منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 21
  1. #1

    رواية "الحليب والدم

    الحلقة الأولى من النص الكامل من رواية "الحليب والدم"


    December 2, 2013 at 7:10pm
    استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الأولى
    الفصل الأول
    زرقاء اليمامة تستيقظ منتفضة من سباتها الأبدي بعد أن هزت نوايا الدكتور"جولدي" سكان القبور. تحدق في الغيب بعينين كانتا على الدوام دثارا دافئا يحمي الهديل من الدموع والعويل. ترسل أسرار عينيها السرمدية إلى حيث تهتز الأرض في البعيد. تحاول أن تعرف سرَّ زلزالٍ أيقظ الموتى. العواصف الثائرة تغمر الأفق والموت يزحف. حِمْيَرُ خدعت عينيك يا زرقاء, جاءت تنتزع منهما الحبَّ والدفءَ والأمان. جفافٌ وقحط. أوراقُ السماء تحترق. واللحمُ الآدمي شواء.
    حليب الأمهات يتدفق من صدورهن دما ملتهبا. أشلاء الأطفال المتناثرة ترتعش ارتعاشة السكون الأزلي, تودِّع رمقَ حياة أخير على أنغام سيمفونيةٍ عزفتها العناكب بأوتار الموت. الدم يختلط بالحليب. "جولدي" يملأ كأسَه من شراب الشيطان. "أبوقراط" يصرخ مُدَوِّيا يحمي قسمَه. "جولدي" يقرع الكؤوس, ويشرب نخب الفناء على مائدة إبليس. "أبوقراط" يواصل الصراخ وقسمُه ينزف. "جولدي" يعانق الشيطان ويضحكان. يرقصان على إيقاع فحيح الأفاعي, وينتشيان بدم الأطفال المنثور رذاذا رطَّبَ من حولهما الأجواء. "أبوقراط" ينتحر على مذبح قسمه النازف..
    تختلطُ المعاني.. تجِفُّ القواميس.. ترتعشُ المعاجم.. وكلُّ الجرائم تبكي وكلُّ المجرمين.. حزنٌ وخوفٌ وفزع.
    مستشفى "الأرحام" شامخ يتحدى الفناء, يعانق الأمومة, يُخَضِّبُها بلون الشمس والسلام. تنبعث من جنباته في كلِّ ساعة أنغامُ حيواتٍ جديدة, تعتصر الأمهات أجسادَهن وقودا لها. الرُّدهات, الممرات, نسائم الحب المرسلة مع صرخات الحياة الأولى من غرف الولادة, تبعث الأملَ في نفوسٍ محبطة يائسة, حرمتها الطبيعة نعمة الإسهام في ربط ما مضى بما سيأتي. في هذا المكان المشرق بلون الحب الأبيض, أعيدت الحياة إلى أجسادٍ جفَّت وهي تبحث عن أمومة مفقودة.
    الدكتور "جولدي" وقف يتحدث بين حشد من الصحفيين بعد أن انتهى للتو من إجراء إحدى عمليات زرع الرحم الدقيقة.
    صحفية شابة توجه إليه سؤالا وهي تقرِّبُ يدَها وجهازَ التسجيل الصغير من فمه.. "دكتور جولدي" لقد حضرتَ إلى مصر منذ حوالي أسبوعين, هل لنا أن نعرفَ كم عملية زرع رحم أجريتَ خلال هذه المدة؟".
    "في الحقيقة كان هذا الأسبوع غنيا بالعمليات".
    يصمت وينتظر منها ردة فعل لم يظفر بها. ينتبه إليها وهي تُبعدُ يدَها والمسجلَ عن فمه, بعد ما أحست باقترابه منهما قليلا. يكملُ بسرعة وارتباك.. "نعم, لقد كان غنيا.. أجريت خلال هذا الأسبوع وحده تسع عمليات".
    ينتظر سؤالا آخر. يجيل نظره بين حشد الصحفيين.
    صحفيه أخرى تستعد للكتابة بعد أن أخفت مسجِّلَها الصغير في حقيبة يدها.. "ماهي نسبة النجاح في العمليات التي أجريتَها يا دكتور؟ أقصد هل واجهتك مصاعب؟ وهل هناك عملية لم تنجح النجاح المطلوب؟".
    يهز رأسه ويحرك يديه بفخار.. "كلها كانت ناجحة, لم تفشل أيُّ عملية. هذا يرجع بطبيعة الحال إلى الطريقة الجديدة في عملية زرع الرحم".
    الصحفية الأولى تحاول تسريع وتيرة اللقاء. تقاطعه كي لا يسترسل في استعراض بطولاته.. "دكتور جولدي, على ذكر الطريقة الجديدة في الزرع, والتي قمتَ باكتشافها, هل تمثل في رأيك حلا لكافة مشكلات العقم الناتجة لدى النساء عن تلف الرحم؟ أم أن هناك حالات معينة لا يمكنها أن تستفيدَ من هذا الكشف العلمي؟".
    يُظْهِرُ سعادةً خاصة بسؤالها. يشير إليها بسبابته محاولا إضفاء جوٍّ من الدعابة على حديثه، جعل المحيطين به يتبادلون نظراتِ تأَفُّفٍ تفيض بمعاني عدم استلطاف المحاولة. يدرك ذلك. يهزُّ رأسَه هزاتٍ سريعةً وقصيرةً قبل أن يبدأ بالإجابة..
    "أنت في الواقع سألت سؤالا مهما جدا. أستطيع القول أنه بإمكان أيِّ سيدة تعاني من مشكلات في الرحم تحرمها من أن تكون أما, أن تصبح أما. إن طريقة الزرع التي توصلت إليها تعتبر انتصارا طبيا كبيرا".
    صحفي يقف منزويا يسأل.. "دكتور جولدي, حسب معلوماتنا فإنك ستسافر إلى بلدك خلال أيام, ولن تعود إلى مصر قبل حوالي عامين, ونساءٌ كثيرات يرغبن في إجراء العملية بكلِّ تأكيد. فهل تلقيت طلباتٍ من سيدات مصريات لزيارتك في بلدك لإجراء العمليات لهن هناك, مادمتَ ستغيب هذه المدة؟".
    "جولدي" يهزُّ رأسَه ببطء وهدوء. تظهرُ عليه علامات الإحساس بالحرج. لم يكن يتوقع مثل هذا السؤال. ينظر إلى السائل بحذر شديد. يركز عينيه في وجهه دون وجوه الآخرين. تولَّدَ لديه إحساس غامض بأنه سيرى فيها سخرية واستهزاء قد لا يحتملهما. ثم, بلهجة جادة رزينة, وحركاتِ يدٍ ثقيلة على غير العادة.. "الغريب في الأمر أنني لم أتلق إلا طلبا واحدا من سيدة مصرية وحيدة لزيارتي في بلدي".
    فجأة يبدأ لسع السياط,
    صحفي آخر يقاطعه بلهجة ساخرة وشت بها ابتسامة خبيثة مقصودة.. "لماذا في نظرك هذا الإحجام يا دكتور؟".
    صحفية أخرى مُعقِّبَة بنفس اللهجة قبل أن يجيب.. "مع أن الكثيرات يتمنين أن يصبحن أمهات في أسرع ما يمكن".
    صحفية من بعيد تضيِّقُ عليه الخناق, تقصد إشعاره بالحرج والارتباك.. "ومع أن إجراء العملية في مستشفيات بلدكم قد يكون أضمن نجاحا.. أليس كذلك يادكتور؟".
    آخر.. "والرحلة ليست مكلفة".
    أخرى وهي تضحك.. "وبلدكم ذات تاريخ عريق".
    يضحكون.. "لماذا يا دكتور؟".
    يشعر بالحصار. يُنَقِّل نظرَه بينهم بحركاتِ رأس زمبركية, كنقار الخشب, لكنهم يواصلون السخرية.
    "لو كنت عاقرا لسافرت إليك يا دكتور".
    ضحك وقهقهة.. "كثيرات سيسمين أول طفل لهن جولدي".
    يحاول التفَلُّتَ بترقُّبِ لحظة قطع بين مشهدي سخرية, كي يوقف هذا السيل الذي تواصل كوخز الإبر.
    "كم ثمن الرحم في بلدكم يا دكتور؟".
    "ألن تحدث مضاعفات لمن تُزرع لها رحم امرأة من هناك؟".
    "في هذه الحالة يا دكتور ماهي جنسية المولود؟".
    "وهل ستطبق عليه في اعتماد الجنسية قوانينكم أم قوانيننا؟".
    "هل ستسمحون له بحمل الجنسية المصرية؟".
    "ألا تعتقد يا دكتور أن هذه هي أفضل طريقة للتطبيع والتكيف؟".
    ابتسامات. ضحك. قهقهة. تندر وتنكيت, رأى فيها سياطا تنهال عليه لتنتزعَ منه اعترافاتٍ لا يريد الإدلاء بها. وفي لحظة عابرة بين هجومين استردَّ توازنَه واقتنصَ المبادرة. هزَّ رأسه بشدة وحرك يديه بعنف. حدق بشراسة في وجه الصحفي الذي استدرجه إلى هذا المطب. وبلهجة قاسية تفوح بنزق حاقد..
    "بصراحة أنا غير مدرك للسر الكامن في الإحجام عن أجراء عمليات من هذا النوع في بلدنا, مع أن الإمكانات هناك أفضل بكثير". يبدأ بالانفعال وهو محاصر بهزات رؤوس مستهزئة وابتسامات ساخرة.. "لست أقدر على فهم الظروف والأسباب التي تدفع سيدةً محرومة من الأمومة إلى الدَّوْس على جراحها وآلامها تكريسا لما يجب أن نتخلَّصَ منه جميعا".
    يصمت بعد أن أحس لفرط انفعاله بانقطاع في نفسه. حاول السيطرة على أعصابه دون أن يسمح للحظة الصمت بأن تطول, فتفقده زمام المبادرة التي اقتنصها بصعوبة من وسط سيل السياط التي انهالت عليه تلسعه قبل قليل. كانت هذه اللحظة القصيرة جدا كافية وبجولة نظر سريعة, كي تجعله يكتشف أن حالة من البرود واللامبالاة كانت تستغرق الحاضرين جميعا وهم يستمعون إليه.
    تظاهر مع بدء جولة الحديث التالية بقدر من الشجاعة, حاول تأكيدها بمشروع ابتسامة. حرك سبابته نحو الأعلى لإبعاد أيِّ إيحاءات غير مرغوبة عما سيقوله. وبهدوء قنَّعَه غضبٌ مكبوت..
    "وبالمناسبة حتى السيدة التي اتصلت بي وزارتني وأجريت لها بعض الفحوصات الأولية هنا في مستشفى "الأرحام", كانت تلحُّ عليَّ كي أحضر في العطلة الصيفية لإجراء العملية لها في مصر. ولولا أنني أقنعتها بأن ظروفي لا تسمح, وبألا مفر من الحضور إليَّ إذا كانت مصرةَ على إجراء العملية في الصيف المقبل, لما قبلت أن تحضر. لقد كانت متلهفة جدا على إنجاب طفل كي تصبح أما. لذلك قبلت وعلى مضض زيارتي في بلدي".
    ... يتبع في الحلقة الثانية

    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  2. #2
    الحلقة الثانية من النص الكامل لرواية "الحليب والدم"


