الانضباط والالتزام وأثرهما في التحول السياسي
عندما تتم مناقشة أوضاع الأمة من قبل أبنائها، يلاحظ من يراقب أقوال المواطنين وآراءهم من خلال الاستبيانات أو من خلال المقابلات الصحفية أو الإذاعية أو التلفزيونية، أن آراء المواطنين متشابهة تجاه الكثير من القضايا، حتى وإن كان هؤلاء المواطنين لم يلتقوا في السابق، ولم يتم التنسيق فيما بينهم حول ما سيقولون تجاه قضية ما.
وأحياناً، تعتمد بعض القنوات التلفزيونية نهجا يعرض بين حين وآخر عينات من آراء المواطنين، وتكون النسبة تقارب أو تفوق التسعين بالمائة، ويعلق الضيف الذي يتبنى وجهة نظر مخالفة أن تلك الاستبيانات لا أهمية لها، وتراود الضيف نفسه أن يصف هؤلاء المصوتين بالجهل أو التخلف، ولكنه لا يود أن يفتح على نفسه بوابة واسعة من الانتقاد تكون سلاحا تجاه مخالفيه سواء من كان في الأستوديو أو ممن يرصدون ما سيقول هذا الضيف لاستعمال أقواله ضده في مناسبة أخرى.
لن نخوض في صحة أقوال المعارضين لتلك الاستبيانات. ولكن سنقف عند تلك الظاهرة التي تؤشر باستمرار على أن هناك إجماع عام في تصنيف ما يجري بأنه سيء وأن حالة عدم الرضا هي السائدة، وأن الحقائق ظاهرة ولا تحتاج إلى إثبات، ولكن لماذا هذا الاستمرار بحالة التردي، طالما أن الأغلبية العظمى من أبناء الأمة تتفق على وجوب تغييرها والخلاص من آثارها؟
بين الالتزام والانضباط
الالتزام هو حالة استعداد الفرد لأن يبقى على ما يؤمن به من عقيدة أو نهج، دون تحريض من خارج ذاته، كالالتزام بالشعائر الدينية أو الالتزام برعاية أبناء الفرد أو أسرته، أو الالتزام بالسير على قواعد أخلاقية آمن بها الفرد وآل على نفسه أن يسير عليها دون أن ينتظر من أحد أن ينتقده أو يراجعه بشأنها. ويصنف الفعل الحاصل من الفرد إزاء تلك القواعد في باب (الفعل المسئول).
أما الانضباط، فهو حالة استعداد الفرد أن يقوم بأفعاله ويعبر عنها بما تمليه ظروف الجماعة (أسرة، مجتمع، حزب، جيش الخ) بغض النظر إن كان يقرها إقرارا مقتنعا ومؤمنا بها أم لا. ويصنف الفعل الحاصل من الفرد إزاء تلك القواعد في باب (الفعل الواجب).
ومن الأمثلة على (الفعل الواجب) الذي تحكمه قواعد (الانضباط) هو انقياد أفراد الجيش لخطة القيادة العسكرية، دون تحريف أو تحويل أو رغبة في النقاش. ويمكن أن تكثر نماذج الانضباط في أي خطة يسير عليها فريق ما، (فريق طبي يجري عملية جراحية)، (فريق كرة قدم يخوض مباراة)، (أفراد الأحزاب في الحملات الانتخابية) الخ.
التهويش خروج على الانضباط
التهويش، هو التبرم من تنفيذ تعليمات القيادة، والثرثرة فيما بين أعضاء الفريق أو الجماعة فتحدث الاتصالات الجانبية منتقدة القيادة في نهجها أو برنامجها، أو في ترشيح بعض الأسماء غير المقنعة، فتكون النتيجة هي أن يتخاذل الفريق في أداء مهمته بنجاح، وسيكون الفشل حليفهم في تحقيق ذلك النجاح.
