه من الفهم والتأويل لمسارها تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل.إن حاجتنا إلى الدفاع عن هويتنا الثقافية بمستوياتها الثلاثة، لا تقل عن حاجتنا إلى اكتساب الأسس والأدوات الي لابد منها لدخول عصر العلم والثقانة، وفي مقدمتها العقلانية والديمقراطية. فهل للشعوب العربية أن تطالب بالشراكة مع أوربا في مجال اعتماد العقلانية والديمقراطية، في الفكر والسلوك، في التخطيط والإنجاز، في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة".[12]
* لقد ألحقت العولمة أضرارا كبيرة بالدولة القومية العربية، فأصابها ما أصابها من التدهور "والضعف عن طريق الاستعمار المباشر أولا، ثم عن طريق مختلف وسائل فرض النفوذ والسيطرة الاقتصادية في مرحلة ما بعد الاستقلال الصوري، ثم عن طريق ما فرضته وتحاول ترسيخه مؤسسات التمويل الدولية من سياسات، أشهرها سياسة التكييف الهيكلي والتثبيت الاقتصادي، وأخيرا عن طريق استدراج دولنا إلى الارتباط الجبري باتفاقيات دولية، كان آخرها وأشهرها تلك الناجمة عن جولة "لأوروغواي". كان الضعف والهوان اللذان أصابا الدولة القومية في المنطقة العربية في عصر الاستعمار واضحين وضوح الشمس إذ لم يكن ما حدث إلا إحلال دولة استعمارية محل أخرى، ولكن الضعف والهوان كانا شديدين أيضا حتى في ظل الاستقلال الصوري، وإن كان فرض الإرادة والتحكم في الدول القومية في ظل هذا الاستقلال أنعم ملمسا وأرقى مظهرا. ولم يتبدل الضعف والهوان في ظل السياسات الاقتصادية الجديدة، واتفاقيات "التحرير" الأخيرة، وإنما زاد المظهر رقة والملمس نعومة".[13]ويصور لنا "جلال أمين" مشهد العولمة في انعكاساتها على شعوب العالم الثالث، وعلى شعوب العالم العربي والإسلامي في كتابه: "العولمة والتنمية العربية، من حملة نابليون إلى جولة الأوروغواي، 1798-1998" في قوله: "شعار العولمة جديد، لكن الظاهرة قديمة. وهي لم تخل في أي مرحلة من تاريخها من نفع، ولكن النفع يعود أغلبه على مركز بثّها وإشعاعها، وأغلب أضرارها تعود على الأطراف، ومن بين هذه الأطراف بالطبع المنطقة العربية. وهي ظاهرة حتمية بمعنى أنّ تقارب أجزاء العالم وتضاؤل المسافات الفاصلة بين جزء وآخر من العالم، ماديا وفكريا، لا مجال لوقفه أو صدّه، ولكن من الممكن دائما أن تحقق أمة من أمم الأطراف نهضة تحوّلها من طرف سلبي في التعامل الدولي إلى قوّة فاعلة وإيجابية. ولا يمكن تصور حدوث هذه النهضة إلا باستعادة الدولة القومية قوتها".[14]
* في ظل العولمة التي سحبت من الدولة القومية كامل صلاحياتها تجاه مواطنيها، كان من أبرز العوامل التي مكنت العولمة من ذلك هو تسارع التقدم العلمي والتطور التكنولوجي، واستخدام التكنولوجيا المتطورة في كل مجالات الحياة، طبعا في الحياة الاقتصادية وبصفة خاصة في قطاع الإعلام والاتصال والإشهار، القطاع الذي فقدت الدولة الوطنية سلطتها عليه بعد تأميم العولمة له لصالح الترويج لإيديولوجيا العولمة وللنظام العالمي، وبعدما صارت تكنولوجيا القطاع في يد الشركات والمؤسسات العالمية المالية والسياسية والثقافية، التي لا تراعي في نشر وبث المعومات والأخبار والثقافات إلا ما يروق للعولمة ويزكي النظام العالمي، ناهيك عن استغلال هذه التكنولوجيا في ممارسة الاختراق الثقافي وتكريس الاستتباع السياسي والاقتصادي، ولم يعد المفهوم التقليدي للإعلام هو الذي تعتمده العولمة، من حيث المادة الإعلامية والمضامين والتقنيات والوظائف، بل للعولمة مرتكزات جديدة تحددها المهام والصلاحيات الإعلامية بمقتضى توجهات العولمة ومتطلباتها، وهي: "إشاعة المعلومات وجعلها متيسرة للجميع من دون مقابل بحيث يستطيع الحصول عليها أي فرد، أو جماعة، أو فئة...