عمر الخيام المفترى عليه

--------------------------------------------------------------------------------

محاضرة نقابة المهندسين بحلب6/8/2006
عمر الخيام المفترى عليه
بقلم :

أ.د. بكري شيخ أمين
عضو اتحاد الكتاب العرب
عضو اللجنة العالمية للغة العربية
في كثير من بلاد العالم فنادق ومطاعم وملاه ومراقص تـحمل اسم
( عمر الخيام ) ، وغالباً ما تكون هذه المواطن أمكنة للعبث ، والانـحراف ، والإثـم ، والمحرمات .. كأن صـاحبها يشير ـ بشكل خفي ـ إلى العلاقة الوطيدة بين هذه التسمية وسلوك الخيام وآرائه .. أو كأن صاحب هذا الملهى لم ير تسمية موحية بالانفلات والانـحراف أفضل مما يوحيه اسم ( عمر الخيام ) في الشرق أو في الغرب .
ويقف الباحث أمام هذه الظاهرة مستغرباً ، متعجباً ، مندهشاً ، ويتبادر إلى ذهنه أن عمر الخيام يُضرَب به الـمَثَـل في تعاطي السرور والخمور والفجور ، وأنه ـ طوال حيـاته ـ ما كان يبالي بـجنة أو نار ، أو حساب أو عقاب ، وإنما كان أبيقورياً يغتنم الساعة التـي هو فيها .. وبعدها فليكـن الطوفان .. ولولا ذلك ما اختاره صاحب الملهى الليلي ، أو المقهى ، أو الحانة عنواناً .
اعتقد بعض المسلمين أنه إباحي ، وأنه مستهتر بأحكام الإسلام وتعاليمه ، كما اتهمه بعض آخر بأنه دُهري ، وزعم بعضهم أنه تناسخي ، وقال آخرون فيه أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان . منها : أنه باطني ، أو لا أدري ، أو تشاؤمي ، أو جبري ، أو معري .. وادعى باحث أخيراً بأنه ثائـر على كل شيء ، على الدين ، وعلى الأخلاق ، وعلى العقل أيضاً .
ويزيد هذه الظنون والافتراءات تأكيداً وتثبيتـاً انتشار آلاف الكتب في شتى لغات العالم ، فيها أشعار منسوبة إلى عمر الخيام ، تدعى بـ (الرباعيات ) كثيراً ما تكون ـ هذه الرباعيات ـ مطبوعة على ورق صقيل فخم ، في كل صفحة رباعية واحدة في عدة لغات منها : الفارسية والعربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والأوردية والإسبانية ومعظم لغات العالم ، وفي الصفحة المقابلة صورة رمزية لرجل عجوز ، طاعن بالسن ، أشيب الشعر ، لحيته تغطي نصف صدره ، وأمامه غادة حســناء ، غراء ، فرعاء ، مصقول عوارضها ، تسـكب من كوز بيدها خـمراً في كأس ، وتقدمـه إلى العجوز .. وبيدها الأخرى آلة طرب .. وفي إطار الصورة طيور وبلابل ، وزهر وعنادل ، وأشجار وأثمار ..
ويظن القارئ أن هذا العجوز نفسه هو عمر الخيام ، وأن حياته محصورة بكأس ، ودن ، وحسناء ، وغناء . وليس لهم في ذلك دليل إلا تلك الرباعيـات التي نسبوها إلى شخصيته ، وظنوا أنها من الحكيم عمر الخيام ومقولاته وآثاره ، وفلسفته وحكمته التي نسجها بقريحته ، فكانوا يحكمون عليه ما يحكمون مستندين إليها ومعتمدين عليها ، كأن تلك الرباعيات وصلت إليهم منه بسند صحيح ، متصل ، لا يبقي وراءه أي شك ، ولا يذر دونه أي تردد .
