تطبيق نظرية الذكاءات المتعـــددة في التربية والتعليم
2 آذار (مارس) 2013بقلم جميل حمداوي
توطئـــــة:
تعد نظرية الذكاءات المتعددة من أهم النظريات السيكولوجية والتربوية المعاصرة، وقد جاءت كرد فعل على التصور البياجوي الذي يؤمن بأحادية الذكاء الرياضي المنطقي الذي يعد نموذج الفكر الإنساني، وغلو جان بياجي في النزعة العقلانية الموحدة للعقل الإنساني بالمفهوم الديكارتي:" العقل أعدل قسمة متساوية بين البشر"، بله عن استبعاده لعوامل الوسط والفوارق الفردية. وعلى العكس، تؤمن نظرية الذكاءات المتعددة، التي تبلورت في سنوات الثمانين من القرن الماضي مع هووارد غاردنر(Howard Gardner)، بوجود ذكاءات متعددة ومتنوعة ومستقلة لدى المتعلم، يمكن صقلها وشحذها عن طريق التشجيع والتحفيز والتعليم والتدريب، وتنمية المواهب والعبقريات والمبادرات. بمعنى أن نظرية الذكاءات المتعددة تؤمن بعبقرية المتعلم، وقدرته على العطاء والإنتاج والابتكار والإبداع، وحل المشاكل الصعبة، ومواجهة الوضعيات المعقدة.إذا، ماهي نظرية الذكاءات المتعددة؟ وماهي أهم مكوناتها النظرية؟ وكيف يمكن تمثلها تربويا وديداكتيكيا؟ وما هي أهم الكتابات التي استلهمت هذه النظرية بشكل من الأشكال؟ وماهي أهم الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى هذه النظرية إيجابا وسلبا؟
تعريف نظرية الذكـــاءات المتعددة:
من المعروف أن من دلالات الذكاء الفطنة والحدة والتوقد والحدس وقوة التخييل والتجريد، وامتلاك قدرات ومهارات خارقة لمواجهة الصعوبات التعليمية- التعلمية. ومن ناحية أخرى، يعرف الذكاء بأنه هو التكيف السريع مع المستجد من المشكلات والوضعيات والظروف، سواء أكانت سهلة أم صعبة. والذكاء - وفق غارندر – هو: "القدرة على حلِّ المشكلات أو تَشْكيل منتجات لها قيمة في نسَقِها الثقافي أو عدة أنساق ثقافية#". ومن ثم، فالذكاءات المتعددة عبارة عن قدرات وملكات مختلفة ومتنوعة ومستقلة عن بعضها البعض، يمكن تنميتها، وصقلها، وشحذها، وتثقيفها، وتقويمها، وتعديلها، وتنميتها، وتطويرها بشكل إيجابي. وفي هذا الإطار، يقول غاردنر:" إن العناصر الأكثر أهمية هي نتائج البحوث التي توصلت إليها مع الأطفال العاديين والموهوبين، وكذلك مع معالجين راشدين تعرضوا لتلف دماغي. ونتيجة لذلك، أدركت أن القوة أو الضعف في مجال عقلي معين لا يسمح بالتنبؤ بأن الشيء نفسه يحدث في مجال عقلي آخر. وخلصت حينئذ إلى أن التصور المعياري للذكاء (والذي وفقه لا يوجد سوى ذكاء واحد هو الذكاء العام) خاطئ. وبذلك، وضعت ثمانية معايير لتحديد مفهوم الذكاء، وقمت بفحص عدة ذكاءات "مرشحة" بهدف التأكد أي منها يمكن أن تنطبق عليه تلك الخاصية/المعيار. وفي سنة 1985 أبرزت سبعة ذكاءات، واليوم ارتفع عددها إلى ثمانية أو تسعة.#" وتأسيسا على ماسبق، فنظرية الذكاءات المتعددة هي أس الإبداع والإنتاج والابتكار، وآلية إجرائية ناجعة لتفتيق المواهب الظاهرة والمضمرة، بل هي دليل العبقرية والتميز والتفرد. ولايمكن الحديث اليوم عن ذكاء واحد، كما عند جان بياجي، يقاس بالدرجة أو بمعامل الذكاء، فيقال ذكاء مرتفع، وذكاء منخفض، بل هناك ذكاءات متعددة، ومواهب مختلفة، وعبقريات متميزة. وبالتالي، يختلف الذكاء من ثقافة إلى أخرى، فإذا كانت الثقافة الغربية تؤمن بالذكاء الرياضي المنطقي، فإن هناك ثقافات أخرى تؤمن بالذكاء الفلسفي أو الطبيعي أو الفني أو الجسمي الحركي أو الفضائي البصري...فالمتعلم قد يكون ضعيفا في تخصص علمي ما، لكنه قد يكون ناجحا وقويا في مجال علمي أو حياتي آخر.
