ايساف .. قصة حب نبتت في الأرض ، وأينعت في السماء
كان يعمل في الحقل مساعدا لوالده الفلاح البسيط .. سمع صوت رفيقه يناديه .. يعرب .. يعرب .. تعال بسرعة .

قال الأب : .. إذهب يا بني لعله أمر هام .. وضع فأسه من يده واتجه إلى رفيقه واستقبله بابتسامة عريضة وقال له : .. مبروك .. مبروك يعرب لقد صدرت نتائج الثانوية و أنت المتفوق الأول ..

يعرب .. امسك بيد رفيقه وضمه إلى صدره وبدأ يقبله ويشكره على هذه البشارة وكانت السعادة تغمره ، حتى أنه أجهش بالبكاء .

يقلق الأب .. لقد تأخر يعرب .. ماذا يريد منه رفيقه يا ترى ؟؟

حمل معوله وفأس يعرب وخرج من الأرض .. ركض يعرب باتجاه والده وانحنى على يديه وبدأ يقبلهما ويقول : ــ لقد نجحت يا والدي نجحت وكنت متفوقا على جميع رفاقي .. ضمه إلى صدره وبدأ يقبله والدمعة تترقرق في عينيه وقال :

ــ هيا بنا إلى البيت لنزف البشرى لوالدتك وإخوتك ..

شكرا لك يا طارق لبشارتك .

بدأ يعرب شريد الذهن بين مهنئيه ، يجامل بابتسامة مرسومة .. قفز ذهنه إلى المدينة والجامعة .. هو لا يعرف سوى مدرسته وأرضه وبعضا من رفاقه .. كيف سيتعامل مع أناس لا يعرف عنهم شيئا .
دخل كلية الطب .. وفي حرم الجامعة يمشي يعرب ويلتفت يمنة ويسرة .. أشياء جديدة دخلت حياته .. لم يضل الطريق الذي وصل منه إلى الجامعة وضع دلالات و نقاط علام .
عاد إلى منزله منهكا .. متعبا .. وعلى مأدبة الطعام بدأ يقص على أمه وأخوته ما شاهده في المدينة .
قالت له أمه : ـ يا بني أنتبه لنفسك وإياك والبنات .. يا بني هذه المدن بزحمتها تضيع الأصول ..
همس في أذن أمه يريد أن يمازحها . قائلا
ـ : الله ... كم هن جميلات بنات الجامعة يا أماه
قالت : ـ انتبه لدراستك الله يرضى عليك .

قال : ــ حسناً .. أنني امازحك يا أمي .

انتهى العام الأول .. فجاء يعرب في المركز الأول بلا منازع ..

كان الشاب طالبا متميزا حتى بدأ اسمه على لسان غالبية الطلاب والإداريين .. همه الوحيد الدراسة والصعود إلى القمة .. لا يلفت انتباهه شيء .. بدأت الغيرة تتفاعل في نفوس بعض زملائه .. لكنه لم يطرق بالا لأحد ..

هدفه الوحيد النجاح بتفوق .. لم يتخلف عن محاضرة قط .. بخلاف زميلته ( ايساف ) التي دخلت ذات مرة بتأخر نصف ساعة مستأذنة المحاضر بالدخول ،

فنظر إليها نظرة المعترض .

و قال لها : ــ أنا لا أسمح لأي طالب بالدخول بعد أن أغلق الباب .. إلا أنت يا .... دكتورة !.. ولا أراك إلا كذلك في المستقبل .. أنت غالية .. أبلغي تحياتي للسيد الوالد .. تفضلي بالجلوس .

اتجهت تمشي بزهو وخيلاء نحو يعرب .. وقالت له مخاطبة :

ــ هل تسمح لي بالجلوس إلى جانبك يا زميل ؟؟ .

تلكأ ودمدم وتلعثم وهز رأسه ولملم أنفاسه وأخذ من آخر المقعد له مجلسا .