    December 2, 2013 at 7:13pm
    استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الثانية
    الفصل الثاني
    كان أفراد أسرة متولي يشربون الشاي ويتابعون برنامجا تلفزيونيا خاصا في صالة الاستقبال في شقة العائلة, عندما اقتربت الكاميرا كثيرا من وجه الدكتور "جولدي"، فكاد يغطي كاملَ الشاشة في اللحظة التي قال فيها.. "لذلك قبلت وعلى مضض زيارتي في بلدي".
    إحساس غامض بعلاقة ما تربط غموضا راح يقطر من وجه "جولدي", بلهفة سلوى على إنجاب طفل يحقق لها رغبتها في أن تصبح أما.
    لعل هذا ما جعل المخرج يقرِّبُ الصورة في تلك اللحظة بالذات. إنها علاقة غير مفهومة ربطت في إحساسه الرابض في أغواره البعيدة, بين إصرار التخفي وراء قسم "أبوقراط" ولهفة البراءة. علاقة قُدِّرَ لها أن تجمع الاثنين هناك في بلد لم يتعود المصريون على اعتبار الذهاب إليه أمرا عاديا.
    كان يجلس في الصالة التي ازدانت جدرانها بالصور لأفراد الأسرة وللرئيس جمال عبد الناصر, ولبعض الزعماء الوطنيين كسعد زغلول وأحمد عرابي, فضلا عن صورتين لكل من الرئيس أنور السادات والرئيس حسني مبارك، انخفضتا قليلا عن صورة جمال عبد الناصر، خمسة أشخاص.
    جمال هادىء حزين لأنثى ممشوقة القوام, بدأت للتو رحلة العقد الرابع, "سلوى".. وفي العشرين شقيقة مثقفة مفعمة بالحيوية، لا تشبهها كثيرا, "سعاد".. "متولي" الوالد, صحة جيدة تودع العقد السابع.. وزوجة في الستين، سمنة بدأت ترهق "سكينة".. أما "سعيد محمود" فقد جلس منفردا يراقب آلام زوجة ملهوفة على طفل وعدها بأنه سيهِلُّ قريبا, طبيب ليس كالأطباء.
    بدت علامات التَّشَكُّك على وجه سكينة. تنظر بتفحُّص إلى وجه "جولدي" الذي كان يغطي الشاشة بشكل قصد المخرج من ورائه إظهار تفاصيله المخفية إلا عن البصيرة. وتقول باستنكار..
    "أستغفر الله العظيم. هل يعقل أن يكون صاحب هذا الوجه مُسَخَّرا من الله ليبعث الحياة في الأرحام الميتة؟ هذا الوجه لو نظرت إليه امرأة حامل لأسقطت ما في بطنها, وانقطعت ذريتها إلى الأبد".
    سعاد تبتسم وتعقب بوداعة على رأي والدتها..
    "يا ماما هذا طبيب عبقري. والعبقرية في الدماغ وليست في الوجه. أخذ الله منه شيئا وأعطاه شيئا آخر, ربما أكثر من الذي أخذه".
    تصمت وسط صمت الجميع ومتابعتهم للبرنامج وعدم اهتمامهم بما قالته. تنتابها فجأة وهي تنظر إلى الشاشة نوبة ضحك خفيفة. ينتبه إليها الجميع. فتواصل..
    "هو صحيح دميم إلى درجة أن المرء لا يطيق النظر في وجهه. لكن حقيقة أنه مكتشف لطريقة جديدة وعجيبة في زراعة الأرحام, لا مراء ولا شك فيها. إنه باكتشافه هذا سيسعد نساء كثيرات, وهذا هو ما يهمنا في الموضوع".
    صمتٌ ونظرةٌ فاحصة منها إلى الشاشة. هزة رأسٍ وبصوت فيه بعض النفور.. "أعانك الله على تحمُّل هذا اللقاء أيتها المسكينة".
    سكينة تمط شفتيها, وتعلن إصرارها على موقفها.. "مهما قلت يا سعاد, المسألة مسألة نفس وإحساس. شكل هذا الإنسان لا يوحي بأيِّ خير يمكنه أن يأتي من قبله. هذا إحساسي وأنا أعبر عنه. هذا كل ما في الأمر".
    صمت في الصالة ومتابعة لوقائع اللقاء الصحفي, سكينة تقطع السكون مرة أخرى..
    "لست أدري كيف تستطيع أيُّ امرأة في العالم أن تسلمَ نفسها لهذا البوم كي يعبثَ بأهم منطقة في جسدها؟ كيف تستأمنه على ذلك؟ فعلا أنني لا أتصور كيف يحدث هذا!!".
    صمتٌ من جديد واستمرار في المتابعة. ثم بعد قليل, سكينة تنظر إلى ابنتها سلوى, وتبادرها بلهجةٍ تدل على عدم الرضا, كما أظهرت ذلك نبرات صوتها وحركات يديها.. "بصراحة يا سلوى أنا غير راضية عن سفرك لإجراء العملية هناك. انتظري عامين آخرين, وعندها يعود هذا البوم". تشير بيديها إلى جهاز التلفزيون, ثم تشيح بوجهها عنه بعد ذلك.. "استغفر الله العظيم. عندما يعود إلى مصر, فليجرها لك هنا. صبرت كثيرا تحملي عامين آخرين".
    متولي يتدخل بالتثنية على رأي زوجته. نبرة هادئة. لهجة تعبق استجداء حنونا واستعطافا وديعا..
    "وأنا يا سلوى يا ابنتي, رأيي أيضا مثل رأي والدتك. كثيرون سافروا إلى ذلك البلد وعادوا مليئين بالأمراض. ومنهم من عاد وقد سرقت منه بعض الأعضاء. أنا يا ابنتي أخاف من المستشفيات هناك. أرجو أن تعيدي النظر في الموضوع. أرجوك فكري من جديد".
    سعاد تحتج على كلام والديها, وتتعاطف مع رغبة شقيقتها سلوى التي كانت ما تزال تلتزم الصمت. توجه كلامَها إليهما وهي تشير بسبابتها حيث يجلسان متقاربين..
    "هذا النوع من العمليات ليس فيه ما تتخيلانه. ما تخشيانه ليس له وجود هنا. كلُّ شيء سيخضع لفحوصات دقيقة. لا خطر في سفرها يا بابا".
    متولي يسافر مع الصور التي غمرها بعينيه. تدثِّر وجهَه مسحة حزن وألم. تسحبه الذكريات إلى الماضي البعيد. يهز رأسه بأسى وهو ينظر إلى ابنته سعاد المتحمسة..
    "إن ما تقولينه يعني أن حالة وئام وصفاء ستسود. لكنني وبعيدا عن حيادك الغريب الذي لا أفهمه. ليس من السهل عليَّ أن أتقبل هذه الجيرة اللعينة. إنَّ حدودَ مخيلتي أضيق من أن أتصور أن الصفاء والوئام سيحلان يوما بيني وبين هؤلاء".
    يشير إلى الحائط بيد ترتجف. ينقِّل سبابته من بعيد بين صور شهداء العائلة.. "كيف أستطيع ذلك, وجدك مات برصاصهم في حرب فلسطين. وعمي سليمان عام 1956. وخالي المرسي في حرب 1967. وعمك يا سعاد, عمك عبد المقصود ألم يستشهد في حرب التحرير؟".
    يصمت قليلا. يبعد سبابته عن الحائط والصور. سعاد تنظر إلى أقاربها الشهداء. ثم يواصل وقد تفاقمت لديه مسحة الحزن التي دثرت وجهه..
    "ولست أريد تذكيرك يا ابنتي بمن مات من العائلة في الإسماعيلية وفي حرب الاستنزاف. يكفي أن يكون دم هؤلاء جميعا قد أريق برصاصهم كي ألفظ أيَّ محاولة تهدف إلى إقناعي بأن بحور الدم التي تفصلنا عنهم يمكنها أن تجف يوما، بشكل يجعلني محايدا في التعامل معهم على النحو الذي أراك فيه الآن".
    تحترم سعاد انفعالات أبيها ووالدتها التي بدأت تذرف الدموع. لم تستطع إخفاء تأثرها هي أيضا. لكنها مقتنعة بأن هذا الطوفان من الذكريات الأليمة وسيل الجراح شيء, وما هم بشأنه الآن شيء آخر مختلف. لذلك فقد أصرت على إبداء رأيها بهدوء جلَّلَ حديثها بالخشوع احتراما لذاكرة أبيها التي اختزنت آلام فقدان تلك الثلة المحببة من أفراد العائلة عبر مسيرة الجراح والدماء الطويلة..
    "بابا أرجو أن تفهمني. لا يقلل من شأن هؤلاء, ولا يعتبر استهتارا بدمائهم وبتضحياتهم, أن نحسن استثمار ما ضحوا من أجله بأرواحهم".
    تحرك رأسها بتأثر كي تكون أكثر إقناعا وحضورا في حديثها..
    "لست أدري لماذا نصر جميعا على المبالغة في أحاسيسنا الموروثة, وبالتالي في مواقفنا المبنية على هذا الإرث, في تعاملنا مع هؤلاء الناس, حقيقة أنا لست أدري".
    تنظر إلى أبيها الذي كان يصغي إليها وهو لم يتحرر بعد من ظلال الماضي, ومن ذكريات أوجاع استغرقته في تلك اللحظات. تلمس أوجاعه. ينتابها إحساس بأن حديثها قد يكون قاسيا في حق من تطفو أحزانه على السطح, وتضيق عيناه بدموعه حتى عند تذكر أحداث مرت عليها عشرات السنين. تشعر برغبة في التوقف عن إرواء ظمإٍ إلى الاسترسال في الحديث سيطر عليها. لكن الكلمات والأفكار كانت تتفلت من شفتيها ومن ذهنها بأسرع من آهات متولي ومن دموع سكينة.
    ... يتبع في الحلقة الثالثة

    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  3. #3
    الحلقة الثالثة من النص الكامل لرواية "الحليب والدم"