سياق ظهور نظرية الذكاءات المتعددة:
إذا كان جان بياجي(Jean Piaget) يقول بأحادية الذكاء الإنساني على المستوى المعرفي. ومن ثم، يحصره في الذكاء الرياضي المنطقي باعتباره أرقى الذكاءات الإنسانية، فإن هناك من يقول بتعدد الذكاءات لدى الإنسان، وخاصة الباحث السيكولوجي الأمريكي هووارد غاردنر(Howard gardner) الذي ألف مجموعة من الدراسات حول نظرية الذكاءات المتعددة منذ 1983م، ونذكر من بين هذه الدراسات(أطر الذكاء)#، و(الذكاءات المتعددة)#... ويعني هذا أن هوارد غاردنر قد تجاوز النظرية الذكائية الأحادية التي ظهرت مع بداية القرن العشرين لقياس الذكاء المعرفي الرياضي والمنطقي، وذلك عبر مجموعة من الروائز والاختبارات والفروض، بغية تحديد مراتب الذكاء، وتصنيف الناس حسب مقاييس إحصائية معينة كما عند ألفرد بينيه، وإيسنك، وجالتن، وجنسن، وسبرمان.... وفي هذا الصدد، يقول عبد الواحد أولاد الفقيهي:" منذ بداية القرن الماضي، تساءل العديد من الباحثين عن طبيعة الذكاء. ومن أهم المقاربات التي سادت تاريخيا مقاربة القياس النفسي والتحليل العاملي.فإذا كان الكثير من هؤلاء العلماء قد تبنوا معامل الذكاء أو دافعوا عن وجود عامل عام للذكاء. فهناك آخرون من رواد التحليل العاملي (ثورستونThurstone / وجيلفورد Guilford) لم يقبلوا ذلك، ودافعوا بالمقابل عن فكرة أن الذكاء يتضمن عددا كبيرا من العوامل والمكونات. لكن على الرغم من مساهمة التحليل العاملي في اكتشاف تعقد مكونات الذكاء وتعددها، فإنه ظل حبيس استخدام بنود الاختبارات التي تعرضت لانتقادات عدة، كما أن النتائج التي توصل إليها تعكس بشكل مباشر فرضيات رياضية تتخذ وسيلة لتحديد عوامل الذكاء وتمييزها. بمعنى آخر، إن رواد التحليل العاملي لم يتمكنوا من الحسم في النقاش الذي ظل قائما حول الطبيعة الحقيقية للذكاء. ومع تمكن العديد من الباحثين من الانزياح عن إرث القياس النفسي والتحليل العاملي. ونهجوا طريقا آخر في الكشف عن تعدد الذكاء الإنساني.إن التعدد الذي تنطوي عليه الذكاءات يعني أن هناك عددا مستقلا من القدرات المختلفة، ومجموعة متباينة من أوجه النشاط المعرفي الإنساني، يسميها غاردنر بالذكاءات الإنسانية المتعددة."#
وينضاف إلى هذا، أن نظرية الذكاءات المتعددة قد استخدمت في البداية في مجال السيكولوجيا، ليتم تجريبها، بعد ذلك، في مجال التربية والتعليم، سعيا إلى ترقية العقل الإنساني، وتطوير بنياته المعرفية، وصقل قدراته الذهنية والعصبية والدماغية. علاوة على ذلك، أن الدماغ البشري بطاقاته وإمكانياته الزاخرة لم تكتشف بعد. وفي هذا السياق، يقول عبد الواحد أولاد الفقيهي:" خلال العقود الأخيرة، ستبرز وتتبلور توجهات- على مستوى المنظمات الدولية والأبحاث العلمية- سعت إلى نقد التصور الأحادي للذكاء وتجاوزه، وربطت تغيير الأنظمة التعليمية وإصلاحها وتجديدها باستثمار تعدد الطاقات، وغنى الإمكانات الإنسانية. ففي سنة 1972 أعلن تقرير لليونيسكو أن للدماغ الإنساني إمكانات لم يتم استعمالها بشكل واسع، وأن مهمة التربية هي تشغيل هذه الإمكانات غير المستعملة وتحقيقها. وفي سنة 1979 صدر عن نادي روما تقرير نص في مقدمته على أن الإنسان مازال يتوفر على كثير من الطاقات والموارد التي لم تكتشف، ولم تختبر بعد؛ ولذلك فهو يظل في حاجة دائمة إلى تعلم كيف يكشف عن طاقاته الكامنة، وكيف يستخدمها بصورة واعية وهادفة وذكية."#
هذا، وقد بلور هوارد غاردنر نظريته في الذكاءات المتعددة تنظيرا وتطبيقا، بعد أن اشتغل تجريبيا على مشروع الطيف التربوي منذ 1984م. وفي هذا الصدد، يقول غاردنر:" إن مشروع الطيف هو مجهود لتقييم مختلف أصناف الذكاءات لدى الأطفال الصغار، ويمكن تكييفه ليتلاءم مع السنوات المبكرة. مبدئيا ليس لدي أي اعتراض لتقييم الذكاءات ما دام هذا التقييم يتم بطريقة عادلة ومنصفة، وليس بواسطة اختبار معياري من صنف اختبارات "الورقة والقلم". فإذا أردت – مثلا- تقييم الذكاء الفضائي لشخص ما فلا تقدم له اختبارا، بل علمه خط سير جديد، ثم لاحظ بأية سرعة سيصل إلى التحكم في اتجاه السير، وكيف سيقوم بتذكره. هناك باحثون آخرون قاموا بتطوير اختبارات الذكاء، ولست من أنصار هذه الاختبارات، لكني أحكم عليها حسب حالة كل اختبار. وأعتقد أننا أمضينا وقتا طويلا في تقييم الأطفال وتصنيفهم، ولم نمنحهم سوى وقتا ضئيلا لمساعدتهم. لذلك، فالمبرر الوحيد، بالنسبة إلي، لتقييم الذكاءات هو مساعدة المتعلمين للتعلم بشكل جيد، وذلك بتوظيف الذكاءات الأكثر تفوقا، وتقوية الذكاءات التي هي في حاجة إلى ذلك، في الوقت نفسه."#
ويضيف الباحث شارحا مشروعه المسمى بالطيف التربوي:" إنه برنامج تربوي يقدم للأطفال الصغار (بين 3 و6 سنوات) بيئة غنية وخصبة من شأنها أن تثير عددا كبيرا من الذكاءات، بحيث يمكن لهؤلاء الأطفال استكشاف هذا الوسط الذي يعتبر بمثابة متحف لهم أكثر مما هو حجرة فصل عادي، ومن خلال ملاحظة الطريقة التي يستثمرون بها مختلف المواد والعناصر المحيطة بهم، يمكن استنباط جانبيتهم في الذكاء. هناك طبعا "مهام الطيف" الأكثر شكلية والمخصصة لتحديد أصناف الذكاءات القوية والذكاءات الضعيفة لطفل ما، سواء في ارتباطها مع الذكاءات الأخرى لدى نفس الطفل، أم بمقارنتها مع ذكاءات الأطفال الآخرين. لقد تم تحويل نتائج هذا التقييم إلى "جانبية الطيف"، والذي يتضمن اقتراحات عملية حول الأنشطة التي يجب مباشرتها مع الطفل حسب جاذبيته الخاصة من حيث مكامن القوة والضعف. أليس هناك خطر الإخلال بالتوازن حين يتعلق الأمر بتفضيل أو تشجيع مجال للذكاء يوجد مسبقا وبقوة لدى طفل ما؟"#
وهكذا، فنظرية الذكاءات المتعددة قد ظهرت منذ الثمانينيات من القرن الماضي بالولايات المتحدة الأمريكية مع هوارد غاردنر، بعد أن جربها صاحبها مدة عشرين سنة في مجال السيكولوجيا والبيداغوجيا، إلى أن حققت نجاحا باهرا في المدرسة التربوية أكثر مما حققته في ميادين ومجالات وحقول معرفية أخرى.
