التَّسوُّقُ في مُنتدياتِ مَحْوِ الفِكْر
بينما كنتُ أتجوَّلُ في أسواقِ المُنتدياتِ العربيَّةِ ، أبحثُ عن سوقٍ يُلبِّي احتياجاتي الأدبيَّةِ ، والفكريَّةِ ، وذلكَ بعد إلحاحٍ من معدةِ دماغي الخاويةِ إلاّ من ضجيجِ المحاكمِ ، وصُراخٍ صامتٍ لملايينَ ممَّن أثِقُ بِبَراءَتِهم ، ولا أمْلكُ دليلَها ، وبضعِ عشراتٍ لم يُصدِّق القاضي أنَّهم مُجرمون ، رغم أنَّهُ يملكُ دليلاً يُجرِّمُهم .
لمْ تكُنْ خطواتي في البحثِ مُتسارعةً ، لأنّي لستُ شهوانياً ، كما أنَّ عقلي - وَوِفْقاً لنظريَّةِ التطوُّرِ - أصبحَ لا يستوعبِ الكثير، ولذلك فإنَّ احتياجاتي بسيطةٌ جداً ، لدرجةِ أنّي لم أعْتَدْ إعدادَ قائمةِ مشترياتٍ فيها .
أجل ! فاحتياجاتي لا تتعدَّى بعضاً من خضارِِ الرِّوايةِ الكلاسيكيَّةِ الحادَّةِ الحَبْكة ، الروايةِ ذاتِ الأبطالِ العقيمينَ من التاريخِ والجغرافيا .
هذِهِ الخُضارُ التي اعتدْتُ أنْ أطْهُوها مع حبَّاتٍ منِ القصَّةِ ، أو القصَّةِ القصيرةِ ، القصَّةِ ذاتِ البطلِ الواحدِ ، و الحدثِ الواحدِ ، ولا ضِيرَ أنْ يكون البطلُ فيها عاجزاً عن الكلامِ ، أوأنَّهُ يُفَضِّلُ الصمتَ ، فيستعينُ بمن يقُصُّ الحدثَ عنْهُ .
وبقصدِ إسباغِ طعمٍ أمتعَ على الطبخة ، لا بأس ببعضِ الفُصُوصِ مِن بوحِ الخواطِرِ المُسْتنسخَةِ منِ الشِّعر ، والمُهجَّنةِ من تزاوجِ القصَّةِ مع الشعرِ المنثور .
أمّا احتياجاتي من الفاكهة ، فلم تكُن تتعدَّى الشعرَ المُسْتَنْبَتَ في أرضِنا العربيَّة ، والمَرْويَّ بمُفرداتِ لُغتِنا ، والمُرطَّبَ بِندى صباحاتِنا، والمُزركشَ بألوان الغروبِ غيرِ الآفلِ على شواطئنا .
ولأنّي على يقينٍ بأنَّ التصحُّرَ الفكريّ ، والجَدبَ الأدبيّ أصابَ مُعظمَ مساحاتِ الإنسانِ العربيّ ، ذلكَ الذي قزَّمتْهُ حضارةٌ فضلَّ استيرادها ، فلم يكُنْ لِيُفاجئني نُدرَةُ هذا النوعِ من الفاكهة ، لذلك غالباً ما كنْتُ أستعيضُ عنه ببعضِ الشعرِ المنثور ، وإن كانَ هذا الشعر يُسبِّبُ لي بعضاً من عسرِ الهضم .
هذه هي احتياجاتي لا أكثر .
عند البوابةِ الرئيسيَّةِ لهذا السوق ، استوقفتني يافطةٌ ضخمة ، كانتُ هذه اليافطة بمثابةِ إعلانٍ عن مُحتوياتِ كلِّ متجرٍ من متاجر السوق .
- 1 -
( منتدى التسلية والترفيه )
دفعني جسدي داخلَ المتجر ، ولم أكُنْ لأُُجْهدَهُ وهو يدفعني ، إذْ قلتُ في نفسي : لا بأسَ في ارتيادِه ، فلعلِّي أروِّح وأُريحُ كاهلي بما قد أجدُه من ألعابٍ وتسالٍ تُنشِّطُ الانقباضَ النفسي الذي أعانيه .
وما إن رميْتُ بجسدي داخلَ المحل ، حتى واجهني كمٌّ هائلٌ مِنْ بضائعَ لم أعْهدْها من قَبْل ، بضائعٍ مُسبقةِ الصّنع ، عُلَبٍ من العباراتِ السَفْسطائيَّةِ المحشوَّةِ بالكلماتِ النابية . وكَمْ راعني أنْ قرأتُ ما كُتبَ عليها : (( صُنِّعتْ خِصِّيصاً لدعمِ ثقافةِ دولِ العالمِ الثالث )) .