إذابة الثقافات الوطنية والقومية وتقليص الحدود الفاصلة، بين المكونات المذكورة ومكونات ثقافة العولمة التي تنتمي إلى مصدر واحد، وإلى فئة مركزية واحدة، وبنية ثقافية مشتركة. وقد نجح الإعلام فعلا بتجسيد الوظيفة المذكورة، وجعلها أكثر فعالية وتمثلا لمنطق العولمة ومضمونها، بفعل التقنية الرقمية والأقمار الصناعية التي تملك قدرة البث والوصول المباشر، من دون وسيط، إلى الجمهور المعني في أي بقعة جغرافي على كوكب الأرض... تنمية مولدات التماثل بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات. وقد تمكن الإعلام إلى حد ما من بناء مكونات التماثل الأولية في مجالات عدة كالاندماج والإنتاج والتوحد، بصورة لافتة للنظر، على مستوى البرنامج الترفيهي، والتقني، والعلمي".[15] لكن رغم ما تستثمره العولمة في قطاع الإعلام من أموال باهظة مرتكزة على القيم الجديدة، التي تستهدف تيسير وصول معلومة العولمة وصهر ثقافات الأطراف في ثقافة العولمة والبحث عن عوامل التشابه بين الأفراد والجماعات والفئات البشرية قصد ترسيخها لتثبيت العولمة في العالم أجمع، إلا أن شعوب الأطراف بقيت متمسكة بعناصر هوياتها الثقافية وخصوصياتها التاريخية والحضارية، وكلما زادت العولمة في توظيف الإعلام وتقنياته المتطورة باستمرار ازداد الشعور بالانتماء الثقافي والوطني والقومي نماء لدى الأفراد والجماعات خارج المركز، خاصة لدى الشعوب التراثية التاريخية، مثل حال قادة المركز التي يزداد انتماؤها للعولمة التي تمثل هوية المركز وخصوصيته الإيديولوجية. غير أن غزو العولمة للعالم إعلاميا بات حقيقة ثابتة، تؤكدها ظاهرة الاستهلاك المتزايد"كوسيلة اتصالية، تتسم ليست بكونها كذلك وإنما بكون الأنموذج الاستهلاكي هو رسالة في الوقت نفسه، فهي الوسيط المتضمن عادة العلامة وركن وحامل هذه العلامة وتكمن قدراتها بشكل خاص في تحرير العملية الاتصالية من قيود الزمان والمكان أولا وفي خلقها نوعا من البنية الصورية بين الإنسان والعالم الموضوعي الحقيقي ثانيا...إنها أصبحت أحد الأدوات السلطوية التي تعمل بشكل خير منظور على تأكيد سلطة الآخر ثقافيا واقتصاديا بل وحتى سياسيا في ترسيخ إيديولوجيات وقيم الآخر المهيمن والمنتج للسلع الاستهلاكية...إن امبريالية الإعلام هذه والتي تمتد لتكون"امبريالية لحضارة الصورة" تتجلى من خلال احتكار عدد قليل من احتكار شركات الإعلام المتعددة الجنسية للإرسال الجماهيري السمعي والمرئي والإنتاج السينمائي والتلفازي".[16] إن العصر الراهن عصر أصبحت فيه "ثورة الاتصالات وثورة الإلكترونيات الحاسبات العمود الفقري لظاهرة العولمة وإن هذه التقنيات هي الأذرع التنفيذية كما أن هذه التطورات الحاصلة في العالم اليوم لا تحدث أو تعمل على تحول من حقبة إلى حقبة وإنها توجد عالما خاصا بها عالم العولمة بجميع جوانبه".[17]عالمفيه السياسة والاقتصاد والإعلام وحتى الثقافة وكل شيء بما في الإنسان من إنتاج الكبار الأقوياء لا غير، ولا مكان للصغار والمستضعفين فيه.