التصور النظري لنظرية الذكاءات المتعددة:
يتحدث هوارد غاردنر عن مجموعة من الذكاءات المتعددة التي تتأثر بما هو وراثي فطري يولد مع الإنسان من جهة، ومما هو مكتسب من البيئة والوسط (الأسرة، والشارع، والمدرسة، والتربية، والمجتمع...). ويعني هذا أن الذكاء وراثي ومكتسب معا. وبالتالي، فليس هناك ذكاء واحد، كما يقول جان بياجي وعلماء مقاييس الذكاء المعرفي. وإذا فقد الإنسان ذكاء واحدا، فإنه بلا شك، في هذه الحالة، سيستخدم باقي ذكاءاته الأخرى. ومن ثم، تختلف درجة الذكاء من شخص إلى آخر، كما يختلف مفهوم الذكاء من ثقافة إلى أخرى. وعليه، تستند نظرية الذكاءات المتعددة إلى القدرة على حل المشاكل، و مواجهة وضعياتها البسيطة و المركبة، وذلك ضمن نسق ثقافي معين، والقدرة على إيجاد مشاكل أخرى للتعلم والتدرب، وإنتاج خدمات وأفكار وقيم جديدة وأصيلة. بمعنى أن هذه النظرية تؤهل المتعلم ليتسلح بمجموعة من القدرات المهارية لحل المشكلات وإيجادها، وتملك المهارة الذكائية، مع اكتساب ملكة الإبداع لمواجهة الوضعيات والتحديات المعرفية والواقعية، وتعويده على التعلم الذاتي، واستخدام قدراته الذكائية في مواجهة الظروف والمعوقات الذاتية والموضوعية. هذا، وينطلق غاردنر من فرضية أساسية تقول بتعدد الذكاءات، واستقلالها عن بعضها البعض، حيث يقول غاردنر:" بالنسبة لي توجد أدلة مقنعة على أن الإنسان يتوفر على كفايات ذهنية مستقلة نسبيا؛ سوف أسميها بشكل مختصر" الذكاءات الإنسانية""# .ويعتمد وصف الذكاء عند هوارد غاردنر على مجموعة من المعايير التي يحددها في مايلي:
1- التاريخ التطوري لكل ذكاء.
2- عزل الذكاء عند إصابة الدماغ.
3- وجود ذكاءات فائقة ومتميزة لدى فئات غير عادية.
4- المسار النمائي المتميز لكل ذكاء.
5- وجود عملية أساسية أو مجموعة عمليات محددة.
6- قابلية الترميز في نسق رمزي معين.
7- الدعم المستمد من علم النفس التجريبي.
8- سند نتائج القياس النفسي#.
ومن هنا، يحدد غاردنر تسعة أنواع من الذكاء، وهي: الذكاء الرياضي المنطقي، والذكاء اللغوي، والذكاء الموسيقي، والذكاء البصري والفضائي، والذكاء الجسمي الحركي، والذكاء الطبيعي، والذكاء الكوني، والذكاء التفاعلي، والذكاء الذاتي. فمن لم يكن ذكيا في مادة أو تخصص معرفي ما، فقد يكون ذكيا في مجالات أخرى. وليس من الضروري أن يكون الذكي هو الذي يعرف حل العمليات الرياضيات والمنطقية، بل قد يكون الذكي هو الذي يتقن الموسيقى، ويبدع فيها مثلا، أو له قدرة على الإبداع اللغوي، أو يملك الذكاء العاطفي أو الاجتماعي...ومن ثم، يختلف الذكاء من ثقافة إلى أخرى حسب اختلاف السياقات الرمزية والحضارية. وتعد نظرية الذكاءات المتعددة نظرية سيكوبيداغوجية مهمة لتطوير مجموعة من الذكاءات لدى المتعلم، والاهتمام بالأنشطة الفنية والبصرية والجسمية والحركية والطبيعية والكونية واللغوية...ومن ثم، لم يعد الذكاء مرتبطا كما في الثقافة الغربية بالرياضيات والعمليات المنطقية، فالذكاء أوسع من الذكاء الرياضي المنطقي. لذا، ينبغي تربويا تنمية الذكاء التعليمي، بمعرفة أنواع الذكاء لدى المتعلم، وتبيان مواصفات هذا الذكاء، ورصد مختلف التعثرات التي تمنع من إبراز ذكاء معين. ويعني هذا أن نظرية الذكاءات المتعددة مفيدة في فهم الإعاقات الخاصة، وتفسيرها نفسيا وبيولوجيا واجتماعيا ومعرفيا. وينضاف إلى ذلك، أنها تنفعنا في تأسيس بيداغوجيا فارقية جديدة، تعترف بوجود ذكاء معين لدى كل تلميذ. فليس هناك تلميذ غبي أو أبله أو كسول، فلكل متعلم ذكاؤه الخاص، ينبغي صقله، وشحذه، واستكشافه، وتنميته ذهنيا ووجدانيا وحركيا.وتشدد هذه النظرية على أهمية الفنون في بلورة الذكاء البشري، علاوة على أهمية الذكاء العاطفي والاجتماعي والذاتي في تحقيق التوازن النفسي، وخلق لحمة وجدانية إيجابية بين الأنا والآخر...
