رأيت دروناً تقتل بشراً
هذه هي المرة الأولى الحقيقية التي أشاهد فيها دروناً ، وسأترك التعريب والتأنيث والتذكير لأهل الاختصاص ، دروناً تقتل بشراً ، ليس في فيلم من أفلام الخيال العلمي، إنما في فيديو حقيقي صورته الدرون هي بذاتها.
انسلت الطائرة المسيرة بخفة يحسدها عليها مطيرو الدرون لتدخل بحركة انزلاقية متمكنة من واجهة بناء مهدمة في الطابق الأول. من المؤكد أن أجهزة اكتشاف حرارية قدرت سلفاً وجود بشر في ذلك المكان وأنها كانت تبحث عنه بطريقة مؤتمتة. لدى دخول الدرون ألقت النظرة الأولى، و أعذروني على تشبيهها بالبشر، فهم من زودوها بهذا القدرات العالية على القتل، ألفت النظرة الأولى على اليمين ثم التفتت فوراً يساراً و جمدت ... لقد لمحت ما تبحث عنه ، بشراً جالساً على قطعة أثاث وضع مقابلها قطعة أخرى ليمد ساقيه وينام قليلاً وهو جالس في استراحة محارب. لدى إعادة اللقطة عدة مرات في التلفزيونات ليل أمس بعد السماح بنشرها، لم أكن أستوعب بداهة كيف يمكن لمشغل درون على شاشة عن بعد أن يستوعب أن ما ظهر من الجسد البشري الغاطس في قطعة الأثاث هو إنسان مقاتل، لكنني تذكرت أن الدرون التجاري العادي ، منذ أكثر من ست سنوات ، كان بمقدوره أن يتعرف إلى الإنسان ماشياً أو واقفاً أو راكبا دراجة، وهذا درون قتالي عسكري، مصمم للبحث والقتل، فلا بد أن لديه موسوعة مصورة عن جميع أجزاء الجسد البشري يتعرف عليها في جزء من الثانية ويقرر فوراً مالتالي الذي يجب عليه القيام به.
تعرّف إذا الدرون القاتل على ضحيته وأخذ يقترب منها كهر مفترس. وبحذر شديد. طبعاً ليس بمقدور الدرون الذي قتل ذاته في المعركة أن يعرف أنه كان في مقابل مقاتل من النخبة. وعندما أقصد النخبة فأنا أقصد نخبة المقاتلين في العالم، الذي يقاتلون بأيديهم مهما كبر سنهم، والذين يموتون بكامل جهوزيتهم القتالية، والذين يقودون الجيوش والكتائب، والذين يختصون بخصائص بشرية مميزة، كانعدام الحاجة للأكل والنوم والحياة الطبيعية عند الضرورة، والذهن المتوقد أبداً بحثاً عن خطة جديدة لقتال، أو انسحاب تكتيكي يعقبه هجوم صاعق، أو تدبير لوجستيات المعركة القادمة وغير ذلك.. النخبة من المقاتلين الذين يتمتعون بخصائص جسمية نادرة كسرعة شفائهم واندمال جروحهم، وسرعة عودتهم لساح المعارك، وعدم تأثرهم بالإصابات الخفيفة أو القاتلة، وعدم تأثير المؤثرات على قرارهم وبداهتهم وغير ذلك مما يطول شرحه في جسم وتشريح القائد النخبوبي المقاتل الذي استهدفته الدرون القاتلة . لم أتطرق أبداً إلى الشحن النفسي والقوة المعنوية الهائلة التي يتمتع بها ذلك البشر، بل أتحدث ، كأني أتحدث ، عن مقاتل في وجه مقاتل ، بشر في وجه الآلة التي سطرت أو صورت قبل ساعات معركة بين البشر والجيل السادس من السلاح. شاهدنا هذه المشاهد قبلاً في أفلام الخيال العلمي مثل (تيرمينيتر) الذي كان يصور كيف في هذا العام بالذات، ألفين وأربعة وعشرين ميلادية، ستقوم قيامة الآلات القاتلة وتبيد الجنس البشري، وصور الفيلم يومها ، في ثمانينات القرن العشرين عندما كنا في بداية المراهقة، بتقنيات رائعة، آلات مرعبة تبحث عن كل بشري أمامها وتقتله.