والغريب في الأمر أن كتب الرباعيات منتشرة في كل مكتبات العالم ، وهي في طبعات لا تكاد تـحصى ، وفي لغات الدنيا قاطبة .. وكثيراً ما تـختلف رباعيات طبعة عن أخرى في اللغة ذاتـها ، أو في اللغات المختلفة . وليس من المستغرب أن يتجاوز عددها في شتـى الطبعات ألفي رباعية ، أو يزيد .


ويقف الباحث المدقق متسائلاً : أصحيح أن عمر الخيام ، الفارسي ، المسلم ، كان رجلاً متهتكاً ، سكيراً ، وعربيداً .. أمضى حياته كما يصورون ويزعمون ؟
أصحيح أنه نظم هذه الآلاف المؤلفة من الرباعيات الصارخة بالـمجون والمعصية والفجور ؟ بل كيف انتقلت هذه الأشعار الفارسية المحلية إلى معظم لغات العالم ، ومن الذي نقلها ، ونشرها ، ورسـمها ، وزينـها ، وأرخص ثمنها ؟
ويعود الباحث إلى مراجعه ، وكتب التراجم ، يستقصي سيرة عمر الخيام ويستوضح شخصيته ، ليعرفه على حقيقته ، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عنه .
يبدأ بقراءة سيرة هذا الرجل ، فيرى أن اسمه : عمر ، وكنيتَه أبو الفتح ، ولقبَه غياث الدين ، ووالدَه إبراهيم النيسابوري ، وشهرتَه : الخيام ، أو الخيامي ، لاشتغاله بصنع الخيام .
اتفق أكثر المؤرخين على أن عمر ولد في نيسابور من أعمال خراسان في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ـ العاشر الميلادي ، وتوفي قبيل انتهاء الربع أول من القرن السادس الهجري ـ الحادي عشر الميلادي . ويحدد خير الدين الزركلي في كتابه " الأعلام " وفاته بسنة 515هجرية ، الموافقة لسنة 1121للميلاد .
ونيسابور مدينة من أجمل المدن الفارسية ، فتحها المسلمون أيام عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على يد الأحنف بن قيس ، وبنى فيها أول جامع . وزارها ياقوت الحموي ، ووصفها في معجم البلدان بأنها مدينة عظيمة ، ذات فضائل جسيمة ، وهي معدن الفضلاء ، ومنبع العلماء ، ولم أر فيما طوفت مدينة كانت مثلها ، وعهدي بها كثيرة الفواكه والخيرات . وعدد ياقوت أسماء عشرات العلماء فيها .
عمر ونظام الملك والحسن الصباح :
قُـرنت حياة عمر الخيام برجلين من مشهوري ذلك العصر ، أولهما هو الحسن الصباح ، وثانيهما هو نظام الملك وزير السلطان ألْبْ أرسَلان نجلُ السلطان طُغْرُلْ بك التتري ، ثم وزيرُ حفيده ملكشاه بعد ذلك . وطغرل بك هو مؤسس الدولة السلجوقية التي ما لبثت أن واجهت أوربا وقد شَـنّت عليها الحروب الصليبية .
وقد حكى لنا الوزير نظام الملك كيف تعرف عمرَ الخيام والحسنَ الصباح
فقال : " كان شيخي الإمامُ الموفق النيسابوري من جِلة علماء خراسان مبجلاً مهيباً ، وقد نيَّف على الخمس والثمانين ، وكان السائدُ في عقيدة أهل زمانه أن كل من قرأ عليه العلوم العربية نبغ فيها وبلغ الغاية ، وانساق إليه العز والجاه والنعمة والثراء ، ولذلك وجهنـي أبِي من بلدة طوس إلى نيسابور لأقرأ على ذلك الأستاذ الجليل ، وهناك حظيت به ، وحضـرت عليه ، فتوشَّجت بيننا أواصر المودة ، تأكدت عرى الصداقة ، لحظني بعين رعايته ، وأنزلته من نفسي أخص منزلة وألطفها ، ولبثنا على ذلك سنين عدة
وكنت أول ما نزلت به ، وجلست في حلقتـه لقيت تلميذين في مثل سني ، حديثَيْ عهد مثلي بالقراءة على الإمام الموفق ، وهما عمر الخيام والحسن الصباح ، وكانا آيتين في الفطنة والذكاء ، فآنس كلٌّ منّـا بصاحبيه ، ونَمَت بيننا نحن الثلاثة أحسنُ صحبة وأمتنُـها . فكان إذا قام الإمام عن الدرس ، وانفضت الحلقة اجتمعنا فتذاكرنا ما تلقيناه من المعارف .