وللتوضيح أكثر، يرى هوارد غاردنر بأن ثمة تسعة ذكاءات تشتغل بشكل مستقل عن باقي الذكاءات الأخرى، وترتبط مواقع هذه الذكاءات بالدماغ العصبي وفصوصه المختلفة. ومن هنا، فالذكاء اللغوي يرتبط بالبلاغة والفصاحة، و استخدام اللغة استخداما جيدا على المستوى الصوتي والصرفي والتركيبي والدلالي والبلاغي والتداولي، والتحكم في هذه المستويات اللسانية بيانا وبلاغة وتصويتا وفصاحة وإبداعا، واستعمالها في كتابة النصوص الأدبية السردية والشعرية والدرامية والحكائية والفنية. ومن ثم، يتموقع الذكاء اللغوي في الفصوص الصدغية والجبهة اليسرى كمنطقة بروكا ومنطقة فرنيك.
أما الذكاء الرياضي المنطقي الذي يعتمد على عمليات التجريد والتخييل والاحتمال، فيستخدم في حل المشاكل المتعلقة بالرياضيات والمنطق والهندسة، ولايمكن فصل الرياضيات عن المنطق كما يقول وايتهايد؛ نظرا للعلاقة الجدلية التي توجد بينهما. ويتموقع هذا الذكاء في الفصوص الجدارية اليسرى واليمنى، والفصوص الجبهية اليسرى. في حين، يتموقع الذكاء الموسيقي في الفص الصدغي الأيمن، ويتجسد هذا الذكاء في إبداع النوتات والألحان والأنغام والموسيقى...
هذا، ويرتكن الذكاء البصري الفضائي إلى استغلال المكان في علاقته بالزمان هندسيا وبصريا وتشكيليا ومعماريا. ويتموقع هذا الذكاء في المناطق الجدارية والقفوية من النصف الأيمن. أما الذكاء الجسمي الحركي فيوجد في المخيخ والنويات القاعدية والمنطقة الحركية، ويتمظهر هذا الذكاء بجلاء في الكوريغرافيا، والرقص، والرياضة البدنية، والمسرح، والسينما، وحركات الجسد بصفة عامة... في حين، يتميز الذكاء التفاعلي بأنه ذكاء اجتماعي، تتفاعل فيه الذات مع الآخر الاجتماعي شخصا كان أو مؤسسة اجتماعية، ويوجد هذا الذكاء في الفصوص الجبهية، والفص الصدغي، خاصة في النصف الأيمن، والجهاز اللعبي. أما الذكاء الذاتي فيوجد في الفصوص الجبهية، والفصوص الجدارية، والجهاز اللعبي، ويستخدم هذا الذكاء في مجال علم النفس، والأنساق الدينية والعرفانية، والرموز الذاتية...أما الذكاء الطبيعي، فيتعلق بكل مكونات الطبيعة من حيوانات ونباتات وصخور ومعادن، وما يرتبط بالطبيعة كالعلاج الطبيعي الشعبي ومواد التجميل، والاستهلاك اليومي. ويوجد هذا الذكاء في الفص الجداري الأيسر، وهو مهم في التمييز بين الأشياء الحية وغير الحية. ويتميز الذكاء الوجودي بوجود نزعات التفلسف الكونية، وممارسة الطقوس والعقائد والرياضات الروحية والصوفية، وإنتاج النظريات الفلسفية.#
وهكذا، يتبين لنا بأن الذكاء أنواع مختلفة ومتعددة، ويرتبط بمواقع دماغية وعصبية معينة، وأن هذه الذكاءات مستقلة باستقلال مواقعها. وبالتالي، إذا أتلف ذكاء معين، فثمة ذكاء آخر يعوضه. ومن ثم، فنظرية الذكاءات المتعددة طريقة مفيدة في إصلاح المنظومة التربوية، وذلك عن طريق تنمية الذكاءات الموجودة لدى المتعلم، وصقلها بالدربة والممارسة والتمكين وفق أحدث الطرائق التربوية والسيكولوجية. ومن هنا، تعمل النظرية المتعددة الذكاءات على على حل المشكلات، وإيجاد مشكلات جديدة لاكتساب معارف جديدة، وإبداع أفكار ومنتتوجات وقيم جديدة وأصيلة.
كتابات حول نظرية الذكاءات المتعددة:
ثمة مجموعة من الدراسات الغربية التي اهتمت بنظرية الذكاءات المتعددة تنظيرا وتطبيقا، مثل ما كتبه كل من: توماس أرمسترونغ# (Thomas Armstrong ) حول: (الذكاءات المتعددة في القسم)، وبروس كامبل(Bruce Campbell) في كتابه (الذكاءات المتعددة: الدليل التطبيقي)#...