-2 –
(( منتدى الأخبار الساخنة ))
بعد مُقاومةٍ شديدةٍ دفعَ بي جسدي إلى داخلِ المحلّ ، وفي جوفه وجدتُ إثنان وعشرينَ مُذيعاً ، وكلٌّ ينقلُ ما يحسَبُهُ اتِّهاماً لبلدِ المُذيعِ الآخر . الكلُّ كانَ يصرخ ، ولا أحدُ يسمع ، أو يُريدُ أنْ يسمع الآخر ، ولاحظتُ كمَّاً هائلاً من العناصرِ الغريبةِ المُندسَّةِ بينهم ، لا لفضِّ الاشتباكاتِ المُتواصلةِ بين أولئك المذيعين ، وإنَّما لتزويدَهُم بالوَقودِ الكافي لاستمرارِ تلك الاشتباكات .
وقبل أنْ تنتقلَ إليَّ عَدْوى الاشتباكاتِ فأتشاجرُ مع جسدي - سيما وأن مُبرِّراتَ الشِّجارِ كانت متوفِّرة بيننا .
فجسدي يدفعُني بغريزتِه بينما أدفعُ جسدي بعقلي .
خرجتُ مع جسدي الذي سبقَ أنْ دفعَ بي داخلاً ، وحمدتُ الله أنَّ أحداً لم يلحظ خروجنا، فأصبحنا خارج دائرة الأحداثِ الإثنتي وعشرين .
- 3 -
((منتدى الشعر العامِّي))
لا أذكرُ كيف دخلَ جسدي هذا المتجر ببعضٍ منّي !
سألتُ مَنُ أعلمني أنَّهُ المُشرِفُ العام في هذا المتجر :
أرى أنَّ كلَّ مُنتَجٍ من المُنتجاتِ الإثني وعشرين في هذا المتجر هو مُنتَجٌ خاصٌّ ببلدِ التصنيع ، ولا يفهمُهُ أبناءُ البُلدانِ الأُخرى ، فكيفَ تُرَوِّجونَ لهذِهِ البضاعة ؟!
فأجابني بازدراءٍ مَمْزوجٍ ببعضِ الشَّفقة :
(( لِكُلِّ مَداسٍ لَبَّاسٌ )) .
-4 –
(( منتدى الشعر العربي ))
تَنفستُ الصُّعداءَ وأنا أقفُ أمامَ هذا المتجر.
قَذفْتُ جسدي الذي قَذَفني بدورِهِ إلى الداخل ، وكما لو أنَّهُ الهذيان تحدَّثتُ إلى لا أحد : سأتسوَّقُ ما لذَّ لي وطابَ من فاكهتي المُفضَّلة ، إنَّهُ الشعرُ العربيّ .
ولكنَّ خيبةَ أملي كانَتْ كبيرةً كبيرة ، فقدْ أعياني البحثُ عنْ أيَّ قطعةٍ تحملُ شعارَ أبي الخليلِ الفراهيديّ ، ولَمْ أَجدْ .
ولمْ ينسَ من زَعمَ أنَّهُ مُشرِفٌ على هذا المتجر ، أن يصفعني لأني أنكرتُ أنْ تكونَ هذِهِ البضاعةُ شعراً ، إذا لمْ تحملِ العلامةَ الفارقةَ لأبي خليلٍ الفراهيديّ .
ولمْ يكتفِ بصفعي ، بل وتابعَ رشقي بجلاميدِهِ المُتهكِّمة :
-تبحثُ عن الفراهيديِّ إذاً ؟ ورُبَّما تأتينا غداً لتبحثَ عن أبي الأَسْوَدِ الدُؤلي !! أتُريدُ أنْ يسخرَ الغربُ منَّا ؟ .
وما إنْ أصبحتُ في منأى عن رَشقاتِهِ ، قلتُ في نفسي : ((الحمدُ لله أنَّه لا زال يذكرُ أبا خليلٍ وأبا الأَسْوَد))
-5 –
(( مُنتدى القصَّةِ والرواية ))
ولمْ يكُنِ الحالُ أفضلَ وأنا ألجُ – يائساً وبدونِ إكراهٍ من جسدي- هذا المتجرِ. فما وجدْتُ مِنَ القصَّةِ أو الرواية إلاّ ما قصَّهُ أوْ رَواهُ المؤلِّفُ الدَعِيُّ عن شِجارٍ دارَ بين زوجتِهِ وجاراتِها ، أو حريقٍ بِفعلِ فاعِل ، يُفاخِرُ بأنَّهُ اكتشفَ هذا الفاعلَ بينما لمْ يكتشفْهُ عناصرُ الأمنْ ، فقيَّدوا القضيَّةَ ضدَّ مَجهول .
وللأمانةِ أذكرُ أنَّ مُشرفَ هذا المتجرِ أخبرني مُتَبجِّحاً : بأنَّهُ حائزٌعلى الوسامِ الذهبيّ كأفضلِ مُصنِّعٍ للقصّة ، في مُسابقةِ القصَّة الجارية في هذا المتجر ، وذلك عن قصَّةٍ لهُ تدورُ أحداثُها حولَ قصَّةِ زواجٍ حصلت بالحوارِ عبر النِتْ ، وقد أكَّدَ فيها أنّ هذا الزواج ناجح وفقاً لمقاييسِ هذا السّوق التجاريّ ... هكذا قال !!! .