    December 2, 2013 at 7:14pm
    استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الثالثة
    الفصل الثاني
    حاولت "سعاد" الخروج من هذا الجو المشحون بالعواطف المثقلة تحت وطأة ذاكرة لم تنؤ هي بأحمالها كما ناء متولي. اقتحمت مخزون الآلام الرابض في ركن سحيق من ضمير عجوز ما يزال يحلم. حاولت تكسيره على صخرة واقع تراه، وحلم يتكون، رافضا الانطواء في أمس الألم، مسرعا خطاه نحو غد الإشراق (!!).
    واصلت حديثها بثقة، منتصرة على لحظات احتقان الضمير..
    "بابا, أرجوك أن تركز معي وأن تفهمني وأن تساعدني على فهم اللغة التي تسطرون بها مواقفكم وتكتبون بها أحاسيسكم. إني أراها كرموز الهيروغليفية صعبة علي. إذا كنت تريد مني أن أفهمك, وأن أتفهم هذه الهالة المهيبة من الحزن الجليل الذي يخضب مشاعرك كلما تذكرت الأمس, فلا تحدثني بلغة لا يفهمها سواك, وفي أحسن الحالات قلة ممن حفرت حروفها في قلوبهم. أرجوك بابا".
    متولي باندهاش..
    "ماذا تقصدين يا سعاد؟ هل أنا أتحدث باللغة الصينية؟".
    بحركات غلبت عليها إيحاءات التوضيح والشرح..
    "ليس هذا ما قصدته يا بابا. أنا أسأل عن لغة المواقف والمفاهيم. خذ عندك مثلا بريطانيا.. بريطانيا احتلت مصر سبعين عاما, وقتلت منا ربما بقدر ما قتلوا هم أو أكثر. لقد عاثت في بلادنا فسادا قرابة قرن كامل, وكانت تعبث طوال هذه المدة بأدق تفاصيل حياتنا. هؤلاء على الأقل يتعاملون معنا من خارج أسوارنا. نحن نسيطر على بيتنا في مواجهتهم سيطرة حقيقية. الوضع مع بريطانيا كان يختلف. يختلف بالكامل. فلماذا لم يكن للسبعين عاما ولكل ما فعلوه بنا خلالها هذا الأثر في نفوسنا؟ لماذا نرسل بالبعثات الدراسية إلى هناك, وتزدهر بيننا وبينهم معالم التبادل الثقافي؟ لماذا نذهب إليهم ويأتون إلينا ونفخر بكل ذلك؟ أليس خريج جامعات بريطانيا شخصا يفتخر بذلك, ونسلم له بحق هذا الافتخار؟ لماذا؟ ما الفرق من حيث المبدأ؟ ألم يكن البريطانيون أكثر إيذاء لنا وأكثر ضررا بنا؟ ومع ذلك فإن علاقتنا معهم طبيعية. طبيعية جدا".
    تنقل نظراتها بين الجميع, تستدرج ردات أفعالهم. لم تكن تود أن تكتشف فجأة أنها في واد وأنهم في واد أخر. سيطرت عليها رغبة عارمة في أن تفيض بقناعتها. قررت بينها وبين نفسها أن تكون مقنعة وغير مفاجئة, حاولت ذلك بنظراتها. لاحظت إصغاء والدها ومتابعته. اطمأنت بعض الشيء وواصلت حديثها..
    "ربما تريد أن تقول لي يا بابا أن بريطانيا لم تكن استيطانا. لا بأس. لكن المسألة لا تختلف. حقيقة لا تختلف. ما الفرق بين احتلال استيطاني وأخر غير استيطاني, إذا كانت معاناتي من الاثنين واحدة؟ ما الفرق بينهما إذا كان تواجد الاثنين في بلدي آل إلى نتيجة واحدة؟ ألم يغادروا جميعا مصر؟".
    بدأت تتحدث بانفعال الواثق من نفسه عندما تأكدت من مستوى الإصغاء المرتفع الذي غلف وجوه الجميع، لكنها بقيت مع ذلك مرعوبة من أن تكون جرعة التخاذل في حديثها كبيرة، وراحت تلتقط الأمثلة من هنا وهناك واسترسلت تقول..
    "ومع ذلك فالجزائر مثال واضح. ألم تكن فرنسا احتلالا استيطانيا بشعا فيها, ولمدة اقتربت من قرن ونصف القرن؟ لقد كانت مسافة زمنية طويلة امتلأت بالقهر والمسخ والدماء.. لو أحصينا عدد الذين قتلوا من الشعب الجزائري لغاية تحقيق الاستقلال، لكونا منهم دولة وشعبا كبيرا جدا.. ومع ذلك فليس هذا الإرث المرير هو ما يحكم الآن علاقة فرنسا بالجزائر, أو علاقة الفرنسيين بالجزائريين".
    تصمت لحظة تستحضر فيها بعض الأفكار والأمثلة لاستكمال حديثها. ثم تعود لتسترسل وقد سيطرت عليها حركات ظفر وفوز..
    "أمريكا دمرت فيتنام. فرنسا وبريطانيا أحرقتا إفريقيا واستنزفتاها مئات السنين. مناطق كثيرة من العالم لم يغادرها الإسبان والبرتغاليون بعد قرون من الاحتلال إلا منذ عهود قريبة جدا. ومع ذلك فعلاقات ما بعد الاحتلال اختلفت. حتى بيننا وبين من احتلونا قبل هؤلاء. فلماذا نحن بالذات ولماذا علاقاتنا مع هؤلاء بالذات، يجب أن تبقى كما هي مرفوضة ومنبوذة؟ لماذا؟ أنا لا أعرف السبب. أرجو أن توضح لي السبب إذا كان هناك سبب لا أعرفه يا بابا. أرجوك".
    تخف عن متولي حدة التأثر والانفعال اللذين دفعتهما إلى وجهه ذاكرة مثقلة لم تكن في نظر سعاد أكثر من ريشة في مهب ريح التغيرات التي تجتاح العالم. وبهدوء حاول من خلاله أن يكون مقنعا مع أن قسمات وجهه لم تخف حقيقة أنه بدأ يهتز أمام منطق سعاد الذي أحس بأنه كان قويا بالفعل..
    "يا سعاد يا حبيبتي لا تنسي أن كل الأمثلة التي ذكرتها أصبحت تاريخا. أما هؤلاء فما يزالون واقعا. طالبيني بأن أتعامل معهم كتعاملي مع بريطانيا وفرنسا عندما يصبحون في حياتي كما هي بريطانيا أو كما هي فرنسا الآن. إنهم ما زالوا يحتلون أرضي. هل تفهمين؟ كيف تريدين من علاقاتي معهم أن تكون طبيعية, ومن إحساسي تجاههم أن يكون عاديا, وأن أنسى كل صراعاتي معهم؟ كيف؟"..
    تستغل سعاد الوضع وتقول..
    "بابا أنا أفهمك جيدا. لكن ما تقوله ليس حجة ولا يبرر هذه المواقف. الفلسطينيون أنفسهم حسموا الموضوع, وقرروا أن الصراع قد وصل إلى نهاياته. ها هم يجلسون ويتحدثون ويتصافحون. قد ينتهي الموضوع قريبا. حتما سينتهي. لا أظن أن موت عمي في حرب التحرير سيكون حجة كي أصبح فلسطينية أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. إذا كان رأس الحربة قرر ألا يكون حادا. هل يمكن لجسمها أن يكون كذلك؟".
    تشير بإحدى يديها إلى صور الشهداء وهي تحدق أثناء الحديث في وجه أبيها..
    "بابا مهما كان حبنا لهؤلاء كبيرا وعظيما, فلن يكون أعظم من حب الجزائريين لمليون شهيد قضوا في حرب التحرير ضد فرنسا. ولن يكونوا أعز علينا من عشرين مليون روسي على الشعب الروسي قضوا في حرب التحرير ضد ألمانيا النازية. في كل بيت جزائري وفي كل بيت روسي وفي كل بيت بولندي يوجد جدار مزين بصور كهذه. ويوجد متولي يختزن آلاما كآلامك. ومع ذلك فانظر كيف يتعامل الناس مع بعضهم. مراحل ما بعد الصراع تختلف في كل شيء عن مراحل الصراع. لماذا نحاول أن نعيش في وهم أننا أكثر من ضحى وأكثر من عانى في مواجهة هؤلاء؟ هذا غير صحيح. كل ما في الموضوع, قطعة أرض احتلوها واستعدناها. وقطعة أخرى سنستعيدها قريبا. وقطعة ثالثة قبل أصحابها لأسباب كثيرة، قُوَّتُها كقوة القدر والقانون تقاسمها معهم. لماذا نصرُّ إذن على أن نعيش الصراع بطرق أخرى حتى بعد انتهاء شكله المسلح؟ لماذا؟".
    متولي بعد نظرة استغاثة واستجداء لم تسفر عن نتيجة.. "ذلك لأنهم لا يريدون إنهاء الصراع. إنهم مستمرون فيه بأشكال مختلفة. كيف يمكننا نسيان هذه الحقيقة يا سعاد؟ كيف يا ابنتي؟".
    سعاد بنبرة من شعر باقتراب وضع خصمه في خانة الاستسلام ورفع الراية البيضاء..
    "هذا جميل. مع أنني لست أرى لغاية اللحظة أشكالا أخرى للصراع كما تقول يا بابا. إلا أن هذا الكلام منك يعني أنك على استعداد لتقبلهم إذا أنهوا كافة أشكال صراعهم معنا؟ أليس كذلك؟".
    متولي يشعر بالحرج والارتباك كمن وقع في مصيدة. لكن نسمة من الأمل تغمره، فيتشجع ويقول.." لست أدري. ليس لي تصور محدد في هذا الموضوع. كل ما يسيطر علي من مشاعر وقناعات, أن هؤلاء الناس لن يكونوا في علاقاتهم بنا بشرا في يوم من الأيام. سيحاولون قتلنا بكل الطرق".
    يصمت قليلا, وتصغي إليه سعاد التي انتظرت منه أن يكمل حديثه. تقدح في ذهنه فكرة ظن أنها قد تخرجه من الفخ الذي نصبته ابنته لمخزون قناعاته ومشاعره الذي لم يكن على استعداد لأن يمسه بأيِّ تغيير..
    "نعم, إذا انتهت كل صراعاتهم معنا ينتهي الموضوع. بما أنهم احتلوا أرضنا فالحل أن يغادروها. وإلا فإنهم مصممون على استمرار الصراع. وفي هذه الحالة فمن حقي ألا أكون طبيعيا في علاقاتي معهم. اتفقنا يا سعاد؟".
    سعاد بضجر.."ولكنهم غادروا أرضنا يا بابا".
    متولي.."فلسطين ما زالت محتلة وما زالوا فيها ولا يريدون مغادرتها.. ولا أظنهم سيغادرونها بدون صراع. إذن ستبقى علاقاتنا معهم إلى الأبد على هذا النحو, أو يغادروا".
    سعاد.."ولكننا اتفقنا على أن فلسطين تم الاتفاق على تقاسمها معهم من قبل أصحاب الشأن".
    متولي.."هذا لا يغير الحقيقة.. لماذا تُفرض على أصحاب الشأن الآن حلول تمثل تركة ثقيلة قد يرفضها أصحاب الشأن غدا؟".
    سعاد.."عندما يرفض أصحاب الشأن غدا هذه التركة سيعود الصراع وحده حتى لو تخليت عنه أنت يا بابا".
    متولي.. "هذا إقرار منك إذن بأن المسألة ستبقى عالقة. والمسائل المعلقة هي دوما مسائل غير طبيعية. يختلف حولها الناس في كل شيء. وخلافي معك الآن هو مظهر من مظاهر اللاطبيعية في مسألة عالقة.. هل تفهمين يا عزيزتي؟".
    ... يتبع في الحلقة الرابعة

    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  4. #4
    الحلقة الرابعة من النص الكامل لرواية "الحليب والدم"