ومن جهة أخرى، فقد انتشرت هذه النظرية عربيا مع مجموعة من الباحثين المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تمثلها سيكولوجيا وتربويا، وخاصة أحمد أوزي في كتابه (التعليم والتعلم بمقاربة الذكاءات المتعددة)#، وتلميذيه: عبد الواحد أولاد الفقيهي في مجموعة من دراساته، مثل: (نظرية الذكاءات المتعددة من التأسيس العلمي إلى التوظيف البيداغوجى)#، و (الذكاءات المتعددة: التأسيس العلمي)#، ومحمد أمزيان في كتابه (الذكاءات المتعددة وتطوير الكفايات#)... وفي هذا السياق، يقول أحمد أوزي:" إن نظرية الذكاءات المتعددة أحدثت منذ ظهورها وتطبيقها في العديد من الأنظمة التربوية تغييرا كبيرا حبب المدرسة إلى المتعلمين، وجعلتهم يحققون ذواتهم خلال ممارسة مختلف الأنشطة التي تتفق واهتماماتهم وأساليب تعليمهم وتعلمهم، مما جعل هذه النظرية تعرف انتشارا كبيرا، وتغدو مفاهيمها مدرجة في البرامج والمناهج التعليمية المتطورة، خلال وضعها وتخطيطها لمختلف الأنشطة التعليمية في كل المستويات. والحقيقة أن المغرب كان سباقا في العالم العربي إلى التعرف على هذه المقاربة البيداغوجية المتطورة خلال قيامنا بتنشيط ورشات تطوير أساليب وتجويد أداء العمل المهني لنساء ورجال التربية والتعليم في بعض منماطق المغرب منذ التسعينيات من القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت سعينا إلى إدخال هذه المقاربة إلى مجال البحث العلمي الأكاديمي ليتعرف عليها طلاب الدراسات العليا بكلية علوم التربية بجامعة محمد الخامس، ويستفيدون من نتائجها القيمة."#
بيد أن هناك دراسات عربية سابقة ظهرت في الشرق في سنوات الثمانين من القرن الماضي قد تبنت نظرية الذكاءات المتعددة، مثل دراسة (العلاقة بين الذكاءات المتعددة لدى الطلبة المعاقين سمعيا ومتغيرات درجة الإعاقة والجنس والعمر) لسالم سليمان حمد الجعافرة#. ومن الدراسات العربية الأخرى التي تنصب في هذا الاهتمام نذكر ما كتبه جابر عبد الحميد جابر في كتابه: (الذكاءات المتعددة والفهم: تنمية وتعميق)#، وما كتبه أيضا محمد عبد الهادي حسين في كثير من مؤلفاته التي طورت نظرية الذكاءات المتعددة، مثل: (مدرسة الذكاءات المتعددة) #، و(مدخل إلى نظرية الذكاءات المتعددة) #، و (الذكاءات المتعددة وتنمية الموهبة)#، و(الذكاءات المتعددة: أنواع العقول البشرية)#، و(ديناميكية التكيف العصبى وقوة الذكاءات المتعددة)#، و(التفكير الإبداعى فى ضوء نظرية الذكاء المتعلم#)، و(دليلك العملي الى قوة سيناريوهات دروس الذكاءات المتعددة)#، و(إيقاظ العبقرية داخل فصولنا الدراسية)#، و (الذكاءات المتعددة: مراجعات وامتحانات)#، و(الاكتشاف المبكر لقدرات الذكاءات المتعددة بمرحلة الطفولة)#، و(مباردة الذكاءات المتعددة ومجتمع التعلم الذكى)#. ونستحضر أيضا ما كتبه كل من: وليد محمد أبو المعاطي في كتابه (الذكاء المعرفي والانفعالي والاجتماعي وأساليب التعلم) #، وحمدان ممدوح إبراهيم الشامي في كتابه (أثر برنامج تعليمى قائم على نظرية الذكاءات المتعددة فى تحصيل الرياضيات لدى تلاميذ الحلقة الثانية من التعليم الأساسى المنخفضين تحصيليا)#، وبدر محمد العدل في كتابه(فعالية برنامج قائم على نظرية الذكاءات المتعددة)#، وأحمد السيد علي في كتابه (نظرية الذكاءات المتعددة وتطبيقاتها في مجالات صعوبات التعلم (رؤية مستقبلية))#... توظيف نظرية الذكاءات المتعددة في المدرسة:
من المعلوم أن لنظرية الذكاءات المتعددة مجموعة من الأهداف التربوية والديداكتيكية التي يمكن تحقيقها، ويمكن حصرها في الأهداف التالية:
تؤمن النظرية بتعدد الذكاءات لدى المتعلم، إذ يمكن الحديث عن الذكاء اللغوي، والذكاء الرياضي المنطقي، والذكاء الطبيعي، والذكاء التفاعلي، والذكاء الذاتي، والذكاء الوجودي، والذكاء الموسيقي، والذكاء الجسمي الحركي، والذكاء الفضائي البصري...
تساهم هذه النظرية في حل المشاكل المتعلقة بالفوارق الفردية.
تسعى إلى تنمية العبقرية والموهبة وقدرات الإنتاج والابتكار والإبداع.
تكشف مواطن الضعف والقوة عند المتعلم، وخاصة أنها تعالج مواطن التعثر وصعوبات التعلم. ومن ثم، إذا كانت نظريات الذكاء التقليدية تركز على مواطن الضعف لدى المتعلم، فإن نظرية الذكاءات المتعددة تهتم بماهو إيجابي لدى المتعلم، وتستكشف مالديه من قدرات ذكائية أخرى.
تطوير الطرائق البيداغوجية والديداكتيكية.
تنمية القدرات الذكائية، وتطوير المهارات الكفائية لدى المتعلم من أجل حل المشكلات، والعمل على الابتكار والإنتاج والإبداع.
استثمار القدرات الذكائية لدى المتعلمين في تعليمهم الأكاديمي من خلال أنشطة تعليمية في مجالات هذه الذكاءات.