-6 –
((منتدى المذاهب والحوار الديني))
بعد أنْ أيقنتُ أنّي لنْ أجدَ ما يُمكنُ أنْ أتسوقَهُ ، هشَشْتُ على جَسدي بِعصا فراغي الثقافيّ ، طالباً منهُ أنْ يُخرجَني من هذا السوق .
وفي طريقِ الخروج وقعَتْ عيناي على يافطة بدَتْ لي وَقُورَةً ، رَزينَةً ،
كُتِبَ عليها بخطٍّ أخضرَ عريض : (( يُرجى عَدَم إثارَة الغُبار ))
فركنت جسدي على البوابةِ منعاً لإثارةِ الغبار ، فحتّى تلك اللحظةِ كنتُ أظنُّ أنَّ الدنسَ في الجسدِ فقط ، أما الرأسَ فلا ، لأنَّ الرأسَ هو حُضنُ الدِّماغِ المُشعِّ بالحكمةِ والفكرِ ، الخلاّقِ للأدبِ والشعر .
وقد كنتُ حريصاً أنْ أنتزعَ لساني من رأسي وأدُسَّهُ في جيوبِ جسدي ، وذلك لسببين : الأوَّلُ : أنَّ اللسانَ يحملُ الطُّهرَ ويحملُ الدَّنسَ في آنٍ معاً .
والثاني: لِظَنِّي بأنني لنْ أحتاجَهُ في هذا المكان ، ويمكنُ أنْ أحصلَ على ما يكفي من الزَّادِ بقليلٍ من الاستماع .
وكمْ أدهشني أنَّ المتحاورينَ المُفترضين كانوا مُتكوِّمينَ تحتَ طاولةٍ ليستْ مُستديرةً ، وكلاًّ منهم يزعُمُ أنَّ دينَهُ هو الغالبُ ، وبالتالي فَلَهُ الصَّدرُ من الطاولةِ دونَ سواه .
وقد طالَ وقوفُهُم حولَ تلكَ الطاولةِ ساعاتٍ وساعات ، فأيقنتُ أنَّ حوارَهُم لنْ يتجاوزَ حدودَ الجدَلِ في موضِعِ جلوسِ كُلٍّ منهُم حولَ الطاولة ، كما أيقنتُ أنَّهُم سوفَ يُدوِّنونَ في محضرِ الجلسةِ : (( إنَّهم لم يختلفوا حولَ شكلِ طاولةِ الحوار ، وإنَّما اتفقوا ألاّ تكونَ هذهِ الطاولةُ مستديرةً )) ، وذلكَ كيلا يُقالُ أنَّهم مُتماثلون أو مُتساوون ، إذ أنّهُ لا بُدَّ مٍن مُتصّدِّرٍ للطاولة ، وإلاّ صَغُرَ أمامَ أتباعهِ وهو يكرهُ هذا .
نظرتُ في وجوهِهِم ، فاتَّسعتْ حَدَقتاي ، واتَّسعتْ أحداقُهُم .
حضورٌ يَستجمعُ كُلَّ مظاهرِ السلوكِ الرَماديِّ والأسود ، إلاّ أنَّكَ لنْ تجدَ أدنى مظهرٍ من مظاهرِ الورعِ والوقار ، ولا حتى عباءةٍ ولا عَمامة .
أدركتُ حينها أنّي سأحتاجُ لِساني ، فاستحضرتَهُ ، وعدتُ لأسألَ هؤلاءَ المُتحاوِرين : هل مِنْكُم مَنْ يحفظُ كتابَهُ السَّماويَّ أو بعضاً مِنْهُ ؟؟
لَمْ يُجبْ أحدٌ منهُم ، وقدْ عَجِبتُ كيفَ لمْ يُوحِّدْهُم الحوار ، بينما وحَّدَهم الركضُ خلفي .
أجل لقد وحَّدتُهُم أنا ، فجعلتُهُم جميعاً يدفعونَ برأسي خارجاً ، ويقذِفُونَ جسدي خلفي .
صرختُ بهم في مُحاولةٍ لردعِهم : سأشكوكُم إلى حُكَّامِكُم ، وأُقاضيكُم أمامَ قُضاتِكُم !!
ولكنَّهُم قهقهوا ، وقهقهوا ، وقهقهوا ، فأدركتُ أنَّهم مُدجَّجونَ بِترخيصِ حُكَّامِهم ، ومُحَصَّنونَ ببركاتِ قُضاتِهِم .
وما إنْ أصبحتُ آمِناً خارجَ أسوارِ السّوق ، وإشفاقاً منِّي على آتٍ بعدي ، جائعٍ كَجوعي ، غافلتَهُم ، ودوَّنْتُ على البوابةِ هذه العبارة :
(( احذروا أسواقَ مَحْوِ التَأدُّبِ والتفكير))
حمص - 15-9-2009
المحامي منير العبَّاس