وكان الخيام من أهالي نيسابور ، أما الحسن الصباح فكان أبوه ناسكاً ورعاً متقشفاً ، ولكنه كان زنديقاً . فأقبل الحسن يوماً على عمر الخيام فقال له : لقد صح في أذهان الناس قاطبة أنه ليس من تلميذ يتخرج على الإمام الموفق إلا مصيباً عزاً وإقبالاً وثروة وجاهـاً . فَهَبْ أن ذلك لم يتفق لنا نحن الثلاثة جميعاً فإنه لا بد أن يقع لواحـد منا ، فماذا يكون حقُّ الاثنين الخائبين على ذلك الفائز الظافر؟ قلنا له : اقترح ما تشاء . فقال : فلْنتعاهد الآن على أنه من أصاب الثراء فعليه أن يقسمه بيننا نحن الثلاثة على السواء ، لا يؤثر نفسه بشيء دون أخويه . فأجبناه : لِيَكُنْ ذلك كما قلت . ثم تحالفنا على ذلك وتعاهدنا .
ويتابع نظام الملك حديثه فيقول : مرت أعوام على ذلك ، وغادرت خراسان متجولاً في فضاء الله إلى غزنة ثم إلى كابل . ولما عدت تقلدت منصب الوزارة في سلطنة السلطان ألْبْ أرْسَلان ، وبعد مدة من الزمن عرف ذلك صاحباي ، فأتيانِي يطلبان إنْجاز وعدي القديم ، وإشراكَهما فيما انحاز لي من النعمة والثراء .
وبر الوزير بقسَمه، وأنجز وعدَه ، والتمس الحسنُ الصباح منصباً في السـلطنة ، فمنحه السلطان إياه بوساطة الوزير نظام الملك ، وعينـه والياً على هَمدان ، ولكن الحسن كره ذلك المنصب لانحطاط رتبته عما كان يطمح إليه من شـرف المنـزلة ، فترك المنصب ، ودس نفسه في بلاط احد أمراء المشرق منغمساً في غمار الدسائس والمكايد ، محاولاً إسقاط أميره واغتصاب الإمارة منه . وبعد كثير من التجولات والتقلبات صار الحسن زعيم الطائفة المسماة بالإسماعيلية .
ففي سنة 489هـ / 1090 م استولى على قلعة ( أَلَـمُوتْ ) الواقعـة جنوبي بحر قزوين . ومن ثَمَّ فصاعداً ذاع صيت الحسن الصباح ، وأصبح اسمه مبعثَ الرعب والذعر في جيوش الصليبيين حتى سموه ( شيخ الجبل ) ومبعث الرعب أيضاً فِي جَميع أنحاء العالم الإسلامي ، وسميت فرقته ( فرقة الحشاشين ) نسبة إلى المخدر ( الحشيش ) الذي كان الحسن ينشره بينهم تخديراً لأعصابهم قصد الاستيلاء على عقـولهم حتى يسيرهم فيما يشاء من أغراضه المخوفة ومقاصده الخطرة المرهوبة . وكان من ضحايا الحشاشين العديدة نظام الملك نفسه صديق نظام الملك ذاته وقرين حداثته وزميل تلمذته ، وهدد ملكشاه نفسه بالقتل .
أما عمر فقد قصد الوزير أيضاً غير طامع في رتبة أو طامح إلى منصب ، وقال للوزير : لست أبغي لديك أكثر من أن أتفيأ طرفاً من ظلال نعمتك الفيحاء ، لأنشر ضياء العلم ونور المعرفة ، وأدعو لك بدوام العز وطول البقاء . فأجابه الوزيـر نظام الملك إلى ذلك ، وأجرى عليه رزقاً قدره 1200 مثقال ذهب في العام تصرف له من خزينة نيسابور .