صلاحية النظرية لتمثلها في برامج التدريس للأطفال العاديين وذوي الاحتياجات الخاصة.
التركيز على الأنشطة المختلفة للذكاءات المتعددة لكي يستفيد كل طفل من النشاط الذي يوافق ذكاءاته.
تسمح هذه النظرية لكل متعلم على حدة بتحقيق ذاته، والتميز بالجوانب التي ينفرد بها.
وعليه، فليست" نظرية الذكاءات المتعددة – حسب هوارد غاردنر- غاية في ذاتها، بل هي أداة للمدرسين المتبصرين الذين يسعون إلى تطوير قدرات معينة لدى تلامذتهم. مثلا: إذا كنا نبتغي أن يكون الأطفال متخلقين فيما بينهم، سنحتاج إلى تنمية ذكائهم الشخصي. بالإضافة إلى ذلك، طبعا، تمكن هذه النظرية من تحسين تقديم المواد الدراسية، مثلا: إذا كان على كل تلميذ أن يتلقى مادة التاريخ أو الجغرافية، فليس هناك أي مبرر كي يتعلم كل واحد هذه المواد بالطريقة نفسها أو يخضع للتقييم نفسه.
لقد مكن مشروع الطيف من تعيين جوانب التفوق المتميزة لدى العديد من الأطفال، وكان من الممكن أن تبقى مجهولة بدون ذلك؛ فأثناء القيام بإحدى التحريات مع فريقي في البحث صادفنا طفلا في السادسة من عمره، ينحدر من أسرة مفككة، ويواجه خطرا كبيرا ناتجا عن الفشل الدراسي، وبحكم أن نتائجه لم تتغير خلال حصص التحضيري، فقد قررت مدرسته إجباره على التكرار بعد شهرين من حضوره داخل فصلها. ومع ذلك، فقد كان الطفل ناجحا بشكل يفوق الآخرين في فك تركيب مواد مستعملة وإعادتها. بعد تصويره، وهو يقوم بأنشطة عرضت سلسلة اللقطات المصورة على معلمته، وكم كان ذهول هذه الأخيرة كبيرا جراء ما رأت! إلى درجة أنها لم تذق راحة النوم لمدة ثلاث ليال. منذ تلك اللحظة غيرت بشكل جذري نظرتها حول الطفل، وبدأت النتائج المدرسية لهذا الأخير تتحسن بشكل ملموس".# ومن هنا، فنظرية الذكاءات المتعددة طريقة إبداعية تؤمن بالتنشيط المدرسي والحياة المدرسية السعيدة، وتعترف بالفوارق الفردية بين المتعلمين، وتكشف نوع الذكاء لدى المتعلم، وتتسم طرائقها الديداكتيكية بالفاعلية والمعنى والتشويق، مادامت تسعى إلى تعزيز النمو الإدراكي لدى المتعلم، والانطلاق من فلسفة التنشيط، والاستفادة من آخر البحوث التي أجريت على الدماغ الإنساني، والعمل على تصنيف القدرات الدماغية التي تختلف من شخص إلى آخر، وهي مستقلة عن بعضها البعض. وينضاف إلى ذلك أن نظرية الذكاءات المتعددة مادامت تعترف بموهبة المتعلمين وعبقريتهم في العطاء والإنتاج، وتراعي ميولهم، فإنها تقلل من الهدر المدرسي، وتخفف من العنف والشغب والفوضى واللامبالاة لدى المتعلم، وتساهم في خلق المتعلم المفكر، وتصنف المتعلمين حسب احتياجاتهم العلمية والمعرفية والنفسية.
هذا، وقد بلور أحمد أوزي مجموعة من الآليات الديداكتيكية والمنهجية في التعامل مع الذكاءات المتعددة على الشكل التالي: ما هي أهداف الدرس؟ وما هي الوسائل اللازمة لإبلاغه على أفضل وجه؟ وما هي الكفاءات الذهنية الموجودة لدى المتعلمين الذين يوجه إليهم الدرس؟ وكيف يمكن تقديم الدرس بكيفيات مختلفة مع مراعاة الذكاءات المتعددة؟ وكيف يمكن توضيح الغايات وحصيلة المتعلم في كل درس للتأكد من مساهمة كل درس بكيفية مباشرة في تحقيق الغاية المنشودة؟
وعلاوة على ذلك، يقترح أحمد أوزي مجموعة من المداخل المنهجية لتطبيق نظرية الذكاءات المتعددة في المدرسة، حيث ينبغي عند إعداد الدرس إدخال ما هو ممكن من الذكاءات بحسب ما يحتمل الدرس، واستحضار ذكاءات المتعلمين عند تحضير الدروس، وقبل تصميم الدرس ينبغي التفكير في المحتوى الموجود في الدرس أو الوحدة لكي يتسنى انتقاء الذكاءات المناسبة لإدخالها ديداكتيكيا، وينبغي دوماً الأخذ بعين الاعتبار الطرائق التي يتعلم بها التلاميذ، ويرتاحون لها. وينبغي التعاون مع المعلمين في تحضير الدروس، ومناقشة الآراء. وليس مهماً إدخال كل الذكاءات في أي درس أو وحدة، فقد يتم أحياناً الاكتفاء بإدراج ثلاثة ذكاءات أو أربعة، وإذا لم يحتمل هذا الدرس يراعى ذلك في الدرس القادم#.