في العام نفسه يشاء القدر أن أشاهد بنفسي آلة تقتل بشراً مقاتلا من الطراز الأول. تعرفت إذن الآلة القاتلة على وجود بشري وبدأت تحاول التأكد فتقترب منه بحذر نمس وهدوء هر، لتتأكد مما رأته، وهو ، كونه مقاتل من الطراز الأول، فقد ثبت تماماً دون أي حركة في مقابلها، وكان سابقاً قد أحسن وضع اللثام على وجهه حتى لا يتم التعرف شخصياً عليه، حتى لو تمكن من الهرب، فلن يبذل الأعداء جهداً فوق عادي للبحث عنه إذ سيظنون أنه مجرد مقاتل ما. لم يكن هناك فرصة لديه ليتحسر على ترك مساحة دخولها الكبيرة فارغة هكذا أو عدم تمويه نفسه بساتر قماشي مثلاً ليمنعها من التعرف بصرياً عليه على الأقل، أظن أنها يمكن أن تتعرف عليه حرارياً على أية حال. ثبت المقاتل ويده تتحسس حديدة، سيفاً إن شئت، أو خشبة يمكن أن تكون سلاح الإنسان البسيط في وجه أعتى قاتل تكنولوجي على ظهر الأرض. كانت يده اليسرى فيما أظن ولعلها لو كانت اليمنى لكان أصابها في مقتل .. في كاميرتها التي هي أثمن ما تملك، إن لم نقل حطمها أو تسبب بسقوطها وتحركها بحركة عنيفة تصدمها بما حولها. رمى المقاتل في اللحظة الأفضل بسلاحه وبشكل صائب. هنا، تصرفت القاتلة المسيرة بطريقة مبرمجة مدروسة، فقد نجحت في تفادي العصا بالابتعاد قليلا عن مسارها رجوعا إلى الخلف، هذا الأمر ليس صعباً فالدرونات التجارية منذ سنوات عديدة قادرة على تفادي العوائق التي تسير باتجاهها خطأ، فليس من الصعب لهذه الدرون القتالية ذاتية الحركة أن تتفادى عائقا بطيئاً بشكل عام، سلاح يرميه إنسان بيده المجردة، يتجه في اتجاهها. الأمر الأهم هو أن الدرون قد أشاحت بكاميرتها، أثمن ما تملك كما قلنا، إلى الجهة اليسرى ، لحمايتها، ولما انقضى الخطر عادت ببصرها إلى الهدف ... ما جرى بعد ذلك لم نره ، وهو أن الدرون اتخذت قرار القتل، فتقدمت مترين ربما إلى الأمام ، حيث أن كاميرتها واسعة زاوية التصوير وهي خصائص الدرونات ، وايد أو سوبر وايد آنغل، فيصعب تقدير المسافة التي تقدمتها تماماً ، لكنها صارت في مواجهة المقاتل المتسمر على الكنبة، وليس من ظهره أو جانبه، تقدمت لتنفجر في وجهه مسببة قتل نفسها والبشر الماكث أمامها.
شظايا الانفجار التي أصابت البشر المقاتل في وجهه ورأسه، وفي قدمه، تدل على أن التفجير كان نجميا من نقطة واحدة قريبة جداً سبب هذه الشظايا القوية بهذه الزوايا الصعبة الإصابة. قوة الانفجار كسرت مسند الكرسي الذي كان المقاتل القائد جالساً عليه وسوته إلى الخلف، دافعة نصف المقاتل العلوي ليستلقي عليه، كان من المفترض أن يطيح الانفجار بالجسد بعيداً لكن الشظية القوية في الركبة المنثنية على المقعد ثبتت الجسد في مكانه ومنعته من أن يرمى إلى الخلف. تساقط ركام من السقف فوق المشهد ليغبر الجسد البشري في لمسة أخيرة تضيف اللون الرمادي القاتم الكئيب المناسب لذلك الحدث.