* لقد سحبت العولمة كليا من الدولة القومية والوطنية وظائفها، فأفقدتها المال والأعمال، وتنازلت عن سائر التزاماتها السياسية والاجتماعية الخدماتية والإعلامية وغيرها، كما فقدت وظيفتها الأمنية العسكرية، فالدور الأمني والعسكري المنوط بالدولة تراجع في غياب المفاهيم الأمنية والعسكرية التقليدية، وظهور دلالات جديدة عن الأمن والسلم والحرب والأسلحة والعدوان وغيرها من المفاهيم التي تغيّر مدلولها بفعل تأثير العولمة والنظام العالمي في الصراعات والنزاعات التي تعرفها مختلف مناطق العالم، ارتبطت القوة العسكرية بسائر العوامل التي تتحكم في حياة الإنسان في ظل العولمة خاصة العامل الاقتصادي والعامل التكنولوجي، تكنولوجيا الاقتصاد والحرب والإعلام والاتصال، لأن الأمن لا يتحقق كما يشير العديد من المفكرين بالقوة العسكرية، بل بالتنمية التي شرط الأمن "وبدون تنمية لا يمكن تحقيق الأمن، وإن الدولة التي لا تنمو بالفعل لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة، فالأمن ليس في تراكم السلاح، بالرغم من أن ذلك قد يكون جزء منه. والأمن ليس هو القوة العسكرية بالرغم من أنه يشتمل عليها. والأمن ليس هو النشاط العسكري التقليدي، بالرغم من أنه يحتوي عليه. فالأمن هو التنمية. ومن دون تنمية لا مجال للحديث في الدولة. وهكذا ظهر مفهوم جديد للأمن في الدولة، إذ إن من شأن ظهور تلك المؤسسات الدولية أن يساعد على تقليص الصدام العسكري، فتظهر أشكال عديدة لمفهوم الأمن، منها الأمن الغذائي، وأمن التنمية، والأمن الإنساني...وهكذا يتسق النظام الحربي"العولمي"مع كافة العوالم، وإلا فإنه سيكون دون المستوى، ولن تكون الدولة قادرة تحقيق أهدافها، لأن الصراع نشاط إنساني، يقوم به الأفراد والجماعات، لتحقيق حاجات أو رغبات أو مصالح هي عادة مزيج من الاقتصاد والاجتماع والسياسة. لذلك أصبح الأمن الدولي ذا أبعاد متعددة، إذ لم يعد يقتصر على قضايا التسلح، بل صار يشمل قضايا أمنية سياسية واقتصادية وبيئية ومعرفية ونفسية".[18] وتغير مفهوم الحرب ومفهوم العدوان "ومن ثم فقد أصبحت فاعلية تحقيق الأمن الاستراتيجي للدولة مرتبطة بمعدلات القوة الاقتصادية، وهذا سوف يؤدي إلى وقوع الحروب الاقتصادية، التي ستأخذ في هذا المجال شكلا آخر، تسميه بعض الأدبيات صراعا حربيا اقتصاديا...من ناحية أخرى يتغير مفهوم العدوان، من كونه العمل العسكري غير المبرر الذي تقوم به دولة أو أكثر، ليصبح أكثر تعقيدا، على نحو لا يمكن قياسه، فقد يؤدي التلاعب بأسواق المال الدولية، أو إلقاء نفايات نووية مضرة بالبيئة، إلى الاتهام بالعدوان، لأن هذه الأفعال تنتج الضرر نفسه الذي يمكن أن يترتب على العدوان العسكري. فانهيار جانب من جوانب حياة الدولة أو تهديده يعني حالة من العدوان، ومن ثم فإن الثورة المعلوماتية من جهة، وما تسعى إليه العولمة من رفع للقيود على الشركات والمنظمات الدولية والقبول بحقها في التدخل من جهة ثانية، أسهما بشكل فعال في إعادة صياغة مفهوم الحروب التقليدية، وتحولها إلى حروب ذات طبيعة تجارية".[19]