انتهت المحاضرة .. جلس على المقعد الخشبي في حديقة الجامعة شارد الذهن .. اقتربت منه بصحبة زميلات لها مخاطبة إياهن : ــ هذا هو يعرب الذائع الصيت .. وقف أمامهن مرتبكا ً.. خجلاً .. مطأطئ الرأس ، مرحبا

ــ أهلا وسهلا .. تشرفت .. فرصة سعيدة .

دعته إيساف إلى الكافتريا لتناول فنجان من القهوة ، فأعتذرعن دعوة ما كان ليرفضها أحد غيره من الزملاء .. فبدا عليها الحنق والغيظ المكتوم

و أخذت الأمر بروح رياضية .. فقال في نفسه .. يبدو أنني لم أحسن التصرف .. بداية غير طيبة ..

ثم استدرك : ــ لا لا هذا عين الصواب .. أنا هنا للدراسة .. لا لشرب القهوة والشاي .. وغير ذلك .. ثم أنني لا أملك سوى أجرة الطريق للذهاب إلى القرية .. هل أكذب على والدي لأغطي مثل هذه النفقات لا لا لا .

انتهى العام الدراسي ودخل العام الجديد في السنة الثالثة وطبيبنا المتألق يعرب تحول إلى نجم لامع في سماء الجامعة لا يجاريه أحد .. والدكتورة الحسناء إيساف لا تزال تتقرب إليه ، زميلا وصديقا أستطاع أن يطرق باب قلبها ، ولكن على استحياء .


وتمضي الأيام بسرعة .. ويتخرج الشاب الأول على دفعته طبيبا .. وبذلك يكون قد أبر بوعده لوالديه .. ولكن طموح الشاب كان ليس له حدودا .. إلى أن صدر قرار من رئاسة الجامعة ، وهنا قد لعبت الصدفة دورها ، بإيفاده هو و الدكتورة إيساف إلى الخارج ، للدراسات العليا ، بجد واجتهاد الأول ، والثانية لكونها بنت الحسب والنسب .. فسعد الاثنان بالخبر عندما علم كل منهما برفقة الآخر .

التقى الموفدان وتبادلا التهاني .. وقالت الزميلة إلى زميلها : ــ هل تكتم السر ؟؟ قال لها :
ــ نعم .
ــ أنا لم أكن لأقبل بالإيفاد لو لم تكن أنت رفيق السفر

لاذت بالصمت قليلا ثم استطردت متابعة

ــ أسمع يا دكتور يعرب .. أنا درست معك منذ السنة الأولى وكنت دائما قريبة منك و راهنت عليك ، ولكنك كنت تتجاهلني .. أما الآن فلا بد أن أكشف لك أوراقي .

ــ وما المناسبة ؟؟

ـ المناسبة ؟؟ .. أنت انعزالي لا تحب الاختلاط بالجنس الآخر ، وأنا أقدر ذلك منك .. على كل سأعرفك بنفسي إذا أحببت .

ــ بكل سرور .
ـ أنا لم أدخل كلية الطب إلا رغبة من والدي .. أنا لي هوايات قد تستغرب إن قلتها .. أحب الصيد و التجوال في بلاد الله الواسعة .. أعشق الخيال .. أحب أن يكون لي بيتا في المريخ .. وأحب الآهات الكلثومية ، والروك الغربية .. والتكنولوجيا الرقمية .. والأفلام الكرتونية .. والظلمة الليلية .. ما تعليقك على ذلك .. ألست مجنونة ؟؟

.. يبدو أن الحديث بيننا سيطول ..لقد استهوتني شهوة الكلام .. ما قولك لو انتقلنا إلى مكان عام ، وللحديث بقية .؟

ـ لا مانع بشرط .

ــ ما هو ؟؟

ــ الدعوة على حسابي .

ــ ولكنني أنا صاحبة الدعوة

ــ وأنا صاحب الرجاء

ــ حاضر .. أنا موافقة .