من جانب آخر، سيكون هناك من يترصد مثل تلك الهفوات التي يتسلل العدو من خلالها لإبطال فاعلية التحرك العام للجماعة. هذا الجانب من خلخلة أداء الجماعة يبدأ من أبسط الوحدات الجماعية، ففي حالة أن يتقدم أحد الأفراد لخطبة فتاة من أسرة ويصدف أن كان الأب معارضا، فإنه سيبحث عن ثغرة في الأسرة تقبل به (خطيبا) كالأم أو الابن الأكبر، ويأخذ باستثمار مثل هذا الدور لتغيير موقف الأب.
وقد يحدث في حالات القتل، فتجد أهل القاتل يبحثون بين أقارب المقتول ليجدوا شخصا مؤثرا يقبل بفكرة التصالح ويبدون نشاطا واسعا في التأثير عليه من أطراف عدة.
وفي حالة الأعداء الخارجيين، تلعب المخابرات دورا في رصد بؤر لاختراق المجتمع السياسي (الدولة بجانبها السياسي الحاكم)، أو منظمات المجتمع المدني (الدولة بجانبها الشعبي المحكوم). وتبدأ فعلها بترغيب أنصارها وتحريضهم على تهيئة الأجواء للتغيير الذي سيكون في صالح الدولة المعتدية.
الأسباب المهيئة للتهويش
إن قاعدة (نفذ ثم ناقش) التي تعتمدها التنظيمات الصارمة في الجماعات والتي هي أساس الانضباط، ترتخي هيبتها وتتفكك لتسمح لبذور التهويش أن تنمو فيما بين طبقاتها المتصدعة إذا مرت بهذه الظروف:
1ـ عندما يكون أفراد القيادة على قدر ضئيل من الإبداع والفهم في قيادة مجموعاتهم، كحالة مدرب في فريق رياضي فشل في أكثر مبارياته، قائد سياسي اعتلى سدة الحكم أو سدة قيادة جماعة معارضة ردحا من الزمن دون أن يسجل انتصارتٍ تذكر، يجعل القيادات المفصلية تنقل رغبات ذلك القائد دون حماس يذكر، فيكثر التهويش.
2ـ عندما تكتفي قيادة المجموعة ب (نفذ) مع تأجيل ( ثم ناقش)، أو إلغاؤها نهائياً، تصبح المناقشة حينها خارج جسم الجماعة ويحدث التهويش.
3ـ عندما تكون مواسم المناقشة موظفة لتبرير أوامر (نفذ) وعدم الاستماع لمن سيناقش خلاف ما كانت عليه طبيعة الأوامر، أو أن من يناقش سيُرمى به خارج الجسم العام، وبهذه الحالة تصبح ظاهرة التهويش والتكتلات داخل الجسم تأخذ مسحة تآمرية.
4ـ في حالات الهيئات التمثيلية العامة، التي تعتمد الانتماء للجماعة من أجل هدف قد يتحقق فجأة أو يتحقق في تاريخ الجماعة، فإن الخطاب التثقيفي سيصبح باهتا وغير مؤثر في صنع حتى حالة الالتزام الأولية، مثال ذلك حركات التحرر الوطني التي يكون هدفها طرد المحتل، فما أن يخرج المحتل حتى تظهر خلافات قد تكون سببا في صراع مسلح بين مكونات تلك الجماعة الواسعة (مثال ذلك، الهند، الجزائر، فلسطين، جنوب أفريقيا، زمبابوي).
5ـ في حالة الهيئات التكاملية العامة، أي التي تعتمد الخماسية في تسيير شؤون حزبها (أيديولوجيا، نظرية تنظيمية، طليعة، احتراف سياسي، انضباط)، قد يحافظ النضال من أجل وصولها للحكم، ولكنها ما أن تصل حتى يدب الوهن في أحد عناصر خماسيتها مثال ذلك (الأحزاب الشيوعية التي وصلت للحكم في شرق أوروبا، حزب البعث في سوريا والعراق) ويمكن إضافة حالات (الاتحاد الاشتراكي في مصر ناصر، وجبهة التحرير الوطني الجزائري، وحركة الإنقاذ في السودان).
يتبع