* إنّ التغير في مفهوم الحرب والأمن والعدوان وفي غيره من المفاهيم التي يتضمنها الحقل النظري للجانب الأمني والاستراتيجي والعسكري، وارتباط هذه المفاهيم بسائر جوانب الحياة الأخرى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، كل هذا له تأثيره السلبي على الدولة الوطنية وعلى أفرادها، من حيث السلطة والمجتمع والانفتاح على الخارج، "وقد أدى ما أصاب المجال الحدودي من انفتاح أمام كافة المناشط، للدخول والخروج دون قيود، وتوقف السلطة عن التحكم في هذه الأنشطة، التي أصبحت تُدار من خارج الدولة بوسائل معينة، تؤدي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الربح لصالح جهات، قد لا تكون داخل الدولة، أدى كل ذلك إلى جعل شكل تحكم السلطة في هذه الأنشطة مختلفا تماما، مما أظهر شكلا آخر للوظيفة الأمنية، يتمثل في تحولها من شكلها السابق، الذي يمثل أساس قوة السلطة، إلى مطاردة الأنشطة التي يمكن من شأنها أن تساعد على انهيار الدولة".[20]فالوظيفة الأمنية والعسكرية الجديدة للدولة في عصر العولمة حددتها القوى المهيمنة، من خلال صلاحيات والتزامات نحو المركز لا تخدم سوى مصالح الدول الكبرى ولا تراعي البتة أمن الدول الأخرى أو تحترم سيادتها، وإذا أصبح أمن الدول العسكري والاستراتيجي مقرونا أساسا بالأمن الاجتماعي في التنمية والتطور، وضمان أمن الغذاء والعلم والتكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية الفردية والاجتماعية والعدالة المحافظة على البيئة والحد من التسلح والتسلح النووي، فإن هذا لا ينطبق إلاّ على الدول الكبرى التي لا تعرف لأمن الآخرين مكانا، وتحتكر الأمن بجميع أنوعه لنفسها مثلما تحتكر العلم والتكنولوجيا والمال والأعمال وغيرها من عوامل التقدم المادي وشروط النماء والازدهار الاجتماعي، فالعولمة تتعامل مع الجانب الأمني والعسكري مثلما تتعامل مع جوانب الحياة الأخرى، الجانب السياسي والاقتصادي والثقافي وغيره، بازدواجية في المعايير، عالم المركز يتمتع بالأمن السياسي والتنموي والغذائي وغيره، فهو فوق القانون الدولي، القانون الذي سطرته العولمة ولا تعمل به مع الكبار، مثال ذلك الدور العسكري والأمني للولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم، وتدخلاتها العسكرية بقرارات فردية والتعسف في استعمال الشرعية الدولية، وحق الفيتو وخروج دولة إسرائيل عن قرارات مجلس الأمن وحماية الولايات المتحدة الأمريكية لدولة إسرائيل وتغطية جرائمها، كل هذا بالإضافة إلى كون مقولة تغير في مفاهيم الحرب والعدوان فهذا في إيديولوجيا العولمة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ويبقى ذلك نظريا وحبر على ورق بالنسبة للشعوب الأخرى، لأن الحروب التي أشعلتها العولمة في العالم بقيادة الولايات المتحدة وتغذيها نتائجها أفدح خطرا وأكثر ضررا من الحروب السابقة، ومازال مفهوم الحرب ومفهوم العدوان على ما هو عليه، لقد ظهرت حروب جديدة أُضيفت إلى الحرب المعتادة التي لم تنته بل ازدادت توحشا وشراسة للتطور الهائل في تقنياتها وأساليبها ووسائلها، مثل الحروب التي تستعمل أسلحة غير الأسلحة الكلاسيكية، مثل سلاح الغاز والبترول والطاقة بصفة عامة، وسلاح القمح والغذاء، وسلاح الماء وسلاح المال، وسلاح التكنولوجيا، والحرب الباردة التي تعددت أشكالها وأساليبها وتقنياتها، والحرب الإلكترونية والإعلامية وغيرها، الأمر الذي أغرق شعوب العالم في الحروب وفي الخوف من الحروب، إذ نجد أي دولة في العالم إما في حالة حرب باردة أو غيرها، وإما خرجت من الحرب لتدخل الحرب من جديد، وإما تستعد لخوض الحرب، وضحية العولمة أمنيا وعسكريا دول الأطراف، أما دول المركز فهي المستفيد الأول من الأوضاع والظروف التي أوجدتها العولمة.