دراسات الخيام وعلومه :
أما عن دراساته فيذكر المؤرخون أن عمر بن إبراهيم الخيامي عاش في القرن الخامس الهجري ، وكانت كتب الفلسفة اليونانية المترجمة شائعة ، ومؤلفات أرسطو طاليس وأفلاطون وإقليدس وبطليموس وجالينوس وفيثاغور وزنون وأبيقور في الفلسفة الطبيعية والإلهية والرياضية ، وما يتفرع عنها من منطق وطب وهندسة وأخلاق وسياسة وهيئة ميسرة بين الناس ، والجدل محتدم حول آراء السفسطائيين والمشائين الرواقيين وغيرهم من أهل المذاهب الفلسفية .
وفي عصره نضج علم الكلام ، واشتد النزاع العلمي بين الأشاعرة والمعتزلة والحنابلة والجبرية ، وشاعت آراء الباطنية ، وكثر الإقبال على التأليف في مختلف العلوم والفنون ، وذاعت رسائل إخوان الصفا ، وتعددت الفرق والطوائف ، وكثر الأطباء والفلاسفة ، وظهر أبو علي ابن سينا، واشتد النزاع بين الدين والفلسفة ، وألف حجة الإسلام الغزالي كتباً في الرد على الفلسفة ، وعظم أمر التصوف ، وكثر القائلون بالجدل ووحدة الوجود ، وتفرد نفر بآرائهم الحرة فاتهموا بالزندقة والإلحاد .
وصفوة القول : عاش الخيام في وسـط علمي ، وفي بيئة علمية وفنية ، فعاصر زمرة من الفلاسفة والأطباء والمهندسين والرياضيين والفلكيين من بناة الأرصاد ، وتتلمذ على نوابغ عصره وألمعهم من العلماء ، وتردد إلى بعضهم ، وتردد بعضهم إليه ، وكثرت بينه وبينهم المجادلات والمحاورات والمراسلات في علوم شتى ، وكان لأولئك الذين تتلمذ لهم وتتلمذوا عليه مكانة علمية عظيمة في عصره . وحسبنا أن تعلم أن من زملائه في الدراسة الحسن بن الصباح أمير الفرقة الإسماعيلية والفرقة التي دعيت فيما بعد بالحشاشين ، ونظام الملك الوزير مؤسس المدارس النظامية في معظم الأقطار الإسلامية في عهده .
أصحاب الخيام ومعاصروه :
معاصـروه جـميعاً وصــفوه بأحلى وأجمل وأرفع ما وصف به الرجال والعلماء . رفاق دربه وأصحابه وأترابه كانوا من خيرة الناس وأفضلهم . منهم الإمام أبو حامد الغزالي ، مجدد المائة الخامسة للإسلام ، وصاحب ( إحياء علوم الدين ) . ومنهم الوزير نظام الملك ، وزير ملوك السلاجقة ، وباني المدارس النظامية في شتى أرجاء العالم الإسلامي . وجار الله محمود الزمخشري ، صاحب التفسير المعروف باسم ( الكشاف ) وصاحب الكتب اللغوية ، والإمام ظهير الدين البيهقي ، صاحب كتاب ( حكماء الإسلام ) . وكثيرون آخرون على هذا المستوى .. ناهيك عن صحبته لملوك عصره ، أمثال جلال الدين ملكشاه ، وألب أرسلان ، وخاقان بـخارى ، وسواهم من أبناء مطلع القرن السادس الهجري .
ألقاب الخيام عند معاصريه ورفاقه
مؤرخو عصره وصفوه بـ ( الإمام ) و ( حجة الحق ) و( حكيم الدنيا وفيلسوفها ) و ( الدستور ) و ( ابن سـينا الثاني ) و(العالم الفلكي ) و ( الفقيه ) و ( العالم بالقراءات القرآنية ) و(الزاهد ) و ( المتصوف ) .
