في انتظار الانهيار العظيم
حازم خيري
حضارتنا الإسلامية، ومن باب أولى ثقافتنا العربية، لم تستفد كثيرا على ما يبدو من فكرة التنوير – بشقيه الإيديولوجي، والنقدي – ربما استنادا لكون الفكرة إحدى مكتسبات الحضارة الغربية، فضلا عن عدم اتساق الفكرة نفسها مع البنية الفكرية النقلية، والتفكير الفقهي/الغائي، وكذا الطابع العملي للحضارة الإسلامية..
ما يزيد الأمر صعوبة مع حضارتنا هو عجزها المُزمن عن ابتكار مُعادل إسلامي لفكرة التنوير، يحفظ لحضارتنا كبريائها، ويمنحها القدرة على تحريك التاريخ وليس السير به! حضارتنا – على الأقل نظريا – في انتظار انهيار عظيم، كونها مُمزقة منذ قرون، بين ممانعة التنوير الغربي، وبين العجز عن ابتكار مُعادل له.
هذا التمزق – برأيي – لن تتحمله حضارتنا كثيرا، خاصة في عصرنا الرقمي وما بعده! ستصل حضارتنا على الأرجح لوقت تجد نفسها غير قادرة على المُضي قدما في تحايلها الراهن على آلامها، والذي يتم من خلال العيش في حياتين. فشعوبنا لها حياة مُستترة، تتحلل خلالها من كافة – أو على الأقل معظم – مُسببات الألم الحضاري. وحياة أخرى علنية يميل الناس فيها للاتشاح بكل ما هو شائع ومألوف.
هذه الازدواجية الحياتية قد تنجح، بل هي ناجحة حتى الآن، في تأجيل "الانهيار الحضاري العظيم"، على الأقل في حيواتنا الظاهرة، فثمة انهيار غير مرئي حاصل، ميدانه حيواتنا المستترة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت التململ والتمرد.
أقول انهيار، كون ما يفعله الناس في مجتمعاتنا مجرد قهر عشوائي – وضبابي وانتقائي وغير مُعلن في أغلب الأحيان – لاغترابهم الثقافي، ففي حيواتنا المُستترة نفعل ما لا نفعله في حيواتنا الظاهرة، بل ونزيد الطين بله بأن نتشدد لحد المُزايدة في انتقاد ما يُفعل خفية، ونحيطه بسياج متين من السرية والحذر والتدين.
ينطبق هذا أكثر ما ينطبق على المُكون الجنسي لحضارتنا - إلى جانب مكونات أخرى بالطبع -، ففي حيواتنا المُستترة مُتنفس قوي لهذا الصداع المُزمن.
حضارتنا إذن، وعلى خلاف الحضارة الغربية، قادتها آلامها لتحايل وتمرد خفي، يتمترس ورائهما التواء الذكاء، وأمراض اجتماعية أخرى شديدة التعقد والتراكم، وهو ما يُنذر بحدوث ما سميته "الانهيار الحضاري العظيم"، ليس لعدم احترامي له، فالتمرد دوما موضع احترام وتقدير، وإنما فقط لطبيعته، فهو عشوائي وضبابي وانتقائي، بدأ في حيواتنا المُستترة ولسوف يزحف في اتجاه حيواتنا العلنية!
تصدع سرطاني غير مرئي، يعقبه انهيار مفاجئ وشامل للبناء الحضاري..