* ارتبطت العولمة وأسماؤها كما هو معروف بأبرز التحولات التي عرفها العصر الحديث، وهي الرأسمالية والمال في الاقتصاد، والديمقراطية الليبرالية في السياسة، والثورة التقنية والصناعية عامة، والتقنية المعلوماتية التي تمثل الملمح الأكبر الذي غير مسار التاريخ وطبع العصر الحاضر ومجتمعه بطابعه، فسمي العصر بعصر المعلوماتية، وسمي المجتمع الإنساني بمجتمع الكونية أو الكوكبية أو الكوكبة، أو مجتمع القرية الصغيرة، أو مجتمع الأغنياء، أو مجتمع ما بعد الصناعة أو ما بعد الحداثة، أو مجتمع الخمسة وهي الدول الكبرى التي تمتلك حق الفيتو من دون غيرها، وكل اسم من الأسماء بما في ذلك العولمة له من الدلالة ما ينطبق على أحد الملامح البارزة في العالم المعاصر، هذه التحولات مجتمعة أنتجت العولمة وأنتجت مواقفها من الإنسان ومن كل جانب من جوانب حياته، فالإنسان في منظور العولمة لا يقاس بما لديه من علم وأخلاق سامية وروح خيرة طيبة، بل بما لديه من أموال وعقارات ومناسب في الدولة، لأن العولمة يطغى فيها الجانب المادي على غيره، وذلك لضغط الحياة الاقتصادية على توجهات الناس في حياتهم، وإذا كان من المعتاد هوا لثلاثي الطبقي في المجتمع، طبقة الأغنياء والطبقة المتوسطة وطبقة لفقراء، لكن في ساحة العولمة تتضاءل الطبقة المتوسطة وتتجه نحو الزوال لتصبح ضمن طبقة الفقراء، "ومن أبرز المظاهر في زمن العولمة التغير الاجتماعي المتسارع في شتى المؤسسات الاجتماعية على اختلاف أشكالها. وتتبوأ الأسرة منزلة هامّة في هذا التغيير الاجتماعي إذ يعتريها ظواهر الانحلال والتفكك. وإذا كان خطر الانحلال قد استشرى في الغرب فإن رذاذا منه يصيب العالم العربي و الإسلامي وهو مؤهل للازدياد لأن نسب الطلاق في كثير من هذه البلدان حوالي25 بالمائة ولهذه الظاهرة أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية زادتها عوامل العولمة استفحالا".[21] كما سمحت الحرية بتشغيل المرأة والأطفال في المحرمات والمتاجرة في الاغتصاب والدعارة، في البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء، إن أضرار العولمة على المجتمع كثيرة لا يمكن إحصاؤها، "منها خسارة الوظائف والفقر وغلاء أسعار المواد والخدمات والبطالة المستشرية في شتى الطبقات الاجتماعية: الثقافية والعمالية على السواء نتيجة الهيكلة الاقتصادية وحسب التي ينصح بها صندوق النقد الدولي مثل: تخفيض العملة. إلغاء الدعم الحكومي لسلع كثيرة الاستهلاك عند الطبقات الضعيفة. اتباع سياسة الاقتراض...وقد تبين عجز الدولة عن أداء دورها في الحماية الاجتماعية مما يزيد في إشاعة الفقر واتساع جيوب الطبقات المحرومة، والأخطر على دول العالم الثالث في عصر العولمة عدم تأهيل المؤسسات المتوسطة والضعيفة لتواكب عصرها ولتخضع إلى الانفتاح الذي فرضته قوانين منظمة التجارة العالمية".