ومن المعلوم أن نظرية الذكاءات المتعددة ليس هدفها الرئيس هو اكتشاف العباقرة داخل الفضاء التربوي، بل هو تبيان مواطن الضعف والقوة لدى المتعلم فحسب. وفي هذا الصدد، يقول غاردنر:" ليس هناك أبدا ارتباط مباشر بين نظرية علمية وبرنامج تعليمي، فكل نظرية علمية حول الذهن الإنساني تقترح العديد من التطبيقات التربوية الممكنة، والتجربة وحدها يمكن أن تدل على نوع التطبيقات التي يكون لها معنى أو تلك التي لا معنى لها. وحتى أجيب بشكل دقيق عن السؤال، لا أعتقد أنه ينبغي تركيز الاهتمام على مجال خاص من القوة لدى الطفل. في الواقع، إن مسعاي ليس على الإطلاق تحويل الأطفال إلى عباقرة في المجال الذي يتفوقون فيه، بل ينبغي فقط اكتشاف ما هي مجالات القوة والضعف لديهم. وبعد ذلك، تبقى لكل واحد، انطلاقا من تقييمه الخاص، الحرية في أن يقرر ما إذا كان يفضل الاهتمام أكثر بجوانب القوة أو بجوانب الضعف للطفل، أو يفضل تجاهل النتائج. وبالمقابل، ليس هناك أي مبرر للاعتقاد بأن الشخص الذي يبدو ضعيف الذكاء في لحظة ما لا يمكن أن يصبح متفوقا، بل إن ملاحظة قصور في ذكاء ما من شأنه أن يدفع هذا الشخص كي يتصرف بحماس من أجل تطوير ذلك الذكاء، فهناك العديد من الأشخاص عوضوا نواقصهم الظاهرية بالعمل الجاد، بل وأحرزوا أحيانا تفوقا في تلك المجالات. وأكثر من ذلك، يمكنني أن أقدم مثالا شخصيا: فأنا دالتوني]مصاب بعمى لوني يحول دون التمييز بين الأحمر والأخضر]، ولدي رؤية مجسادية Stréoscopique ناقصة، وأحتاج إلى عدسات قوية مقومة، ومع ذلك اخترت أن أكرس أطروحتي للدكتوراه حول الفنون البصرية، وقضيت وقتا طويلا في الكتابة عن العالم البصري.
هكذا يبدو أن نظرية الذكاءات المتعددة ليست هي القائمة على الحتمية، بل، بالأحرى، أن الأفراد، الذين يلاحظون قصورا عاديا لديهم، عوض أن يقوموا بتعويض ذلك القصور، يعتبرون ذلك علامة تدفعهم إلى التنازل عن مكامن تفوقهم وإهمالها#."
وما أحوج مدارسنا العربية اليوم إلى تطبيق نظرية الذكاءات المتعددة لإصلاح منظوماتنا التربوية القائمة على تنمية الذكاء الواحد! فقد آن الأوان للبحث عن الذكاءات الأخرى لدى المتعلم في ضوء فلسفة إبداعية تنشيطية متعددة المقاربات.
تقويم نظرية الذكاءات المتعددة:
تعد نظرية الذكاءات المتعددة فلسفة سيكوبيداغوجية جديدة، تؤمن بالتنشيط الفعال، وخلق المواهب والمبادرات والعبقريات المختلفة والمتنوعة، وتساعد المتعلمين على التعلم الذاتي، واستغلال قدراتهم الذكائية في مجالات متنوعة. وتسعى هذه النظرية أيضا إلى إعادة الثقة في المتعلم في مختلف الثقافات الأخرى التي تتعارض مع الثقافة الغربية المركزية؛ لأن الذكاء الرياضي المنطقي ليس هو الذكاء الوحيد الذي يحقق النجاح في الحياة، فثمة ذكاءات أخرى مبدعة تؤمن المستقبل للمتعلم. كما أن نظرية الذكاءات المتعددة عبارة عن آليات ديداكتيكية وبيداغوجية فعالة، تساهم في تنشيط الدروس، وتحويلها إلى مهارات وقدرات كفائية إجرائية، تعمل على تمهير المتعلم، وجعله أمام وضعيات معقدة لمواجهتها أوالتأقلم معها. كما أنها نظرية صالحة لمعالجة التعثر الدراسي، ومحاربة العنف والشغب داخل الفضاءات التربوية التعليمية، والقضاء على التسرب والهدر والفشل الدراسي، ومعالجات الكثير من معوقات التعلم لدى المتعلمين العاديين أو من ذوي الحاجيات الخاصة. وأهم ميزة تتسم بها النظرية أنها تنبني على فلسفة التشجيع والتحفيز وغرس الدافعية في نفسية المتعلم. ومن جهة أخرى، تستند إلى الطرائق البيداغوجية الفعالة التي تشوق المعلم والمتعلم على حد سواء، وتعمل على تقوية الطالب والمتعلم معا...
هذا، وقد نجحت نظرية الذكاءات المتعددة بشكل جيد في مجال التربية والديداكتيك. وفي هذا السياق، يقول غاردنر:" إن نظريتي (حول الذكاءات المتعددة) تؤثر بشكل كبير في الممارسة التربوية؛ لأنها تتفق مع الملاحظة الجماعية للمدرسين والآباء، والتي تكشف عن وجود اختلافات بين الأطفال على الصعيد المعرفي. فكلنا يتوفر على عناصر تفوق وجوانب قصور متفاوتة في مختلف المجالات العقلية، لكن معظم الجهود في مجال التربية لا تعترف بوجود تلك الفوارق، وتشجع نمط التفكير القائم على اللغة والمنطق، وتلك بالضبط هي حالة التفكير الديكارتي/المنهجي العقلاني في فرنسا. وعلى النقيض من ذلك، تنطلق مقاربتي من الجانبيات العقلية المختلفة. لذلك، أقترح أن تأخذ التربية بعين الاعتبار هذه الفوارق لإنجاز تعليم بأعلى مستوى من الفعالية. فإذا أردنا توجيه التعليم إلى كل الأطفال، وليس فقط حصره على أولئك الذين يتوفرون على استعدادات منطقية ولغوية، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار الاكتشافات التي توصلت إليها نظرية الذكاءات المتعددة.