أُستقبلت الدكتورة بالحفاوة و الترحيب وفتحت لها كل الأبواب .. جلسا على طاولة نائية .. حضر النادل إليها متجاهلا رفيقها بالقول :

ـ ماذا تأمر الدكتورة ؟؟

ــ اسأل الدكتور يعرب

فاتجه بالسؤال إلى الشاب :


ــ دكتور ماذا تريد ؟؟

فأجابه بالقول :

ــ قهوة سادة .

ــ النادل حاضر .

فالتفتت إليه مستأنفة :

ــ قلنا للحديث بقية .. لم أسألك ما هو شعورك بالبعثة .

ــ أنا سعيد جداً جداً وهذا هو حلمي الحقيقي .

ــ هل سعادتك لأنني معك ؟؟
ــ طبعا نعم .
ــ حسنا .. سؤال فيه خصوصية .
ــ بكل سرور .
ــ هل لك أن تحدثني عن .. اهلك ، قريتك ، أقربائك ، غرامياتك ، أمنياتك ، في السابق لا هم لك سوى الدراسة .. فأرجو الإجابة
ــ رفقا سيدتي .. سأحدثك بشكل موجز .
وضعت يداها على الطاولة أمامها وهي مندهشة من حديثة وأسلوبه في الإلقاء وثقته بنفسه وهي تهز رأسها وتأخذ رشفة من فنجان قهوتها وكلها آذان صاغية .
تحدث عن أمه وأبيه وحبه لهما ، عن الطيب والصفاء والصدق والمحبة والإخاء في قريته .. عن الفقر المدقع والظلم الذي اكتنفهما من جور الآغا سابقا .
أما عن غرامياته ، تابع حديثه بالقول :
ــ أنا كنت لا أحب غير أسرتي أما الآن ...
ولاذ بالصمت
ــ أكمل .. مالي أراك قد سكتَّ
ــ ربما السكوت أبلغ .
ــ أنت رائع يا دكتور يعرب .. أرجو أن تحمل لي نفس المشاعر التي أحملها لك
لست طبيباً وحسب بل أنت حكيم أيضاً ، تتقن فن الحديث .. متى تعلمت هذا كله ؟؟
ـ الحياة أكبر من كل جامعات العالم .
أدنو مني سأبوح لك بسر .. أنا لم أعد أستطيع أن أخفي عواطفي نحوك .. أنا أحبك أحبك هل علمت ؟؟
فرد عليها بشيء من البرود :
ــ أشكرك على هذه المشاعر الصادقة .. ولكنني أرجو أن لا تتسرعي ، فهناك فوارق طبقية شاسعة .. أين الثرى من الثريا .. أين أنا منك .. أرجوك أن تعيدي حساباتك ..
ــ مهلا .. دعني أكمل حديثي ..
لقد أصبحت منذ الآن بالنسبة إليَّ ، أنت القضية .. فماذا أمثل أنا بالنسبة إليك ؟
ــ القضية واحدة اسمها إيساف .
ضحكت ملء فيها وأخذت يده ونظرت إليه بعيون ناعسة وقالت :
ــ أسمع .. لقد كنت صادقة معك وجريئة أكثر عندما اعترفت لك بحبي .. وأنت لم تقلها حتى الآن .
ــ حسنا .. لكنني لم أتحدث لك عن أمنياتي كما طلبتِ .. أسمعي .
أنت الحياة لقلبي والعذاب له ــــــ فما أمرك بقلبي وأحلاك .
ــ الله ما أعذب هذا الكلام .. وشاعر كمان لكم أنا محظوظة .
ــ برأيكِ يمكن أن نحب ونكمل الدراسة معا ؟؟
ــ نعم مثلكَ يحب الدراسة أكثر من حبه لي .. وباعتبار الدراسة هي ضرتي فسأتحملها من أجل عيونك يا عرب .
ــ ألم يدركنا الوقت دكتورة ؟؟
ــ أولاً : ـ بدون كلمة دكتورة .. ثانيا : ـ أنا لم أشعر بالوقت .. هل تحب أن يستمر اللقاء ؟؟
ــ لم أشعر بالزمن ، لأنني معك .. يكفي اليوم ، وغدا لنا لقاء بإذن الله .