[22]ناهيك عن مشكلات عديدة يعانيها الإنسان في العالم المتخلف، وحتى في العالم المتقدم، بل في الولايات المتحدة ذاتها، مثل انتشار الجريمة والجريمة المنظمة، القرصنة بمختلف أنواعها خاصة القرصنة النووية والالكترونية، تمزق النسيج الاجتماعي، التفسخ الأخلاقي، انتشار المخدرات، المتاجرة في الممنوعات ومنها أعضاء البشر، الهجرة غير الشرعية، انتشار الأسلحة غير المرخصة، كثرة العصابات الاحترافية والمتخصصة الخارجة عن القانون، بالإضافة إلى ما تركته العولمة من ضرر على الأرض وخطر على مستقبلها، فصحة الإنسان صارت مهددة بمختلف الأمراض والأوبئة، مثل مرض فقدان المناعة المكتسبة، الأمراض الناتجة عن التدخين، وأمراض أخرى كثيرة بيولوجية ونفسانية، يعجز المرضى في جو العولمة عن دفع تكاليف العلاج، العلاج الذي ينعدم في الكثير من بلدان العالم، وكثرة حالات اليتم والتشرد، وفقدان الوظائف وتشغيل الأطفال والمسنين، وتدمير الأسر والأطفال وحرمانهم من الغذاء والدواء والتعليم والسكن، بالإضافة إلى التلوث البيئي بالمواد الكيماوية والنفايات السامة، في الهواء والماء والتربة، على الرغم من اتفاقيات ومعاهدات حماية البيئة مثل اتفاقية "بازل" في عام 1989 المعتمدة لأجل التحكم في نقل النفايات الخطرة والتخلص منها عبر الحدود، وتعد دول العالم الثالث وإفريقيا بالذات مزبلة للعالم للتخلص من النفايات النووية والضارة، كل هذا صنعته العولمة بقيادة الأمريكيين وهم الحرس على معاقل الحرية في العالم.
[1]- محمد محفوظ: العولمة وتحولات العالم، ص 85.
[2]- المرجع السابق: ص 86.
[3]- ونيسة الحمروني الورفلي:العولمة والدولة، ص 113-114-118-120.
[4]- المرجع السابق: ص 139- 140.
- [5] المرجع السابق: ص 150.
[6]- محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص148-149.
[7]- المرجع السابق: ص 154.
[8]- بلقاسم محمد الغالي: العولمة وتداعياتها، والبديل الإسلامي، ص87.
[9]- ونيسة الحمروني الورفلي: العولمة والدولة، ص 126.
[10]- أحمد مجدي حجازي: العولمة بين التفكيك والتركيب، ص 115-116.
[11]- المرجع السابق: ص 127.
[12]- محمد عابد الجابري: العولمة والعرب، ص 304-305-307-308.
[13]- جلال أمين: العولمة والتنمية العربية، ص 189-190.
[15]- حميد جاعد الدليمي: العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، ص 207.
[16]- مؤيد عبد الجبار الحديثي: العولمة الإعلامية، ص245-246-249.
[17]- حسن عبد الله العايد: أثر العولمة في الثقافة العربية، ص129-130.
[18]- ونيسة الحمروني الورفلي: العولمة والدولة، ص 154- 155-156.
[20]- المرجع السابق:ص 160.
[22]- المرجع السابق: ص 82-83.