تاملات في كتابة الشعر
د.ازهر سليمان
الشعر من اسمى المعارف التي منحها الله للانسان للتعبير عن مكنوناته والتغني بافراحه واحزانه كممارسة تنفيسية قويمة. فحينما يمر الانسان بتجربة شعورية يحاول ترجمتها لنفسه او نقلها للاخرين بطريقة تكون الاقرب للمعاناة التى مر بها. الشعر وحده قادر على فعل هذا النقل الروحي والاتصال مع المحيط وجعل الاخرين يعيشون ذات التجربة بذات الوقع.
طور الانسان بمرور الزمان هذه الهبة فحسنها وكيفها للزمان والمكان المناسبين. واصبح الشعر علما وفنا منذ اقدم العصور. فالشعر والشاعر هما حالة واحدة لاتنفصل. ان تكتب شعرا فانت شاعر وان انت شاعر فانت تكتب شعرا. اذن كيف يكون الشعر شعرا؟
للشعر في اية لغة قاموس خاص به وهو مايسمى اللغة الشعرية او الاستعارية، ولهذه اللغة مفرداتها وتراكيبها الخاصة. مامعنى اللغة الاستعارية؟ تعني اللغة الاستعارية استخدام الكلمة استخداما غير الذي يحدده القاموس. يصف الشاعر شعر حبيبته بالقول (ويعانقني شلال ليلي يتمطى) . فان نظرنا في القاموس عن معنى الشلال نجده انه مسقط مائي يتهاوى من اعلى الى اسفل. فهل يقصد الشاعر هذا بشعر حبيبته؟ بالطبع كلا. مايقصده هو الشبه في عملية (التهاوي) فشعرها يتهاوى اسودا كالليل على كتفيها. ماحدث هنا انزياح المعنى من المستوى القاموسي الى المستوى الاستعاري. وهذا هو المطلوب.
ان هذا الانزياح يجب ان يحمل معنى وفكرة خلاقة. فاستعمال مفردات حياتية بعينها تفقد القصيدة كونها قصيدة. يجب ان يتوخى الشاعر الابتعاد عن الاستخدام الوحشي المتوحش للمفردة واذكر على سبيل المثال :
قلبي جرو صغير ينظر الى القمر
وطني حذائي
شربتك مع عصير الخل
فكلمة (جرو) تتنافر تماما مع القمر، ولايمكن ان يصغر الانسان الى حد ان يسكن الحذاء ولايمكن شرب امرأة مع الخل. يجب احترام المفردات اللغوية وكيفية استخدامها فنيا لتوليد المعنى.
اما المسألة الاهم فهي مسالة الوزن والبحور وهذا امر لامناص للشاعر من تعلمه وان لايصغي لبعض الاصوات التى تدعي عكس هذا. هنالك 16 بحرا في الشعر العربي لااكثر ولااقل ومن يدعي انه اكتشف غيرهم فانه واهم. لاتكون القصيدة قصيدة دونما وزن. ولايكون الشاعر شاعرا دونما وزن. يجب اقتران الوزن بالمعنى. فهنالك نظم وليس شعر. والنظم هو كلام موزون مقفى لايضم معنى او عاطفة او تجربة عاطفية راقية. والشعر عكس النظم تماما وان كان كلاهما موزونين. فان قلت في وصف المخدة مثلا من بحر الوافر:
اراحتني بنومي راحة كبرى
لايدخل هذا الكلام في معنى الشعر بل النظم. فالتجربة الشعورية هي الفيصل بين النمطين. ويستخدم النظم عادة في الامور التعليمية كالفية بن مالك.
اما القافية فهي جزء من الوزن وهي ايقاع يتكرر لخلق جو موسيقى يتناغم مع المعنى. وعلى الشاعر الحر ان يمتلك احساسا ذكيا اكثر من الشاعر العمودي في اختيار زمان ومكان القافية والا انقلب الامر الى ماساة.
ومصطلح الشعر الحر هو غير مصطلح النثر المركز او الفني. فالشعر الحر احكامه هي ذات احكام العمودي ولكن دونما الاهتمام بعدد التفاعيل للشطر والعجز او الالتزام بزمان ومكان القافية. كلاهما ملتزمان بالوزن. اما النثر المركز ،ككتابات الاديب المعروف محمد الماغوط، فهي ان وزنت ببحور الخليل صارت شعرا وقصائدا.
ان اهمية الاوزان هي في اعطاء ايقاعات موسيقية خالية من النشاز. واذا اخترت البحر المناسب للموضوع المناسب فقد حققت امرا رائعا في التاثير. فمثلا تستطيع اختيار بحر الرمل للتعبير عن تجربة عاطفية رقيقة وبحر البسيط لبسط الامور وشرحها والكامل بطبوله القوية للتعبير عن تدفق لايتوقف. كما ان الوزن هو حزام الامان حيث يبعدك عن اي استخدام وحشي للمفردة وكلما ابتعدت عن الطريق اعادك اليه.
يستسهل الشباب اليوم سيما في المنتديات الادبية الكتابة العشوائية. معظم هولاء الشباب لديهم امكانيات وبذور الشعر والشاعر. لكن كلمات الاطراء التي يتلقاها من المنتدى تبعده من ان يكون الافضل فيستمرئ السهل الذي لايقود الى شئ لانه يوما لابد له من العوم في النهر امام سباحين مهرة. ويغضب غضبا جما ان نقده احد الشعراء او النقاد معتبرا اياها اهانة شريرة.
الشاعر عموما كاي صانع اناني لايعلم مهنته لاحد. رغم ان الامر معظمه موهبة وتعلم وممارسة، نجد اليوم عشرات الشعراء المعروفين يقدمون تجربتهم في كتابة الشعر للشباب على عكس ماكنا عليه ايام زمان. كنا نستجدي من يعلمنا تفعيلة واحدة ويتهرب منا ونلاحقه ونتوسل به لان تعلم الشعر انذاك كان مشافهة.
واخيرا اود القول ان بعض الشعراء يتوهم ان الشاعر يجب ان يكون بوهيميا لكي يكون شاعرا. فتراه وسخا اشعثا يرتاد الحانات الليلية مضيعا نفسه في دخانها وبؤسها. الشعر اخلاق فاضلة يسمو بصاحبه عن كل الترهات ورخيص الاشياء في كل زمان ومكان. نعم هنالك صعاليك وخمارين ولكن هنالك فلاسفة ومفكرين وعمالقة كالمتنبي وابن الرومي والبحتري وحسان بن ثابت والخنساء وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة واحمد شوقي واخرون.