    December 2, 2013 at 9:44pm
    استجابة لطلبٍ من عديدِ الأصدقاء أنشر على حلقات
    النص الكامل لرواية
    الحليب والدم
    نشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرة
    الحلقة الرابعة
    الفصل الثاني
    ترتبك سعاد. لا تحضرها أفكار أو إجابات سريعة. تمط شفتيها وتتأفف بغيظ. لا ينقذها سوى سعيد الذي تدخل بعد صمت طويل, فلفت انتباه جميع الحاضرين عندما قال..
    "يا عمي الوضع في فلسطين مختلف. مختلف تماما. ليس من الزاوية التي تكلمت عنها سعاد فقط. ليس لأن الفلسطينيين قبلوا التعايش معهم واقتسام الأرض. لا. اختلاف الوضع في فلسطين كما أراه, يمكن في أن أكثر من نصفهم هناك عرب. أقصد من أصل عربي. وبالتالي سواء كانوا في فلسطين أو في مصر أو في اليمن أو في المغرب أو في سوريا, فهم من حيث المبدأ في وطنهم. ولقد كانوا بالفعل هناك قبل أن يذهبوا إلى فلسطين".
    يلاحظ ملامح اندهاش تفاقم على وجه متولي, فيقرر الإسراع في الوصول إلى لب الموضوع مستبقا تفاقم انفعالات العجوز قبل أوانها..
    "إذن فالمشكلة كما أراها أنا يا عمي ليست في وجودهم في فلسطين, بل في شكل هذا الوجود. فإذا تغير شكل هذا الوجود ولم يعد عدوانيا ولا ظالما, فلا توجد هناك مشكلة أصلا. والموقف منهم في فلسطين في هذه الحالة هو كالموقف من أيِّ مجموعة عربية في أيِّ بقعة عربية تفعل ما يفعلونه في فلسطين. هل تفهمني يا عمي؟".
    متولي يقطب جبينه استغرابا..
    "ما هذا الذي تقوله يا سعيد؟ لم نسمع من قبل أحدا فلسف الموضوع كما تفلسفه أنت الآن. ما تقوله خطير. هل تعني أنهم ليسوا احتلالا؟ ما هذا؟ لا. لا. هذه هلوسة. أكيد أن التعبير هو الذي خانك وأنت تتحدث يا سعيد يا ولدي. أليس كذلك؟".
    سعيد يهز رأسه نافيا بشدة بعدما أزعجه هذا الأسلوب الوصائي في التعامل مع رأيه..
    "لا يا عمي. أنا لم يخني التعبير. وفي الوقت نفسه أنا لم أقل أنهم ليسوا احتلالا، ولم أعني ذلك. لست أدري كيف وصل إلى خلدك هذا المعنى. إنهم احتلال واحتلال بغيض, بغيض جدا. لكن الاحتلال هو شكل الوجود وليس الوجود ذاته. هذا ما أرجو أن تفهمه يا عمي".
    متولي منفعلا، وناظرا إلى فتحي من جديد نظرة كلها عتاب..
    "ما هذا التخريف؟ أتريد أن تستغل علمك وتتلاعب بالألفاظ معي يا سعيد؟ ما هذا؟ الوجود.. شكل الوجود.. كله شكل لحالة واحدة هي الاحتلال. إنهم احتلال وأنت لم تنكر ذلك, فلماذا هذا التكلف ولي المفاهيم؟".
    سعيد بشيء من الغيظ بدأ يسيطر عليه..
    "أنا مُصِرٌّ يا عمي على التفريق بين الوجود وشكل الوجود. هناك في الولايات المتحدة الآن. أقصد يعيش فيها الآن, خمسة ملايين عربي، وستة ملايين هندي، وعشرة ملايين من جنوب شرق آسيا، وأكثر من ثلاثين مليون مكسيكي، وعشرين مليون من أصل إفريقي. فهل هؤلاء يحتلون أمريكا؟ هل هم احتلال لها؟ أجبني يا عمي".
    متولي.. "طبعا هم ليسوا احتلالا".
    سعيد.. "لسبب بسيط هو أن شكل وجودهم ليس متطابقا مع معاني الاحتلال. ولو تطابق شكل وجود واحد في المئة منهم فقط مع معاني الاحتلال لكان احتلالا".
    متولي.. "أنت تهذي وتضرب أمثلة من الشرق والغرب لإثبات فكرة مجنونة لا توجد إلا في دماغك".
    سعيد متظاهرا بالصبر.. "سأوضح لك المسألة أكثر يا عمي".
    متولي بتذمر مبطن.. "تفضل وضح. دعنا نرى ما لدى هذا الجيل من تخاريف لم يسبق أن سمعنا بها".
    سعيد بحذر وتركيز.. "لو افترضنا أن سكان "سوهاج" هاجروا إلى "أسيوط", ومارسوا فيها نفس ما يمارسه هؤلاء في فلسطين. كيف سيكون موقف المصريين من السوهاجيين الذين هم بعض المصريين؟.. هل تفهمني يا عمي؟.. لقد فهمتني بالتأكيد".
    متولي ينظر بخوف إلى سعيد الذي انشغل لحظةً باستحضار فكرة. يلاحظ سعيد ذهول وتركيز عمه. يتجاهل ذلك محاولا التظاهر بأنه أقوى مما يتوقع الجميع، ويواصل حديثه..
    "تصور الآن يا عمي لو أن السوهاجيين سيطروا على أسيوط واقتصادها ومرافقها بطرق مشروعة. هل يستطيع أن يمنعهم أحد؟ إنهم مصريون ويحق لهم أن يعيشوا ويمارسوا حياتهم في أيِّ مكان في مصر. وكذلك أكثر من نصف هؤلاء في فلسطين. إنهم كالسوهاجيين في هذا المثال".
    متولي يحرك رأسه حركات قلقة. تظهر على وجهه قسمات تشي باهتزاز داخلي عميق, يريد التخلص من وطأته ولو بالكذب على نفسه وخداعها. فيلجأ إلى أفكار مريحة كي تخفف عنه عبء المعرفة الجديدة التي صدمه بها جنون سعيد, والتي ليس من السهل أن يطيق مجرد سماعها ذهن تعود على لونين وحيدين في هذه العلاقة..
    "حتى لو افترضنا أن كلامك صحيح, مع أن هذا بحاجة إلى نقاش طويل، وأنا لم أسلم به بعد. فهناك النصف الآخر الذي ليس عربيا. هذا النصف على الأقل عبارة عن محتل, ويجب أن يغادر الأرض أولا قبل أن تطالبني بتغيير موقفي منه, أو بجعل علاقتي معه كعلاقتي مع الإنجليز والفرنسيين".
    سعيد بعد أن لمس أن الاهتزاز الداخلي لدى حماه قد بدأ يقلص مساحات الرفض في أعماقه, يواصل بحذر دعاه إليه علمه باستحالة القفز على مخزون متوارث, بذرته في النفوس عقود مريرة من النظر أحاديه الزاويه إلى هذا الصراع..
    "إذا كانت مشكلتنا النفسية مع نصفهم العربي قد حُلَّت بمطالبتهم بتغيير شكل تواجدهم وذلك بأن يصبحوا كالسوهاجيين في أسيوط. فلماذا لا يكون حلُّ مشكلتنا مع نصفهم غير العربي قائما على المنطق نفسه؟".
    متولي بانفعال شديد كمن لا يريد أن يفقدَ آخر ما لديه من أسلحة.. "لا يا سعيد يا ولدي. لا وألف لا. إذا كنت مطالبا بأن أعتبر العربي منهم في وطنه وأقبله على هذا الأساس تجاوزا. فلست مضطرا تحت أيِّ ظرف لقبول غير العربي. هذا الوافد الغازي له وطنه فليذهب إليه".
    سعيد.. "لا يا عمي. أن هناك نقطة هامة أنت لم تنتبه إليها".
    متولي خائفا حذرا, محاولا الدفاع عن آخر حصونه النفسية التي راحت تتداعى وتتهاوى أمام قذائف منطق جيل لم يعد يحلم أحلامه.. "ما هي يا سعيد؟".
    سعيد بهدوء مغلَّف بالخوف الذي ما يزال يسيطر عليه جراء توقعه انفجارا مفاجئا..
    "إن نصفهم غير العربي ينطبق على معظمه طابع المواطنة لفلسطين. يعني أن معظم هذا النصف ولد في فلسطين. ولا يعرف سوى فلسطين أرضا ووطنا. وبالتالي فليس من حق أحد حرمانه من أن يكون ابنا شرعيا لتلك الأرض. ليس من العدل تحميلهم أوزار آبائهم وأجدادهم.. تماما كالإغريق والإيطاليين في مصر. هم أبناء بلد. ولا يحق لنا طردهم حتى لو كان آباؤهم قد جاءوا غزاة محتلين".
    تعتري متولي نوبة نزق مفاجئة, حاول أن يغطي بها على الخوف الذي راح يسري في أوصاله جراء شعوره بأن مخزون أحاسيسه الذي أنعش حياته عقودا، يتفلت من أعماقه هاربا إلى البعيد, يقول هازئا..
    "معنى كلامك يا سيد سعيد, أنه لا توجد هناك مشكلة, وأن صراعنا معهم كل هذه العقود كان كلاما فارغا بلا معنى. وأن كل شهدائنا ذهبوا هدرا وبلا ثمن. ولا يتحملون هم مسؤولية دمائهم بقدر ما يتحملها الحالمون الخرفون أمثالي؟ هاه. هل هذا ما تعنيه يا سيد سعيد؟ هل هذا ما يرضيك؟ هل هذه هي قناعات جيلكم؟ هل هذه هي قواعد أحلامكم العتيدة التي ستبحثون لأنفسكم من خلالها على مواقع راسخة في غد البشرية؟".
    سعيد يقول بغضب بعد شعوره بأن حماه يحاول إغراقه بسيل من الاستنتاجات الخاطئة..
    "لا. هذا ليس صحيحا. أنت مخطىء يا عمي في كل استنتاجاتك. أنا لم أقل ذلك وما كان لك أن تفهم من كلامي ما تقوله الآن. نحن قاتلناهم وكنا أصحاب حق ونحن نقاتلهم. لكننا قاتلنا فيهم شكل تواجدهم. قاتلنا فيهم العدوان. نحن لم نقاتلهم لأنهم سكنوا جزءا من أرضنا. بل قاتلناهم كمعتدين, غزاة, ظلمة, مستغلين. إن هذا البعد فيهم هو الذي نحاول أزالته منهم بمقاتلتهم. وإذا زال هذا البعد عن شكل تواجدهم, زال عنهم ما يجعلنا نقاتلهم أو نعاملهم بالصورة التي تصر يا عمي على البقاء متمسكا بها".
    يزداد انفعالا ويسترسل في تدفقه، ومتولي والباقون يتابعونه باهتمام..
    "إننا في زمن تكاد الأرض تفقد قيمتها في التعبير عن الهوية. إننا في زمن تتسابق فيه الدول المتحضرة الواثقة بنفسها وبقيمها على منح جنسيتها لمن يولدون على طائرتها وفي سفنها. ناهيك عمن يولدون أو يقيمون فوق أراضها. ونحن الثلاث مائة مليون إنسان ذوي الحضارة التي نتشدق ليل نهار بأنها خالدة وعريقة، لم نستطع أن نقنع أنفسنا بالتعايش مع خمسة ملايين معوَّق. ونخشى على تاريخنا من أن تغزوه هذه الإعاقات. إن هذا الرفض يا عمي ليس قوة تمسك بالحقوق, بل هو ضعف عن مواجهتهم في مجال غير مجال القتال، مع أنهم لا يملكون غيره, وإذا واجهونا في أيِّ ساحة غير ساحات القتال يفترض أن يُهزموا. أنتم يا عمي لا تتمسكون بحلم, بل تختبئون وراءه لتداروا ضعفا من نوع آخر بعد أن أثبت صراع العقود السابقة أنكم ضعاف في ساحات القتال أيضا".
    متولي وقد بدأ جسده يرتجف..
    "يا بني, لا تحرق أعصابي ولا ترهق عقلي, ولا تعتدي بدون رحمة على تاريخ طويل من مشاعري وأحاسيسي. إنني لا أفهمك. كيف تريد مني أن أفصل بين وجودهم في أرضي وبين عدوانيتهم. إن مجرد وجودهم في هذه الأرض هو أعتى أنواع العدوان. كيف يكونون في الأرض التي أخذوها مني عنوة وبقتل الآلاف بأخس أنواع الغدر والهمجية, ويمكنهم أن يكونوا مع ذلك غير معتدين؟ كيف؟ أينا المجنون. أنا أم أنت؟ إذا كان هؤلاء الأبناء, أبرياء من جريمة آبائهم كما تقول، فلماذا لا يتخلون عن الحلم المجرم لهؤلاء الآباء؟ لماذا لا يسارعون إلى حل المشكلات العالقة تكفيرا عن جرائم الغزاة الذين منحوهم بالغزو حق المواطنة في أرضنا؟".
    ... يتبع في الحلقة الخامسة

    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  5. #5
    مجهود رائع أخي الأستاذ أسامة , وبارك الله بك , ونفعنا من أفكارك المعروفة بالعمق , لك الشكر .

  6. #6
    سلمت يداك والف شكر لنشرها في الفرسان
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  7. #7
    قراءتك أسعدتني اهلا اخي غالب ولك الشكر.
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  8. #8
    ما شاء الله , كل التحايا لك على ما تبذله من خير , شكراً أستاذ أسامة

