قصة " الطوفان الأخير"

" فـــي كل ليلة يرفع الموتى غطاء قبورهم،ويتحسسون برؤوس أصابعهم ما إذا كان أحد قد مسح الإسم عن الشاهد"
فيجسلاف كرينانوف.

رفع كفيه للسماء وفي عينيه احتبست دموع سرعان ما تساقطت مدرارا،ناجى ربه قائلا:
ياربي هذا الفرعون طغى وتجبر،وظلم وتنمر،وعلى عبادك الضعفاء تسلط وتكبر،اللهم اقهره بقوتك،واخسف به داره وثروته،وعجل بموته صبحه قبل مسائه،اللهم سلط عليه سوط غضبك وانشر في جسمه سرطانا خبيثا لا يرحمه يفتت عظمه قبل لحمه،اللهم كما أرأيته فضائل نعمتك،أريه سيف نقمتك،اللهم نكل به وأريه سلطان بطشك،اللهم ان عبدك معجب بنفسه مذل لغيره قد قطع رزقي ورزق الفقراء مثلي وأخذته العزة بالإثم،وحمل علينا حملة نكير ومنكر،الله انه شرد أطفالنا وهضم حقوقنا،اللهم ابتليه بشر البلاء وافتح عليه ابواب الشر حتى يبصر عزة قدرك وجلال عرشك."
تابع طريقه وقد جف حلقه من شدة الدعاء،وارتعشت أوصاله فقد بلغ السيل الزبى.
أحس أن الأرض تميد تحت قدميه،كانت أشعة الشمس الحارة قد زادت من حرارة جسده وإحساسه،رآى عن بعد منزلا منفردا قرب نهر" كيكات" الجاف،دق الباب طلب جرعة ماء سقته عجوز ماء زلال،تضأ وصلى،واتكأ تحت شجرة ورافة الظلال،أخذته سنة من النوم وغرق في سبات عميق،ولم يخرجه من نومته غير زخات مطرية،فتح عينيه وقال في نفسه:
سحان الله بين لحظة وأخرى سقىالله الأرض غيثا،وقبل قليل كنت أتصبب عرقا من حر الهاجرة.
لم يكن يعلم أنه قد نام أربع ساعات،ولم يكن يعلم أن ريحا عاتية قد زمجرت حوله وهو نائم،ولم يعلم أن الله يبدل الأحوال من حال الى حال.
في طريقه لمنزله رأى أرنبا يجري بين الحقول،ابتسم فالأرنب في نظره رمز للحظ السعيدوالفأل الطيب،حكاية سمعها من جده يرويها لجدته،انفرجت أساريره وقرب وادي كيكات سمع نعيق غراب يردد غاق ...غاق....غاق قطب حاجبيه وانقبض قلبه.
لم يفهم شيئا مما يدور حواليه أرنب وغراب في نفس الوقت،تذكر قصة قابيل وهابيل وقابيل وبدء الخليقة،وعملية الدفن الأولى" أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"
بصق على الأرض رأى الراجفة تتبعها الرادفة،والقيامة أقبلت،بالأمس لم يجد ما يطعم به أبناءه،غير حبات من الفول طبختها زوجته وأكلها الصغار بلاخبز.
في كل لحظة وثانية يفكر في مصير هؤلاء الصغار الذين أصبح رزق ابيهم في كف عفريت.
سمع من احد جيرانه أن العفاريت والجن قد كثروا هذه الايام،وصرعوا اكثر من رجل وامرأة وطفل في مجاري المياه وفي الحمام وعلى ضفاف نهر كيكات وقرب ضريح" سيدي ميمون"
هو لم يسبق له أن راى عفريتا مرآى العين ولم يخيل له ولو مرة واحدة في منامه،فقد قرأ في كتب وجدها في صندوق قديم ورثه عن أبيه" أن أكبر عفريت على وجه الأرض هو الإنسان،أم العفاريت والجن فلها وظائف أخرى أسمى غير الإساءة للمقهورين"
هذا الصندوق الذي ضم كتبا في الفلسفة والتاريخ وعلم الأديان وهبه لابيه رجل من المشرق قيل أنه كان مهتما بعلم الفلك ورصد الكواكب وممارسة السحر والكهانة.