الدكتور يعرب حطت به الرحال في قريته .

في طريق عودته يعيد شريط الذاكرة .. ويقول لنفسه :

ـ هل هذا حلم أم حقيقة ؟؟

هذه أجمل لحظات أعيشها .. يا الله ما أجمل الحب لا سيما عندما تكون الحبيبة طبيبة و فائقة بالحسن والجمال .

أبواب السعد قد فتحت أمامي .. دراسة في الخارج و قصة حب ؟؟



التقى يعرب مع إيساف .. وقالت له :
ـ أما علمت لقد حدد موعد السفر ..
ــ شكرا على هذه البشارة ..
ــ إذن أستعد يا دكتور .
ــ مستعد منذ اللحظة .
أخبر الدكتور أهله بالموافقة على الإيفاد ومن ثم السفر وأتم تجهيزاته الشخصية وودع أهله بدموع الفراق وهذه أول مرة يسافر خارج الوطن .
الدكتور يعرب والدكتورة إيساف الآن جنبا إلى جنب في مقعد واحد في الطائرة .
كان كما كان .. مجدا .. مجتهدا .. لا شيء عنده أهم من دراسته .
يعتبر نفسه أنه صورة عن جامعته وعن بلده الوافد .
إن حب الدكتورة قد نال من قلبه ما نال لم يعد يستطيع الفراق أبدا .
كانت هي ذكية أحبته وعرضت عليه مشروع الزواج بكل صراحة ..
قال :
ـ أعوذ بالله .. هنا !! وبدون علم وحضور أهلي ؟؟ أبدا .. يؤجل الموضوع حتى الانتهاء من الدراسة والعودة إلى أرض الوطن وهناك نعلن زواجنا .
انتهت رحلة الإيفاد ، وعاد الدكتور إلى أرض الوطن ، متأبطا أعلى شهادة أكاديمية في الطب .. فاستقبلته قريته مع تجمع للقرى المجاورة ، استقبال الابطال .
انتهت الأفراح ودخل مرحلة العمل ، في أحد مشافي الدولة ، ومعه الزميلة والحبيبة .

في هذه المرحلة جلست الام الى ابنها مخاطبة :
ــ لم يبق أمامك إلا شريكة الحياة .. وها هي ابنة خالتك بانتظارك .. فما رأيك ؟؟
فرد عليها دونما ابطاء :
ــ لست راغبا بالزواج في الوقت الحاضريا أماه .
فردت عليه بوجه باش ممازحة :
ــ سلامة روحك .. لماذا يا بني ؟
ــ إن كان لا بد من ذلك .. فأنا بصراحة متفق مع زميلتي الدكتورة إيساف على هذا المشروع .
ــ ومن هذه الدكتورة إيساف ؟؟ .
سألته باستغراب .. فرد عليها بالقول :
ــ إنها طبيبة وزميلة جامعية .
ــ أسمع يا ولدي .. المثل يقول : ( اللي ما بياخد من ملته بيموت بعلته ) .
ــ لكنني أحبها يا أماه
ــ حسنا .. ماذا تعرف عنها غير ذلك ؟
ــ اعرفها منذ السنة الأولى .. ماذا تريدين أكثر من ذلك ؟
وهنا أرادت الأم أن تشرك زوجها بالحديث
ــ اسمع يا أبا يعرب .. ابنك لا يرغب بالزواج من ابنة خالته !!
فرد عليها بقوله :
ــ الزواج قسمة ونصيب .. وهو أدرى بمصلحته .. وزمان أول قد ولى وانقضى .. لكن ما أريده منك يا دكتور أن لا تتسرع وأعطني اسم عائلتها وإنشاء الله خير .
ذهب والد الدكتور إلى المدينة ليتقصى عن عائلة فوزي البيك .. وقدمت له النصائح بأن يعدل عن الموضوع .
حضر الدكتور من عمله متأخرا .. تناول الطعام وأخذ قسطا من الراحة .. والتأم شمل العائلة .. فالتفت الأب إلى ابنه مخاطبا :

ــ اليوم لقد ذهبت إلى المدينة و سألت عن والدها فوزي البيك .. واعتبر أن الموضوع منته .