  9. #9
    اهلا وسهلا بك:
    النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة الثامنةالفصل الثالثشنشلي يداعب لحيته. يحدق بعينيه في المجهول ويهز رأسه. ويكشر عن أنياب كأنياب الذئب. ويقول بسعادة غامرة.. "يعني أن الشريحة ستقتل حوالي خمسة ملايين نسمة".شيريكوف.. "وستحول القاهرة إلى دمار. أطلال. لكن بدون كوكب الشرق كي تغني على أطلالها. مقبرة جماعية ليس لها مثيل في التاريخ. ولا حتى أعظم الزلازل تفعل عُشر ذلك. سندفن السبعة آلاف سنة التي أقرفونا بها. سننحر "أبو الهول", سينتهي كلُّ شيء. حتى الفراعنة في أهراماتهم سيضجون".شنشلي.. "هذا رائع. ولكن قل لي يا شيريكوف. ألن يؤثر هذا الانفجار المهول على الدول المجاورة لمصر؟"."المدى المتأثر بالانفجار والعصف الذري والحريق والإشعاع وخلافه, دائرة قطرها مائة كيلو متر فقط. إذا أخذنا في الاعتبار أن مكان حدوث الانفجار هو مركز هذه الدائرة". ثم يحاول أن يوضح بضرب القاهرة مثلا.. "هذا يعني أن الانفجار لو حصل مثلا, في وسط القاهرة, ميدان التحرير. رمسيس. قرب مبنى التلفزيون. العتبة. شبرا. فإن القاهرة ستمحى عن الخريطة, وسيتوقف النيل عن الجريان بسبب اكتظاظه بجثث الموتى وكل ذلك سيحدث خلال أقل من خمس دقائق".شنشلي يبتسم. ينظر إلى شيريكوف بسعادة. يستخدم يديه في التعبير ويقول.. "إن هذا أعظم أمل لي في الحياة. لم أستطع أن أتحرر يوما من هذا الحلم. إنه يراودني في كلِّ ساعة. سنحقق إرادة الرب قريبا. كم أتمنى أن أرى هذا البلد يحترق بمن فيه".تسود لحظة صمت. الكل يفكر فيما قاله شيريكوف الذي انشغل بالبحث عن ورقة أخرى داخل الحقيبة. يجدها فيقطع عليهم تأملاتهم الشيطانية. يلوح بها في وجوههم وقد سيطرت عليه نوبة من السعادة الغريبة الأشبه بالهستيريا, كأن في الورقة أمرا خطيرا وعظيما.ً. "إن أروع ما تم التوصل إليه من تطوير في المفاعل هو طريقة التفجير السهلة لهذه الشرائح. إن أيَّ شريحة تبدأ بالانفجار الانشطاري المتسلسل بمجرد رفع حرارتها إلى درجة ألف مئوية".شنشلي باستغراب وقلق.. "وكيف يمكننا رفع حرارتها إلى الدرجة ألف مئوية؟ إن هذه الدرجة مرتفعة جدا. إن هذا يعود بنا إلى ضرورة وجود منشآت خاصة لهذا الغرض. أليس كذلك شيريكوف؟ أم أن هناك حلا؟"."لا يا سيد شنشلي. إن الأمر بسيط, لا يحتاج إلى منشأة كما تتصور. هم في المفاعل قد توصلوا الآن إلى أساليب سهلة جدا لتحقيق ذلك. لكن هذه الأساليب لا تزال كما ذكرت لكم قبل قليل تحت التجريب. كما أنها لن تكون متاحة لنا بسهولة بعد ثبوت صلاحيتها خلال الأشهر القادمة".شنشلي مقاطعا بنزق.. "وإذن ما العمل؟ ما هي فائدة هذه الشرائح, إذا لم نمتلك وسيلة تفجيرها هناك؟ شيريكوف إن أخبارك لغاية الآن تبعث على الإحباط"."أرجوك سيد شنشلي لا تستعجل ودعني أشرح. الأمر فعلا بسيط".شنشلي بانفعال.. "إذا كان الأمر بسيطا كما تقول، فلماذا يطورون وسائل التفجير؟!".. شيريكوف بحركات معبرة.. لأنهم يريدون التوصل إلى أبسط صورة ممكنة لإحداث التفجير.. ثم يبتسم ويحاول تهدئة شنشلي قائلا.. "ما تؤكده التجارب, أنه يمكننا إحداث التفجير بدون اللجوء إلى وسائلهم التي طوروها, وبدون الحاجة إلى منشآت ضخمة في الوقت نفسه, كما تتخيل سيد شنشلي".شنشلي وقد بدأت أساريره تنفرج وانفعالات الغضب لديه تخف.. "وكيف يمكن أن يتم ذلك؟"."الوصول إلى حرارة بدرجة ألف مئوية يتم بعد مرور ثانيتين على انفجار كمية مقدارها ألف كيلو غرام من مادة (التي. إن. تي), في مكان مغلق لا يزيد حجمه على مائة متر مكعب. فإذا وجدت شرائح البلوتونيوم المغذاة في هذه الدرجة, فإنها ستبدأ بالانشطار المتسلسل تحت تأثير هذه الدرجة من الحرارة محدثة الانفجار ثم الدمار, وهو المطلوب".شنشلي.. "هل أنت متأكد من دقة هذه المعلومات شيريكوف؟ هل هذا ما تقوله التجارب. أم هو تحليلك الشخصي؟".شيريكوف مستغربا منزعجا.. "مذا تقصد بتحليلي الشخصي سيد شنشلي؟ أنا لست عالما ذريا. كل ما ذكرته لكم هو ما شرحه لي المهندس المختص العامل في هذا المشروع منذ سنوات". يشير إلى الأوراق وإلى حقيبة السامسونايت.. "وكل شيء مكتوب ومدون في هذه الوثائق والمستندات".شنشلي يهز رأسه بسعادة, ويلوح بإحدى قبضتيه.. "هذا رائع. هذا عظيم. ليس من الصعب على جماعتنا في مصر تجهيز هذه الكمية من (التي. إن. تي). الأمر ليس سهلا على كل حال, لكنه يدخل ضمن الإمكان ويحتاج إلى وقت وترتيب فقط"."ليس هذا كل ما في الأمر سيد شنشلي"."ماذا هناك أيضا شيريكوف؟"."الشريحة الجديدة مصنعة بطريقة تعمل معها عمل المسرع الذري الذي يقوم عادة بقذف نواة الذرة بجسيمات نووية لتفجيرها. يعني أن الشريحة يمكنها أن تنفجر من تلقاء نفسها ضمن ظروف خاصة".جوناثان يتدخل بخوف وذعر.. "ماذا تقصد بأنها قد تنفجر من تلقاء نفسها شيريكوف؟ هذا أمر لا يبعث على الاطمئنان".شيريكوف.. إذا لم تتعرض الشريحة للحرارة المطلوبة فإنها ستستمر في الإشعاع لتخفيف الحمل عن النواة المركزية فيها. وعندما يصل هذا الحمل إلى أقل درجة ممكنة. وذلك وفق وقت محسوب بالثانية, ينطلق من النواة المركزية هذه, الجسيم الذي سيكون بمثابة بوابة الانفجار. يعني أن الألف درجة مئوية تقوم باستعجال الأمر فقط. وهناك مدة زمنية محددة بالثانية لكل شريحة كي تنفجر تلقائيا، هي خمس سنوات كاملة. يعني بالضبط. بالضبط". ينظر إلى الورقة التي كان يمسكها بإحدى يديه باحثا عن شيء ما, ثم يقرأ.. "نعم, أنه هنا. يعني بالضبط, 157,788,000 ثانية".توم.. "معنى ذلك أن هذه الشرائح كلما مر عليها الوقت دون أن تنفجر بالحرارة كلما اقتربت من لحظة الانفجار التلقائي".شنشلي.. "وهل لمسألة الانفجار التلقائي هذه تأثير على عمليتنا؟".جولدي ينطق قبل شيريكوف بعد صمت طويل فيحدق فيه الجميع.. "طبعا يا سيد شنشلي لها تأثير كبير. ما قاله شيريكوف يعني أنه إذا ضاعت منا شرائح البلوتونيوم أثناء نقلها إلى القاهرة. فعلينا أن نتوقع انفجارا ذريا مدمرا في مكان ما من العالم بعد خمس سنوات. ولا أحد يستطيع أن يؤكد أن هذا الانفجار لن يكون تحت أقدامنا".للوهلة الأولى, ضحك الجميع مندهشين من مداخلة جولدي التي اقتحمت الحديث كقطعة زمبركية مضغوطة أنفلتت من عقال الضغط. ثم راحت تسيطر عليهم تدريجيا حالة من التفكير الجاد. ينظرون إليه. ثم يتبادلون فيما بينهم نظرات خوف, بعد إدراكهم لأبعاد ما قاله. شنشلي كان أول المعلقين على خطورة الملاحظة التي أبداها الدكتور. ينظر إلى النافذة بشرود, ويقول برعب بدا على قسمات وجهه المسافر إلى المجهول أثناء الحديث.. "فعلا هذا موضوع خطير, ولابد من أخذ الحيطة الكافية. إن هذه الحقيقة تجعل الخوف من ضياع الشرائح أكبر من الخوف من انكشافها. والتفكير في ايصالها ونقلها أهم من التفكير في إخفائها. ما هذا الانقلاب الملعون في مستويات الأهمية؟ من يدري؟ بالفعل إذا لم نتمكن من تنفيذ التفجير بسبب ضياع الشرائح, فمن الممكن أن تنفجر في مكان لا نريدها أن تنفجر فيه. هذا مخيف. إنه احتمال مهول. مرعب. يا آآآه".يصمت مطرقا مفكرا, ومثله يفعل الباقون. أرعبهم وجود احتمال ولو ضئيل لأن يكونوا وقودا لنار يخططون لإشعالها في القاهرة. التفكير أخذ شنشلي بعيدا. عشرات الأسئلة انهالت على دماغه من دماغه. حديثه مع نفسه أخذ طابع التحقيق المخيف الذي تكشفت خلاله حقائق لم تكن واضحة بالنسبة لأيٍّ منهم وهم منتشون كالسكارى برائحة الدم على ضفاف النيل."بهذا الاختراع الخطير سنعيش مرعوبين طوال حياتنا". حقيقة دامغة ألحت عليه, وإحساس هيمن على مجريات تفكيره.. "سواء فجرنا القاهرة أو لم نفجرها, سنبقى خائفين. وكيف لا واحتمال ضياع ولو شريحة واحدة من المفاعل يبقى قائما؟ إنها قد تختفي فجأة في مكان ما تحت أقدامنا. يا للهول. هذا فظيع. هل هذا الخوف الذي يجب أن نعيش فيه هو ضريبة علينا أن ندفعها ثمنا لمجرد علمنا بحيازتنا لاختراع من هذا النوع؟".يرتعش. ينتفض. يجحظ بعينيه كأنما رأى خيالات مستقبل مرعب أحدثته أخطاء بسيطة أو صراعات من نوع معين.. "ماذا لو تمكن أحدهم في خضم حرب الجوسسة أن يعلم بالأمر أو أن يحصل على شريحة؟ لا.. لا.. هذا فظيع. سيكون مستعدا لأن يدفع ثروات فلكية ثمنا لها. لأنه بامتلاكها إِنْ لم يبدنا فسيفرغ هذه الأرض من سكانها. طبعا. ومن سيقبل البقاء ليضحي بحياته من أجل كذبة. من أجل محرقة جديدة؟".يتلقف وجهه بيديه. تتعمق الأخاديد السوداء في لوح الصبار.. "هل اكتشفتم هذا السلاح وطورتموه أيها الأوغاد كي نسعد باستخدامه ضدهم, أم كي نشقى بالخوف من إمكان استخدام الآخرين له ضدنا؟". يحرك رأسه بين كفيه, والجميع صامتون منشغلون بالتفكير, ربما في نفس ما يفكر فيه شنشلي.. "ما هو مستوى الأمن والحذر المطلوبين كي نأمن على أنفسنا من مخاطر هذا السلاح الرهيب؟".يلتفت إلى الجالسين فيجدهم منشغلين بشرودهم المخيف في عوالمهم الخاصة.. "ولماذا طورتم عشرين شريحة بالتحديد؟ لا أقل ولا أكثر. لماذا؟". ينتفض بشدة عندما داعبت مخيلته السوداء معان ممكنة لهذا الرقم. تظهر على وجهه علامات انفراج تستحضر سعادة راحت تخفف من حدة احتقانه وتوتره.. "أنكم تفكرون مثلما نفكر.هذا رائع. الحلم ما يزال واحدا أيها الأوغاد. إننا إذن لا نعرقل سياستكم, بل نحن نعمل ضمن خطتكم العامة".... يتبع في الحلقة التاسعة