وأخيرا، لم يكن للباحثين في حقل التربية موقف نقدي خاص تجاه النظرية، بل إن بعضهم سعى فعلا إلى تطويرها. كان ذلك هو هدف مجموعة من طلبتي المرموقين، أمثال -Tom Hatch – Mara Krechevsky – Mindy Kornhaber – Bruce Torff، وغيرهم..#" وثمة انتقادات موجهة إلى هذه النظرية، إذ يشير غاردنر إلى بعضها فيقول:" معظم علماء النفس، خاصة المحسوبين على القياس النفسي، عارضوا هذه النظرية. ويمكن فهم موقفهم بسهولة ما دامت نظرية الذكاءات المتعددة تهدد موارد عيشهم، بل ومبرر وجودهم. لكن مقابل ذلك هناك علماء متخصصون. كالبيولوجيين مثلا، وجدوا في النظرية ما يكفي من الأهمية. علاوة على ذلك، كانت لنظرية الذكاءات المتعددة أصداء قوية داخل الوسط التعليمي الأمريكي، فأثناء العقد الأخير لم يحتل سوى عدد محدود من الأفكار التربوية نفس قيمة هذه النظرية بالولايات المتحدة. ولكن ذلك لا يعني تأييدا لها بالضرورة، فهناك الكثير من التطبيقات تبقى سطحية، كما أن جزءا من هذا التأييد كان في الواقع مجرد تقليعة.#"
ومن الانتقادات الأخرى لهذه النظرية انعدام الاختبارات والامتحانات الملموسة للتأكد من مدى نجاعة هذه النظرية واقعا وممارسة كما عند علماء الذكاء الكلاسيكيين. ومن ناحية أخرى، مهما دافعنا عن الذكاءات الأخرى، فيبقى الذكاء الرياضي المنطقي أس الذكاءات الموجودة؛ لأنه مرتكز التفوق والتمدن والتحضر؛ مادام هذا الذكاء الحسابي آلة في خدمة الإنتاج والاقتصاد والتصنيع والابتكار، وتطوير بنيات المجتمع الغربي الحديث، فكيف يمكن مقارنته بالذكاء اللغوي أو الموسيقي أو الفلسفي؟ ويمكن الحديث أيضا عن ذكاء عاشر، يمكن تسميته اليوم بالذكاء الرقمي أو الإعلامي الذي يمتلكه متعلمونا بشكل لافت للانتباه. علاوة على ذلك، هل يمكن أن تنجح نظرية الذكاءات المتعددة في مدارسنا العربية التي تغيب فيها الموارد المادية والمالية والبشرية، وتقل فيها السياسات التعليمية الهادفة، وتهمش فيها الكفاءات الحقيقية؟!
تركيــــب:
وخلاصة القول: تعد نظرية الذكاءات المتعددة من أهم النظريات السيكوبيداغوجية التي استطاعت تحقيق قطيعة معرفية مع النظريات التربوية السابقة؛ لأنها تنبني على الإنتاج، والابتكار، والإبداعية، وتمثل فلسفة التنشيط، وخلق المواهب والمبادرات والعبقريات، واستكشاف ذكاءات المتعلمين، واستثمارها في الأنشطة والتمارين الكفائية التي تزود المتعلم بالمهارات والقدرات لحل المشاكل، وإيجاد مشكلات أخرى، وإنتاج قيم وأفكار وخدمات جديدة حداثية وأصيلة. وماتزال نظرية الذكاءات المتعددة قابلة للتطوير والتغيير والإثراء كما يقول صاحبها هوارد غاردنر:" أتمنى تطوير النظرية في اتجاهات مختلفة. لكن ما يهمني بشكل أساسي أن نفهم كيف يمكن لطفل استعمال ذكائه أو ذكاءاته بهدف التحكم الجيد في المواد الدراسية، و يجد له مكانة داخل المجتمع وتطويرها.. علاوة على ذلك أتوخى مستقبلا اكتشاف ذكاءات أخرى، وفهم الكيفية التي تشتغل بها. وأريد بطبيعة الحال أن أعرف بشكل جيد كيف يتم التعبير عن الذكاء نفسه داخل مختلف الأوساط الثقافية. وأود كذلك معرفة كيف تتمكن الذكاءات المتعددة من الاشتغال بيسر وسهولة، وكيف يمكن تنميتها منفصلة عن بعضها، وفي ارتباط بعضها البعض، وكذا استكشاف العلاقات الموجودة بين الذكاءات والابتكار والقيادة.
أما بالنسبة إلى الطرق المسدودة التي ينبغي تجنبها، أرى واحدة هي أهمها: لا ينبغي السعي من أجل المقارنة بين المجموعات بمصطلحات الذكاء (كالمقارنة بين الرجال والنساء أو بين المجموعات العرقية، إلخ..) نظرا إلى المخاطر المترتبة على وقائع محرفة. وكمثال على ذلك، أنه في استراليا تم وضع لائحة لكل مجموعة عرقية، من خلال جزء من الأدوات المدرسية المعتمدة من طرف إحدى الولايات. وداخل كل لائحة تم تحديد الذكاءات التي تتفوق وتضعف فيها كل مجموعة بدون أي سند علمي. اعتبرت ذلك انزلاقا، وأعلنت موقفي في برنامج بالتلفزة الأسترالية. وفي اليوم التالي، مباشرة بعد تصريحي، قام الوزير الأول بإلغاء هذا "الخلط" التربوي الذي يتأسس على الوهم العلمي."#
تلكم-إذاً- نظرة مقتضبة حول نظرية الذكاءات المتعددة لدى هوارد غاردنر مفهوما، وتأريخا، وتنظيرا، وتصنيفا، وتطبيقا، وتقويما.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article36353