زنتساءل عن معاني هذه الألقاب الفخمة التي وصف بها عمر ، ومتى يطلق على العالم لقب : إمام ، أليس لبلوغه من العلم درجة يفوق بها الناس ، فيأتمون به ، ويقتدون ، وحينئذ يطلق عليه كلمة : إمام ؟
كذلك لقب " حجة الحق " وهي تعني أنه وصل إلى درجة ما عاد أحد على بلوغها ، وقد أصبح حجة ، وكل ما يلفظ به موطن احترام ورضى وقبول .
و" حكيم الدنيا " لم يوصف بها من السابقين إلا النوادر من العلماء ، وعمر واحد منهم . ومثلها " الدستور " و" الفقيه " .
وقصته مع شهاب الإسلام الوزير الفقيه عبد الرزاق بن عبد الله بن علي ابن أخ نظام الملك وشيخ القراء أبو الحسن الغزال وتحكيمة في صحة قراءة آية ، وشهادة الغزال فيه بقوله : كثر الله العلماء مثلك ، اجعلني من أدمة أهلك ، وارض عني ، فإني ما ظننت أن أحداً في الدنيا يحفظ ذلك ويعرفه فضلاً عن واحد من الحكماء .
ووصفه بالعالم الفلكي ، وابتداعه تقويماً أضبط من التقويم الغربي المعروف بالغريغوري مشهور ، وكذلك معرفته بالطب ، وقصة مداواته لابن ملكشاه من داء الجرب مشهورة .
ترى : هل يمكن أن يوصف إنسان بالعلم ، والخلق ، والزهد ، والتقوى ، والحكمة ، والفلكي ، والمقرئ ، ومجالس الملوك ، والعلماء ، وأفاضل الناس بغير ما وصفه أبناء عصره ، وما سطره معاصروه بتلك الأوصاف الرائعة ؟
لم يقل أحد من تلامذته ، وشيوخه ، وأصحابه ، ورفاق دربه أنه كان
زنديقاً ، أو سكيراً ، أو منحرفاً .. حتى بالنسبة للشعر ذكروا أن له عدداً من الرباعيات في الزهد لا تزيد على بضع عشرة رباعية .
نبذة من أشعار الخيام :
جميعها أشادت به ، وعرضت أشعاره بالعربية والفارسية ـ وهي قليلة ومحدودة ـ لا تتجاوز معانـي الزهد ، والشكوى من الأصحاب غير الأوفياء ، والفقر ، وهـموم الحياة ، والإيمان الكامل بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد . ومنها:
تَدِينُ لِيَ الدنيا بلِ السـبعةُ العُلى ** بلِ الأفقُ الأعلى إذا جاش ناظري
أصومُ عن الفحشاء جهـراً وخِفيةً ** عفافـاً.. وإفطاريَ تقديسُ فاطري
وكم عصبةٍ زلَّتْ عن الحق فاهتدت ** بطُـرْقِ الهدى من فيضيَ المتقاطرِ
فإن صراطي المســتقيمَ بَصَـائرٌ ** لعينٍ على وادي العمى كالقناطر
ومنها قوله :
إذا قنِعتْ نفسي بميســور بُلْغـةٍ ** يحصِّلها بالكدِّ كفي وســاعدِي
أمِنتُ تصـاريفَ الحوادث كلّـها ** فكنْ يا زماني مُوعدي أو مُواعدي
ولي فوق هــامِ النيِّرَيْنِ مَنـازلٌ ** وفوق مَناطِ الفـرقدين مَصاعدي
أليس قضى الأفلاك من دَوْرها بأن ** يُعيدَ إلـى نحسٍ جـميعَ المَسـاعد
فيا نفسُ صــبراً عن مقيلِِكِ إنما ** يَـخِرُّ ذراها بانقضــاض المَواعد
متى ما دنت دنياكَ كانت بعيـدةً ** فواعجبــاً من ذا القريب المُباعد
إذا كان محصـولُ الحياة منيــةُ ** فسـيَّانِ حالا كلِّ ســاعٍ وقاعد
الكتب المعاصرة التي تحدثت عن الخيام :
يشهد على ذلك ما جاء في ترجمة حياته بتلك الكتب التـي كتبت في حياته ، والكتب التـي كتبت بعد وفاته بقليل ، منـها: كتاب ( جهار مقاله ) لتلميذه أحمد بن عمر النظامي السمرقندي وكتاب ( حواشـي جهار مقاله ) ، وكتاب (الزاجر للصغار عن معارضة الكبار) للزمخشري ، وكتاب (حكماء الإسلام ) للإمام أبي القاسم البيهقي ، وكتاب ( نزهة الأرواح وروضة الأفراح ) لشمس الدين محمد بن محمود الشهرزوري ، وكتاب ( فردوس التواريخ ) لخسرو الأبرقوهي ، وكتاب ( عجائب المخلوقات ) لعماد الدين زكريا القزويني ، وكتاب ( جامع التواريخ ) لرشيد الدين ، وكتاب ( أخبار الحكماء ) لجمال الدين علي بن يوسف القفطي ، وكتاب ( كامل التواريخ)لابن الأثير ، وسواها .