لعلها المرة الأولى التي يلتقي فيها هذا المقاتل بدرون قاتلة وجهاً لوجه، شدهته لثانية واحدة قدرتها على الهرب من الخشبة أو الحديدة الملقاة عليها، والتفاتة كاميرتها بعيداً عن الأذى ثم عودتها لتنظر إليه، كان يتأمل في تلك الثانية القاتلة ذلك الأمر، تلك هي عادة المقاتل النخبوي المتمرس ، يرى، لا يستطيع إلا أن يرى ويشاهد، هكذا قال يوليوس قيصر يوماً.. كانت الرؤية التي ستحفر في الدماغ لتلك الحركة القتالية جزءاً من البرنامج القتالي الموجود بالفطرة لدى ذلك المقاتل ، أو لدى أي مقاتل آخر، نجده في أي صياد مفترس من أسد أو صقر، لا يستطيع إلا أن يلاحظ الحركة المعادية ويدرسها ويحفرها في الذاكرة، لكن عكس ذلك هو ما سيتم تدريب البشر المقاتل عليه من الآن فصاعداً، وهو ما سبقت أفلام الخيال العلمي حقيقة إلى تصويره : عندما تلتفت الآلة بعيداً وتشيح ببصرها ، بكاميرتها عنك ، اهرب.... تلك هي الثانية الوحيدة أمامك لتهرب. عندها فقط لن تنفجر تلك الآلة القاتلة أو تطلق الصاروخ أو النار ، لأنها لا تجرؤ على ذلك ما لم تكن متأكدة مما ترى، لو هرب ذلك المقاتل الملثم في تلك الثانية التي رمى فيها سيفه على القاتل، لنجى ربما ولما بحث عنه الأعداء أكثر لأنهم لا يعرفون من هو أصلاً .. ربما اكتفواً بقصف البناء وتسويته بالأرض كما هي عادتهم، لكن الأمر سيان بالنسبة لذلك المقاتل إذ سينجح في الخروج من البناء أو النزول في نفق قبل ذلك بكثير. سيتم لاحقاً تدريب المقاتلين على اللحظة المناسبة للهروب بعد المكوث، وعلى صنع وحمل أسلحة بسيطة وخفيفة في وجه الدرون أكثر كفاءة من السيف والعصا والمسدس، أهمها شبكة من الخيوط كشبكة التنس أو شبكة الصياد، ترمى بشكل ما على الدرون ذات المراوح لتوقع مراوحها في شرك قاتل يستحيل الخلاص منه.
طبعا القدر حاكم وهو الذي قدر أن عمر ذلك القائد البشري المقاتل ينتهي في تلك اللحظة ، ليبدأ في اللحظة ذاتها تاريخ جديد، تاريخ صراع البشر مع الآلة القاتلة كما سينشر للعامة .

وسائل التواصل الساحرة لمستخدميها، الآسرة للنفس البشرية، جعلت الجنود في اليوم التالي لتلك المعركة، يسربون صور الضحية ضاربين بأحلام قياداتهم عرض الحيطان. وأجبرت تلك القيادات لاحقاً على نشر الفيديو الذي صور العملية للعامة، لنا .. للمشاهد العادي الذي لا يفترض أن يشاهد هذه التصاوير. هذه الفيديوهات لم نكن نراها من قبل. رأينا درونات تطلق صواريخ من السماء أو ترمي قنابل عن بعد عشرات الأمتار ، أعتقد أن هذه هي أول مرة نرى فيها دروناً تقتل بشراً وجهاً لوجه.
حرب غزة ليست كأي شيء قبلها. تغير وجه الدنيا ولاشك وتغيرت سيرورة التاريخ، لكن ما أعرفه تقنياً، أننا دخلنا في عصر الحروب القادمة رسمياً وستتغير جميع التدريبات والاستراتيجيات القتالية لأي مقاتل أو جيش لا يرغب أن يضحى به مجاناً في بداية القتال.
وسيم موفق الخاني