ــ خير يا أبي .. ؟


ــ يا بني .. أين نحن من أولئك الناس ؟

ــ أنت يا أبي تتكلم عن الطبقية ، والبنت لا تؤمن بالطبقية .. اما من طرف الأهل فلكل حادث حديث .


تكدرت أحواله .. وانتزع مزاجه .. واعتبر أن ما بناه قد ينهار أمام عينيه .. كيف سيخرج من هذا المأزق .. إنه يحبها كثيرا .. وزواجه منها أصبح مشروع حياته ..
الدكتور سيحاول مرة ثانية .. بناء على إلحاح من الحبيبة .
في غرفة الأطباء التابعة للمشفى ..
ـ سألته دكتور يعرب :
ـ إلى أين وصلت في قضيتنا .. هل من جديد ؟؟ .
ـ لا بد من بعض الوقت حتى أحاول ثانية .
ـ تحاول ؟؟ أنت تحمل أعلى شهادة علمية وتقول أحاول ؟؟ لا أحسبك إلا مازحا .!
ـ ربما تقول لي أيضا إن لم يقبلوا (الأهل) أعتذر ؟؟
ـ نعم أعتذر .
ـ تعتذر .. ما علاقة أهلك بمستقبلك ؟؟
ـ يا سيدتي :
أهلي كل العلاقة لهم .. وأنا يا دكتورة جازماً بدون أهلي لا قيمة لي إطلاقا .
كظمت غيظها وخشيت أن تخرج المسألة عن السيطرة
ـ على مهلك على مهلك .. أحببت ممازحتك .. ـ طبعا طبعا حبيبي .
ـ عن جد حبيبي ما هو الجديد عندك ؟؟
ـ يا سيدتي .. بصراحة طرحت الموضوع على أهلي ووعدني والدي أن يسأل ويتقصى عن أهلك حسب العادات والتقاليد عندنا .
ـ يسأل عن أهلي ؟؟
أنا أهلي فوق السؤال يا دكتور ..
ـ لا أنتِ اليوم لست طبيعية .. أسمعي يا دكتورة :
سوف أبوح لك بما يجول في نفسي .. صحيح أنا أحبك وأنت تعرفين ذلك .. لكن يبدو أن القدر يقف ضدنا .. لا أكتمك سرا أهلي غير موافقين على الزواج منك يا إيساف .. متذرعين بأن أهلك وعائلتك وعشيرتك .. اسمحي لي أن أقولها كما نقل عنهم بعد التقصي .. كذا و كذا .
ــ أنت تقول هذا الكلام ونحن في القرن الواحد والعشرين .. وتحمل شهادة علمية أكاديمية .. ثم أفرض أن هذا الكلام صحيح .. ما ذنبي أنا .. ولا تزر وازرة وزر أخرى ؟؟
ذنبي أني أحببتك وفضلتك على كل الشباب ؟؟
الشباب الذين يتمنون مني نظرة واحدة .
ذنبي أني أحببتك بصدق .. أنت تعلم يا دكتور .. أنت بالنسبة لي قضية .. كما قلت لك سابقا .
درسنا معا في الغربة سويا .. استحلفك بالله أن تجيب ..
هل سمعت أو شاهدت عني طوال السنين ، هنا وهناك ما يغضب الله ، أو ما قد صوروا لك أهلك ؟؟
ـ أبدا ..
أرجوك دكتورة .. أن نبقى زملاء و أن تخرجي من حياتي ..
ــ اخرج من حياتك ؟؟ .. ما هذا الهراء .. ؟؟ .. هل نسيت أنك الهوية وكل القضية ؟؟ .
هم بالانصراف .. فاعترضت طريقه كاللبوءة قائلة :
ـ أرجوك كفاية .. لم أعد أملك أعصابي .
قال و الغصة في حلقه .. والدمعة تترقرق في عينه :
ارحميني أرجوك .. لا تحمليني ما لا طاقة لي به .. أنا لا أغضب أهلي .. لا اغضب أهلي .. أنا ضعيف أمامهم .
وانقلب كل إلى أهله يلفه وشاح من الحزن والكآبة .
وما إن دخلت ايساف المنزل حتى تلقتها والدتها :
ــ ما الأمر ماما ؟؟
ــ ابدا .. لا شيء ..