جميعها أشادت به ، وعرضت أشعاره بالعربية والفارسية ـ وهي قليلة ومحدودة ـ لا تتجاوز معانـي الزهد ، والشكوى من الأصحاب غير الأوفياء ، والفقر ، وهـموم الحياة ، والإيمان الكامل بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد .

السؤال الكبير :
ويثور في الذهن سؤال ضخم كبير : كيف نُسب إلى هذا الرجل هذا الكم الهائل من الرباعيات ، وهو لم يقل إلا بضع عشرة رباعية ؟ وكيف جعلت الأشعار عمر الخيـام زنديقاً أو كالزنديق ، وهو رفيق أكابر العلماء ونظيرهم ؟ وكيف انتقلت هذه الأشـعار إلى لغات العالم ؟ ولماذا صورته بهذه التصاوير ؟ ولماذا بذلت الرباعيات هذا البذل ، وغدت بمتناول كل يد ؟
ونتساءل عن هذه الظاهرة التي انتشرت في العالم كله منذ ما يزيد على مئة عام ، ونحاول أن نعرف العوامل التي دفعت إلى انتشار هذه الأشعار الماجن لشاعر مسلم .
بدايات كشف الخيام :
كان أول من عرف الخيام من الفرنجة توماس هايد أستاذ العربية والعبرية في جامعة أوكسفورد ، وتبعه المستشرق النمساوي هامر برغستل سنة 1818 م ، ثم غرسن دو تاسي . وفي القرن التاسع عشر ترجم السير كور أوسلي رباعيتين ، وإدوارد هارن بعض رباعيات ، والفرنسي نيقولا السفير في طهران ترجم رباعياته وقال : صوفية تتصل بالعشق الإلهي والخمرة المقدسة ، وشبهه بحافظ الشيرازي ، وبلغ عد المترجمين للرباعيات في القرنين الماضيين أكثر من عشرين مترجماً، ومعظمهم من اليهود ، والمؤلفين في الأدب العبري .
فيتزجيرالد ابتدع الأكذوبة الكبرى:
وفي سنة 1859 م نشر الشاعر الإنكليزي فيتز جيرالد الرباعيات شعراً ، وبهذا الشعر انتشرت الرباعيات في جميع أصقاع العالم ، وبدأ الناس يعرفون عمر الخيام ، ويرددون شعره .
وفي سنة 1893 م اجتمع عدد من الأدباء والصحفيين الإنكليز ، وأسسوا في مدينة لندن نادياً سـموه:"نادي عمر الخيام omar khayam club ، وزرعوا بعد سنتين شجرتي ورد على قبر الشاعر فيتز جيرالد أتوا بهما من إيران .
مهمة هذا النادي أن يذيع على الدوام ليل نهار أشعار الخيام التي ترجمها فيتز جيرالد ، وعلى أنغام الموسيقى يشـرب الرواد الخمر ، ويظلون يسكرون ، ويغنون ، ويشتمون ، ويلعنون السماء إلى أن يتعتعهم السكر ، ويرميهم أرضاً .