    النص الكامل لرواية
    الحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة التاسعةالفصل الثالث"شنشلي" يتعبه التفكير ويخشى أن يسافر به بعيدا إلى مسافات قد لا تحتملها العملية التي جمعتهم معا في هذا المكان. يستعيد خيالَه الشارد من قادم أحمر أعيى عينيه وهما ترقبانه إلى واقع أسود حمل على عاتقه رسم اللوحة وطليها بكل ماهو مخيف. يستحضر عقله ونفسه من جديد. يستمر صامتا للحظات قليلة قبل أن يتحدث موجها نظره إلى جولدي قائلا.. "يجب أن نفكر جديا في الطريقة المضمونة لنقل الشرائح إلى القاهرة. يبدو أننا قد نحتاج إليك. وسنضطر إلى دفع الثمن المطلوب يا دكتور.جولدي.."عندما تتأكدون من أنكم لا تملكون حلا أو طريقة, أخبروني كي أحدد لكم الثمن المطلوب".شنشلي وهو يحدق في وجوه توم وجوناثان وشيريكوف.. "أظن أننا سنتوجه إلى الدكتور جولدي كي نعرف منه كيف سينقل الشرائح إلى مصر. ما رأيكم؟".شيريكوف ينقِّل نظرَه بين الجميع بإيماءات من لا يفهم شيئا.. "عما تتحدثون؟ هل لي أن أعرف؟".شنشلي.. "لا تستعجل. سوف تعرف فورا".جوناثان.. "ليس لدي خيار آخر. سأخضع لهذا الابتزاز. والغريب أنه ابتزاز يمارسه طبيب".جولدي يضحك بملء فيه, وتوم يقول.. "أنا أيضا ليست لدي أيُّ خيارات".شيريكوف يمط شفتيه ويهز رأسه ويحرك يديه. يحاول أن يكون خفيف الظل.. "وأنا أيضا, رغم أنني لا أعرف شيئا عما تتحدثون عنه".شنشلي ينظر إلى الدكتور جولدي بأسى ساخر, ويشير بيديه, لكن جولدي يقاطعه قبل أن ينطق بكلمة.. "سيد شنشلي. قبل أن تلقوا بثقلكم علي, يجب أن تعلموا أن خطتي تخضع لزمن تنفيذي محدَّد بحيث لا يمكن تنفيذها إذا انقضى الوقت المطلوب".شنشلي.. "هذا أمر غريب. هل تقصد أنها قد تنفذ اليوم ولا تنفذ غدا مثلا؟".جولدي.. "شيء شبيه جدا بهذا الكلام. وبالتالي إذا لم تكن باقي حلقات الخطة جاهزة وفي توافق تام مع الحلقة التي بين يدي, فالتنفيذ عندئذ مستحيل. الخلاصة بمعنى آخر أن خطة التنفيذ تتكون من ثلاث حلقات. الحلقة الأولى هي إحضار الشرائح من المفاعل. الحلقة الثانية هي نقل الشرائح إلى القاهرة. أما الحلقة الثالثة فهي التفجير هناك. حلقة النقل إلى القاهرة هي حلقة مثبتة مكانا وزمانا. إنها ليست مرنة. إذا لم تكن الحلقتان الأخريان جاهزتين حسب مكان وزمان الحلقة الوسطى فأنا أسف لا أستطيع أن أفعل شيئا".شنشلي.. "مع أنك تتكلم بالألغاز إلا أنني أجد نفسي مضطرا لأسألك عن زمان ومكان الحلقة الوسطى التي هي بين يديك وحدك, كي نرى إن كان بإمكاننا ربط الحلقتين الأخريين بها أم لا".جولدي.. "جميل جدا. لا أستطيع تنفيذ خطتي إلا في الفترة الممتدة من بعد غد ولغاية أسبوع لاحق على أقصى تقدير. هذه التواريخ غير قابلة للنقاش؟".شنشلي.. "ما هذا يا دكتور؟ هل تضغط علينا؟".جولدي.. "أرجو ألا تفهمني خطأ سيد شنشلي. فالوقت المحدد خارج إرادتي. أنا لا أضغط على أحد أنا مثلكم خاضع لمعطيات ليست بيدي".شنشلي ينظر إلى شيريكوف.. "إن حلقة التنفيذ ليست بذات أهمية بهذه السرعة. يمكن التحكم فيها وتأخيرها إذا كانت الحلقة لم تكتمل هناك بعد. المهم الحلقة التي بين يديك شيريكوف. هل تستطيع أن تتوافق مع ما يقوله جولدي؟".شيريكوف يهز رأسه مع بعض ملامح التفكير الطفولي.. "لا توجد مشكلة. أستطيع أن أحضر الشرائح غدا إذا شئتم. المهم الآن أن نعرف خطة جولدي ومدى قدرتها على ضمان إيصال الشرائح إلى القاهرة".شنشلي ناظرا إلى جولدي.. "تفضل يا دكتور أنت الزعيم الآن".شيريكوف يضحك.. "استعد يا دكتور, لقد انتقلت الربوبية إليك. لم أفرح بها طويلا".جولدي وقد استرخى إلى الوراء.. "في البداية أحب أن أتأكد من أنني فهمت بالضبط وجه الصعوبة في نقل الشرائح إلى القاهرة. كي يكون لفكرتي معنى متميزا ومختلفا. وكي تكون لها الأهمية التي أتصورها".شنشلي.. "أوضح ماذا تقصد. أنا لم أفهم ما تعنيه. لا نريد ألغازا".جولدي.. "لا أظن أن الصعوبة تكمن في الخوف من انكشاف شرائح بهذه الضآلة أمام أجهزة رصد المعادن والمتفجرات وخلافه".شنشلي بنزق.. "ما تزال غامضا يا جولدي. فسِّر أرجوك. فسِّر أكثر وقلِّل قدر ما تستطيع من المقدمات والشروحات المطولة".جولدي.. "حسن، إن الذي أقصده أن تهريب هذه الشرائح ممكن جدا وبضمانات مائه في المائة إذا كان القصد إخفاؤها عن التفتيش غير الإلكتروني وحمايتها من الضياع".شنشلي.. "بالضبط يا جولدي. هذا على وجه التحديد ما يخيفنا ويقلقنا. هناك أنواع من البلاستيك يمكنها أن تحمي أي جسم معدني من أن تلتقطه تلك الكواشف. ما يخيفنا أن تقع هذه الشرائح فريسة صغرها فتضيع, أو فريسة تفتيش يدوي دقيق جدا فينكشف مكانها".جولدي.. "إذن يجب إخفاؤها في مكان ينطبق عليه مستحيلان".شنشلي.. "ماذا تقصد؟".جولدي.. "أقصد استحالة أن يقع عليه التفتيش اليدوي, واستحالة أن يضيع فتضيع معه الشرائح".شنشلي.. "هذا صحيح".جولدي.. "سؤال أخير قبل أن أبدأ في شرح خطتي".شنشلي بضجر.. "هاه. هات. أسأل".جولدي.. "كم شريحة ستنقلون إلى القاهرة؟ وما هي مواصفاتُ كلِّ شريحة بدقة؟".شنشلي ينظر إلى شيريكوف.. "هاه شيريكوف. أجب جولدي. هذه الإجابات لديك أنت".شيريكوف يستخدم رؤوس أصابعه أثناء الحديث للتعبير عن صغر الشرائح المراد نقلها.. "سنقوم بنقل شريحتين فقط. وكلُّ شريحة عبارة عن مكعب طول ضلعه عُشْر ملليمتر. يعني أن كلَّ شريحة هي عبارة عن مكعب حجمه جزء من ألف جزء من الملليمتر المكعب. وسيكون كل مكعب مغلفا بنوع خاص من البلاستيك يعزله عن كل لواقط المعادن المستخدمة في كلِّ مطارات العالم".جولدي.. "جميل جدا. أنا على استعداد تام لنقل الشريحتين إلى القاهرة, بشرط أن أحصل عليهما خلال أسبوع واحد بدءا من هذه اللحظة. أسبوع واحد فقط. وذلك مقابل مليون دولار فقط".جوناثان بصوت مرتفع يكاد يصل إلى حد الصراخ.. "ماذا تقول؟ مليون دولار؟ هل جننت؟ هل أصابك خرف؟".جولدي محافظا على هدوءٍ غلفته ابتسامة قميئة.. "أعتقد أن الشخص الذي سيحضر الشرائح من المفاعل سيحصل على أكثر من ذلك. مع أن مسافة النقل قصيرة. وليست فيها نفس مخاطر النقل إلى هناك. أنني سأنقلها مئات الكيلومترات. إلى قارة أخرى".شنشلي بهدوء بعد أن توقع أن يكون لدى جولدي حل سحري نتيجة ثقته ومطالبته برقم كهذا.. "لكننا يا جولدي لا نستطيع أن نتحدث في هذه التفاصيل. إلا إذا عرفنا طريقتك السحرية هذه. أليس من الممكن مثلا أنك واهم أو أنها مجرد هلوسات وتصورات لن توصلنا إلى أيِّ نتيجة؟ هل توافقني يا دكتور؟ أليس هذا ممكنا؟".جولدي.. "ما تقوله صحيح سيد شنشلي. لذلك فأنا أريد الموافقة على المبدأ فقط. أريد أن أنتزع منكم قرارا بالموافقة على إعطائي المليون دولار إذا اقتنعتم بفكرتي ونفذتها لكم. لن أحصل على شيء مسبقا. هل هذا عدل سيد شنشلي؟".جوناثان وتوم يتأففان منزعجين وشيريكوف يضحك ويقول.. "أنت رب طماع يا دكتور. لو فكر كل الأرباب مثلك لخربت الدنيا".جولدي مداعبا شيريكوف.. "عزيزي شيريكوف من يفكر في عمل عظيم ومهم وكبير كهذا. لا يصح أن يكون بخيلا وغبيا إلى درجة التفكير في الذهاب إلى البحر الأسود لملء قلم حبره الفارغ مجانا".شنشلي ينهر كلا من توم وجوناثان, ويشير بيده إلى شيريكوف قائلا للجميع.. "يا جماعة لا تستعجلوا الحكم, دعونا نستمع إلى جولدي أولا لنعرف منه كيف سيهرب البلوتونيوم إلى القاهرة, وبعد ذلك نقرر ونحكم". ينظر إلى جولدي ويقول.. "نحن موافقون من حيث المبدأ. أقصد أن منظمة "m.d.w.u.o" موافقة. وبصفتي رئيسا لها أعلن أننا موافقون على طلبك إذا اقتنعنا بما ستقوله وطلبنا منك تنفيذه. تفضل".الكل ينظر إلى جولدي باهتمام وهو يبسِّط الموضوع تبسيطا شيطانيا أذهل الجميع.. "الموضوع غاية في البساطة. قريبا جدا ستصل لزيارتي في عيادتي سيدة مصرية لأجرى لها عملية زرع رحم". يصمت لحظة. ينظرون إليه. تبدأ على وجوههم علامات الاندهاش المتسائل. يواصل.. "قابلتها في القاهرة لما كنت هناك منذ حوالي خمسة أشهر". صمت وترقب. اندهاش متفاقم. قسمات وجه متسائلة باستغراب عن علاقة ما يقوله بنقل البلوتونيوم إلى القاهرة.البوم يواصل عرض خطة إبليس.. "هي الوحيدة التي قرَّرت وقبلت بصعوبة الحضور إلى هنا لإجراء العملية. هي على وشك الوصول, إن لم تكن قد وصلت بعد". يتابع ذهولهم. يبتسم فتظهر أسنانه كأنياب ذئب حمراء بلون دم فريسة مزقها للتو.. "أحضروا شرائح البلوتونيوم مغلفة بالبلاستيك الذي تتحدثون عنه. وسوف أقوم بزرعها في رحم هذه السيدة وتعليقها في مكان معقول منه".صمت مصعوق موشى بصفير أسود. تبادل نظرات خائرة تحاول استجماع أشلاء نفوس مذهولة. فغر أفواه. سعادة شيطانية تلفع بها وجه البوم. يداعب منقار الببغاء ويواصل.. "وعندما تعود السيدة إلى القاهرة فجروها. هذا كل ما في الأمر. وبهذه الطريقة لن تضيع الشرائح حتما لأن السيدة لن تضيع. ولن تقع قطعا ومهما كانت الظروف في أيدي أحد أيا كان غير جماعتنا هناك. وهي بالتأكيد لن تنكشف أمام أيِّ نوع من أنواع التفتيش. لا أحد يفكر في تفتيش رحم امرأة. أليس كذلك؟".ينتهي جولدي من عرض خطته. ترتسم على وجهه ابتسامه عريضة, عريضة جدا بعرض مقابر الموت التي ستحفرها يداه في رحم سلوى. يبتسم له شنشلي وسط صمت خيَّم على الجميع. يبادره بالقول.. "يا أبن الشيطانة لا يمكن لهذه الفكرة أن تخطر على بال أحد. ولا حتى إبليس. لا بل حتى الرب نفسه لا يستطيع التفكير بهذه الطريقة".يصمت قليلا وهو يسترجع الفكرة في سعادة وذهول. يفاجىء جولدي بسؤاله.. "هل أنت مستشار إبليس للشؤون الصحية في الأرض يا دكتور؟". يضحكون جميعا. تبدو على الشنشلي علامات الرضا. يتبادلون نظرات الرضا والفوز. يتوجه لوح الصبار الأسود نحو جولدي ويقول له مشيرا إليه بيده.. "أنت تستحق المليون دولار يا دكتور".... يتبع في الحلقة العاشرة
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