تعوذ من السحر والسحرة،وفي قمة تفكيره عما تزخربه الكتب التي تنفع ببركتها لأنها من رجل مارس التصوف والخلوة وخبر طقوس الحضرة والجذبة،سمعت زوجته بالليل نباح الكلاب،أيقظت زوجها،حمل المصباح اتجه نحو مصدر الصوت،كان الكلب يحاصر شيئا ذو أشواك تأمله فإذا هو قنفذ ثخين تبدو عليه علامات السمنة.
عاد للمنزل أيقظ الزوجة،أشعلت النار وطبخت للصغار لحم الفنفذ اللذيذ تعشوا والنعاس مايزال يحرق أجفانهم،رآى في وجوه الصغار سعاد ة تجسدت على خدودهم الحمراء وحمد الله الذي لا ينسى عباده،ساعتها تذكر الحاج صاحب الضيعة الذي كدس أمولا كثيرة في الأبناك،وتذكر أيضا السنين الطويلة التي قضاها في خدمته وفي آخر المطاف تنكر له،ولم يشفع له تفانيه واخلاصه في أداء الواجب وأن يجزل له الحاج العطاء،بل جزاه جزاء السنمار وجزاء ام عامر لمضيفها.
ألقى اخر نظرة على الضيعة التي بناها بعرق جبينه،شاهد خم الدجاج والبط والإوز التي سهر على حراستها وتنظيفها حتى امتلأت عن آخرها بطيور مختلفة سمينة من كركي وطاووس وحجل وسمان ليتمتع بها الحاج سعدون.
كل تلك الأشجار المثمرة بشموخها وظلالها تشهد له بالفضل في الأول والأخير.
تلك البقرات الحلوب التي لم يدخر وسعا في تعليفها والاعتناء بصغارها حتى تحول الاصطبل الى عشرات الأبقار والثيران،وامتلأت مخازن الحاج بالزبدة الطرية والجبن واللبن،هذه النعم التي لم يذق منها ولا ابناؤه ولو مرة واحدة في حياته.
تدخل أولاد الحلال لدى الحاج سعدون عسى أن يلين قلبه ويعيد خادمه الأمين الى عمله،فهو لم يقترف جرما،ولم يرتكب جريرة،لكن الحاج اتهم عامله بالسرقة وهو الذي لا يجد مايسد به الرمق مع اولاده.
طأطأت جماعة الصلح رؤوسها،وفهم علي بيت القصيد وأدرك ان الماضي الجميل قدذهب دون رجعة.
عاد الى بيته المتواضع،وجد زوجته قد شوت قطعتين من الذرة لأطفالها،تكوم على نفسه كحلزون،استحلفته ان ينسى الماضي ولا ينكأ الجراح،فالعبد في التفكير والله في التدبير،أكل ما تيسر،شربا كأسا من الشاس البارد،صلى ركعتين ابتهل الى الله،أحس بطمأنينة وخرج قرب المنزل ليراقب القمر،رآى ارنبا في المصيدة،ضحك حتى استلقى على قفاه،عشاؤه مضمون وأطفاله ستمتلئ بطونهم من لحم سمين.
في الصباح الباكر سمع نعيق غربان،فتح الباب رآى أسرابا تحلق فوق ضيعة الحاج،استعاذ بالله،لحظة جاء من يهمس في أذنه ان الحاج قد رحل الى دار البقاء وان الدوام لله.
رفع رأسه للسماء وقال:
"اللهم لامرد لقضائك وقدرك،أنت القوي الجبارأعطيت عبدك النعمة فمنع،ومنتحته المال وما شبع،وظلم عبادك وارتفع،الله انك تذل من تشاء وتعز من تشاء،فلك الحمد في الأول والاخر"
لم ينقض على موت الحاج أسبوع حتى جاءت أرملته تطلب وده للعودة للعمل،قبل العودة على شرط أن يكتب قوق أسوار الضيعة البيت التالي:

يا نفس لا يلهينك الأمل * فربما قوض المنى الأجل.