انتشرت فكرة النادي ـ الحانة ـ في إنكلترا أول الأمر ، وشاع صيته وانتشر ، فقلده عديد من بلاد العالم ، منن لاهور شرقاً إلى غربي العالم الأمريكي غرباً . وفيها جميعاً دعوة صارخة إلى احتساء الخمر ، وتعاطي الملذات ، والكفر بكل ديانات السماء ، وإنكـار البعث والحشر والجنة والنار ، وعدم الخوف من حساب أو عقاب
مثل هذه النادي كثير من بلاد الشرق والغرب ، ووصل إلى بلدنا ، فلقد كان هناك في إحدى مدن أريافنا رجل كان يملأ دنانه بالخمر ، ويأتى بشريط أم كلثوم الذي تغني فيه رباعيات الخيام ، ويظل يشرب على سماع الشريط ولحن أم كلثوم إلى أن ينطرح أرضاً .. وهكذا كان يقضي العمر مستمعاً لشريط الراعيات ، ومتعاطياً الخمر ، ومنكراً التعاليم الإلهية كما تقول رباعيات الأغنية ، إلى أن وافاه الأجل المحتوم ، ولم يخرج في جنازته أحد من أهل البلدة جميعاً .
ترى : أي سحر تحمله تلك الأشعار حتى راح يتغنى بها آلاف الناس فـي شتى بقاع الأرض ؟؟
في الحق : إن من يقرأ أشعار الإنكليزي فيتز جيرالد الرائعة والمسبوكة لغة كأنها السحر ، ينجذب على مضمونها ، ويسحر بأسلوبها وجمالها كل من يقرأها .
أشعار فيتزجيرالد التي أفسدت العالم وليس أشعار عمر الخيام :
وأعجب من هذا كله أن هذه الأشعار ترجمت من الإنكليزية إلى معظم لغات العالم ، وما رباعيات الخيام العربية المغناة بالعربية ، والتركية ، والأوردية ، والفرنسية ، والروسية ، وسائر اللغات الأخرى إلا ترجمة لرباعيات فيتز جيرالد ، وليس لعمر الخيام الحقيقي يد فيها ، ولا معرفة ، ولا هو قالها ، بل لم تكن تخطر له على بال ، وهو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب .
هذا التناقض العجيب بين رباعيات قال فيتزجيرالد إنها منسوبة لعمر الخيام ودراسة موضوعية رصينة لشخصية عمر الخيام تظهر لنا أن في الأمر سراً .
ونتساءل : أصحيح أن عمر الخيام كان رجلاً متهتكاً ، سكيراً ، عربيداً .. أمضى حياته كما يصورون ويزعمون ؟ أصحيح أنه نظم كل هذا الفيض من الرباعيات الصارخة بالـمجون والمعصية والفجور ؟
ويكشف العلماء والباحثون السر ، ويربطون بين حركة الاستعمار التـي قويت واشتدت في القرن الثامن عشر ، وما رافقها من حملات تبشـيرية ، وتنصيرية .
زعم المبشرون أنـهم وجدوا مخطوطة في جامعة أوكسفورد فيها رباعيات منسوبة إلى رجل يدعى بـ "الخيام" ، كلها زندقة ، ودعوة إلى السكر والعربدة ، وسـرعان ما ترجمها إلى الإنكليزية اليهودي ( توماس ماير ) ، ثم تلقفها ( فون هامر النمساوي ) ونقلها إلى الألمانية .. حتى إذا حلت ســنة 1859 الميلاديـة وجدنا ( فيتزجيرالد ) ، وهو أديب إنكليزي لامع ، وشاعر مبدع ، فاختار من الرباعيات ما شاء له الهوى ، ونقلها ـ بالمعنى ـ شـعراً إلى الإنكليزية . وكانت ـ كما يقولون ـ أشعاراً رائعة ، وفي غاية الجمال .. فأعجب بها الناس .. وانتقـلت من الإنكليزية إلى معظم لغات العالم ، حتى إلى الفارسية والعربية .. وولد من خلالها شاعر جديد ، اسمه : عمر الخيام لا يمت بصلة إلى عمر الخيـام الفارسي الأصيل المسلم بصلة إلا بصلة الاسم ، لا أكثر .