الأم : ــ مستحيل .. الدكتور يعرب أليس كذلك ؟
ــ ماما أرجوك .. دعيني وحدي
الأم : ـ هل نظرت إلى وجهك بالمرآة ؟؟
ـ ماما يعرب طلب مني أن انسحب من حياته تماما ..
الأم : ــ هكذا .. بكل بساطة !.. حسنا أنتظري إلى الغد وستشاهدين ما يحل به .. ( قال رضينا بالبين والبين ما رضي فينا ) .. سأخبر والدك وأطلب منه أن يأدبه هو وعائلته جميعا .. ( ولا تزعلي أسوفة حبيبتي )..
ـ لا ماما .. أرجوك دعي الامر بيني وبينك .
ــ حسناً .. كما تشائين .
قالت في نفسها .. غدا أراه في المشفى وأحاول معه ثانية .

في اليوم الثاني لم يحضر الدكتور يعرب إلى المشفى
.. اكتفى بالعمل بعيادته الشبه مجانية في القرية .
في يوم عطلته تأخر في نومه وجرس الهاتف يوقظه .. المتصل الدكتورة ..
ــ صباح الخير دكتور ..
صباح النور أهلا دكتورة إيساف ..
أرجوك بلا كلمة دكتورة ..
ــ حسنا
ـ هل أنت غاضب مني ؟؟ ..
ـ لا لست غاضبا
ـ ألا ترى بأنك قد تسرعت بالأمس بقرارك
ـ لا لا أبدا
ـ ألا يجب أن يأخذ الموضوع بحثا وتفكيرا أكثر من ذلك
ـ هذا صحيح .. يا سيدتي نحن لنا عاداتنا وتقاليدنا .. لا نخرج عن سلم هذه العلاقة ولو كان تحصيلنا العلمي أكبر من ذلك .. الموضوع منتهي لا تتعبي نفسك أرجوك .
ــ ممكن سؤال وتجيب بصراحة لو سمحت ؟؟
ــ بكل سرور
ــ دكتور يعرب .. هل أنت تحبني ؟؟
ويسود الصمت لبرهة من الزمن .
ويجيب :
ـ بصراحة .. نعم أحبك .
ــ وأنا أحبك ولن يحول بيني وبينك سوى الموت .. هل سمعتني سوى الموت .
على كل الأحوال لقد اطمأننت و تأكدت من حبك .. وأنا عندي أمل بأن الموضوع سوف يحل بإذن الله ..
حبيبي .. سوف أقوم بزيارتك اليوم لا بل الآن .
ـ إيساف لا تتسرعي .. أنت لا تقدري ظرفي هنا في المنزل .
ــ سلا م حبيبي أنا قادمة .
تغلق سماعة الهاتف
صوت المكبر في المشفى ينادي :
ـ الدكتورة إيساف إلى غرفة الإسعاف فورا .
تأففت وذهبت إلى قسم الإسعاف
قالت :
ـ لقد أفسدوا عليّ ذهابي .. لا بأس سأذهب لاحقا .
ــ يعرب : ـ مجنونة قد تفعلها .. لا بد أن أخرج من القرية قبل وصولها .
لبس ثيابه وقال لأمه انه سوف يقوم بزيارة شقيقته المتزوجة في القرية المجاورة .
هل تريدين منها شيئا يا أمي ؟
قالت :
ـ لا .. مع السلامة .. سلم على أختك .
استقل سيارة أجرة وبدأ السائق يتحدث إليه ، ويشكو له عن مرض ألم به ، وفجأة فقد السائق السيطرة على السيارة .