  10. #10
    النص الكامل لروايةالحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة السادسةالفصل الثالثكانوا أربعة في حجرة تتوسطها طاولة اجتماعات كبيرة سوداء اللون, حولها سبعُ كراسٍ من الجلد الأسود. إضاءة خفيفة. جهاز تلفزيون يبث برنامجا إخباريا بصوت خافت ولغة مسروقة. تناثرت على طاولات صغيرة في أرجاء الحجرة بعض معالم المدنية. فيديو, كمبيوتر, فاكس, برنتر, هاتف متطور, هواتف خلوية, آلة تصوير, سكانر, ستيريو. نافذة عريضة تظهر من خلالها بعض المباني العالية التي تحتضن في جوفها مجموعات كثيرة كهذه."توم فريدمان", صاحب إحدى شركات الصرافة. "جوناثان نورمان", صاحب محلات لبيع الذهب والماس والمجوهرات. "مائير شنشلي", نحيل طويل القامة. لحية مدببة بلون لباسه وقبعته العريضة. شعر بجدائل. حواجب كثيفة، رجل دين.. ورابعهم كان ناحر القسم "الدكتور جولدي".شنشلي بلهجة غاضبة وهو ينظر إلى الساعة متأففا منزعجا.. "لقد تأخر شيريكوف كثيرا, من المفروض أن يكون قد وصل منذ ربع ساعة".توم بعد أن نظر إلى الساعة أيضا.. "هذا صحيح لقد أصبحت الساعة العاشرة والربع. إن شيريكوف يُضَيِّع وقتَنا".جولدي في دعابة لتخفيف التوتر عن المجتمعين وهو ينظر إليهم مراقبا ردة فعلهم.. "أليس من الممكن أن تكون الأخبار التي يحملها ثقيلة, فاضطر إلى جرها على الأرض جرا. على العموم قد نغفر له تأخُّرَه إذا كانت الأخبار والمعلومات التي يحملها مهمة".شنشلي يداعب لحيته المدببة, يبتسم ابتسامة بلون البول المسموم. يغمض إحدى عينيه نصف إغماضة. يشرد بنظره في اتجاه النافذة المطلة على المدينة. يهز رأسه هزة خفيفة حملت معاني التفكير والتحدي. يقول وقد فاحت كلماته برائحة الشَّعْرِ المحترق.. "إني أثق بإمكانيات شيريكوف. إنه حتما سيحمل لنا أخبارا عظيمة نحن في حاجة ماسة إليها".يصمت. يواصل هز رأسه بنفس الشرود. يبدأ بإِحداثِ قرقعة خفيفة بأصابع إحدى يديه على الطاولة. يلتفت الجميع إلى مكان الصوت.. "لقد فهمت من شيريكوف أن ما تمَّ التوصل إليه في تطوير وسائل "تغذية البلوتونيوم", وفي وسائل تفجيره أيضا, تجعله سلاحا متاحا وسهل الاستخدام".جوناثان بخوف وحذر وقلق, ظهرت جميعها في حركات رأسه النزقة.. "يجب ألا تنسوا أن ما تمَّ التوصل إليه في المفاعل محاط بسرية – تامة". لحظة صمت, ثم, بحركات معبرة من يديه.. "هذا اكتشاف خطير, سيجعل السلاح الذري متاحا بسهولة, مثل المسدسات والرشاشات. هل تفهمون ما معنى هذا؟".شنشلي بعصبية وانفعال وقد تحرَّرَ من شروده, وراح يتحدث مُنَقِّلا نظرَه بين الحاضرين.. "وماذا في ذلك؟ هذا ما كنا نتمناه منذ زمن طويل. نعم لقد كنا نتمنى وجود سلاح سهل الاستخدام, يساعدنا على إبادة هؤلاء الجرذان. أليس هذا حلما عشناه ومازلنا نعيشه يا جوناثان؟".جوناثان يستدرك.. "ما قصدته أن خطورة ما توصلوا إليه في المفاعل, سيجعل الإجراءات الحمائية صعبة جدا ودقيقة للغاية. وهذا معناه استحالة تهريب البلوتونيوم المغذى من المفاعل". يلاحظ أنهم تعاملوا مع ما يقوله باهتمام باستثناء شنشلي, فيركز نظره عليه في محاولة لإقناعه.. "يعني أن عملية من هذا النوع تعتبر حربا حقيقية ضد آخر ما توصلوا إليه من إجراءات أمنية. لا شك أنك تفهمني سيد شنشلي, أليس كذلك؟".شنشلي يضحك بسخرية أدهشت الجميع, ويقول بثقة وهو يشير إلى جوناثان بسبابة شديدة التوتر.. "لسنا وحدنا من يحلم في هذا البلد يا جوناثان. معظم الناس هنا يحلمون نفس الحلم. حتى أولئك المتحصنين وراء تلك الأسوار التي أقلقتك. صدقني عزيزي جوناثان, أن الذي يطور سلاحا مدمرا بصورة تجعل استخدامه سهلا وميسرا مثل المسدس والرشاش. لا يفعل ذلك لعرضه في المتاحف. إنه يفعل ذلك لأنه يريد بالفعل أن يستخدمه. أو على الأقل لأنه ينوي تيسير ظروف استخدامه. هذا إن لم يساعد على ذلك أيضا. هل تفهمني جوناثان؟".جوناثان يهز رأسه بشرود دلالة الإيجاب.. "نعم إني أفهمك. ما تقوله يعني أننا لن ..".شنشلي مقاطعا.. "لن نعدم وسيلة ميسرة للحصول على البلوتونيوم المُغَذَّى من المفاعل. دعوا هذا الموضوع لي ولشيريكوف, وعيشوا الحلم, ولا تعكِّروا لذَّتَه وصفوَه بالخوف مما هو غير موجود. اطمئنوا وصدقوني, ولا تشغلوا بالكم بالأمر. انشغلوا بما هو أهم".جولدي يقاطع الاثنين بعدما ظهر أن حديثهما لم يكن ممتعا بالنسبة له.. "لا تستعجلوا. كل ما تقولانه يعتمد اعتمادا كليا على ما لدى شيريكوف من معلومات وأخبار. أرجوكم اصبروا قليلا. أظنه على وصول".شنشلي يعود ليستلمَ زمام الحديث بدهاء.. "أنا كما أخبرتكم لست قلقا من هذه الناحية. الحصول على البلوتونيوم المُغَذَّى من المفاعل أمر مقدور عليه. ولا تسألوني كيف. إن ما يقلقني حقا أمر آخر". يصمت. يشرد بنظره في اتجاه النافذة. يداعب لحيته ويهز رأسه وهو غارق في التفكير.جوناثان يقطع عليه شروده وحبل أفكاره.. "ما الذي يقلقك ويشغل بالك إذن سيد شنشلي؟".شنشلي يركِّز نظرَه عن غير قصد باتجاه وجه جولدي, ويبتسم ابتسامة اختلطت بمشروع ضحكه.. "ما يشغلني حقا. وهو ما يفترض أن يشغلكم أنتم أيضا بقدر ما يشغلني, هو كيف ننقل البلوتونيوم المغذى الذي سنحصل عليه من المفاعل إلى هناك. إلى القاهرة, في هذه الظروف". يبدأ يتجول بعينيه بين الحاضرين.. "إن مصر هذه الأيام تتمتع بأعلى درجات اليقظة الأمنية بسبب ما حصل هناك في الأشهر الأخيرة".توم.. "هذا مقلق بالفعل. الأمر ليس سهلا. والأهم من ذلك من سينفذ المهمة هناك؟ لقد أمضينا أشهرا ونحن نتحدث عن تدمير القاهرة وحرقها وإبادة سكانها. وبدأنا نعد لهذه العملية هنا. لكننا لم نبحث في التنفيذ هناك". ينظر إلى شنشلي الذي كان يتابعه بابتسامة خبيثة.. "أم أن لديك تصورات وخططا لم نطلع عليها بعد سيد شنشلي؟".شنشلي بلهجة مطمئنة ومستسلمة.. "هناك. لا تقلقوا. لا تقلقوا نهائيا. هناك لا توجد مشكلات. رجالنا موجودون ومجهزون ومستعدون منذ وقت طويل. هم ينتظرون التعليمات. إذا وصل البلوتونيوم إلى القاهرة وعرفنا الطرق الجديدة للتفجير. فالتنفيذ سهل. التأخير هو فقط بسبب مشكلة النقل أولا وليس بسبب عدم اتضاح وسيلة التفجير التي نستخدمها هناك بعد. فالليلة سيطلعنا شيريكوف على تفاصيل مسألة التفجير. إذن بقيت مسألة واحدة, هي مسألة نقل البلوتونيوم إلى القاهرة في أمان. يجب أن نبحث سويا عن طريقة لإيصاله إلى هناك وسط هذه الإجراءات الأمنية. هذه هي الحلقة الوحيدة التي تنقصنا في الخطة بعدما نطلع الليلة على طريقة التفجير".يُظْهِرُ البومُ معالم ابتسامة شوهت خريطة وجهه. بسترخي إلى الوراء. يشبِّك يديه خلف رأسه. يبدأ بهز الكرسي هزات خفيفة رتيبة.. "على أيِّ حال ابحثوا أنتم عن حل. فإذا عجزتم وأعياكم البحث, أخبروني. سأفاجئكم به".شنشلي باندهاش واستياء.. "ولماذا لا تفاجئنا به الآن؟".ناظرا إليه باستهتار وسخرية وازدراء, وهو على حاله من الاسترخاء وهز الكرسي وتشبيك الأيدي.. "كي تُقَدِّروا وتَتَفَّهَموا الثمن الذي سأطلبه لإرشادكم إلى الحلِّ السحري الذي بين يدي".شنشلي وجوناثان وتوم يتبادلون النظرات باندهاش واستغراب. لم يتوقعوا أن يكون من بينهم بصفتهم قيادات لمنظمة الـ "m.d.w.u.o" من سيطلب ثمنا لتقديم فكرة حل. جولدي ينتبه لاندهاشهم ويدرك السبب, فيبادرهم وهو على حاله لم يغير في هيئة جلوسه.. "لا تستغربوا فأنا أقول ذلك لأن الحل الذي بين يدي حلٌّ غريب. لن يستطيعَ أيُّ شخص في العالم تنفيذه إلا أنا. يعني أنا في واقع الأمر سأقدم حلا يتضمن الفكرة وتنفيذها. وعملية التنفيذ كما سوف ترون فيها مخاطرة شديدة تمسني أنا شخصيا. معنى ذلك أن الثمن الذي سأطلبه هو في الحقيقة ثمن التنفيذ".يصمت لحظة. يلاحظ أنهم شُدوا لكلامه. يلمس إصغاءهم ورغبتهم في الاستزادة فيواصل بثقة.. "أما إذا وجدتم أحدا غيري يستطيع القيام بما سأقوم به بدون مقابل, فليبارك لكم الرب. لكنني متأكد من أنكم لن تجدوا".ثلاثتهم يتبادلون النظرات المستريبة دون كلام. توم يحاول تغيير إيقاع الجلسة. ينظر إلى ساعته ويتذمر.. "أوف. لقد بالغ شيركوف في تأخره". لم تؤثر محاولته في تغيير إيقاع الرتابة والملل, لأن أحدا لم يستجب لملاحظته. الصمت يسود الحجرة. يظهر كل منهم وقد انشغل بالتفكير وانطوى على نفسه. ما عدا جولدي الذي استمر يراقبهم وهو على هيئته لم يغير في جلسته ولا في هزة كرسيه, بل أضاف إلى كل ذلك ضحكة شنيعة جعلت فمه يظهر كمغارة مليئة بالروث. بدوا في صمتهم وترقبهم وضجرهم الصامت كمن ينتظر بالفعل شخصا اقترب وقت وصوله. ويحلمون. عيونهم تجحظ واشية بقذارة ما في رؤوسهم. وجوه قطَّبَت تبحث في مزابل الذاكرة عن جسور لنقل الموت إلى القاهرة.... يتبع في الحلقة السابعة