وربح الاستعمار والمبشرون ربـحاً لانظير له .. فلقد أوهموا المشارقة ـ بـخاصة ـ أن من علمائهم الكبار من ينظم مثل هذه الأشعار ، ويشرب هذه الخمور ، ويفعل هذه الأفاعيل .. إذن ، فلا حرج عليهم أن يقلدوا عالمهم .. ويتبعوا فلسفته .. شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع .
وانطلت الحيلة ، أو اللعبة ، على كثير من الناس ، فإذا جمهور غفير من المخدوعين يسلك سلوك ( خيّام فيتزجيرالد ) ، ويتفلت شـيئاً فشـيئاً من تعاليم الدين .. ويغدو في آخـر العمر مدمن شـراب ، مريد شيطان رجيم .
كان أول من نقلها إلى العربية وديع البستاني مترجماً لأشعار فيتز جيرالد ، وأعقبه محمد السباعي المصري ، ثم العراقي محمد الهاشمي نقلها من الفارسية ، ومثله أحمد الصافي النجفي ، وجميل صدقي الزهاوي ، وأحمد زكي أبو شادي ، وتوفيق مفرج
لكن الطامة الكبرى هي التي ترجمها من الإنكيزية الشاعر المصري أحمد رامي ، وكانت ترجمته من الجمال الفني والعبارات المغرية أشبه بترجمة فيتز جيرالد السحرية ، وزادها حلاوة أسلوب وقبول عند كثير من دعاة الإلحاد غناء أم كلثوم لها ، رغم تبديلها عدداً من الكلمات الأصيلة .
وقد يقول قائل : ومن ناظم تلك الرباعيات المصورة المطبوعة ، والتـي وجدت في أوكسفورد ، وترجمها ماير وهامر وفيتز جيرالد وسواهما ؟
والجواب سهل ويسير ، فما أكثر دعاة الإلحاد في كل زمان ومكان ، وما أكثر الوضاعين والمنتحلين والمختلقين ، وهل من العسير أن ينحل الزنادقة والوضاعون والملحدون شعراً على لسان عمر الخيام ، وغير الخيام ، وهل ننسى ما نحل على لسان الجاهليين ، وكم وضع على لسان السموأل شعراً هو منه براء ، وكم وضع على لسان الرسـول الكريم أحاديث زعموا أنها نبوية ، والنبي منها براء ، بل ألم يتجرأوا ويزيدوا في كتاب الله آيات هي من تأليفهم ، ولم يسلم من الوضاعين والكذابين شاعر ، أو حاكم ، أو خليفة ، أو نبي ، حتى آدم عليه السلام قال شعراً وأقوالاً وأفعالاً ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا خطرت على بال ، ولا مرت على شفتي إنسان .
إنها حرب صليبية ـ كما قال الرئيس الأمريكي بوش ومعه بلير الإنكليزي ـ ومع الصليبية دعوة يهودية صهيونية لإشاعة الباطل ، والزندقة ، والكفر ، والفجور ، ومحاربة الدين ورجاله وأهله والمتمسكين به ، والتحلل من كل فضيلة ، والشك في التاريخ العربي والإسلامي والعلماء العرب والمسلمين في العصور كلها .. .
فهل ينتبه العقلاء إلى هذه المخاطر ، والافتراءات ، والأكاذيب على لسان النبي العربي ، وعلى الشعراء ، والحكام ، والعلماء المسلمين من قدماء ومعاصرين ، ورجال الدين ، والتاريخ العربي من أوله لآخره ، ويدركون ما يحاك لهم هنا وهناك ، وما يفتري المفترون ، ويزعم الزاعمون ، ويأفك الأفاكون ؟

منقول عن الكاتبه -بنت الشهباء