سيارة شحن بضائع قادمة من الطرف المقابل .. حاول السائق الإفلات منها .. لكنه لم يفلح .. وقع القدر .. هرب سائق الشاحنة الكبيرة .
كان الضرر قد وقع من طرف الدكتور ، حيث أنه قد علق ولم يستطيع الخروج من السيارة .
سائق الدكتور إصابته طفيفة ، بعض الجروح والكدمات .... حاول إنقاذه فلم يفلح .. قام بمساعدته شخص وقف لتوه .. تم سحبه من السيارة .
سئل : ـ كيف حالك ؟؟
ــ الحمد لله .. أشعر بدوار في رأسي
أوقف السائق سيارة وأسعفه بالحال ..
في مدخل المدينة يسأله السائق إلى أين تريد أن نذهب ؟؟
: ــ إلى المشفى الحكومي
: ــ كيف تشعر الآن ؟؟ لم يرد .
يكرر السؤال : ــ أشعر بألم في صدري ودوار في رأسي .. أسرعوا بإنقاذي أرجوكم .
يتقيأ ..
وأخيرا دخل قسم الإسعاف على ( نقاله ) ، وسط استنفار طبي عام .
سمعت الدكتورة إيساف كغيرها بالخبر
فلم تصدق أذنيها ، لقد كان في المنزل ، ويعلم أني قادمة .. كيف جرى ذلك ؟؟
اتجهت إلى قسم الإسعاف .. لم تجده كان قد أخذ إلى غرفة العمليات .. تركض بسرعة .. تحاول اختراق الواقفين أمام الباب .. تضرب بيديها الباب .. يفتح لها .. تقف إلى جانبه وقد وضعت الأجهزة اللازمة .. تريد أن تقدم شيئا ..لكنها لم تستطع سوى البكاء .
لقد لفتت انتباه الجميع بسلوكها .. الكل يعلم بأنها تحبه ولكن ليس إلى درجة الجنون .
تتوسل للجميع .. نسيت نفسها أنها دكتورة وتعمل في هذا المشفى .
وجهت سؤالا إلى احد زملائها : ـ كيف حاله يا دكتور .. نهض كتفيه ولم ينبس ببنت شفه .
لقد توقف الزمن .. عندها تماما .
بدأت حالة الدكتور تتدهور شيئاً فشيئاً .. لا يستطيع أحد أن يفعل شيئا .. تنتقل بنظرها من دكتور إلى آخر .. ولسان حالها يقول لزملائها .. أفعلوا شيئا أرجوكم .
صمت مطبق .. الأنظار شاخصة إلى أجهزة العناية .
و أخيرا يعلن جهاز العناية توقف القلب عن العمل .
تنكب الدكتورة على جثة الدكتور يعرب .. وتتمسك به ، وتضمه إلى صدرها وتصرخ بأعلى صوتها تقول :
لا لا . . مستحيل .. يعرب حبيبي .. أنا ايساف
تهزه بيدها .. و تقول :
ـ أنا لا زلت عند وعدي لك .. لا أترك الموت يحول بيني وبينك يا حبيبي .. هل تسمعني .. هل تسمعني ؟؟

لقد أبكت كل من حولها في مناحة حقيقية .
حاول الأطباء أزاحتها عنه ، لم يستطيعوا .
بدأ صوتها يخبو .. ارتمت أرضا .. تحول الفريق الطبي لإنقاذها .. لكن إيساف كانت جثة هامدة .
**********
وتنهي قصة حب نبتت في الأرض .. وأينعت في السماء
لكم مني كل الحب
محمد سيد حسن