    النص الكامل لرواية

    الحليب والدمنشرت الطبعة الأولى من الرواية عام 2001 عن دار الأمين للنشر والتوزيع بالقاهرةالحلقة السابعةالفصل الثالثالعاشرة والنصف ليلا. أضواء المدينة والمارة, تزاحمُ أشباحا تبحث عن ومضه نور صادقة. نفوس هائمة تحلم حتى في اليقظة, والأحلام بلون الدم ومذاق اللحم المحترق. رائحة البيض الفاسد تزكم الأنوف, وبخار البول في الجو رذاذ. محلات العطور والذهب والحسناوات لوثة ليل دائم, يزحف بعتمته إلى أوكار الخفافيش, لرسم لوحات الكراهية على إيقاع النقيق والنعيق, وعواء الذئب في الوكر نغمٌ مشروخٌ بعشقِ الدم. عطرُ البحر يَفِرُّ والأمواج تحتجُّ هادرة, وهمس القتلة فحيحُ أفاعي.سيارة ليموزين تعبر أحد الشوارع. تتوقف على مقربة من عمارة كثيرة الطوابق. تهبط منها بزَّة داكنة ومعطف وقبعة تلفَّعَت بها جثة تتحرك تفوح برائحة القبور. أنف طويل مدَبَّب. ملامح حادة. بشرة بيضاء تتخلَّلُها حمرةٌ مقيتة. وحقيبة سامسونايت مثقلةٌ بالفناء. يَغلِق باب السيارة ويقفز كالضفدع إلى رصيف المشاة ويتجه نحو العمارة. يقف عند أحد بائعي الصحف والمجلات. يتفحص بعض العناوين. يترك المكان. يسير في خطوات واسعة سريعة تلاحق الحقد وتفر من الحب. يصطدم من حين لآخر بالمارة ويكثرُ النظر إلى الساعة."شيريكوف" يعبر البوابة الزجاجية المتحركة للعمارة. يتجه نحو المصعد وينتظر. يرفع رأسه إلى الأعلى قلقا متوترا بسبب التأخر. تلفت انتباهَه فتاةٌ شقراء رقيقة كانت تقف إلى جانبه. أحسَّ بأنها في المكان الخطأ. لون الشمس ورقة الروح هناك وهنا السواد. عجوز شمطاء كانت ترمقُه بنظرات اشمئزاز. يحس بالحرج ويشيح بوجهه عنها وينظر إلى الأرض.ما يزال الصمت يخيِّم على جمع الشيطان. يتبادلون النظرات المستريبة. يسمعون صوت بابٍ يفتح. يلتفتون. "شيريكوف" يقترب منهم. ينزع قبعته ويبدأ حديثه ناظرا إلى "توم" و"جوناثان" ثم إلى "الشنشلي" مختتما جولة عينيه بـ "جولدي", ويبتسم.. "مساء الخير جميعا. أرجو أن تعذروني على التأخير. أظن أن الدكتور جولدي يعرف السبب".جولدي ضاحكا.. "بالتأكيد. توقعت أن تكون حاملا. أقصد حاملا بأخبار ثقيلة تجرها وراء ظهرك".شيريكوف باندهاش ساخر.. "هذا صحيح، ولكن كيف عرفت؟!".ينزع معطفه. يتناول حقيبة السامسونايت التي كان قد وضعها فوق الكرسي, ويضعها أمامه فوق الطاولة. يجلس. يضع يديه فوقها متشابكتين. يواصل حديثه بفخار.. "بالفعل إن ما بداخل هذه الحقيبة ثقيل, بل ثقيل جدا على رأي الدكتور جولدي. إن لدي أخبار ستسعدكم وتسركم كثيرا".شنشلي باستعجال قلق.. "هيا إذن بسرعة يا شيريكوف. أسمعنا أخبارك الحلوة".شيريكوف يفتح حقيبة السامسونايت, ويبدأ بإخراج محتوياتها من الأوراق والمستندات, وهو يراقب جلساءَه بابتسامة خبيثة. كانت أعينهم جميعا قد تسمرت باتجاه الحقيبة. أخذ يتباطأ إمعانا في إغاظتهم بعد أن قرأ العجلة والقلق في عيونهم. أراد أن يشعرَهم بأهميته الخاصة في هذه اللحظات, وبأنه يمثل الرقم الصعب في العملية كلها. رأى معالم تأفُّف وتذمُّر في وجهي توم وجونوثان جراء تباطئه. تلذَّذ بتعذيبهما فتباطأ أكثر. وكي يكون تباطؤه مقنعا, توقف عن إخراج ما بداخل الحقيبة واصطنع حديثا فاح برائحة التكلُّف, مبادرا به جوناثان وهو ينظر إليه باستهزاء.. "ما بك جوناثان؟ هل أنت متعب يا صديقي؟ إني أرى وجهك شاحبا".توم نافذ الصبر.. "لا يا سيدي ليس متعبا ولا شاحبا وأعصابه مثل الحديد. كل ما في الأمر أنه متضايق مثلنا جميعا, لأنك لا تبالي بأننا انتظرناك طويلا. وها أنت تستمتع بمواصلة لعبة إضاعة الوقت للإمعان في حرق أعصابنا".شيريكوف ببرود يغيظ.. "لا تقلق توم. أمامنا ليلة طويلة. لا تستعجل. والأهم من ذلك لا تعترض على أسلوب شيريكوف في التصرف".شنشلي يتدخل بمكر ودهاء ونظرات خبيثة, مداعبا طرف لحيته المدبَّبة. يتوجه إلى توم محاولا إعطاء شيريكوف أهمية خاصة كي يشبع لديه غرورا لاحظ أنه يستغرقُه في هذه اللحظات مع أن قسمات وجهه لم تكن تخلو من تذمُّرٍ كان ينتظر لحظة مناسبة للتعبير عن نفسه.. "عزيزي توم". يلتفت إليه توم ثم الباقون بصورة أوحت بإحساسهم بأهمية ما سيقوله، حتى شيريكوف. يواصل بلهجته الماكرة ونظراته الشريرة.. "هل تعلم لماذا خلق الله الرجل قبل المرأة؟".توم يندهش ويتبادل النظرات مع الباقين الذين لم يقدروا على إخفاء استغرابهم أيضا, من هذه المداخلة العجيبة التي ما كانت لتُقْبَلَ في مثل هذا الظرف المحتقن إلا من رجل دين مبجَّل مثل شنشلي. يهز توم رأسه نافيا, ويمط شفتيه, ويحدق بعينين مذهولتين في الوجه الأصفر واللحية المدببة, منتظرا منه إجابة ذات مغزى تعبر عن الموقف الذي دفعه إلى طرح السؤال. اللحية المدببة تهتز تحت وطأة ضحكة ساخرة كريهة فاح بها وجه شنشلي, فبدأ كلوح الصبار يكمِّمُه الشوك الأسود. ويجيب على السؤال الذي طرحه محركا يديه حركات معبرة.. "لأنه لم يرد أن يسمع اعتراضات من أحد على كيفية خلق الرجل".توم وجوناثان يتبادلان النظرات وقد وصلتهما الرسالة. شيريكوف يشعر بالنشوة وقد وضعه شنشلي في موضع الرب الذي لا يناقش, مشبعا غروره الأرعن, وإن يكن إلى حين. جولدي يضحك. شنشلي يراقب الجميع وقد تحدث وجهه الشائك برغبة عارمة في الإسراع بالخروج من هذا الموقف معتقدا بينه وبين نفسه أن شيريكوف قد حصل منه على قدرٍ من التمجيد والتبجيل يكفي لأن يتوقف عن تلذُّذه باستعراض أهميته التي كان شنشلي يؤمن بها بكل تأكيد.شيريكوف يهز رأسه إعجابا بنفسه. ينظر إلى توم ثم يقول إلى الباقين.. "يا توم لا تستعجل . دعني أشرح. أرجو أن لا يقاطعني أحد وأنا أتكلم, إلا إذا كانت هناك أمور غامضة وغير مفهومة.. أوكي؟".جوناثان يتنهد . يبتسم باستهزاء وقد نفذ صبره.. "طبعا يا عم شيريكوف. يحق لك أن تفعل بنا ذلك. بعد الذي قاله عنك السيد شنشلي كبر رأسك. لقد أصبحت في غاية الأهمية. وكيف لا؟ ألسنا في حضرة الرب؟ اشترط علينا كما تشاء يا مولانا".شيريكوف بضجر وبنظرة ساخرة إلى جوناثان.. "عندما تصبح أهميتك مثل أهميتي. إفعل أكثر مني".شنشلي يبتسم ابتسامة زاجرة, وينظر إلى شيريكوف نظرة أشعرته بضرورة الكفِّ عن إضاعته الوقت في المهاترات الصبيانية.. "كفاكم تضييعا للوقت في الكلام الفارغ. هيا يا شيريكوف تكلم. نريد أن نسمعك".يتأمل الجميع بنظرات النصر والفوز. يسترخي على الكرسي. يضع الورقة التي كانت في يده على الطاولة, ويبدأ بالحديث.. "توصل علماء المفاعل إلى طريقة عجيبة في تغذية البلوتونيوم. لا يهمنا كيف توصلوا إلى ذلك. هذا شأنهم هناك. الذي يهمنا النتيجة. النتيجة كانت مذهلة. مذهلة جدا". يصمت قليلا مستعرضا وجوههم بعينيه الصغيرتين. يبتسم, سعيدا باستدراجهم إلى هذا القدر من التركيز فيما يقوله. ظهرت على وجوههم دلائل عدم الرغبة في توقفه عن الحديث. قرأ ذلك في عيونهم, فواصل حديثه.. "لقد تمكنوا من تطوير شرائح صغيرة جدا من البلوتونيوم المُغَذَّى, يمكنها أن تنفجر بوسائل تقليدية, محدثةً الدمار النووي المطلوب. وقد طوروا أيضا وسائل تفجير سهلة الاستخدام والتصنيع ويمكن توفرها في أيِّ مكان. أي أنها وسائل لا تحتاج إلى نقل من بلد إلى بلد. يمكن تصنيعها أو الحصول عليها في نفس البلد المراد إحداث التفجير فيه. لقد تأكدوا لغاية الآن من نجاح التطور الذي أحدثوه في تغذية البلوتونيوم".شنشلي مقاطعا.. "وهل تأكدوا من نجاح وسائل التفجير الجديدة؟".شيريكوف.. "نظريا فقط. أما عمليا فهم بحاجة إلى تجارب, وقد قرروا إجراء التجربة الأولى خلال الأشهر القادمة في مكان لم يحدَّد بعد. لكن النجاح مؤكد. إنه تحصيل حاصل".شنشلي.. "والمعلومات التي لديك هل تفيد بأنهم طوروا عددا كافيا من الشرائح المُغَذاَّة هذه بحيث نستطيع الحصول على ما يكفينا منها لعمليتنا أم لا؟ هذا أمر مهم عزيزي شيريكوف".يبتسم مطمئنا شنشلي.. "لا تقلق يا سيد شنشلي. لقد تم تطوير عشرين شريحة لغاية الآن. وهم على ما يبدو سيتوقفون عند هذا الحد, إلى أن تظهر النتائج العملية لتجارب التفجير. أما عمليتنا فهي لا تحتاج إلى أكثر من شريحتين, هذا يكفي وزيادة. ولو كان الهدف مدينة أخرى غير القاهرة, لكفتنا شريحة واحدة. لكن القاهرة كبيرة جدا. واسعة جدا. إنها من أكبر مدن العالم إذا لم تكن أكبرها على الإطلاق".شنشلي متعجبا.. "هل أنت متأكد من أن شريحتين تكفيان لإحداث التفجير المطلوب يا شيريكوف؟ إن ما نعرفه عن هذا السلاح يختلف كثيرا عما نسمعه منك"."تعم. إنها تكفي. تكفي وزيادة. الشرائح المطورة ذات فعالية عالية جدا. لهذا السبب سيوقفون إنتاج هذه الشرائح المطورة مؤقتا. لقد أنتجوا ما يكفي لتدمير عواصمهم. رغم أن وزن الشريحة الواحدة عُشْرُ جرامٍ فقط, إلا أن قوتها التفجيرية هي واحد ميغاطن. هل تعرفون ما معنى ذلك؟ هذا معناه قوة تدميرية تعادل قوة انفجار مليون طن من مادة "التي. أن. تي". يتجول بنظره بينهم من جديد, سعيدا بمتابعتهم واهتمامهم, ويضيف.. "وكي تعرفوا ضخامة وفظاعة هذه القوة. يكفي أن تعرفوا أن القنبلة التي ألقيت على هيروشيما باليابان كانت قوتها عشرين كيلو طن فقط, يعني أن الشريحة الواحدة من شرائح البلوتونيوم المطورة هذه, ستحدث دمارا يعادل خمسين ضعفا لما حدث هناك في آخر الحرب الثانية". بعد صمت لحظة يواصل مبتسما.. "أظن أن هذه القوة كافية. لا نريد أن نفعل بهم أكثر من ذلك".
    ابدأ بالضروري ثم انتقل الى الممكن تجعل نفسك تصنع المستحيل

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. "مزلقان" الإلحاد : رواية"طوق الحمام"أنموذجا
    بواسطة محمود المختار الشنقيطي في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-19-2016, 02:46 PM
  2. في رواية "بقايا صور" للروائي السوري الكبير "حناَّ مينة"..
    بواسطة أسامة عكنان في المنتدى فرسان الخواطر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01-30-2015, 05:45 AM
  3. رواية "العطر" للكاتب الألماني "باتريك زوسكند"
    بواسطة أبو فراس في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02-10-2010, 09:20 AM
  4. قراءة في رواية \" عاشق أخرس \" ورواية \" مطر الملح \"
    بواسطة ملده شويكاني في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-12-2009, 11:01 AM
  5. دراسة نقدية " دلا لة الحريم في رواية" نساء علىأجنحة الحلم" لفاطمة المرنيسي
    بواسطة خالد عبد اللطيف في المنتدى فرسان الأبحاث والدراسات النقدية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-27-2007, 11:02 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •